مفاوضات - وحدة الوجود

حضرة عبد البهاء
مترجم. اللغة الأصلية الفارسية

وحدة الوجود – من مفاوضات عبدالبهاء

السّؤال: ما هي مسألة وحدة الوجود عند الثّئوصوفيّين والصّوفيّة وما هي حقيقة مقصودهم وهل هذه المسألة تطابق الحقيقة أم لا؟

الجواب: اعلم أنّ مسألة وحدة الوجود هذه قديمة وليست مختصّة بالثّئوصوفيّين والصّوفيّة، بل إنّ بعضاً من حكماء اليونان أيضاً كانوا يعتقدونها كارسطاطاليس الّذي يقول بسيط الحقيقة كلّ الأشياء وليس واحداً منها والبسيط هنا ما يقابل المركّب، يعني أنّ الحقيقة الفردانيّة التي كانت مقدّسة منزّهة عن التّركيب والتّقسيم حلّت في صور غير متناهية، إذاً فالوجود الحقيقيّ هو كلّ الأشياء وليس بواحد منها مطلقاً.

والخلاصة إنّ الذين يعتقدون وحدة الوجود يعتقدون أنّ الوجود الحقيقيّ بمنزلة البحر، وأنّ جميع الكائنات كالأمواج، وهذه الأمواج التي هي عبارة عن الكائنات صور غير متناهيّة لذلك الوجود الحقيقيّ، إذاً فالحقيقة المقدّسة هي بحر القِدَم، وصور الكائنات التي لا تتناهى هي أمواج حادثة، وكذلك يشبّهونه بالواحد الحقيقيّ والأعداد التي لا تتناهى، لأنّ الواحد الحقيقيّ تجلّى في مراتب الأعداد التي لا تتناهى، وذلك لأنّ الأعداد هي تكرار الواحد الحقيقيّ، فمثلاً الرّقم اثنان هو تكرار للواحد، وكذلك قل في سائر الأعداد، ومن جملة براهينهم أنّ جميع الكائنات هي معلومات للحضرة الإلهيّة، ولا يتحقّق العلم بدون معلوم، لأنّ العلم يتعلّق بشيء موجود لا معدوم، فماذا يكون تعيّن العدم الصّرف وتشخّصه في مرآة العلم؟ إذاً فحقائق الكائنات التي هي معلومات البارئ تعالى كان لها وجود علميّ لأنّها كانت صوراً علميّة إلهيّة وهي قديمة لأنّ العلم الإلهيّ قديم، وما دام العلم قديماً فالمعلوم أيضاً قديم، وتشخّصات الكائنات وتعيّناتها الّتي هي معلومات قديمة للذّات الأحديّة هي عين العلم الإلهيّ، لأنّ لحقيقة ذات الأحديّة والعلم والمعلومات وحدة صرفة محقّقة ومقرّرة، وإلاّ كانت ذات الأحديّة معرّضة للكثرة وللزوم تعدّد القديم وهذا باطل، لذا فقد ثبت أنّ المعلومات هي عين العلم والعلم عين الذّات، يعني أنّ العالم والعلم والمعلوم حقيقة واحدة، ولو تصوّرنا غير ذلك للزم تعدّد القديم، ولحصل التّسلسل وتعدّد القديم إلى ما لا نهاية، ولمّا كانت تشخّصات الكائنات وتعيّناتها في علم الحقّ هي عين ذات الأحديّة ولا تفاوت بينهما بأيّ وجه من الوجوه إذاً فهناك وحدة حقيقيّة، وكلّ المعلومات مندمجة مندرجة بنحو البساطة والوحدة في حقيقة ذات الأحديّة، يعني أنّها كانت معلوماته تعالى وعين ذاته بنحو البساطة والوحدة، ولمّا أن تجلّى الحقّ تجلّياً ظهوريّاً وجدت تشخّصات الكائنات تلك وتعيّناتها وصار لها وجود عينيّ في الخارج بعد أن كانت من قبل ذات وجود علميّ أي أنّها كانت صوراً علميّة إلهيّة ثم أخذ ذلك الوجود الحقيقيّ صوراً غير متناهية، هذا هو أصل استدلال هؤلاء.

والثّئوصوفيّون والصّوفيّة على قسمين، قسم العوام الذين يعتقدون وحدة الوجود بمحض التّقليد غافلين عن مقصود مشاهير علمائهم، لأنّ عوام الصّوفيّة يظنّون أنّ المراد من الوجود الوجود العام المصدريّ الّذي هو المفهوم الذّهنيّ والعقليّ للإنسان، يعني ما يدركه الإنسان، مع أنّ هذا الوجود العام عرض من الأعراض يطرأ على حقائق الكائنات، وماهيّات الكائنات هي الجوهر، وهذا الوجود العرضيّ القائم بالكائنات كخاصيّة الأشياء القائمة بها فهي عرض من الأعراض، ولا شك أنّ الجوهر أعظم من العرض، لأنّ الجوهر أصل والعرض فرع، والجوهر قائم بنفسه والعرض قائم بغيره، يعني محتاج إلى جوهر ليقوم به، وفي هذا الحال يكون الحقّ فرع الخلق ومحتاجاً إلى الخلق، والخلق في غنى عنه، مثلاً إنّ العناصر المفردة إذا تركّبت حسب النّظام الإلهيّ العام فإنّه بذلك التّركيب يحدث كائن من الكائنات، يعني إذا تركّبت عناصر معيّنة حدث من ذلك التّركيب وجود نباتيّ، ولو تركّبت عناصر أخرى حصل منها وجود حيوانيّ، ومن تركيب عناصر أخرى توجد مختلف الكائنات، وفي هذه الحال يكون وجود الأشياء فرعاً لحقائقها، فكيف يكون هذا الوجود الّذي هو عرض من الأعراض ومحتاج إلى جوهر يقوم به كيف يكون قديماً ذاتيّاً وموجداً لجميع الكائنات؟

أما علماء الثّئوصوفيّة والصّوفيّة المتبحّرين بعد أن تعمّقوا في هذه المسألة اتّفقوا على أنّ الوجود قسمان، وجود عامّ وهو المفهوم الذّهنيّ للإنسان وهو حادث وعرض من الأعراض، وحقائق الأشياء هي الجوهر، أمّا المقصود من وحدة الوجود فليس هذا الوجود العامّ الذّهنيّ بل المقصود الوجود الحقيقيّ المنزّه المقدّس عن كلّ تعبير، وهو ما تتحقّق به الأشياء وهو واحد أي الواحد الحقيقيّ الذي به وجدت جميع الأشياء وهي المادّة والقوّة والوجود العامّ أي المفهوم العقليّ الإنسانيّ، هذه هي حقيقة مسألة الثّئوصوفيّة والصّوفيّة.

والخلاصة أنّ الأنبياء والفلاسفة متّفقون على أنّ ما يتحقّق به الأشياء واحد، غير أنّ الأنبياء يقولون أنّ علم الحقّ غير محتاج إلى وجود الكائنات وأمّا علم الخلق فمحتاج إلى وجود المعلومات، ولو كان علم الحقّ محتاجاً إلى ما دونه لكان ذلك العلم علم الخلق لا علم الحقّ، لأنّ القديم مباين للحادث والحادث مخالف للقديم، وكلّ ما نثبته للخلق من لوازم الحدوث نسلبه عن الحقّ، لأنّ التّنزيه والتّقديس عن نقائص الحادث من خصائص الواجب، مثلاً نرى الجهل في الحادث فنثبت العلم للقديم، ونرى العجز في الحادث فنثبت القدرة للقديم، ونرى الفقر في الحادث فنثبت الغنى للقديم، يعني أنّ الحادث منشأ النّقائص والقديم جامع الكمالات، لأنّ علم الحادث محتاج إلى وجود المعلومات، وعلم القديم في غنى عنها، لذا فقِدَم تعيّنات الكائنات وتشخّصاتها الّتي هي معلومات الباري تعالى غير واقعة، وهذه الأوصاف الإلهيّة الكماليّة ليست ممّا تحيط به الإدراكات العقليّة حتّى تحكم بأنّ العلم الإلهيّ محتاج إلى معلومات أم لا.

وبالجملة فإنّ هذا أعظم برهان عند الصّوفيّة، ولو نريد أن نذكر جميع دلائل هؤلاء ونناقشها لاستنفد ذلك وقتاً طويلاً، هذا هو البرهان السّاطع والدّليل القاطع لهؤلاء الأفاضل علماء الصّوفيّة والثّئوصوفيّة، أما مسألة الوجود الحقيقيّ الّذي تتحقّق به الأشياء يعني حقيقة ذات الأحديّة الّتي بها وجدت جميع الكائنات فمتّفق عليها، أمّا وجه الخلاف فهو أنّ الصّوفيّة يقولون أنّ حقائق الأشياء هي ظهور الواحد الحقيقيّ، والأنبياء يقولون أنّها صدرت عن الواحد الحقيقيّ، وشتّان ما بين الظّهور والصّدور، فالتّجلي الظّهوريّ عبارة عن أنّ الشّيء الواحد يظهر في صور غير متناهية، مثلاً الحبّة الّتي هي شيء واحد حائز للكمالات النّباتيّة حينما تظهر تأخذ صوراً غير متناهية هي الأغصان والأوراق والأزهار والأثمار فيقال لهذا التّجلي الظّهوريّ، وأما التّجلي الصّدوريّ فهو أن يستقرّ الواحد الحقيقيّ ويبقى في علوّ تقديسه ولكن وجود الكائنات صادر عنه وليس ظاهراً منه، مثل ذلك كمثل الشّمس التي يصدر عنها الشّعاع ويفيض على جميع الكائنات وهي باقية في علوّ تقديسها لم تنزل ولم تنحلّ في الصّور الشّعاعيّة ولم تتجلَّ في هويّة الأشياء بتعيّناتها وتشخّصاتها وما صار القديم حادثاً، ولا الغنى المطلق أسيراً للفقر، ولا الكمال المحض نقصاً صرفاً.

وخلاصة القول أنّ الصّوفيّة معترفون بالحقّ والخلق، ويقولون أنّ الحقّ انحلّ في الخلق بصورة غير متناهية، كالبحر الّذي يتجلّى بصور أمواج لا تتناهى، وهذه الأمواج الحادثة النّاقصة هي نفس البحر القديم الجامع لكلّ الكمالات الإلهيّة، وأما الأنبياء فيقولون أنّ العوالم هي ثلاثة: عالم الحقّ وعالم الملكوت وعالم الخلق والصّادر الأوّل عن الحقّ هو الفيض الملكوتيّ الّذي تجلّى في حقائق الكائنات كالشّعاع الصّادر عن الشّمس الّذي يتجلّى في الكائنات، ويتجلّى ذلك الفيض الذي هو الشّعاع في حقائق الأشياء بصور لا تتناهى ويتشخّص حسب استعداد الأشياء وماهيّتها وقابليّتها، أما قول الصّوفيّة يقتضي أن يتنزّل الغنى المطلق إلى درجة الفقر، ويتقيّد القديم بالصّور الحادثة، وتتحدّد القدرة المحضة بقيود الممكنات في مرآة العجز وهذا بديهيّ البطلان.

ونحن نلاحظ أنّ الحقيقة الإنسانيّة التي هي أشرف المخلوقات لا تتنزّل إلى الحقيقة الحيوانيّة، وأنّ الماهيّة الحيوانيّة التي هي مظهر القوّة الحسّاسة لا تهبط إلى الرّتبة النّباتيّة، وكذلك الحقيقة النّباتيّة التي هي القوّة النّامية لا تسقط إلى الحقيقة الجماديّة.

وبالاختصار إنّه ليس للحقائق العلويّة تنزّل ولا هبوط إلى المراتب السّفليّة، فكيف يمكن أن تنحلّ الحقيقة الإلهيّة الكلّيّة المقدّسّة عن جميع الأوصاف والنّعوت في هذه الصّور والحقائق الكونيّة الّتي هي مصدر النّقائص مع صرف تقديسها وتنزيهها! هذا وهم محض وتصوّر محال، بل إنّ جوهر التّقديس ذلك جامع لكمالات الرّبوبيّة والألوهيّة وإنّ جميع الكائنات مستفيضة من فيض التّجلي الصّدوريّ، ومقتبسة من أنوار كماله وجمال ملكوته كجميع الكائنات الأرضيّة التي تكتسب فيض النّور من شعاع الشّمس والشّمس لا تتنزّل ولا تهبط إلى الحقائق المستفيضة والموجودات الأرضيّة. وحيث أنّنا الآن بعد العشاء وفي وقت متأخّر من اللّيل فليس هناك مجال للكاتب أن يكتب أكثر من هذا والسّلام.

المصادر
المحتوى
OV