كان ضمن المهاجرين والمجاورين جناب آقا ميرزا جعفر اليزدي، وكان رجل الميدان هذا من طلاب العلوم، وعلى معرفة تامة بشتى الفنون، صرف من أيام حياته مدة في المدارس سبّآقا في ميادين الفقه وعلم الأصول، واسع الاطلاع في المعقول والمنقول. ولما رأى آثار النخوة والتكبّر فاشية بين القوم نَفَرَ أشد النفور وما عتم أن قرع سمعه، وهو على هذا الحال، النداء من الملأ الأعلى حتى قال، على فوره: بلى، و"ربنا إنا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا".
ولما استفحل أمر القلاقل والاضطرابات والازدحام العجيب في مدينة يزد، سافر من وطنه المألوف إلى النجف الأشرف واندمج مع طلاب العلوم فظهرت قيمته واشتهر بين الطلاب بالعلم والفضل. ولما ارتفع صيت الأمر في دار السلام ذهب إلى بغداد وغيّر زيّه بمعنى أنه استبدل العمامة بالكلاه (الطربوش)، واحترف النجارة لكسب معاشه بعرق جبينه، ثم سافر إلى طهران لمدة يسيرة ثم عاد إلى بغداد واستمر في ظل العناية لابسًا رداء التقشف بالصبر الجميل وسعيدًا رغم فقره.
ورغم ما كان عليه من التضلع في العلوم وعظيم الفضل، كنت تراه في نهاية الخضوع والخشوع فانيًا نفسه، دائم الصمت والسكون. ثم التحق بموكب نيّر الآفاق أثناء السفر من العراق إلى اسلامبول، وكان شريكًا لهذا العبد (عبدالبهاء) في خدمة الأحباء، فكنا كلما توقف الركب في الطريق وطلب الراحة من شدة التعب من المسير نذهب سويًا إلى القرى المجاورة لابتياع ما يلزم لأفراد القافلة من غذاء وعلف للخيل، وكنا في بعض الأحيان يجبرنا الحال إلى التأخر في القرى إلى منتصف الليل لأن القحط كان عامًا والغلاء فاحشًا في كل مكان. وعلى كل حال كنا لا نعود بخُفيّ حُنَيْن.
وعلى الجملة، فقد كان هذا الشخص الحليم النشط، سليم النيّة لا يبارح العتبة المقدّسة، منكبًا على خدمة الأحباء نهارًا وعلى التعبد ليلاً، دون أن يُسمع له صوت متوكلاً على الله في جميع الأحوال، وداوم على الخدمة في ارض السرّ (أدرنه) حتى حان وقت الرحيل إلى معتقل النفي بعكاء، فكان في عداد المساجين بكمال الرضاء فرحًا مستبشرًا دائم الشكر لله، وكان يقول: "الحمد لله الذي جعلنا في الفلك المشحون". وكان يعتبر المعتقل بستان أوراد، وساحته حديقة غنّاء. وأخيرا، أصابه وهو في المعتقل مرض شديد حتى يئس الطبيب من شفائه فطرحوه أرضًا خارج الثكنة وهو يعالج سكرات الموت. فذهب في الحين المدعو ميرزا آقا جان إلى الساحة المقدّسة وعرض خبر وفاة الميرزا جعفر وأن محبيه يبكون وينتحبون عليه، فتفضل الجمال المبارك لميرزا آقا جان بقوله: "اذهب إليه واقرأ مناجاة (يا شافي) فيعود ميرزا إلى الحياة". فأسرعت أنا (عبدالبهاء) والميرزا آقا جان إلى حيث المريض (أو الميت) فوجدناه بارد الجسم وآثار الموت ظاهرة عليه ثم تلونا المناجاة المشار إليها فما لبث أن تحرك الجسم الهامد رويدًا رويدًا وعاد إلى حالته الأولى. وبعد مضي ساعة واحدة استوى ميرزا جعفر جالسًا وأخذ يمازح ويطايب من حوله.
ومختصر القول، إنه قد عاش بعد ذلك مدة مديدة وهو يوالي خدماته للأحباء ويفتخر بذلك كل الفخر، مؤديًا خدمته للجميع وهو في منتهى التبتل والتذكر قوي الإيمان شديد الإيقان والاطمئنان. وفي آخر الأمر انتقل، وهو في السجن الأعظم، من عالم الناسوت وصعدت روحه إلى عالم اللاهوت.
عليه التحية والثناء، وعليه البهاء الأبهى، وعليه نظر العناية من حضرة الكبرياء. أما قبره المنور ففي عكاء.