في هذا العالم المادّيّ للزّمان أدوار وللمكان أطوار وللفصول دوران وللنّفوس رقيّ وانحطاط ونموّ، فطوراً فصل الرّبيع وتارّة فصل الخريف وآونة موسم الصّيف ومرّة وقت الشّتاء، فلموسم الرّبيع سحاب بدرّه المدرار وله نفحة مسكيّة ونسيم يحيي الأرواح وهواء في نهاية الاعتدال، فيه تهطل الأمطار وتسطع الشّمس وتهبّ الرّياح اللّواقح ويتجدّد العالم وتظهر نفحة الحياة في النّبات والحيوان والإنسان، وتنتقل الكائنات الأرضيّة من حالة إلى حالة أخرى وتلبس جميع الأشياء ثوباً جديداً ويخضرّ سطح الغبراء وتكسو الجبال والصّحارى حلّة خضراء وتورق الأشجار وتزهر وتنبت الحدائق الورد والرّياحين ويصير العالم عالماً آخر، وتتجدّد حياة من في الإمكان وتدبّ في الأجساد الخامدة روح جديدة ويكتسب العالم لطافة وصباحة وملاحة غير متناهية، إذاً فالرّبيع هو سبب الحياة الجديدة وواهب الرّوح البديعة، ثمّ يتلوه موسم الصّيف، فتشتدّ الحرارة ويبلغ النموّ والنّشوء نهاية القوّة فتصل قوّة الحياة في عالم النّبات إلى درجة الكمال، ويأتي زمن الحصاد وتصبح الحبّة بيدراً، ويتهيّأ القوت لفصليّ الخريف والشّتاء، ثمّ يأتي فصل الخريف المخيف وتهبّ الرّياح العقيمة ويأتي دور السّقم، ويذهب رونق جميع الأشياء ويتكدّر الهواء اللّطيف ويتبدّل نسيم الرّبيع بريح الخريف وتذبل الأشجار المخضرّة ذات الطّراوة وتتعرّى، وترتدي الأزهار والرّياحين رداء الحزن ويقفر البستان الجميل وتزول نضارته، ثمّ يأتي فصل الشّتاء ويكثر البرد والطّوفان، وفيه ثلج وعواصف وبَرَد ومطر ورعد وبرق وجمود وخمود، وتصبح جميع الكائنات النّباتيّة في حالة الموت، ويلحق الموجودات الحيوانية الذّبول والخمول، وعندما تصل الحالة إلى هذه الدّرجة يأتي فصل الرّبيع الجديد المنعش للأرواح مرّة أخرى، ويتجدّد الدّور ويرفع موسم الرّبيع سرادقه على الجبال والصّحارى بكمال الحشمة والعظمة والطّراوة واللّطافة، ويتجدّد هيكل الموجودات وخلقة الكائنات مرّة أخرى، فتنمو وتنشأ الأجسام وتخضرّ الصّحارى وتنضر السّهول وتتبرعم الأشجار وهكذا يعود ربيع العام الفائت مرّة أخرى بنهاية العظمة والجلال. واستمرار هذا الدّور والتّسلسل ضروريّ ومناسب لحياة الكائنات وعليه يكون مدار العالم الجسمانيّ، وعلى هذا المنوال تكون أدوار الأنبياء الرّوحانيّة، يعني أنّ يوم ظهور المظاهر المقدّسة هو الرّبيع الرّوحانيّ والتّجلّي الرّحمانيّ والفيض السّماويّ ونسيم الحياة وإشراق شمس الحقيقة، فيه تحيا الأرواح وتهتزّ وتنتعش القلوب وتطيب النّفوس ويتحرّك الوجود وتستبشر الحقائق الإنسانيّة وتنمو وترتقي في المراتب والكمالات وتحصل التّرقّيات الكلّيّة والحشر والنّشر، لأنّها أيّام قيام وزمن حركة واشتعال وآونة فرح وسرور ووقت انجذاب موفور، ثمّ ينتهي ذلك الرّبيع المنعش للأرواح بالصّيف المملوء بالثّمار، فتعلو فيه كلمة الله وتروّج شريعته وتصل جميع الأشياء إلى درجة الكمال وتبسط المائدة السّماويّة وتعطّر نفحات القدس الشّرق والغرب، وتنتشر التّعاليم الإلهيّة في العالم، وتتربّى النّفوس وتحصل النّتائج المشكورة وتتجلّى التّرقّيات الكلّيّة في العالم الإنساني، وتحيط الفيوضات الرّحمانيّة وتشرق شمس الحقيقة من أفق الملكوت بنهاية القوّة والحرارة، وعندما تصل إلى دائرة نصف النّهار تميل إلى الغروب والزّوال، ويعقب ذلك الرّبيع الرّوحانيّ زمن الخريف فيقف النّشوء والنّموّ، ويتبدّل النّسيم بالرّيح العقيم ويذهب الموسم السّقيم بنضارة البساتين والصّحارى ولطافة حدائق الأزهار، يعني تزول الانجذابات الوجدانيّة وتتبدّل الأخلاق الرّحمانيّة وتخبو نورانيّة القلوب وتتغيّر روحانيّة النّفوس وتتحوّل الفضائل بالرّذائل ولا يكون تقديس ولا تنزيه، ولا يبقى من شريعة الله إلاّ الاسم ولا من تعاليمه إلاّ الرّسم، فيمحى وينعدم أساس دين الله وتوجد طقوس ورسوم ويحصل التّفريق وتتبدّل الاستقامة بالتّزلزل، فتموت الأرواح وتنطمس القلوب وتخمد النّفوس، ثمّ تأتي أيّام الشّتاء فتحيط برودة الجهل والعمى وتستولي ظلمة الضّلالة النّفسانيّة، وعندئذٍ يكون جمود وعصيان وسفاهة وكسل وسفالة وشؤون حيوانيّة وبرودة وخمود جماديّة كما في فصل الشّتاء الّذي فيه تحرم كرة الأرض من تأثير حرارة الشّمس وتصير مخمودة مغمومة، وعندما يصل عالم العقول والأفكار إلى هذه الدّرجة فذاك موت أبديّ وفناء سرمديّ، وبعد أن ينتهي موسم الشّتاء وشؤوناته يأتي الرّبيع الرّوحانيّ مرّة أخرى ويتجلّى الدّور الجديد ويهبّ النّسيم الرّوحانيّ ويتنفّس الصّبح النّورانيّ ويمطر السّحاب الرّحمانيّ وتسطع أشعّة شمس الحقيقة، فيحيا عالم الإمكان حياة جديدة ويلبس خلعاً بديعة، فتتجلّى مرّة أخرى في هذا الرّبيع الجديد جميع آثار الرّبيع الماضي ومواهبه وربّما تكون بحالة أعظم وأبهج، وإنّ الأدوار الرّوحانيّة لشمس الحقيقة كأدوار الشّمس الظّاهرة دائماً في التّجدّد والدّوران.
فمثل شمس الحقيقة كمثل الشّمس الظّاهرة لها مشارق ومطالع متعدّدة، فيوماً تطلع من برج السّرطان ووقتاً من برج الميزان وزماناً تشرق من برج الدّلو وآونة تتشعشع أنوارها من برج الحمل، ومع ذلك فالشّمس شمس واحدة وحقيقة واحدة، وأولوا العلم يعشقون الشّمس ولا يفتنون بالمشارق والمطالع وأهل البصيرة يطلبون الحقيقة لا المظاهر والمصادر، لذا يسجدون للشّمس من أيّ برج أشرقت وطلعت ويطلبون الحقيقة المقدّسة من أيّ نفس ظهرت وبرزت، فهذه النّفوس تهتدي دائماً إلى الحقيقة ولا تحتجب عن شمس العالم الإلهيّ، فعاشق الشّمس وطالب الأنوار يتوجّه دائماً إلى الشّمس سواء تشعشعت من برج الحمل أو أفاضت من برج السّرطان أو سطعت من برج الجوزاء، أمّا الجاهلون الغافلون فلا يعشقون سوى البروج ولا يهيمون بغير المشارق، فمثلاً إذا كانت الشّمس في برج السّرطان توجّهوا إليها ولا يغيّرون اتّجاههم هذا لحبّهم في البروج لهذا يحتجبون عن الشّمس وأنوارها إذ انتقلت إلى برج الميزان، مثلاً تشعشعت شمس الحقيقة وقتاً ما من البرج الإبراهيمي، ثمّ تنفّس الصّبح من البرج الموسويّ وأضاء الأفق، ثمّ طلعت من برج المسيح في نهاية القوّة الحرارة والإشراق، فطلاّب الحقيقة سجدوا لها أينما وجدت، وأمّا المتمسّكون بالمطلع الإبراهيمي فاحتجبوا عنها وقتما تجلّت على الطّور وأضاءت الحقيقة الموسويّة، وهؤلاء الّذين تمسّكوا بموسى احتجبوا عنها حينما تجلّت من النّقطة المسيحيّة في نهاية النّورانيّة والجلوة الرّبّانيّة وقس على ذلك.
إذاً يجب على الإنسان أن يطلب الحقيقة وأن يكون ولهاً بها حيثما وجدها في أيّ ذات مقدّسة، وأن يكون منجذباً للفيض الإلهيّ، وأن يكون كالفراش عاشقاً للنّور في أيّ زجاجة أضاء وسطع، أو كالبلبل مفتوناً بالورد في أيّ حديقة تفتّح ونبت، فإن طلعت الشّمس من مغربها فهي هي فلا ينبغي الاحتجاب بالمشرق واعتبار المغرب محلّ الغروب والأفول، كذلك يجب تحرّي الفيوضات الإلهيّة والبحث عن الإشراقات الرّحمانيّة ويجب الوله والانجذاب لكلّ حقيقة بانت وظهرت، انظروا اليهود لو لم يكونوا متمسّكين بالأفق الموسويّ ونظروا إلى شمس الحقيقة لشاهدوها ألبتّة في المطلع الحقيقيّ المسيحيّ في نهاية الجلوة الرّحمانيّة، ولكن يا ألف أسف تمسّكوا بلفظ موسى فحرموا من ذلك الفيض الإلهيّ والجلوة الرّبّانيّة.