تذكرة الوفاء - حضرة أفنان السدرة المباركة جناب آقا ميرزا محمد علي

حضرة عبد البهاء
مترجم. اللغة الأصلية الفارسية

ذكرى حضرة أفنان السدرة المباركة جناب آقا ميرزا محمد علي – تذكرة الوفاء – آثار حضرة عبدالبهاء

﴿ هو الله ﴾

كان السجن الأعظم في أيام المبارك في أيامه الشداد إذ كانت الحكومة لا تصرّح لأحد من الأحباء بالخروج من القلعة أو الدخول في إليها. وكان المدعو كَجْ كُلاه هو وأحد السادة يسكنان في مكان فوق بوابة مدينة عكاء يرقبان الداخل من بوابة المدينة والخارج منها بكل دقّة، وإذا ما وقع نظرهما على أحد من المسافرين الأحباء وهو يدخل المدينة، أسرعا في إخبار الشرطة بذلك مؤكّدين لهم أن ذلك المسافر من أتباع البهاء وأنه يحمل رسائل البهائيين في بلاده، إلى حضرة بهاءالله وسيعود بالإجابة عنها. فتُلقي حينئذ الحكومة القبض على ذلك المسافر وتنتزع ما معه من الأوراق وتدخله السجن، وبعد مدّة تنفيه من البلاد. واستمرّ الحال على هذا المنوال ردحًا من الزمن، ثم أخذ يتضاءل شيئًا فشيئًا حتى زال بعد سبع سنوات. وبينما كان الحال على ما ذكرنا، إذ حضر من بلاد الهند أحد فروع السدرة المقدّسة المدعو (جناب الحاج ميرزا محمد علي الأفنان) ومرّ في طريقه بمصر ومرسيليا حتى وصل إلى أرض المقصود.

وبهذه المناسبة أقول، إنّني بينما كنت ماشيًا، قبيل الغروب، على سطح المنزل مع بعض الأحباء التفتُّ إلى الساحل وإذا بعربة آتية عن بعد، فقلت لمن معي: "إنني أشعر بأن في هذه العربة شخصًا مقدسًا من الأحباء ولكني لم أتبيّنه. هلمّوا بنا نحو بوابة المدينة لاستكشاف الخبر، وإذا منعتنا الشرطة عن الخروج، فلننتظر حتى تدنو العربة من البوابة. وفعلاً ذهبنا نحو البوابة وأكرمت الشرطي الذي كان يحرس البوابة ببعض النقود ثم همست في أذنه قائلاً: "هناك عربة آتية وأظن أن بها أحد أصحابنا، فالرجاء عند دنوّها من البوابة لا تعترضها ولا تخبر الضابط بها". فأحضر الشرطي مقعدًا فجلسنا عليه وقت آذان المغرب والبوابة إذ ذاك مغلقة، غير أن خوختها (باب صغير في البوابة الكبيرة لمرور العابرين) كانت مفتوحة والحارس بجوارها. وما لبث أن وصلت العربة وكانت تقلّ حضرة الأفنان المذكور، فترجّل ودخل بوجهه المنير وكانت طلعته المباركة تسرّ الناظرين.

أما جناب الأفنان، فهو من الموقنين الثابتين الراسخين في الأمر، تقطر من شمائله البشاشة على الدوام، وترقّيه في الإيمان كان يزداد يومًا غُبّ يوم، وكذلك في الإيقان والنورانيّة والانجذاب والاشتعال، وعلى الأخص، في الأيام التي قضاها في السجن الأعظم بدرجة لا حدّ لها. وأذكر، أنه بينما كان في العربة في الطريق بين حيفا وعكاء، كانت نورانيّته تجذب الأنظار وشعر بروحانيّته كل من رآه.

وبعد أن استفاض من الفيوضات اللامتناهية، رُخّص له من المحضر المبارك بالسفر، فسافر إلى بلاد الصين لعدّة أيام مشغولاً برضاء الله مطمئنًا بذكره سبحانه وتعالى، ثم انتقل إلى بلاد الهند حيث قضى نحبه وجاور ربّه فأبى المسلمون أن توارى رفاته في مقابرهم. فرأى الأفنان والأحباء أن ينقلوا جسده المطهّر إلى العراق بحجّة أنّهم سيقبرونه في النجف في جوار مدينة الله (بغداد). فتكفّل حضرة الحبيب (آقا سيد أسدالله) المقيم في بومباي بحمل الرفات المطهّرة بكمال الاحترام إلى بغداد، وقد أوفى بوعده.

وبينما كانت الجثّة في الباخرة، علم بذلك بعض الأعداء من الإيرانيين وأشاعوا الخبر في مدينة بوشهر بأن نعش الميرزا محمد علي البابي في الباخرة في طريقه إلى النجف الأشرف لمواراته هناك، وكيف يدفن البابي في وادي السلام في الجوار المقدّس مع أن هذا لا يجوز. ثم همّ القوم لإخراج النّعش من الباخرة، ولكن التقديرات الإلهية لم تمكّنهم من ذلك.

وبالاختصار، وصل الرفات المقدّس إلى البصرة. ولما كان الوقت يلزم فيه الحيطة والتقيّة، فتظاهر حضرة السيد أسدالله بأنّه ذاهب بالنّعش إلى النجف الأشرف. وكان منتهى آمال الأحباء كما ذكرنا. ولذا جعل الله الأعداء تقوم على المعارضة ومنعوا دفن الرفات في النجف وحاولوا أخذ الرفات من الحجر الصحي ليلقوه في اليمّ أو يطرحوا به في الصحراء وأصبح لهذه المسألة عظيم الأهميّة. وبالنتيجة لم يتمكّن حضرة السيد أسدالله من أخذ الرّفات إلى النجف بأيّة حال، فأجبر أن يذهب بها إلى بغداد. وهناك أيضًا لم يجد مكانًا لدفن الجثة التي حفظها الله من الأعداء. واستقرّ الرأي أخيرًا إلى أخذها إلى مقبرة سلمان الفارسي (الصحابي) على مسافة خمسة فراسخ من بغداد ليدفنوها على مقربة من قبر سلمان بالقرب من إيوان كسرى، ثم واروا تلك الوديعة الإلهية في مقرها الأخير بجوار إيوان نوشيروان في جدث محكم الأركان.

أما ذلك الإيوان الذي كان عاصمة ملك ملوك إيران الأوّلين فقد حوّلته يد المقادير، بعد ألف وثلاثمائة سنة، إلى هضبة من التراب ممزّقة الأركان بعد أن كانت عظمته الملوكيّة لا تضارع وجلوته الكسرويّة تبهر الأنظار. حقيقة إنه كان قصرًا مشيّدًا وإيوانًا مجيدًا تعلوه قبّة طول قطر قاعدتها من الداخل يبلغ اثنين وخمسين قدمًا، وقد انهار نصف هذا الإيوان أما ارتفاع القبّة عن الأرض فيناطح السحاب.

ومختصر القول، إن التوفيقات الإلهيّة شملت بعض الإيرانيين السالفين وقيّضت لهم تعمير تخت الملك الذي تهدّم وأعادوا إليه رونقه فأصبح آهلاً بعد أن كان يَبَابًا بَلْقَعًا ولهذا قد هيّأت التأييدات الربانيّة الأسباب لدفن هذا الجسد المقدّس في تلك البقعة، ولا مِراء في أن ستصبح تلك البقعة مدينة عظيمة الشهرة، وترونني كثيرًا ما كتبت في هذا الصدد، إلى أن دُفِنَتْ هناك تلك الرفات المطهّرة وكانت رسائل جناب السيد أسدالله تأتيني من البصرة وكنت أجيب عنها بكل سرعة ممكنة، وقد كان في البصرة شخص من المأمورين له معنا رابطة صداقة كليّة فكنت أكتب إليه ليمدّ يد المساعدة لحضرة السيد أسدالله ويسهّل له الأمور. هذا وقد وردتني رسالة من السيد أسدالله وهو في بغداد يُظهر فيها حيرته في أمره وأين يدفن الرفات، وقال إنه يتوقع أن القوم إذا عرفوا مكان القبر ينبشونه ويخرجون الجثة، ولكن الله سلّم وكانت العاقبة (والحمد لله) على ما يرام ودُفنت الجثة في المكان المشار إليه وإن هذا المكان نفسه قد تشرّف لمرّات عديدة بقدوم الجمال المبارك وقد نزلت فيه ألواح مباركة، وكان يأتي أحباء بغداد في معيّة حضرته إلى ذلك الموقع الذي استقرّ فيه ذلك الجسد المطهر وهذه العناية لم تكن إلا لِمَا كان عليه جناب الأفنان من الخلوص وإلا لم يتم الأمر كما ذكرنا أبدًا، "ولله أسباب السموات والأرض".

لقد كنت أحبّ حضرة الأفنان حبًا جمًا، وكان سروري منه لا يقدّر. وقد كتبتُ بشأنه زيارة تتلى على قبره المطهّر عند زيارته وأرسلتها مع مكاتيب أخرى إلى إيران.

إن البقعة التي ووري فيها ذلك الجسد المطهّر لَمِنَ البقاع المقدّسة، ويجب أن يشيّد فيها مشرق الأذكار فسيح الأرجاء وإذا أمكن فليعمّر إيوان كسرى بقبّته الشاهقة ويُتّخذ مشرقًا للأذكار تحيط به منشئات مشرق الأذكار من مستشفى للمرضى ومدارس متنوّعة ودار الفنون ومكاتب أوليّة وابتدائيّة وملجأ للفقراء والضّعفاء وآخر للأيتام والعجزة ودار ضيافة للمسافرين وما إلى ذلك.

سبحان الله! إن إيوان كسرى الذي كان في نهاية الزّينة مزركشةٌ جدرانه بالذهب الإبريز قد تبدل كل ذلك بطبقات من نسيج العناكب وحلّ نعيق الغربان في أركانه محلّ النغمات الموسيقى السلطانيّة مصداق ما تفضّل به جمال القدم جل ذكره بقوله تعالى: "كأنّها دار حكومة الصدى لا يُسمع في أرجائها إلى صوت ترجيعه". كانت القشلة (الثكنة المتّخذة معتقلاً) في مدينة عكاء على المنوال السابق عندما دخلناها، وكان في فناء المعتقل بعض شجيرات يأوي إليها البوم التي يصمّ نعيبها الآذان طوال الليل وفي الحقيقة إن صوتها كان مزعجًا للغاية يؤثّر في صماخ الآذان.

وأيم الحق، إن ذلك الفرع المقدّس جناب الأفنان المذكور استمرّ كامل أيام شبابه مستنيرًا مضيء الطلعة وضّاحًا كالشمعة الموقدة بين بني جلدته إلى أن حان حينه فطار إلى الأفق العزة الأبدية واستغرق في بحر الأنوار. عليه نفحات ربه الرحمن وعليه الرحمة والرضوان مستغرقًا في بحر الرحمة والغفران.

المصادر
المحتوى
OV