كان من جملة أيادي أمر الله حضرة ملاّ علي أكبر عليه بهاءالله. دخل هذا الرجل العظيم المدارس منذ نعومة أظفاره ونشأ في أحضان العلوم والمعارف وحصَل بجدّه واجتهاده على أعلى الدرجات وتضلّع في جميع قواعد القوم والمعارف المليّة والفنون العقليّة والعلوم الفقهيّة وبرع في كل ذلك، ثم اندمج في سلك الحكماء والعرفاء والشيخيّة فنبغ في كل ما كانوا عليه وكان من الإشرافيّين، غير أنه كان متعطّشًا للحقيقة ولسد رمقه الروحي بغذاء من المائدة السماوية. ولم يُعِقْه ما لآقاه في هذا السبيل من عقبات كأْداء، ولم يصرف ساعات حياته إلا في فائدة يستخرجها أو عائدة يستدرجها. ولم يفز بما يأمل فبقي متعطّشًا حيرانًا هائمًا على وجهه في بيداء الطلب حيث لم يجد بين الأحزاب نفحة الميل الشديد ولم يستشم منهم رائحة الانجذاب والعشق الروحي. ولمّا تعمّق فيما كانت عليه الأحزاب المختلفة، اتضح له أنّه منذ ظهور حضرة الرسول محمد المحمود إلى يومنا هذا، قد ظهرت أحزاب عديدة ومذاهب مختلفة وآراء متباينة ومسائل متنوّعة وطرائق كثيرة يدّعي كل منها المكاشفة المعنوية بأسلوب خاص، وعلى ظنّهم، أنهم يسلكون السبيل المستقيم. ولكن البحر المحمدي إذا أرسل موجة واحدة من أمواجه لأغرق جميع هذه الأحزاب في عمقه حيث لا يُسمع لهم صوتٌ ولا رِكزٌ. وإذا ما تتبّع الإنسان التاريخ لوجد أنّه قد ظهرت أمواج من هذا البحر فقذفت بهذه الطرائق حتى أصبحت كالظلّ الزائل وانعدمت من الوجود. أما البحر فلم تتزعزع أركانه. لهذا قد ازداد تعطّش حضرة ملاّ علي أكبر يومًا غُبّ يوم حتى وصل إلى بحر الحقيقة فصاح قائلا:
الله أكبر هذا البحر قد زخرا وهيّج الريح موجًا يقذف الدررا
فاخلع ثيابك واغرق فيه ودع عنك السباحة ليس السبح مفتخرا
وبالاختصار، إن حضرة علي قبل أكبر قد فار كالفوارة وجرت منه حقائق المعاني كالماء المعين وكان في بداية سلوكه يسلك سبيل الرضاء في مسالك الفقر والغناء واقتباس الأنوار ثم أخذ في التبليغ وما أحسن ما قال: (ما ترجمته)
إنما النفس التي وهبها القدير وجودًا
كيف تقوى على عطاء الوجود
فالمبلّغ عليه أن يبلّغ نفسه أولاً كي يستطيع تبليغ غيره. فإذا سلك سبيل الشهوات كيف يمكنه هداية الناس بالآيات البينات؟
ومجمل القول، إن هذا الشخص الجليل قد قام، بتوفيق من الله، بتبليغ عدد وفير من الأهلين وأوصل النداء إلى مسامع الذين جذبتهم محبّة الله وأصبح جنديًا في ميدان العشق الإلهي هائمًا في بيداء الوله الرحماني حتى أنه اشتهر بين الخلق بالمجنون. أما من جهة الإيمان والإيقان فقد هتك وفضح الخاص والعام في مدينة طهران وكان معروفًا ببهائيته وكان القوم يشيرون إليه بالبنان في الأسواق قائلين: "ها هو البهائي"، وكلما وقعت فتنة، كان أول من تُلقي عليه الحكومة القبض وكان دائمًا مستعدًا لذلك إذ كان لا يأبه بما يكون لأنه كثيرًا ما زُجّ في أعماق السجون وقيّد بالأصفاد حتى أنّهم قد هدّدوه بقطع عنقه بالموسى أو بالسيف. وكان يبدو على شمائله، بينما كان مصفدًا هو وحضرة أمين الجليل، ما يدهش الناظرين من إمارات الرضاء والتسليم رازحًا تحت السلاسل والأغلال وهو في غاية الهدوء والاستكانة وبلغ به الأمر أنّه كان كلّما حصلت ضوضاء لبس عمامته وتردّى بعباءته واستعدّ لمجيء الشرطة ليعتقلوه ويزجّوه في أعماق السجون غير أن يد القدرة الإلهية كانت تحفظه وتصونه إبان كل ضوضاء. ومن الغريب أنّك كنت تلاحظ عليه الجفاف وهو بين أمواج بحر المناوأة وكان في خطر عظيم في كامل هنيهات حياته ولا مِراء في ذلك لأن الأعداء كانوا له بالمرصاد. أما هو فكان مشهورًا لمحبّته للنور المبين (حضرة بهاءالله) وقد حفظه الله، رغم كل ما ذكر، من جميع الآفات وأنقذه الله من بحر الأذى المتلاطم وجعل نار الضغينة والبغضاء بردًا وسلامًا عليه إلى أن وقع الصعود المبارك.
استمرّ حضرته بعد صعود المقصود ثابتًا راسخًا للغاية على عهد وميثاق الربّ الودود مناديًا بالميثاق مروّجًا لعهد نيّر الآفاق، وقد هرع في أيام اللّقاء بكمال الاشتياق إلى الساحة المقدّسة وتشرّف بالمثول بين يدي الحضرة وكان مشمولاً بعناية الحق وملحوظًا بعين الرعاية والعواطف الرحمانية. ثم عاد إلى إيران مكرّسًا لحظات حياته لخدمة الأمر. وكان شديد المراس في آقامة الحجّة للمناوئين الظالمين رغم التهديد والتخويف من جانب الأعداء ولم يطأطيء لهم الرأس حيث لم يَقوَ أحد على إفحامه وإسكاته. كان يقول كل ما عنّ له لأنّه كان واثقًا من نفسه لأنه كان من أيادي أمر الله، ثابتًا مستقيمًا أرسخ من الراسيات.
أما أنا فقد كنت أحبّه محبّة مفرطة لأنه كان حلو الحديث ونديمًا لا يملّ وأذكر أنني قد رأيته ليلة في الرؤيا وكأنه جاء من سفرة بعيدة ورأيت أن جسمه أضخم مما كان عليه في السجن أيام حياته فقلت له: "يا جناب الملاّ أراك قد سمنت". فقال: "نعم، الحمد لله قد طوّحَتْ بي يد الترحال إلى جهات طاب هواؤها وعذُب ماؤها للغاية وكانت المناظر بها مبهجة والغذاء لذيذًا فلاءم كل ذلك جسمي فاستفاد السمن وازددت قوة ونشاطًا وعدت إلى نشوة الشباب الأولى وانتشقت النفحات الرحمانية وكنت دائمًا مشغولاً بذكر الحق ناطقًا بالبراهين خائضًا في بحار التبليغ (التبليغ في عالم الرؤيا عبارة عن نشر النفحات القدسية وهذا هو عين التبليغ). فمختصر القول: إنه بينما كنا نتحادث في عالم الرؤيا وإذا بجمع غفير من الناس قد حضروا واختفى هو عن ناظري.
أما مرقده النوراني فهو في طهران. ولو أن جسمه تحت الثرى غير أن روحه النقيّة في مقعد صدق عند مليك مقتدر. إنّني لمشتاق لزيارة مراقد أحباء الله إذا وفّقني ربّي إذ إن هؤلاء هم عبيد الجمال المبارك وقد تجرّعوا كؤوس البلايا في سبيله وعانوا المشاقّ ولاقوا الصدمات. عليهم البهاء الأبهى وعليهم التحية والثناء وعليهم الرحمة والغفران من ساحة الكبرياء.