مفاوضات - الحياة الابدية والدخول في الملكوت

حضرة عبد البهاء
مترجم. اللغة الأصلية الفارسية

الحياة الأبديّة والدّخول في الملكوت – من مفاوضات عبدالبهاء

إنّك تسأل عن الحياة الأبديّة والدّخول في الملكوت، والجواب إنّ الملكوت في الاصطلاح الظّاهريّ يقال له السّماء لكنّ هذا تعبير وتشبيه لا حقيقة ولا واقع، لأنّ الملكوت ليس بمكان ولا جسم بلّ هو مقدّس عن الزّمان والمكان، هو عالم روحانيّ وعالم رحمانيّ ومركز السّلطنة الإلهيّة ومجرّد عن الجسم والجسمانيّات ومنزّه مقدّس عن أوهام عالم الإنسان، لأنّ التّحديد في المكان من خصائص الأجسام لا الأرواح. والمكان والزّمان محيطان بالجسد لا بالعقل والرّوح.

فانظروا إنّ جسم الإنسان له مكان في موضع صغير يشغل شبرين من الأرض لا أكثر من ذلك، ولكنّ الرّوح والعقل الإنسانيّ يسير في جميع الممالك والأقاليم، بل في هذا الفضاء السّماويّ الذّي لا يتناهى، ومحيط بكلّ ما في الكون، ويكتشف ما في الطّبقات العليا وما كان على بعد لا يتناهى، ذلك لأنّ الرّوح ليس لها حيّز ولا مكان، والأرض والسّماء بالنّسبة للرّوح على حدّ سواء، لأنّ لها في كليهما اكتشافات ولكنّ الجسم محصور في مكان ولا علم له بما سواه.

وأمّا الحياة فهي على قسمين: حياة الجسم وحياة الرّوح، أمّا الحياة الجسمانيّة فهي عبارة عن حياة الجسد، وأمّا حياة الرّوح فهي عبارة عن الحياة الملكوتيّة، والوجود الملكوتيّ هو الاستفاضة من الرّوح الإلهيّ وهو الانتعاش من نفحات روح القدس، فالحياة الجسمانيّة وإن كان لها وجود غير أنّها عند المقدّسين الرّوحانيّين عدم صرف وموت مطلق، مثلاً إنّ الإنسان موجود وهذا الحجر أيضاً موجود، ولكن أين وجود الإنسان من وجود هذا الحجر؟ فالحجر وإن كان موجوداً ولكنّ وجوده عدم بالنّسبة لوجود الإنسان، والمقصود من الحياة الأبديّة هو الاستفاضة من فيض الرّوح القدس كما يستفيض الورد من فصل الرّبيع الجديد ونسماته ونفحاته. فانظروا إنّ هذا الورد كان في الأوّل له حياة وكانت الحياة جماديّة، لكنّه نال حياة جديدة حينما قدم موسم الرّبيع وفاضت سحائبه وأشرقت شمسه النّورانيّة بحرارتها فأصبح عطراً في نهاية الطّراوة واللّطافة، فحياة هذا الورد الأولى بالنّسبة إلى الحياة الثّانيّة هي ممات.

والمقصد أنّ الحياة الملكوتيّة هي حياة الرّوح وهي حياة أبديّة منزهة عن الزّمان والمكان كالرّوح الإنسانيّة الّتي لا مكان لها، لأنّك لو بحثت في جسم الإنسان ما وجدت للرّوح مكاناً ولا موقعاً خاصاً، لأنّ الرّوح مجرّدة لا مكان لها أبداً، لكن لها تعلّق بهذا الجسم كتعلّق هذه الشّمس بهذه المرآة، فليس للشّمس مكان بالمرآة ولكن لها تعلّق بها، فعالم الملكوت على هذا المنوال مقدّس عن كلّ ما يرى بالعين أو يدرك بغيرها من الحواس كالسّمع والشّم والذّوق واللّمس، فهذا العقل الموجود والمسلّم بوجوده في الإنسان أين مكانه من جسمه؟ إنّك لو بحثت في جسم الإنسان بالعين والسّمع وسائر الحواس لا تجد شيئاً بينما هو موجود، إذاً ليس للعقل مكان ولكن له علاقة بالمخّ، فكذلك الملكوت، والمحبّة أيضاً لا مكان لها بل لها تعلّق بالقلب، وكذلك الملكوت ليس له مكان بل له تعلّق بالإنسان، أمّا الدّخول في الملكوت فهو بمحبّة الله والانقطاع والتّقديس والتّنزيه، ويكون بالصّدق والصّفاء والوفاء والاستقامة والتّضحية.

إذاً اتضح من هذه البيانات أنّ الإنسان باقٍ وحيّ أبديّ، لكنّ هؤلاء الذّين هم مؤمنون بالله ويحبّون الله ويوقنون به فحياتهم طيّبة يعني أبديّة. أمّا تلك النّفوس المحتجبة عن الحقّ مع أنّ لهم حياة لكنّها حياة ظلمانيّة وبالنّسبة لحياة المؤمنين عدم، مثلاً إنّ العين حيّة والظّفر أيضاً حيّ ولكنّ حياة الظّفر بالنّسبة لحياة العين عدم، وهذا الحجر له وجود والإنسان أيضاً له وجود، ولكنّ وجود الحجر بالنّسبة لوجود الإنسان عدم وليس له وجود، لأنّه إذا توفي الإنسان وتلاشى جسمه وصار معدوماً فإنّه يصير جماداً كالحجر والتّراب، إذاً صار من الواضح أنّ الوجود الجماديّ وإن كان وجوداً ولكنّه عدم بالنّسبة إلى الوجود الإنسانيّ، وكذلك النّفوس المحتجبة عن الحقّ وإن كان لها من وجود في هذا العالم وفي العالم الأخرويّ ولكنّهم معدومون ومفقودون بالنّسبة للوجود القدسيّ الحائزين به أبناء ملكوت الله.

المصادر
المحتوى
OV