من جملة المهاجرين والمجاورين آقا محمد هادي الصحاف وهو من أهالي أصفهان. كان ماهرًا في تجليد الكتب ومتفوّقًا على الآخرين. متشبّثًا بذيل الكبرياء بدرجة فائقة، سريعًا في تأدية كل ما يتطلب منه عمله، شجاعًا قوي العارضة. بارح مسقط رأسه المحبوب وساح في البيداء واخترق السهول والوديان غير عابئ بوعثاء الطريق وما به من المخاوف، وجاس خلال الديار متحملاً ما هنالك من متاعب ومشاق، حتى وصل إلى البقعة المباركة وأصبح ضمن المسجونين. وعكف على العتبة المباركة، واشتغل بحراسة البيت المبارك وتنظيفه، وكنس الميدان الفسيح الواقع أمام الدار، وغسل أرضه المعبّدة بالأحجار حتى جعله في رونق يسرّ الناظرين. وكلما وقع نظر المبارك على هذا الميدان كان يبتسم ويتفضّل بقوله الأحلى: "إن آقا محمد هادي جعل ميدان السجن كالعروس ليلة زفافها". وكان جميع الجيران ممنونين مسرورين منه، وكان كلما فرغ من عملية الكنس والتنظيف يباشر في تذهيب الألواح وتجليد الكتب. ونسج على هذا المنوال حينًا من الدهر متمتّعًا بملآقاة محبوب قلوب أهل الآفاق، وفي الحقيقة كان هذا الشخص إنسانًا طاهر الذيل، صادق القول، مستحقًّا لموهبة الوصال. ذات يوم، أتى إلى هذا العبد شاكيًا من استمرار مرضه الشديد، وقال، إنه قد صار له عامان وهو يعاني شدّة الحمّى والارتعاش وأن الأطباء لم يعطوه علاجًا سوى المسهلات وحبوب الكينا. وكانت الحمّى تنقطع أيامًا ثم تعاوده، وكلما استشار طبيبًا وصف له نفس العلاج، إلا أن المرض لم ينقطع بالكليّة فسئم الحياة وأصبح لا يقوى مباشرة أعماله إلا بشقّ الأنفس، وأراد تدبير أمره، فقلت له: "ماذا تأكل؟ وماذا تطلب من الطعام وتشتهي أكله؟" فقال: "يا مولاي لا أدري!"، فأخذت على سبيل الممازحة أسرد له أسماء الأطعمة إلى أن ذكرت له مطبوخ الكَشْك، فقال: "هذا طيّب بشرط أن يكون مع الثوم المقلي". فلما جهّزوه وأحضروه له تركتُه وانصرفت. إذا به قد حضر إليّ في اليوم التالي وقال: "يا مولاي تناولت صَحفةً من الكَشْك فنمت نومًا سباتًا حتى الصباح".
وبالإجمال، فقد قضى بعد ذلك عامين في صحة جيدة. وذات يوم حضر أحد الأحباء وأخبرني بأن آقا محمد هادي مصابًا بالحمّى المحرقة، فذهبت على التو لأعوده، فرأيت درجة حرارته بلغت الثانية والأربعين وكان لا يعي، فقلت للحاضرين: "ماذا فعل؟" فقالوا، إنه لما شعر بالحمّى وروى أنه قد جرب في مثل هذه الأحوال مطبوخ الكَشْك مع الثوم المقلي، فأحضرنا له ذلك، فتناول منه حتى امتلأ وما لبث حتى صارت حالته كما ترى. فتحيّرت من صنع القضاء والقدر، وأخيرًا قلت: "بما أنه قد أكثر من تناول المسهلات وغيرها طوال العامين المنصرمين وكانت معدته خالية وهو محموم وبه رعشة، وتناول الطعام كالكشك مثلاً، فلعب ذلك دوره فحلّ به ما حلّ إذ كان من باب أولى أن لا يتناول الكشك". فقال الحاضرون: "هكذا كانت أحكام القدر، وقضاء الله لابد نافذ". فبالاختصار، قد سبق السيف العذل، وضاعت فرصة المعالجة وانتهى الأمر.
كان هذا الشخص قصير القامة، ولكنه عالي الهمّة سامي المقام، طاهر القلب نيّر الفؤاد، زكي الروح. وكان طوال المدّة التي آقامها لدى العتبة المباركة محبوبًا من جميع الأحباء مقربًا من ساحة الكبرياء، وكان الجمال المبارك يبتسم عندما يحادثه، كما كانت تفيض عليه العناية وهو بدوره كان عبدًا شكورًا لا يرضى غير رضاء الحق. طوبى له من هذا الرِفد المرفود! بشرى له من هذا الورد المورود! هنيئًا هذه الكأس مزاجها كافور! وتقبّل الله منه كل سعيٍ مشكور.