مفاوضات - موازين الادراك

حضرة عبد البهاء
مترجم. اللغة الأصلية الفارسية

موازين الإدراك – من مفاوضات عبدالبهاء

إنّ موازين الإدراك أربعة لا غير كما هو مسلّم به. يعني أنّ إدراك حقائق الأشياء إنّما يكون بهذه الموازين الأربعة:

فالأوّل ميزان الحسّ، وكلّ ما يدرك بالعين والأذن والشّم والذّوق واللّمس يسمّى محسوساً، وإنّ فلاسفة أوروبا اليوم يعتبرون هذا أتمّ ميزان ويقولون إنّ الحسّ أعظم الموازين ويعتبرونه مقدّساً، والحال أنّ ميزان الحسّ ناقص لأنّه يخطئ، مثلاً إنّ البصر وهو أعظم قوى الحسّ قد يرى السّراب ماء، ويرى الصّور المرئيّة في المرآة حقيقة موجودة، والأجسام الكبيرة صغيرة، والنّقطة الجوّالة دائرة، ويرى الأرض ساكنة والشّمس متحركة إلى غير ذلك من الخطأ في كثير من الأمور، فلهذا لا يجوز الاعتماد عليه.

والثّاني ميزان العقل وكان ميزان الإدراك لدى الفلاسفة الأول أساطين الحكمة، فكانوا يستدلّون بالعقل ويتشبّثون بالدّلائل العقليّة، لأنّ استدلالاتهم جميعها عقليّة، ومع وجود هذا فقد اختلفوا كثيراً وكانت آراؤهم مختلفة، حتّى كانوا يغيّرون فكرهم يعني أنّهم كانوا يستدلّون على وجود مسألة ما بالدّلائل العقليّة مدّة عشرين سنة، وبعدئذ ينفونها بالدّلائل العقليّة، حتى أنّ أفلاطون أثبت في البداية بالأدلّة العقليّة سكون الأرض وحركة الشّمس، ثم أثبت بعد ذلك بالدّلائل العقليّة أنّ الشّمس مركز والأرض متحرّكة، وبعده اشتهرت نظريّة بطلميوس ونسيت نظريّة أفلاطون بالكلّيّة وقد أحيا الرّاصد الجديد أخيراً هذا الرّأي مرّة أخرى، وحيث أنّ حضرات الرّياضيّين اختلفوا حال أنّهم جميعاً كانوا يستدلّون بالدّلائل العقليّة، وحيث أنّهم كانوا يثبتون مسألة بالدّلائل العقليّة في فترة من الزّمن ثم ينفونها أيضاً بالدّلائل العقليّة، مثال ذلك أنّ فيلسوفاً كان ثابتاً على رأي مدّة ويقيم الأدلّة والبراهين عليه وبعد مضي فترة ينصرف عن ذلك الرّأي وينفيه بالدّليل العقليّ، إذاً تبيّن أنّ ميزان العقل ليس ميزاناً تامّاً، لأنّ اختلاف الفلاسفة الأول وعدم ثباتهم وتبديل أفكارهم دليل على أنّ ميزان العقل غير تامّ، إذ لو كان ميزان العقل تامّاً لوجب أن يكونوا جميعاً متّفقين في الرّأي متّحدين في الفكر.

والميزان الثّالث ميزان النّقل وهو النّصوص التي ينقلها النّاس من الكتب المقدّسة فيقولون جاء في التّوراة كذا، وقال في الإنجيل كذا، وهذا الميزان أيضاً ليس بتامّ، لأنّ المنقول يدرك بالعقل، وبما أنّ العقل نفسه قد يخطئ فكيف يصحّ أن يقال أنّ إدراكه لمعاني الأقوال المنقولة واستنباطها عين الصّواب وأنّه لا يخطئ في ذلك، إذ من الممكن حصول الخطأ ولذلك لا يكون هناك يقين، وهذا هو ميزان رؤساء الأديان، فما يعرفونه من نصوص الكتاب هو إدراكاتهم العقليّة التي عرفوها من تلك النّصوص لا حقيقة الواقع، لأنّ العقل كالميزان والمعاني المدركة من النّصوص كالشّيء الموزون، فإذا اختلّ الميزان فكيف يعلم قدر الموزون.

إذاً فاعلم أنّ معتقد النّاس وما بين أيديهم يحتمل الخطأ لأنّه إذا جيء بالدّليل الحسّيّ لإثبات شيء أو نفيه فهو ميزان غير تامّ كما سبق بيانه، ولو جيء بالدّليل العقليّ فهو أيضاً غير تامّ، ولو جيء بالدّليل النّقليّ فهو أيضاً غير تامّ، فاتّضح من هذا أنّه ليس في يد الخلق ميزان يعتمد عليه، بل إنّ الميزان الصّحيح الّذي لا شكّ فيه ولا شبهة مطلقاً هو فيض روح القدس والتّأييدات الإلهيّة للإنسان بروح القدس، وفي ذلك المقام يحصل اليقين.

المصادر
المحتوى
OV