إنّ الدّلائل الّتي أقمناها على أصالة نوع الإنسان كانت أدلّة عقليّة، فلنشرع الآن في الأدلّة الإلهيّة وهي أصل الدّليل، لأنّنا أثبتنا الألوهيّة بالأدلّة العقليّة، وكذلك ثبت بالأدلّة العقليّة أنّ الإنسان كان إنساناً من أصله ومبدئه ونوعيّته قديمة، فلنقم الآن البراهين الإلهيّة على لزوم الوجود الإنسانيّ أي وجود نوعه، إذ بدون وجود الإنسان لا تتجلّى الكمالات الرّبانيّة، أمّا هذه الدّلائل فهي إلهيّة لا عقليّة، لأنّه قد ثبت بالدّلائل والبراهين مرّات عديدة أنّ الإنسان أشرف الممكنات وجامع جميع الكمالات، وإنّ جميع الكائنات والموجودات مواقع التّجلّيّات الإلهيّة، يعني أنّ آثار ألوهيّة الله ظاهرة في حقائق الموجودات وفي جميع الكائنات، فكما أنّ أشعّة الشّمس تسطع على الكرة الأرضيّة، يعني نور الشّمس وحرارتها وتأثيرها ظاهر باهر في كلّ ذرّات الكرة الأرضيّة، كذلك ذرّات عموم الكائنات في هذا الفضاء الذّي لا يتناهى كلّ منها يدلّ وينطق عن كمال من الكمالات الإلهيّة، وليس هناك كائن محروم من هذا، فهو إمّا أن يكون آية رحمة الحقّ يعني يدلّ على رحمة الله، أو آية قدرة الحقّ، أو آية عظمة الحقّ، أو آية عدل الحقّ، أو آية ربّانيّة الحقّ الذّي يربّي، أو آية كرم الحقّ، أو آية بصر الحقّ، أو آية سمع الحقّ، أو آية علم الحقّ، أو آية نعمة الحقّ، وقس على ذلك.
والمراد من هذا أنّه لا بدّ لكلّ كائن من الكائنات أن يكون مركزاً للتّجلّيّات الرّبانيّة، أي تظهر وتتجلّى فيه الكمالات الإلهيّة، مثلما تتجلّى الشّمس على الصّحارى والبحار والأشجار والأثمار والأزهار وكلّ الكائنات الأرضيّة، فعالم الكائنات أي كلّ كائن من الموجودات يحكي عن اسم من أسماء الله، وأمّا الحقيقة الإنسانيّة فهي حقيقة جامعة، حقيقة كلّيّة تتجلّى فيها جميع الكمالات الإلهيّة، يعني أنّ كلّ اسمٍ وصفةٍ وكمالٍ نثبّته للحقّ ففي الإنسان آية وأثر منه، لأنّها لو لم تكن موجودة في الإنسان لما أمكنه أن يتصوّر هذه الكمالات أو يدركها، مثلاً نقول أنّ الله بصير فهذه العين هي آية بصره، ولو لم يكن هذا البصر في الإنسان فكيف يمكننا أن نتصوّر البصيرة الإلهيّة، لأنّ الأكمه الذّي ولد أعمى لا يمكنه أن يتصوّر البصر، والأصمّ الذّي ولد أصمّ لا يمكنه تصوّر السّمع، والميِّت لا يتصوّر الحياة، لذا تجلّت الرّبوبيّة الإلهيّة الجامعة لجميع الكمالات في حقيقة الإنسان، يعني أنّ الذّات الأحديّة الجامعة لكلّ الكمالات تجلت من هذا المقام تجلّياً على حقيقة الإنسانيّة، يعني أشرقت شمس الحقيقة في هذه المرآة وإذاً فالإنسان هو المرآة الكاملة المقابلة لشمس الحقيقة ومحلّ سطوعها، وتجلّي الكمالات الإلهيّة ظاهر في حقيقة الإنسان، لهذا أصبح خليفة الله ورسول الله، إذ لولا الإنسان لما كان لعالم الوجود نتيجة، فالمقصود إذاً من الوجود هو ظهور الكمالات الإلهيّة، ولهذا لا يمكن أن نقول أنّه كان زمن ولم يكن فيه إنسان، وكلّ ما يمكن أن نقول هو أنّ هذه الكرة الأرضيّة لم تكن موجودة في زمن ما، ولكنّ هذا المظهر الكامل موجود من الأوّل الذّي لا أوّل له، ويكون إلى الآخر الذّي لا آخر له، وهذا الإنسان الذّي نتكلّم عنه ليس المقصود منه كلّ إنسان بل المقصود الإنسان الكامل، لأنّ أشرف عضو في الشّجرة هو الثّمر وهو المقصود الأصليّ، وإن لم يكن للشّجرة ثمر فهي مهملة لا قيمة لها، لهذا لا يمكن أن يتصوّر أنّ عالم الوجود سواء أكان علويّاً أم سفليّاً كان معموراً بالحمار والبقر والفأر والقطّ ومحروماً من الإنسان، فهذا التّصوّر باطل ومهمل، وكلام الحقّ واضح كالشّمس، وهذا دليل إلهيّ لكن لا تمكن إقامته للمادّيّين في أوّل القول بل يجب أوّلاً ذكر الدّليل العقليّ ثمّ الدّليل الإلهيّ.