مفاوضات - الفرق بين الانسان والحيوان

حضرة عبد البهاء
مترجم. اللغة الأصلية الفارسية

الفرق بين الإنسان والحيوان – من مفاوضات عبدالبهاء

تكلّمنا غير مرّة في مسألة الرّوح لكنّ أقوالنا لم تُدوّن، فاعلم أنّ أهل العالم قسمان قسم ينكر وجود الرّوح ويقول إنّ الإنسان أيضاً نوع من الحيوان، لأنّنا نرى الحيوان مشتركاً مع الإنسان في القوى والحواسّ، وهذه العناصر البسيطة المفردة الّتي تملأ هذا الفضاء تتركّب بتراكيب غير متناهية ويظهر من كلّ تركيب كائن من الكائنات، ومن جملتها الكائنات ذوات الأرواح الّتي لها القوى والإحساس، وكلّما كان التّركيب أكمل كان ذلك الكائن أشرف، وإنّ تركيب العناصر في وجود الإنسان أكمل من تركيب جميع الكائنات، وامتزاجها في نهاية الاعتدال، لذا كان أشرف وأكمل، ويقولون إنّه ليس للإنسان قوّة وروح مخصوصة محروم منها سائر الحيوان، ويقولون إنّ الحيوان جسم حسّاس وأمّا الإنسان فأكثر منه إحساساً في بعض القوى (مع أنّ الحيوان أقوى من الإنسان إحساساً في القوى الظّاهرة الحسّاسّة كالسّمع والبصر والذّوق والشّمّ واللّمس حتّى في بعض القوى الباطنيّة كالحافظة) ويقولون إنّ الحيوان له إدراك وشعور، غاية ما هنالك أنّ شعور الإنسان أكثر، وهذه أقوال الفلاسفة في هذا العصر.

هكذا قولهم وذلك زعمهم وبذا حكمت أوهامهم، وبعد شدّة البحث والاستدلال قالوا بأنّ الإنسان من سلالة الحيوان، يعني أنّ الإنسان كان وقتاً ما حيواناً ثمّ تغيّر نوعه وترقّى شيئاً فشيئاً حتّى وصل إلى درجة الإنسان، وأمّا الإلهيّون فيقولون إنّ الأمر ليس كذلك، فإنّه مهما كان الإنسان مشتركاً مع الحيوان في القوى والحواس الظّاهرة غير أنّه توجد في الإنسان قوّة خارقة للعادة محروم منها الحيوان، فهذه العلوم والفنون والاكتشافات والصّنائع وكشف الحقائق من نتائج تلك القوّة المجرّدة، وهذه القوّة قوّة محيطة بجميع الأشياء ومدركة لحقائقها وتكشف أسرار الكائنات المكنونة وتتصرّف فيها، حتّى تدرك الحقائق المعقولة وغير المحسوسة الّتي ليس لها وجود خارجيّ بل الذّي هو غيب كحقيقة العقل والرّوح والصّفات والأخلاق والحبّ والحزن الّتي هي جميعاً من الحقائق المعقولة، وفضلاً عن ذلك فهذه العلوم الموجودة والصّنائع المشهودة والمشروعات ومكتشفات الإنسان الّتي لا تتناهى كانت وقتاً ما سرّاً مكنوناً وغيباً مستوراً، كشفتها تلك القوّة المحيطة الإنسانيّة وأخرجتها من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، ومن جملتها البرق (التّلغراف) والحاكي وآلة التّصوير، فجميع هذه الاكتشافات والصّنائع العظيمة كانت وقتاً ما سرّاً مكنوناً كشفته تلك الحقيقة الإنسانيّة وأخرجته من حيّز الغيب إلى حيّز الشّهود، حتّى كانت وقتاً ما خواصّ هذا الحديد الذّي نشاهده بل جميع المعادن سرّاً مكنوناً.

فالحقيقة الإنسانيّة كشفت هذه المعادن وصاغتها على هذه الهيّئات الصّناعيّة، وقس على ذلك جميع الأشياء من اكتشافات واختراعات بشريّة غير متناهية، وهذه مسألة لا سبيل لإنكارها ولا يمكننا أن ننكرها، ولو نقول إنّ هذه من آثار القوى الحيوانيّة والحواسّ الجسمانيّة نرى ونشهد بوضوح أنّ الحيوان أعظم من الإنسان في هذه القوى، مثلاً بصر الحيوان أحدّ بكثير من بصر الإنسان، وقوّة سمعه أرهف بكثير من قوّة سمع الإنسان، وكذلك قوى الشّم والذّوق، والخلاصة إنّ أكثر الحيوان أشدّ قوّة في جميع القوى المشتركة بين الحيوان والإنسان، فلنضرب لك مثلاً في القوّة الحافظة، لو فرضنا أنّك أخذت حَمَامَاً من هنا إلى إقليم بعيد جدّاً وأطلقته هناك فإنّه يرجع إلى هنا وتبقى الطّرق مرتسمة فى حافظته، أو خذ كلباً من هنا إلى أواسط آسيا وأطلقه هناك فإنّه يرجع إلى هنا ولا يضلّ الطّريق أبداً، وكذلك قُل في سائر القوى كالسّمع والبصر والشّمّ والذّوق واللّمس.

إذاً اتّضح أنّه لو لم يكن في الإنسان قوّة غير القوّة الحيوانيّة لوجب أن يكون الحيوان أعظم من الإنسان في إدراك الحقائق والاكتشافات العظيمة، فتبيَّن من هذا الدّليل أنّ في الإنسان موهبة لا توجد في الحيوان، وفضلاً عن هذا فالحيوان يدرك الأشياء المحسوسة، وأمّا الحقائق المعقولة فلا يدركها، مثلاً يرى الحيوان كلّ ما يدخل تحت مدّ البصر، أمّا ما كان خارجاً عن مدّ البصر فلا يمكنه إدراكه ولا تصوّره، مثلاً لا يمكن للحيوان أن يدرك كرويّة الأرض، لأنّ الإنسان يستدلّ بالأمور المعلومة على الأمور المجهولة ويكشف الحقائق المجهولة، ومن ذلك أنّه يستنتج كرويّة الأرض من رؤية الآفاق المائلة (المنحنية) على الأرض، مثلاً إنّ النّجمة القطبيّة في عكّاء على 33° يعني مرتفعة عن الأفق 33°، وعندما يتّجه الإنسان نحو القطب الشّمالي فإنّه كلّما يقطع مسافة درجة يجد النّجمة القطبيّة تصعد درجة في الأفق، يعني يجد ارتفاع النّجمة 34° حتّى يصل ارتفاعها إلى 40°، 50°، 60°، 70°، ولو يصل إلى قطب الأرض يصل ارتفاع القطب إلى 90°. ويكون سمت الرّأس وارتفاع هذا القطب فوق الرّأس أمراً محسوساً، وهذا الصّعود أيضاً أمر محسوس لأنّه كلّما اتجه نحو القطب يكون النّجم أرفع، فيكشف من هذين الأمرين المعلومين أمراً مجهولاً، وهو أنّ الأفق مائل يعني أنّ أفق كلّ درجة من الأرض غير أفق الدّرجة الأخرى، وهذه الكيفيّة يدركها الإنسان ويستدلّ بها على أمر مجهول وهو كروّية الأرض.

أمّا الحيوان فلا يمكنه إدراك هذا، وكذلك لا يمكن للحيوان أن يدرك أنّ الشّمس مركز والأرض تتحرّك حولها، لأن الحيوان أسير الحواسّ ومقيّد بها ولا يمكنه إدراك ما وراء الحسّ أيّ الأشياء الّتي لا تدركها الحواسّ، والحال أنّ الحيوان أعظم من الإنسان في القوى والحواسّ الظّاهرة، إذاً ثبت وتحقّق أنّ في الإنسان قوّة كاشفة بها امتاز عن الحيوان وهي الرّوح الإنسانيّ.

سبحان الله، الإنسان متوجّه دائماً إلى العُلا وهمّته عالية ويريد دائماً أن يصل إلى عالم أعظم من العالم الذّي هو فيه وأن يصعد إلى درجة أرقى من درجته الّتي هو فيها، فحُبّ الرّفعة والعلوّ من خصائص الإنسان، وإنّي لمتحيّر من بعض فلاسفة أميركا وأوروبا كيف رضوا أن يتدنّوا بأنفسهم إلى عالم الحيوان ويطلبوا الرّقيّ المعكوس، مع أنّ الوجود يجب أن يكون توجّهه نحو العلوّ، والحال أنّك لو قلت له أنّك حيوان يتكدّر خاطره كثيراً ويتبرّم جدّاً، فأين عالم الإنسان من عالم الحيوان، وأين الكمالات الإنسانيّة من الجهالة الحيوانيّة، وأين نورانيّة الإنسان من الظّلمانيّة الحيوانيّة، وأين العزّة الإنسانيّة من الذلّة الحيوانيّة، إنّ طفلاً عربيّاً في سنّ العاشرة يستطيع أن يرعى ويقود مائتين أو ثلثمائة من الإبل في البادية بصيحة واحدة منه، كما أنّ هنديّاً نحيفاً يقدر أن يخضع الفيل مع عظمته بحيث ينقاد له ويكون في نهاية الطّاعة، فجميع الأشياء مسخّرة للإنسان والإنسان يقاوم الطّبيعة بينما جميع الكائنات أسيرة للطّبيعة، وليس لأحدها أن ينفكّ عن مقتضياتها إلاّ الإنسان، فإنّه هو الّذي يقاوم الطّبيعة، فالطّبيعة تجذب الأجسام نحو مركز الأرض بينما الإنسان بالوسائط يبتعد عن المركز ويطير في الهواء، الطّبيعة مانعة للإنسان من عبور البحر ولكنّ الإنسان يصنع السّفينة ويسير في عرض المحيط الأعظم وقس على ذلك.

إنّ هذا الموضوع مترامي الأطراف، فمثلاً الإنسان بالمخترعات يصعد الجبال ويخترق الصّحارى ويحيط بأخبار الشّرق والغرب وهو في نقطة واحدة، وكلّ هذا مضادّ للطّبيعة، فالبحر بعظمته لا يمكنه أن يخرج قيد شعرة عن حكم الطّبيعة، والشّمس مع عظمتها لا يمكنها الخروج عن حكم الطّبيعة رأس إبرة، ولا يمكنها أبداً أن تدرك شؤون الإنسان وأحواله وطبيعته وخواصّه وحركاته، فما هي إذاً هذه القوّة الّتي توجد في الجسم الإنسانيّ الصّغير المحيطة بجميع هذه الأشياء، وما هي هذه القوّة القاهرة الّتي تجعل جميع الأشياء مسخّرة له.

بقي شيء واحد وهو أنّ الفلاسفة الحديثين يقولون إنّنا لم نشاهد الرّوح مطلقاً في الإنسان، وكلّما تحريّنا في خفايا الجسد الإنسانيّ لا نحسّ بقوّة معنويّة فكيف نتصوّر تلك القوى الّتي لا نحسّها، فيقول الإلهيّون في الجواب، إنّ روح الحيوان أيضاً غير محسوس ولا يدرك بهذه القوى الجسمانيّة، فبأيّ شيء نستدلّ على وجود روح الحيوان، لا شك أنّك تستدل بالآثار على أنّ في هذا الحيوان قوّة ليست في النّبات وهي القوّة الحسّاسّة، يعني الباصرة والسّامعة إلى غير ذلك من القوى، ومن هذا يستدلّ على وجود الرّوح الحيوانيّ، وبمثل ذلك يعلم من تلك الدّلائل والآثار الّتي سبق ذكرها وجود الرّوح الإنسانيّ، ولمّا كانت في الحيوان آثار لا توجد في النّبات إذاً نقول إنّ هذه القوّة الحسّيّة من خصائص الرّوح الحيوانيّ، وكذلك ترى في الإنسان آثاراً وقوى وكمالات لا توجد في الحيوان، فتستدلّ أنّ في الإنسان قوّة محروم منها الحيوان، ولو أنّنا ننكر كلّ شيء غير محسوس للزم أن ننكر الحقائق المسلّمة الوجود، مثلاً إنّ المادّة الأثيريّة غير محسوسّة والحال أنّها محقّقة الوجود، والقوّة الجاذبة ليست بمحسوسّة وهي محقّقة الوجود، فبأيّ شيء نحكم على وجودها أليس ذلك بآثارها؟ فمثلاً هذا النّور هو تموّجات المادّة الأثيريّة ومن هذه التّموّجات نستدلّ على وجودها.

المصادر
المحتوى
OV