مفاوضات - بيان المقصود من عتاب الله لحضرات الانبياء في الكتب المقدسة

حضرة عبد البهاء
مترجم. اللغة الأصلية الفارسية

بيان المقصود من عتاب الله لحضرات الأنبياء في الكتب المقدّسة – من مفاوضات عبدالبهاء

السّؤال: ورد في الكتب المقدّسة بعض خطابات زجر وعتاب موجّهة لحضرات الأنبياء، فمن المخاطب بذلك ولمن وجّه العتاب؟

الجواب: إنّ الجميع الخطابات الإلهيّة التي عوتب بها حضرات الأنبياء إنّما المقصود بها أممهم، ولو أنّها بحسب الظّاهر موجّهة إلى حضراتهم، وحكمة ذلك محض الشّفقة والرّحمة بالأمم، حتّى لا تتألّم نفوسهم ولا تتكدّر خواطرهم ولا يكون الخطاب والعتاب ثقيلاً عليهم، لهذا كان الخطاب بحسب الظّاهر موجّهاً إلى الأنبياء ولكنّه في الحقيقة للأمم، وفضلاً عن هذا فالسّلطان المقتدر المستقلّ في مملكته إنّما يمثّل شعبه ورعيّته، يعني قوله قول الجميع، وكل معاهدة يبرمها هي معاهدتهم، لأنّ إرادة شعبه ورعيّته فانية في إدارته ومشيئته، كذلك كلّ نبيّ إنّما يمثّل أمّته وملّته، لهذا فعهد الله وخطابه مع النّبيّ هو عهد وخطاب مع كلّ الأمّة والغالب أنّ خطاب الزّجر والعتاب يثقل على النّفوس ويسبّب انكسار القلوب.

لهذا اقتضت الحكمة البالغة توجيه الخطاب في الظّاهر لحضرات الأنبياء، وذلك يتوضّح من التّوراة نفسها حيث أنّ بني إسرائيل عصوا وقالوا لحضرة موسى نحن لا نقدر أن نحارب العمالقة، لأنّهم أقوياء أشدّاء شجعان، فعاتب الله موسى وهارون، مع أنّ حضرة موسى لم يكن عاصياً، بل كان في نهاية الطّاعة، ولا شكّ أنّ شخصاً جليلاً كحضرة موسى الّذي هو واسطة الفيض الإلهيّ والمبلّغ لشريعة الله لا بدّ وأن يكون مطيعاً لأمر الله، فهذه النّفوس المباركة إنّما هم كأوراق الشجرة المتحرّكة بهبوب النّسيم لا بإرادتها، لأنّ هذه النّفوس المباركة منجذبة بنفحات محبّة الله ومسلوبة الإرادة بالكلّيّة، فقولهم قول الله، وأمرهم أمر الله، ونهيهم نهي الله، وهم بمثابة هذا الزّجاج ضوؤه من السّراج ومهما سطع الشّعاع من الزّجاج بحسب الظّاهر فهو في الحقيقة إنّما يسطع من السّراج، وكذلك حركة أنبياء الله ومظاهر الظّهور وسكونهم بوحي إلهيّ لا عن هوى نفساني، فإن لم يكن هكذا كيف يكون ذلك النّبيّ أميناً وكيف يكون سفيراً للحقّ ومبلّغاً لأوامره ونواهيه، إذاً فكلّ ما جاء في الكتب المقدّسة عتاباً لمظاهر الظّهور هو من هذا القبيل.

الحمد لله أنت أتيت إلى هنا وتلاقيت بعباد الله فهل وجدت منهم غير رائحة رضا الحقّ، لا والله، فقد رأيت بعينيك أنّهم باللّيل والنّهار في سعي واجتهاد. وليس لهم من قصد سوى إعلاء كلمة الله وتربية النّفوس وإصلاح الأمم والتّرقّيات الرّوحانيّة وترويج الصّلح العموميّ وحبّ الخير للنّوع الإنسانيّ والمحبّة لجميع الملل والتّضحية لخير البشر والانقطاع عن المنافع الذّاتيّة والخدمة لنشر الفضائل بين العالم الإنسانيّ. ولنرجع إلى ما كنّا فيه، مثلاً يقول في التّوراة في كتاب إشعيا في أصحاح 48 آية 12 "اسمع لي يا يعقوب وإسرائيل الّذي دعوته أنا هو أنا الأوّل وأنا الآخر" ومن المعلوم أنّه ما كان مراده يعقوب أي إسرائيل بل المقصود بنو إسرائيل، وكذلك يقول في كتاب إشعيا أصحاح 43 في الآية الأولى "والآن هكذا يقول الرّب خالقك يا يعقوب وجابلك يا إسرائيل لا تخف لأنّي فديتك دعوتك باسمك أنت لي" وفضلاً عن هذا فإنّه يقول في سفر الأعداد من التّوراة في الأصحاح 20 في الآية 23 "وكلّم الرّبّ موسى وهارون في جبل هور على تخم أرض أدوم قائلاً يضمّ هارون إلى قومه لأنّه لا يدخل الأرض الّتي أعطيت لبني إسرائيل لأنّكم عصيتم قولي عند ماء مريبة" ويقول في الآية 13 "هذا ماء مريبة حيث خاصم بنو إسرائيل الرّبّ فتقدّس فيهم" لاحظوا فقد عصى بنو إسرائيل ولكن بحسب الظّاهر عوتب موسى وهارون كما يقول في الأصحاح الثّالث آية 26 في سفر التّثنية من التّوراة "لكنّ الرّبّ غضب عليَّ بسببكم ولم يسمع لي بل قال لي الرّبّ كفاك لا تعد تكلّمني أيضاً في هذا الأمر" بينما هذا الخطاب والعتاب في الحقيقة موجّه لأمّة إسرائيل الّتي بعصيانها الأمر الإلهيّ بقيت أسيرة مدّة مديدة في صحراء التّيه المجاورة للأردن حتّى زمن يوشع عليه السّلام، ومع أن هذا الخطاب والعتاب في الظّاهر كان لحضرة موسى وهارون، ولكنّه في الحقيقة لأمّة إسرائيل، وكذلك تفضّل في القرآن بقوله خطاباً لحضرة محمّد "إنّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر" يعني نحن فتحنا لك فتحاً واضحاً لنغفر لك الذّنوب المتقدّمة والمتأخّرة، ولو أنّ هذا الخطاب كان بحسب الظّاهر لحضرة محمّد ولكنّه في الحقيقة خطاب لعموم الملّة، وهذا محض الحكمة البالغة الإلهيّة كما سبق حتّى لا تضطرب القلوب ولا تتكدّر، فكثيراً ما اعترف أنبياء الله ومظاهر الظّهور الكلّي في مناجاتهم بالقصور والذّنب، وهذا من باب التّعليم لسائر النّفوس وللتّشويق والحضّ على الخضوع والخشوع والاعتراف بالذّنب والقصور ليس إلاّ. فتلك النّفوس المقدّسة طاهرة من كلّ ذنب، ومنزّهة عن كلّ خطأ، مثلاً يقول في الإنجيل إنّ شخصاً حضر لدى حضرة المسيح فقال أيّها المعلّم البارّ فأجابه حضرة المسيح لماذا خاطبتني بالبارّ، لأنّ البارّ ذات واحدة وهو الله، فليس المقصود من هذا أن حضرة المسيح معاذ الله كان مذنباً بل كان المراد تعليم الخضوع والخشوع والتّواضع والانكسار لذلك الشّخص المخاطب، فهذه النّفوس المباركة أنوار ولا يجتمع النّور مع الظّلمة، حياة ولا تجتمع الحياة مع الموت، هداية ولا تجتمع الهداية مع الضّلالة، حقيقة الطّاعة ولا تجتمع الطّاعة مع العصيان، وخلاصة القول أنّ العتاب الوارد في الكتب المقدّسة الموجّه بحسب الظّاهر للأنبياء أي المظاهر الإلهيّة إنّما يقصد به في الحقيقة الأمّة، وإذا تتبّعت الكتب المقدسة تجد ذلك واضحاً جليّاً والسّلام

المصادر
المحتوى
OV