اعلم أنّ الأرواح خمسة أقسام، الأوّل الرّوح النّباتيّ وهو القوّة الّتي تحصل من تركيب العناصر وامتزاج المواد بتقدير الله المتعال ومن التّدبير والتّأثير والارتباط مع سائر الكائنات وبتفرّق هذه الأجزاء والعناصر بعضها عن بعض تتلاشى تلك القوّة النّامية النّباتيّة، فمثلاً الكهرباء الّتي تحصل من اتّحاد بعض العناصر والأجزاء تتلاشى وتفقد إذا ما تفرّقت تلك الأجزاء، فهذا هو الرّوح النّباتيّ، ويلي ذلك الرّوح الحيوانيّ وهو كذلك يتركّب من امتزاج العناصر، ولكنّ هذا التّركيب أكمل ويحصل من الامتزاج التّامّ بتقدير الرّبّ القدير، ويظهر الرّوح الحيوانيّ الذّي هو عبارة عن قوّة حسّاسة تدرك الحقائق المحسوسة الّتي ترى وتسمع وتذاق وتشمّ وتلمس، وطبعاً ينعدم ذلك الرّوح بتفريق وتحليل تلك الأجزاء المركّبة كهذا السّراج الذّي نشاهده، فإذا اجتمع الدّهن والفتيل والنّار بعضها ببعض يحصل الضّياء، لكن لو نفد الدّهن واحترق الفتيل لذهب ذلك الضّياء أيضاً.
أمّا الرّوح الإنسانيّ مثله كمثل البلّور وفيض الشّمس، يعني أنّ جسم الإنسان مركّب من العناصر في أكمل صورة من التّركيب والامتزاج وفي غاية من الإتقان، وهو أشرف مركّب وأكمل موجود ينشأ وينمو بالرّوح الحيوانيّ، فهذا الجسم المكمّل بمثابة المرآة والرّوح الإنسانيّ بمثابة الشّمس، وإذا انكسرت المرآة بقي فيض الشّمس، وكذلك إذا انعدمت المرآة فضوء الشّمس باق لا يلحقه أيّ ضرر، فهذا الرّوح هو القوّة الكاشفة المحيطة بجميع الأشياء، فكلّ هذه الآثار البديعة والصّنايع والاكتشافات والمشاريع العظيمة والوقائع التّاريخيّة المهمّة الّتي ترونها جميعها من أثر القوّة الكاشفة للرّوح، وقد أظهرها بقوّة معنويّة من حيّز الغيب والخفاء إلى ساحة الشّهود، مثلاً يكشف وهو في الأرض ما في السّماء، ومن الحقائق المعلومة المشهودة يكشف الأشياء الخفيّة المجهولة، مثلاً وهو في هذا النّصف من الكرة الأرضيّة يكتشف بقوّة العقل النّصف الآخر، كما اكتشف كولمبس أمريكا بعد أن كانت مجهولة مستورة، وكذلك الجسم ثقيل ولكنّه بواسطة اكتشاف الرّوح يطير وهو بطيء الحركة ولكنّه بالوسائط الّتي يوجدها يطوي الشّرق والغرب بنهاية السّرعة.
وبالاختصار فهذه القوّة محيطة بجميع الأشياء، غير أنّ هذا الرّوح له جانبان أحدهما رحمانيّ والآخر شيطانيّ يعني فيه استعداد للصّعود إلى أعلى درجات الكمال والهبوط إلى أسفل دركات النّقص فإذا اكتسب الفضائل صار أشرف الممكنات وإن اكتسب الرّذائل كان أرذل الموجودات.
أمّا الرّوح في المرتبة الرّابعة فهو الرّوح السّماويّ وذلك هو الرّوح الإيمانيّ والفيض الرّحمانيّ المنبعث من نفثات روح القدس الّتي تكون بقوّة إلهيّة سبب حياة أبديّة، تلك القوّة هي قوّة تجعل الإنسان الأرضيّ سماويّاً وتجعل الإنسان النّاقص كاملاً والكدر صافياً والسّاكت ناطقاً والجاهل عالماً وأسير الشّهوات النّفسانيّة مقدّساً ومنزّهاً.
والخامسة روح القدس وهو الواسطة بين الحقّ والخلق بمثابة المرآة المقابلة للشّمس، فكما أنّ المرآة الصّافيّة تقتبس الأنوار من الشّمس وتعكس فيضها على الآخرين، كذلك روح القدس واسطة أنوار التّقديس الّتي يقتبسها من شمس الحقيقة ويهبط بها على الحقائق المقدّسة وهو متّصف بجميع الكمالات الإلهيّة وكلّما ظهر يتجدّد العالم وتبتدئ دورة جديدة ويلبس هيكل العالم الإنسانيّ خلعة جديدة. مثله كمثل الرّبيع بمجيئه في أيّ وقت ينقل العالم من حال إلى أخرى، وبقدوم موسم الرّبيع تخضّر الأراضي الهامدة والسّهول والصّحارى وتنبت أنواع الورد والرّياحين وتحيا الأشجار حياة جديدة وتظهر أثمار بديعة وتؤسّس دورة جديدة، وعلى هذا المثال يكون ظهور روح القدس وفي أيّ وقت يظهر يتجدّد العالم الإنسانيّ ويعطي الحقائق الإنسانيّة روحاً جديداً ويلبس عالم الوجود خلعاً محمودة وتتبدّد ظلمات الجهل وتسطع أنوار الكمالات، فالمسيح بهذه القوّة جدّد هذه الدّورة ورفع الرّبيع الإلهيّ سرادقه في نهاية الطّراوة واللّطافة في العالم الإنسانيّ وعطر النّسيم المنعش للرّوح مشام المخلصين، وكذلك ظهور حضرة بهاء الله كان بمثابة فصل الرّبيع والموسم الجديد الذّي ظهر بالنّفحات القدسيّة وجنود الحياة الأبديّة والقوّة الملكوتيّة فوضع سرير السّلطنة الإلهيّة في قطب العالم وأحيا النّفوس بروح القدس وأسّس دورة جديدة.