تذكرة الوفاء - جناب الحاج علي عسكر التبريزي

حضرة عبد البهاء
مترجم. اللغة الأصلية الفارسية

جناب الحاج علي عسكر التبريزي – تذكرة الوفاء – آثار حضرة عبدالبهاء

كان هذا الرجل الجليل من أهالي تبريز، مشتغلاً بالتجارة في أذربيجان، محترمًا بين القوم مشهورًا بتدينه وأمانته وزهده وورعه وتقواه. وجميع أهالي تبريز يقرون له بذلك، ويقدرون مقامه ومكارم أخلاقه وحسن طويته، وينعتونه بعظيم المناقب. هو من قدماء الأحباء وأجلّة المؤمنين.

انصعق منذ النفخة الأولى في الصور، وانجذب إبان النفخة الثانية ونال حياة جديدة، وأصبح شمعة محبة الله، وشجرة مباركة في جنة الأبهى، وآمن على يديه كل أهل بيته وآقاربه وعارفيه، وتوفق إلى عظيم الخدمات. ولمّا وقع في الضيق الشديد وتوالي البلايا من ظلم الأشرار في مدينة تبريز لم يضجر بل تحمل كل ذلك وكان إيمانه وإيقانه يزداد يومًا فيومًا مضحيًا بكل مرتخصٍ وغالٍ في سبيل الله. وأخيرًا ملّ الآقامة في وطنه فسافر هو وأهل بيته إلى أرض السرّ (أدرنه) وأمضى أوقاته بها في حالة إعسار شديد، وعاش بمنتهى القناعة صابرًا وقورًا وراضيًا وشكورًا، وكان يبيع ما تأبطه معه من السلع في الأسواق التي كانت تقام أيام الجمع في أدرنه للحصول على ما يسد رمقه هو وذويه. ولما كانت بضاعته مزجاة، سطت عليها يد النشالين حتى أصبحت في خبر كان. ولما علم قنصل إيران بما حدث قدّم للحكومة التركية تقريرًا بالحادث وقدّر المسروقات بمبلغ باهظ، فما كان من الحكومة إلا أن ألقت القبض على اللصوص، ولما تبين أنهم من أهل الثراء، استغل القنصل الفرصة واحضر جناب الحاج المذكور وأخبره أن الذين سرقوا سلعه هم من أهل الثراء العظيم، وأنه (القنصل) قد قدّر مبلغًا باهظًا ثمنًا للمسروقات في تقريره للحكومة. وعليه يرى من الواجب على الحاج عسكر في هذا الحال أن يوافق، عندما يدعى للتحقيق، على ما جاء في تقرير القنصل، وذلك ليحصل على مبلغ وافر يتقاسماه معًا، فأجابه الحاج بقوله: "يا جناب القنصل، إن ما سرق مني هو شيء زهيد فكيف أن أقرر خلاف الواقع، وهذا ما سيكون مني إذا دعيت للاستنطاق. وإني لن أعمل بما تقول مهما كان الحال". فقال القنصل: "يا جناب الحاجي، إن الفرصة الآن سانحة لك للحصول على المال الذي سيستفيد منه كلانا فائدة لا بأس بها، فلا تضيّع هذه الفرصة". فقال له ذلك الحبيب: "يا جناب الخان (القنصل)، ماذا يكون جوابي بين يدي الله؟ أرجوك أن تتركني وشأني، وتأكد أنني لا أقول غير الواقع". فاشمأزّ القنصل وهدده وتوعده ثم قال: "أتريد تكذيبي وفضيحتي. لا سبيل من سجنك ونفيك وإيصال الأذى إليك. والآن سأسلمك للشرطة بدعوى أنك من المغضوب عليهم من دولة إيران ويجب أن يقيّدوا يديك بالأصفاد ويسوقوك إلى حدود إيران". فتبسّم ذلك الرجل عظيم الشأن وقال: "يا جناب الخان (القنصل)، إننا قد جعلنا أرواحنا فداء الصدق والأمانة وتركنا كل شيء، وحضرتك الآن تحرضنا على استعمال الكذب والافتراء، فافعل ما بدا لك، ثم اعلم أننا لا نحيد عن عبادة الحق والصدق". فسكت القنصل، ثم التفت إلى ذلك الشخص الجليل وقال له بعبارة ملؤها الرجاء: "من باب أولى أن تسافر من هنا حتى أكتب للحكومة أن صاحب المال المسروق ليس موجودًا، وإن لم تفعل ذلك فتتضح فضيحتي". فعاد جناب الحاج علي عسكر إلى أدرنه ولم يذكر شيئًا عن أمواله التي سرقت. ولما ذاع صيت هذه المسألة اندهش القوم كل الاندهاش.

وأيم الله، إن هذا الشخص الطاعن في السن، والذي لا نظير له، قد آقام في أدرنه وأصبح في عداد الأسرى كباقي الأحباء، وسار في الموكب المبارك إلى السجن الأعظم الذي هو من أحط السجون. وصبر على السجن مدة طويلة هو وأفراد أسرته حامدًا شاكرًا على أنه قد سجن في سبيل الله، وازداد من جرّاء سجنه بهجة وسرورًا وشغفًا وحبورًا، واعتبر السجن إيوانًا ولم يفُه بكلمة غير الحمد والشكر. وكلما اشتد عليه ظلم الأعداء ازداد سرورًا، وكثيرًا ما جرى من فم المبارك المطهر عبارات العنايات في حقه حيث كان يتفضل بقوله: "إنني راضٍ عنه".

وعلى الجملة، إن هذا الشخص الذي كان روحًا مجسمة قد انتقل من عالم التراب إلى العالم الطهور بعد أن أفنى السنوات الطوال، كان إبّانها مثال الثبوت والاستقامة والفرح والسرور، وخلّف بعده أثرًا عظيمًا، كان أنيس هذا العبد (عبدالبهاء) ونديمه. ومما يجدر بالذكر أنني ذهبت ذات يوم من أيامنا الأولى في السجن إلى الغرفة المتواضعة التي كان يسكنها، فرأيته محمومًا بدرجة لا توصف، وملقى كالسكران مدهوشًا، وزوجته المحترمة عن يمينه وقد اعترتها رعشة شديدة، وعن يساره ابنته المحترمة المسماة فاطمة، وقد أصابتها الحمّى الشديدة، وأمام رأسه ولده حسين آقا مريضًا بالحصبة، وترى أن ذلك الشخص كأنه قد نسي اللغة الفارسية وأصبح يلهج بلغة أهالي أذربيجان ويقول، (ياندى يوره كم) يعني أن قلبي لفي احتراق، وكانت إزاء قدميه إحدى بناته منكمشة في زاوية من شدة المرض أيضًا، وكان أخوه المرحوم المدعو مشهدي فتاح، يهذي من شدة الحمّى، وهو على هذه الحال، كان لا ينطق إلا بالشكر لله وتلوح عليه إمارات البشاشة والسرور والحمد لله تعالى. ثم صعدت روحه وهو في السجن الأعظم صابرًا شاكرًا ثابتًا ووقورًا إلى جوار الرب الغفور.

عليه البهاء الأبهى، وعليه التحية والثناء، وعليه الرحمة والغفران إلى أبد الآباد.

المصادر
المحتوى
OV