من جملة المهاجرين والمجاورين والمسجونين، جناب آقا صدق علي، كان درويشًا حرًا، لا أهل له ولا أقرباء، سالكًا سبيل العارفين بالله، ومن الأدباء المعروفين. مرّت عليه أيام عانى فيها عوامل الفقر المدقع سائرًا على نمط الطريقة التي شرب خمرها. ولما كان من أهل التصوف كان يصرف أوقاته في تدخين الحشيش الأغبر الممقوت لعلّه ينال التزكية والخلوص بين معشر المتصوفين، وكان يبحث وينقّب عن الحق. طبعه الشعري في سبيل الحق كان في غاية السلاسة، نظم القصائد الغرّاء في محامد مظلوم الآفاق، وكان بيت القصيد في الخريدة التي نظم عقدها وهو سجين بالمعتقل ما معناه (مترجم):
لو بعّد الظلام الحالك خُصلاً من شعرك المسدول في ألف قلب
لترامت القلوب إثر القلوب إذا تموّج الشعر في أي درب
عاش حرًا طليقًا في بغداد وتقلّد وسام المحبوب اللاوسام وحظي بمشاهدة طلوع نيّر الآفاق من أفق العراق، ونال نصيبًا موفورًا من فيض الإشراق حتى أصبح مفتونَ محبوب الآفاق ومحبوبَ طلعة المحبوب المشفق الكريم. ولو أنه في بعض الأحيان كان ساكتًا صامتًا إلا أنّ كل جوارحه كانت السُنًا ناطقة بالبيانات الفائقة.
ولما حان تحرك الركب المبارك من دار السلام، أسرع متلهِّفًا وتمنى أن يكون سائسًا لجواد جمال القدم فتمّ له ذلك. وكان يسير مع القافلة طوال اليوم راجلاً ومهرولاً، وفي الليل يقوم بطُمار الخيل بكل روح وريحان ولا يهجع إلا بعد منتصف الليل، منكمشًا تحت لحاف رقيق. وكان لا يفتأ يقرض الشعر في الطريق، ويترنم بالمقطوعات الغزلية بولهٍ زائد مما جلب سرور الأحباء والأصحاب. حقًا إنه كان وصفًا من اسمه وهو الصدق المحض والحب الخالص والروح الطاهرة ومفتون الإيمان بالمحبوب. وكان يفتخر، وهو في هذا المنصب العالي، يعني العظمة الملوكية الحقة، على سلطنة العالم، عاكفًا ما دام على العتبة المقدّسة في مقدمة الأحباء الصادقين حتى وصلت قافلة مليك العشق إلى اسلامبول فإلى سجن عكاء بعد أدرنه. وكان جناب صدق علي هذا، في جميع المراحل لا يفارق الركب المبارك، مستقيمًا في إيمانه، وعظيم الإيقان في معتقده. ونزل ذات ليلة في المعتقل من القلم الأعلى خصيصًا باسم "صدق علي" قوله تعالى:
"على الدراويش أن يعقدوا مجلسًا في مثل هذه الليلة من كل عام، ويزيّنوا المكان بأنواع الأوراد والأزاهر المختلفة ألوانها، ويشتغلوا بذكر الحق سبحانه. ثم بيّن حضرته حقيقة الدراويش، بأنهم هم الأشخاص الذين يطوفون العالم غير طائشين وغير سلاّبين. والمراد هم النفوس المنقطعة عما سوى الله، المتمسكة بشريعة الله، الثابتة في دين الله، الراسخة على ميثاق الله، القائمة على العبودية لله، ولهم القدم الراسخ في العبادة لا على الطريقة المصطلح عليها بين أهل إيران وهي طريقة الحيرة والارتباك والهجوم على الغير والسير في طريق اللادينيين".
وبالإجمال، إن هذا الدرويش صاحب المقام الرفيع مضّى كل أيام حياته في ظل عناية الواحد الأحد، منقطعًا عما سوى الله، مواظبًا على خدمة عباد الله بكل سرور وارتياح. وفضلاً عن خدمته للجميع، كان قائماُ على عبودية العتبة المقدّسة، إلى أن خلع قميص الوجود وهو في جوار الرب الودود وغاب عن الأبصار. غير أنه كان منظورًا بالبصيرة الخفية، وجلس على سرير العزّة الأبديّة وتخلّص من أسر هذا العالم العنصري، ونصب خيمته في العالم الوسيع غير المحدود. زاده الله قربًا ووصالاً، ورزقه الله المشاهدة واللقاء في عالم الأسرار مستغرقًا في بحر الأنوار. وعليه بهاءالله الأبهى. أما قبره المنور ففي عكاء.