إن الحاج ميرزا حسن الأفنان الكبير كان من أعاظم المهاجرين والمجاورين. قد فاز في أواخر أيامه بشرف الهجرة وتوفّق بالآقامة بجوار العناية الربانيّة. أمّا نسبه فيعود إلى النقطة الأولى، روحي له الفداء. وقد نصّ القلم الأعلى على أنّه من أفنان السدرة المباركة وكان له النصيب الوافر بأن رضع، وهو طفل في سن الرضاع، من ثدي عناية حضرة الأعلى وكان تعلقه بذلك الجمال المنير لا يُضارع.
ولما بلغ سن المراهقة، اندمج في صفوف ذوي المدارك العالية وقام بتحصيل العلوم والفنون وكان لا يفتأ ليلاً نهارًا في إشغال الفكر في المسائل الإلهيّة. وقد أخذته الحيرة لمّا شاهد انتشار الآيات الكبرى في الآفاق. تضلّع في العلوم الاكتسابية كالرياضيّات، والهندسة، والجغرافيا، وطال باعه في علوم شتّى وكان كثير الاطلاع واقفًا على آراء السلف والخلف. صرف القليل من أوقات ليله ونهاره في الاشتغال بالتجارة، غير أنه كان يصرف معظم أوقاته في المطالعة والمذاكرة وكان حقًا علامة الآفاق وسبب عزّة أمر الله بين العلماء الأعلام، يحلّ المسائل المعضلة والمشكلة بمختصر العبارات وبمنتهى الإيجاز. وهذا من ضروب الإعجاز.
وقد تعطّرت مشامّه بنفحات الهداية الكبرى في أيام حضرة الأعلى واشتعلت فيه نار المحبّة في أيام المبارك بدرجة أنه قام على إحراق جميع حجبات الأوهام واشتغل بترويج دين الله بكل ما في مكنته واشتهر في جميع الآفاق بمحبّة الجمال المبارك. على حدّ قول القائل (ما ترجمته):
أيها العشق قد تملّك مني من جرّائك جنون وحيرة
وبهذا اشتهرت بين البرايا حيث قالوا: ابتغي لك غيره
كيف أسلوه وقد سجلوني في رأس تعداد من تحمّل ضيره
بعدما كنت أول العارفين بل كمن محا في المعارف عمره
وبعد صعود حضرة الأعلى، روحي له الفداء، واظب على خدمة حرم ذلك الجمال، جمال الكبرياء ضجيعة حضرة الأعلى الطيّبة الطاهرة وفاز بتوفيق من الله بهذه المنقبة العظمى. وعاش في إيران مغمومًا غارقًا في بحار الحيرة من شدّة فراق حضرة الرحمن، إلى أن فاز سليله الجليل بشرف المصاهرة فدبّت فيه عوامل السرور والحبور والفرح والابتهاج، فترك إيران إلى ظلال عناية حضرة المقصود ومجاورته. كانت محاسن طلعته تفوق الوصف بوجه نوراني وقد شهد الأغيار بأن في وجهه هالة من النور المبين.
ومختصر القول، إنه قد مكث أيامًا في مدينة بيروت وقابل في أثنائها العالم الشهير –الخواجة فنديك- ودارت بينهما مباحثات في مختلف العلوم والفنون مما أدهش الخواجة المذكور حتى صار يتمدّح بأوصاف حضرة الأفنان الكبير ويشيد بعلوّ كعبه في مختلف العلوم والفنون ويعدّد فضائله وكمالاته في الأندية والمحافل والمجتمعات.
وكان يقول على مسمع من الجمهور: "إن جناب الأفنان يندر وجود أمثاله بين المتفنّنين في الشرق". وفي النهاية، عاد حضرته إلى أرض المقصود وسكن في الجوار المبارك وحصر فكره في فضائل الإنسان، وكان يصرف معظم أوقاته مشتغلاً باستكشاف النجوم وحركات الكواكب وكان رفيقه المقراب (أي المنظار) للتطلّع إلى الكواكب في الليل والنهار. كان في حدّ ذاته بحبوحًا مرحًا فارغًا عن الدنيا، وفي غاية من السرور والبشاشة وكان يُقدّر مجاورته لحضرة الأحدية ويعتبرها جوهرة تتلألأ بالنهار وتجعل ليله منيرًا إلى أن وقع صعود حضرة المقصود واضطربت الخواطر وتبدّل الفرح والسرور بآهات الحسرة، وحلّت المصيبة الكبرى واحترقت القلوب من عظم الفراق، واصبغّ بياض النهار بسواد الليل المُدْلَهِمّ، وانقلب صفاء بستان الأوراد إلى هشيم القتاد الذي لا يصلح إلا للنار، وجرت الدموع من الآماق. فأمضى حضرته أيامًا يتقلّب على بساط الاحتراق بنار الفراق ولم يجفّ الدمع الهاطل من عينيه فلم يستطع تحمل ذلك العبء وأَلَمَ الفراق، ففارقت روحه الزكيّة، بعد أيام قلائل، عالم الفناء وسكنت عالم البقاء وفازت بالدخول في جنّة اللّقاء واستغرقت في بحر الأنوار. عليه الرحمة الكبرى، وله الموهبة العظمى، وله البركة على مرّ القرون والأعصار. قبره الشريف في حي المنشيّة بعكاء.