كان حضرة آقا محمد مصطفى البغدادي في عداد المهاجرين والمجاورين. هذا السراج الوهاج، النجل الخليل للعالم النحرير الشيخ محمد شبل، من أهل العراق العربي. اشتهر حضرة محمد مصطفى البغدادي بتفرده في جميع الآفاق بالشجاعة، والشهامة، والوفاق من فجر شبيبته. اهتدى إلى فجر الظهور منذ كان طفلاً على يد والده، فاستنار قلبه وأحرق ستر الوهم وفتح حديد بصره، فشاهد الآيات الكبرى وأعلى نعرة "قد أشرقت الأرض بنور ربّها" غير هيّاب ولا وجل.
كنت ترى هذا الشخص الكريم، رغم التعرض الشديد للمؤمنين وسوط عذاب أولي الشأن وانزواء الأحباء خلف ستار التقية (عدم إظهار المعتقد) من شدة الخوف من الأعداء، غاديًا ورائحًا في دار السلام بكل شجاعة وجسارة يقاوم كل ظالم بعزم ثابت وقوة خارقة، واشتهر في سنة السبعين في العراق بمحبة نيّر الآفاق. وأما الذين اتخذوا الحيطة والكتمان أصبحوا في زوايا النسيان.
وأيم الحق، إن هذا الهزبر الذي لا يضارع، كان يمرّ في أسواق بغداد يهابه كل من رآه، وتخشى الأشرار بأسه ولم يتعرضوا له مخافة بطشه. وقد ظهرت، على الأخص رجولة هذا الرجل الرشيد بأجلى معانيها للقاصي والداني، بعد رجوع جمال القدم من كردستان (السليمانية) إذ كان يتشرف بالحضور المبارك كلما صدر له الإذن بذلك، وكان يمتع سمعه بما يخرج من فم المبارك من البيانات ويفوز بالعنايات وهو أول محبّ ظهر في العراق جاهرًا بمعتقده واستمر بعد أن تحرك الموكب المبارك من دار السلام إلى المدينة الكبرى (اسلامبول) على مقاومة الأعداء وخدمة الأمر بكل همة ونشاط، يبلّغ الناس علانية ولما ذاع في الآفاق إعلان من يظهره الله كان من الذين أذعنوا لظهوره مع أنه كان متأكدًا من ذلك ومؤمنًا قبل الإعلان حتى إنه قال: "إنّا آمنا قبل أن يرتفع النداء، لأنه قد رفع الستار عن الإشراق بين الآفاق قبل ارتفاع النداء وشاهد الأنوار كل ذي بصر حديد ورأى الجمال المطلوب كل طالب بصير".
وعلى الجملة، إن هذا الشخص قام على خدمة الأمر بكل ما أوتي من قوة، ولم يهدأ لحظة في هذا السبيل. وبعد حركة جمال القدم إلى السجن الأعظم لاقى هذا المحب من الأعداء ما لاقى، فبعد أسر الأحباء ونفيهم من الزوراء إلى الحدباء (الموصل)، وخصومة الأعداء وتعرّض أهل دار السلام، لم يفتر عن مقاومة الأعداء واستمر على ذلك زمنًا ليس بالقليل حتى تأججت نار الشوق للقاء المحبوب بين ضلوعه فترك الأوطان والأهل والخلاّن وتوجه منفردًا إلى السجن الأعظم (عكاء) فوطئ المدينة في أيام الشدة والضيق وفاز بشرف اللقاء وطلب السماح له بالسكنى حوالي عكاء. فصدر له الإذن بالآقامة في بيروت، فصدع بالأمر وآقام في تلك المدينة خادمًا للأمر بكل إخلاص، محطّ رحال جميع الأحباء الذاهبين للتشرف والآيبين من أرض المقصود. وكان يرحب بالجميع بكل حفاوة، يعاونهم ويسهل لهم الطريق بكل مودّة، مضحّيًا بكل مرتخصٍ وغالٍ في سبيل راحة الأحباء الذاهبين إلى عكاء والعائدين منها، والكل يشهد بذلك. وعمّت شهرته في هذا الصدد كل صوب وحدب. واستمر بعد أفول شمس الحقيقة وصعود نيّر الملأ الأعلى، ثابتًا مستقيمًا على العهد والميثاق الإلهي بدرجة زلزلت فرائص المتزلزلين الناقضين ولم يجرؤ أحد منهم أن يحرك لسانه بكلمة أمامه لأنه كان كالشهاب الثاقب يرجم الشياطين، وكالسيف القاطع على أعناق الناكثين، ولم يجرؤ أحد منهم أن يمرّ من الحي الذي هو فيه، وإذا تصادف أن مرّ به أحد الناقضين، في الطريق مثلاً، مرّ هذا الأخير مرّ الكرام وكأنه من الصم البكم العمي الذين لا يرجعون.
حقًا، إنه كان بين القوم مصداق "لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا تزعزعه صولة شاتم".
ومختصر القول، إنه لم يتزعزع عن أسلوبه، من قلب فارغ ونيّة صادقة وإخلاص في خدمة الأحباء قاصدي الروضة المطهرة، الطائفين حول مطاف الملأ الأعلى. ثم انتقل في أخر الأمر إلى بلدة الاسكندرونة وعاش فيها زمنًا منجذبًا إلى الله منقطعًا عما سواه مستبشرًا ببشارات الله متشبثًا بالعروة الوثقى مشهورًا بالتقديس، إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى.
رفعه الله إلى الأوج الأعلى والرفيق الأبهى، وأدخله في عالم الأنوار، ملكوت الأسرار، محفل تجلي ربه العزيز المختار. وعليه البهاء الأبهى.