إن الخطاط الشهير – المير عماد الثاني حضرة مشكين قلم – هو من جملة المهاجرين والمجاورين والمسجونين. كان قلمه مسكيًا حقًا وجبينه منورًا بالنور المبين، يُعتبر في مقدمة العرفاء (العارفين بالله) والظرفاء، وقد بلغ صيت هذا العارف والسالك في سبيل الحق جميع الممالك، وكان في إيران بهجة الخطاطين ومحطّ سرورهم، معروفًا لدى الأكابر والأعيان، وله مكانة سامية لدى الوزراء والأمناء، وعمّت شهرته الفنية أنحاء بلاد الروم، وبهرت عقول الخطاطين مهارته في صناعة الخط وتحسينه إذ كان يتقن مختلف أنواعه، وكان في الكمالات نجمًا ساطعًا واعتنق الأمر بمجرد سماعه نداء الله في مدينة أصفهان، ومن ثمّ قصد مقام المحبوب وطوى الفيافي والقفار والتلال والوِهاد وركب متن البحار إلى أن وصل إلى أرض السرّ (أدرنه) قويًا في إيمانه متينًا في إيقانه فشرب صهباء الاطمئنان واستمع لنداء الرحمن وتمثّل بين يدي الجمال المحبوب ونال العروج إلى أوج القبول فثمل بنسيم العشق وهام من شدة الوله والشوق متيّمًا مفتونًا مضّى على هذا الحال زمنًا بجوار الساحة المقدّسة موْرِدًا للألطاف يومًا بعد يوم قائمًا بزخرفة اللوحات الخطية وتنميقها وكان يكتب الاسم الأعظم "يا بهاء الأبهى" على جملة أشكال وأوضاع وغاية في الإتقان ويبعث به إلى كل الأقطار. وبعد ردح من الزمن، صدر له الأمر بالسفر إلى اسلامبول برفقة المدعو السياح، وما أن وصل إلى تلك المدينة العظمى حتى أخذ جميع أكابر الإيرانيين والعثمانيين في تقديم الاحترام الكلي له وأصبحوا مغرمين بخطه المسكي. أما هو فقد حرّك لسانه بالتبليغ غير هيابٍ ولا وجل، غير أن سفير دولة إيران كان له بالمرصاد وألصق به التهمة لدى الوزراء مؤكدًا لهم أن حضرة مشكين قلم شخص موفد من قبل حضرة بهاءالله ليبث روح الفساد في هذه المدينة فضلاً عن إيقاد الفتنة وإثارة الخواطر والضوضاء. وما فتئ السفير المذكور يسخّر أعوانه بهذا الصدد ويقول إن البهائيين يشتغلون خفية بدس الدسائس في الأقطار العثمانية وما جاءوا إلى هذه العاصمة إلا لهذا الغرض بعد أن جعلت حكومة إيران عشرين ألفًا منهم طعمة للسيف ليحطموا عوامل دسائسهم والآن فليكن معالي وزراء مملكة آل عثمان متيقظين وعلى بيّنة من أن نار الفساد ستشتعل عما قريب في هذه الديار وتأتي على الحرث والنسل وتصبح البلاد في حالة اضطراب لا ينادى وليدها، فالفرصة اليوم سانحة لإبادتهم.
والحال، أن ذلك المظلوم (مشكين قلم) كان يشتغل بفن الخط في عاصمة ملك الروم واشتهر بين القوم بالتقوى والتعبد والسعي في الإصلاح قدر الطاقة، مجتهدًا في تأليف القلوب بين أرباب الأديان المختلفة ورفع التنافر الموجود بين الغرباء عاملاً على تربية أبناء وطنه وكان ملجًا للمساكين والمحتاجين، كنزًا للمعوزين، مرشدًا للتائهين، هدفه وحدة العالم الإنساني، لم تتطرق إلى قلبه العداوة ولم يجنح إلى البغضاء.
أما سفير إيران بالآستانة فكان ذا نفوذ عظيم وعلاقته بالوزراء متينة، فأثّر على جمع غفير من البارزين في العاصمة التركية ليحضروا المجالس والمحافل وينسبوا لأفراد الجامعة البهائية كل فِرْيَة مما أدى بالجواسيس ليحيطوا بجناب مشكين قلم من كل ناحية وبإشارة من السفير قدّم المناوؤون والمغرضون اللوائح البهتانية في حقه لأولي الشأن بإيحاء من سفير إيران المذكور بأن مشكين قلم يشتغل بإشعال نار الفتنة والفساد في البلاد وبأنه طاغية باغية عدوّ للدولة وعاصٍ عتيد. فسبب ذلك في اعتقال مشكين قلم وأدخلوه في عداد المسجونين واستبعدوه إلى غليبولي ومنها إلى جزيرة قبرص ثم إلى سجن عكاء بعد أن أمضى في الجزيرة في قلعة ماغوسا مدة من سنة 1285 إلى سنة 1294 هجرية، وبعد أن خرجت قبرص من يد الأتراك تخلّص من الأسر وآقام أيامًا في ظل عناية الجمال المبارك مشتغلاً بفنه الذي برع فيه في كتابة لوحاتٍ وتنميقها بكمال الإتقان وإرسالها إلى مختلف الأصقاع وعاش في هناء ورغد من العيش مشتعلاً كالشمعة بنار محبة الله سلوة لخواطر جميع الأحباء. واستمر بعد صعود المقصود ثابتًا راسخًا على العهد والميثاق بدرجة لا تضارع، وكان كالسيف المسلول على رقاب الناكثين، لم يجنح إلى المداراة ولا المواربة والمحاباة، صارفًا دقائق حياته في صادق الخدمات غير مقصّر في جميع الموارد بهذا الصدد. ثم سافر إلى بلاد الهند بعد الصعود المبارك بمدة واندمج في زمرة من كانوا على شاكلته في العبادة والانقطاع عما سوى الله حينًا من الدهر تتجدد همّته يوما بعد يوم إلى أن وصل إلى هذا العبد (حضرة عبدالبهاء) خبر ضعفه ووهنه فأرسلت إليه ليحضر. فعاد إلى هذا السجن الأعظم وسعدت بقدومه قلوب الأحباء، وابتهجت منهم الأفئدة، وكان للجميع رفيقًا أنيسًا في كل آناته، مترنمًا بالنغمات الشجية، منجذبًا إلى الحق كل الانجذاب، جامعًا للفضائل متحليًا بأحسن الخصال، مؤمنًا موقنًا مطمئن النفس، زاهدًا في الدنيا، ذكي الطباع، لذيذ المشرب، حلو الحديث، وعلى خلق عظيم، يتضوّع عرف شذاه كأوراد الرياض الغناء، نديمًا لا يضارع، وقرينًا لا مثيل له في محبة الله. ترك كل نعيم وأغمض عينيه عن أسباب العزّة الدنيوية لم يركن إلى الراحة واللهو ولم يطلب الثراء ولم يتشبّث بشيء من الأشياء جاعلاً ديدنه حثّ ذويه على ترتيل الآيات والتضرع إلى ذي الجلال في جميع الأوقات وانجذابه جعله هيكلاً مجسمًا لمحبة الله، بشاشته لا تنقطع، وكان في الصداقة والمودة لا نظير له، صبورًا حمولاً للغاية فانيًا نفسه بالكلية وباقيًا بالنفس الرحمانية. ولو لم يكن مفتون الجمال المبارك وقلبه متعلّقًا بملكوت الجلال لتيسّر له كل رفاه، حيث كان رأس ماله العظيم تفننه في كثير من أنواع الخطوط مما لم يسبقه أو يجاريه في مضمارها أحد. والفضائل التي كان متحليًا بها سببت احترامه لدى الأمراء وغيرهم، وهيامه وانجذابه إلى المعشوق الحقيقي جعلاه ينزّه نفسه عن جميع القيود طائرًا في الأوج غير المتناهي وفي النهاية انتقل، أثناء تغيب هذا العبد (عبدالبهاء) من هذا العالم الضيق الظلماني إلى العالم الفسيح النوراني وتمتع بالفيض اللامتناهي بجوار الرحمة الكبرى. عليه التحية والثناء، وعليه الرحمة الكبرى من الرفيق الأعلى.