السّؤال: هل يستحقّ المجرم أن يعاقب أو أن يعفى عنه ويسامح؟
الجواب: العقوبات الجزائيّة على قسمين: أحدهما الانتقام، والثّاني القصاص، أمّا البشر فليس لهم حقّ الانتقام ولكن للهيئة الاجتماعيّة حقّ القصاص من المجرم، وهذا القصاص للرّدع والمنع حتى لا يجرؤ شخص آخر على ارتكاب مثل ذلك الجرم، وهذا القصاص دفاع عن حقوق البشر وليس انتقاماً لأنّ الانتقام تَشَفِّي الصّدر الحاصل من مقابلة المثل بالمثل، وهذا ليس بجائز لأنّه ليس للبشر حقّ الانتقام، ومع هذا فلو يعفى عن المجرمين كلّيّاً يختلّ نظام العالم، ولهذا كان القصاص من اللّوازم الضّروريّة للهيئة الاجتماعيّة، ولكن ليس للمظلوم المعتدى عليه حقّ الانتقام بل عليه العفو والسّماح، وهذا ما يليق بالعالم الإنسانيّ، أمّا الهيئة الاجتماعيّة فيجب عليها أن تقتصّ من الظّالم والقاتل والضّارب حتى يحصل الرّدع والمنع، وحتى لا يجرؤ الآخرون على الإجرام، ولكنّ الأصل وجوب تربية النّفوس بحيث لا ترتكب الجرائم، لأنّه من الممكن تربية جمع بحيث يجتنبون ارتكاب الجرائم ويستنكرون وقوعها لدرجة أنّهم يرون أنّ نفس الجرم أعظم عقوبة وأكبر قصاص وأشدّ عذاب، وبذلك لا يقع جرم يتطلّب قصاصاً، ويجب أن نتكلّم عن أشياء يمكن إجراؤها في عالم الإمكان، لأنّ هناك كثيراً من النّظريات والتّخيّلات السّامية ولكن لا يمكن تحقيقها، فبناء عليه يجب أن نتكلّم عمّا يمكن إجراؤه، مثلاً لو ظلم إنسان آخر أو جار عليه أو اعتدى، وقابل المعتدى عليه ذلك بالمثل، فإنّ هذا يُعدّ انتقاماً وهو مذموم، لأنّه لو قتل زيد ابناً لعمرو فليس لعمرو الحقّ في أن يقتل ابن زيد، ولو فعل هذا لكان انتقاماً وهو مذموم جدّاً، بل يجب أن يقابل الإساءة بالإحسان، فيعفو عنه بل يقوم بخدمته إذا أمكن، وهذا النّوع من المعاملة هو اللاّئق بالإنسان، لأنّه أيّ فائدة يجنيها المعتدى عليه من الانتقام، فكلا العملين سواء والذّم يشمل كليهما، وغاية ما هنالك أنّ هذا سابق وذلك لاحق، أمّا الهيئة الاجتماعيّة فلها حقّ المحافظة والمدافعة لأنّها لا تحمل بغضاً ولا عداوة للقاتل، ولكن لمجرّد حفظ الآخرين يحبس القاتل أو يقتصّ منه حتى يُحفظ الآخرون، وليس غرضها الانتقام منه بل المقصود القصاص لتحفظ بذلك الهيئة الاجتماعيّة، ولو عفا أهل المقتول وتعامل الهيئة الاجتماعيّة المعتدي أيضاً بالصّفح ويكون العفو من الطّرفين، فإنّ النّفوس الظّالمة تستمرّ في الاعتداء ويحصل القتل في كلّ آن، بل إنّ النّفوس المفترسة الذين هم كالذّئاب يفتكون بأغنام الله، فليس للهيئة الاجتماعيّة نيّة سوء في القصاص وليس غرضها التّشفّي والانتقام، بل إنّ مقصودها من القصاص هو أن تحافظ على الآخرين حتّى لا يرتكب النّاس هذا الأمر القبيح، إذاً فقول حضرة المسيح "من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر" يقصد منه تربية النّاس، وليس مقصود حضرته أنّه لو سطا ذئب على قطيع من الغنم ويريد أن يفترس كلّ القطيع أن تعاونوه على ذلك، بل لو أنّ حضرة المسيح رأى ذئباً دخل في قطيع ليفتك به ويفترسه فلا بدّ أنّه كان يمنع ذلك الذئب، وكما أنّ العفو من الصّفات الرّحمانيّة فالعدل أيضاً من الصّفات الرّبوبيّة، وخباء الوجود قائم على عماد العدل لا العفو، وبقاء البشر منوط بالعدل لا بالعفو، مثلاً لو أنّ قانون العفو أجري الآن في عموم الممالك لاختلّ نظام العالم ولاندكّ بنيان الحياة الإنسانيّة من أساسه في وقت قريب، مثلاً لو أنّ حكومات أوروبا قاومت آتيلا المشهور لما أبقى بشراً، فبعض البشر كالذّئاب الضّارية لو يرون أنّه ليس هناك قصاص لكانوا يقتلون الإنسان لمجرّد السّرور والفرح وتسلية أنفسهم، فقد قتل أحد طغاة إيران معلّمه مازحاً ليضحك ويُسرّ وكان المتوكّل العباسيّ المشهور يدعو الوزراء والوكلاء والأمناء إلى مجلسه وتطلق العقارب من جعبة ثم يأمر بأن لا يتحرّك أحد وحينما تلدغ العقارب الوزراء يضحك ويقهقه.
وخلاصة القول أنّ قوام الهيئة الاجتماعيّة بالعدل لا بالعفو، إذاً فليس مقصود حضرة المسيح من العفو والسّماح أنّه لو يهجم سائر الملل عليكم ويحرقون بيوتكم وينهبون أموالكم ويعتدون على أهلكم وعيالكم وأولادكم ويهتكون ناموسكم عليكم أن تستسلموا لهؤلاء الجنود الظّالمين حتى يقوموا بالظّلم والاعتداء، بل إنّ حضرة المسيح يريد بذلك المعاملة الخاصّة فيما بين شخصين، فلو اعتدى شخص على آخر فيجب على المعتدى عليه أن يعفو، أمّا الهيئة الاجتماعيّة فيجب عليها المحافظة على حقوق بني الإنسان، مثلاً لو اعتدى شخص عليّ بأن ظلمني أو جفاني أو طعنني في الكبد فإنّي لا أتعرّض له أبداً بل أعفو عنه، ولكن لو اعتدى شخص على هذا السّيّد المنشادي أردعه وأمنعه ألبتّة، وإن كان عدم التّعرض بحسب الظّاهر رحمة بالظّالم ولكنّه ظلم في حقّ جناب المنشادي، مثلاً لو دخل الآن هذا المكان شخص بدويّ متوحّش شاهراً سيفه يريد أن يطعنك ويقتلك فلا شكّ أنّي أمنعه وإن تركتك له كان هذا ظلماً لا عدلاً، أمّا لو آذى شخصي فإنّني أعفو عنه.
بقي شيء آخر وهو أنّ الهيئة الاجتماعيّة تدأب ليل نهار في سنّ القوانين الجزائيّة وإعداد آلات القصاص وأدواته، وتبني السّجون وتصنع الأغلال والأصفاد والسّلاسل وتهيّئ الأماكن للنّفي والإبعاد إلى غير ذلك من طرق الزّجر والإيلام لتربّي المجرمين بهذه الوسائل، حال أنّ هذه الوسائط تسبّب ضياع الأخلاق وتبديل الأحوال، بينما الواجب على الهيئة الاجتماعيّة أن تسعى ليلاً ونهاراً ببذل منتهى الهمّة في تربية النّفوس حتّى تترقّى يوماً فيوماً وتجد سعة في العلوم والمعارف فتكتسب الفضائل والآداب وتجتنب الرّذائل حتّى لا تحدث الجرائم، والحال الآن بعكس ذلك، فإنّ الهيئة الاجتماعيّة تفكّر دائماً في سنّ قوانين العقوبات وأحكامها وتهيئة أسباب القصاص وإعداد آلات القتل والتّعذيب وأمكنة الحبس والنّفي ثم تترقّب وقوع الجرائم وتأثير هذا سيِّئ جدّاً، أمّا لو سعت الهيئة الاجتماعيّة في تربية العموم فإنّه تزداد العلوم والمعارف وتنمو المدارس يوماً فيوماً ويترقّى الشّعور فتتعدّل الأخلاق وتتحسّن العادات، وخلاصة القول أنّه يحصل التّرقّي في جميع مراتب الكمالات ويقلّ وقوع الجرائم. وقد ثبت هذا بالتّجربة فإنّ الجرائم قليلة الوقوع بين الأمم المتمدّنة أي الّتي اكتسبت المدنيّة الصّحيحة، والمدنيّة الصّحيحة هي المدنيّة الإلهيّة كمدنيّة أولئك الذين جمعوا بين الكمالات الجسمانيّة والرّوحانيّة.
وحيث أنّ السّبب في وقوع الجرائم هو الجهل فكلّما ترقّى العلم والفضيلة قلّت الجرائم، فانظروا إلى برابرة أفريقيا وكم يقع بينهم من حوادث القتل فإنّهم يقتلون بعضهم بعضاً ويأكلون لحوم بعضهم بعضاً ويشربون دماء بعضهم بعضاً، فلماذا لا تقع مثل هذه الوقائع الوحشيّة في سويسرا، إنّ السّبب واضح وهو التّربية والفضيلة، إذاً يجب على الهيئة الاجتماعيّة أن تفكّر في تلافي وقوع الجرائم لا أن تشدّد في عقاب المجرمين وتجري عليهم القصاص الشّديد.