مفاوضات - قيام الارواح بالحق

حضرة عبد البهاء
مترجم. اللغة الأصلية الفارسية

قيام الأرواح بالحقّ – من مفاوضات عبدالبهاء

السّؤال: ما معنى قيام الأرواح بالحقّ حيث يقول في التّوراة ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حيّة؟

الجواب: اعلم أنّ القيام على قسمين: قيام وتجلّ صدوريّ وقيام وتجلّ ظهوريّ، فالقيام الصّدوري كقيام الصّنع بالصّانع يعني مثلاً الكتابة بالكاتب، فهذه الكتابة صادرة من الكاتب وهذا النّطق من هذا النّاطق، وكذلك الرّوح الإنسانيّ صدرت من الحقّ لا أنّها ظهرت منه، يعني لم ينفكّ جزء من حقيقة الألوهيّة ودخل في جسد آدم، بل إنّ ظهور الرّوح في جسده كصدور النّطق من النّاطق، وأمّا القيام الظّهوريّ فهو ظهور حقيقة الشّيء بصور أخرى، كقيام الشّجرة من البذرة وقيام الورد من بذرة الورد، لأنّ نفس البذرة ظهرت بصورة الأغصان والأوراق والأزهار، ويقال لهذا قيام ظهوريّ، فقيام الرّوح الإنسانيّ بالحقّ قيام صدوريّ، كصدور النّطق من النّاطق، والكتابة من الكاتب، يعني لا تصير نفس النّاطق نطقاً ولا نفس الكاتب كتابة، بل لها قيام صدوريّ، لأنّ النّاطق في كمال القدرة والقوّة، غير أنّ النّطق يصدر منه كصدور الفعل من الفاعل، والنّاطق الحقيقيّ أي الذّات الأحديّة، لم يزل كان على حالة واحدة لا تغيير ولا تبديل ولا تحويل ولا انقلاب وهو أبديٌّ سرمديٌّ، فبناء على هذا يكون قيام الرّوح الإنسانيّ بالحقّ قياماً صدوريّاً، وإنّ ما ذكر في التّوراة من قوله نفخ الله في آدم روحاً، فهذه الرّوح كالنّطق الصّادر من النّاطق الحقيقيّ أثّرت في حقيقة آدم.

وأمّا القيام الظّهوري – فإن كان المقصود منه التّجلّي وليس تجزّءاً – فقد قلنا أنّ ذلك هو قيام وتجلّي الرّوح القدس والكلمة بالحقّ، ويقول في إنجيل يوحنّا (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله) إذاً فالرّوح القدس والكلمة هي تجلّي الحقّ، والرّوح والكلمة هما عبارة عن الكمالات الإلهيّة الّتي تجلّت في حقيقة حضرة المسيح – وكانت تلك الكمالات عند الله – كتجلّي الشّمس في المرآة وظهورها بتمامها، لأنّ المقصود من الكلمة ليس جسد المسيح، بل المقصود هو الكمالات الإلهيّة الّتي ظهرت في المسيح، لأنّه كان كمرآة صافية أمام شمس الحقيقة، وكمالات شمس الحقيقة يعني ضياؤها وحرارتها ظاهران مشهودان في تلك المرآة، وحينما ننظر في المرآة نرى الشّمس فيها فنقول هذه هي الشّمس، إذاً فالكلمة والرّوح القدس اللّذان هما عبارة عن الكمالات الإلهيّة هما التّجلّي الإلهيّ، هذا هو معنى آية الإنجيل القائلة (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الله الكلمة) لأنّ الكمالات الإلهيّة ليست منفصلة عن ذات الأحديّة، وكمالات المسيح تدعى الكلمة، لأنّ جميع الكائنات بمنزلة الحروف وليس للحرف معنى مستقل، ولكنّ كمالات حضرته لها مقام الكلمة، لأنّ الكلمة تؤدّي معنى جامعاً تامّاً، وبما أنّ الحقيقة المسيحيّة هي ظهور الكمالات الإلهيّة فمن هذه الوجهة عبّر عنها بالكلمة.

واعلم أنّ قيام الكلمة والرّوح القدس بالحقّ هو قيام تجلّ ظهوريّ، ولا يتصوّر منه أنّ حقيقة الألوهيّة تجزّأت أو تعدّدت أو تنزّلت من علوّ التّقديس والتّنزيه، حاشا ثمّ حاشا! إذ لو أنّ مرآة صافية لطيفة واجهت الشّمس لتجلّت فيها أنوار الشّمس وحرارتها وصورتها ومثالها تجلّياً ظهوريّاً، بحيث لو يقول النّاظر إلى الشّمس المتشعشعة المشهودة في تلك المرآة الصّافية اللّطيفة هذه هي الشّمس يكون صادقاً، ولكنّ المرآة مرآة والشّمس شمس، ولو تتجلّى الشّمس في مرايا متعدّدة فهي شمس واحدة، فهذا المقام لا حلول له ولا دخول ولا امتزاج ولا نزول، لأنّ الدّخول والحلول والنّزول والخروج والامتزاج من لوازم الأجسام وخواصها لا الأرواح، فكيف بالحقيقة المقدّسة المنزّهة الحضرة الإلهيّة، (تبارك الله عن كلّ ما لا ينبغي لتنزيهه وتقديسه وتعالى علوّاً كبيراً).

فشمس الحقيقة كما قلنا لم تزل كانت على حالة واحدة لا تغيير لها ولا تبديل ولا تحويل ولا انقلاب أزليّة سرمديّة، ولكنّ الحقيقة المقدّسة كلمة الله بمنزلة المرآة الصّافيّة اللّطيفة النّورانيّة تجلّت فيها حرارة الشّمس وضياؤها وصورتها ومثالها، أي تجلّت فيها كمالات شمس الحقيقة، هذا معنى ما يقوله حضرة المسيح في الإنجيل (الأب في الابن) يعني تجلّت شمس الحقيقة في هذه المرآة (سبحان من أشرق على هذه الحقيقة المقدّسة من الكائنات).

المصادر
المحتوى
OV