كانت أمةالله المنجذبة بنفحات الله حضرة خورشيد بيگم الملقبة ب شمس الضحى والدة حرم سلطان الشهداء في عداد المهاجرات والمجاورات. وأمةالله المفوّهة هذه، هي ابنة عم الحاج سيد محمد باقر المعروف بالعلم في جميع الآفاق والذي كان أمير العلماء في أصفهان.
ولما فقدت أمةالله هذه، المنجذبة، والديها وهي في سن الطفولة، تولت جدتها أمر تربيتها فترعرعت واشتدت في سراي ذلك العالِم الذي لا يجارَى والمجتهد المشهور سالف الذكر، ونمت في أحضان العلوم والفنون والمعارف. ولما بلغت سن الاحتلام، تزوجت جناب آقا ميرزا هادي النهري. ولما كانت مشام الزوجين قد تعطرت بنفحات العرفان من ذلك النجم الساطع البارع الصادع ألا وهو حضرة الحاج سيد كاظم الرشتي، لهذا رحلا إلى كربلاء صحبة المدعو آقا ميرزا محمد علي النهري شقيق ميرزا هادي المذكور وأخذا يحضران مجالس دروس السيد كاظم لاقتباس أنوار المعارف حتى أصبحت أمةالله المنجذبة (شمس الضحى) متفقهة في المسائل الإلهية وما ترمي إليه الكتب السماوية وتتبعت الحقائق والمعاني بكل دقة. ثم أنجبت ولدًا وبنتًا وهما السيد علي وفاطمة بيگم التي تزوجت بعد سن البلوغ من حضرة سلطان الشهداء.
في أثناء آقامة تلك الأم النورانية (شمس الضحى) في كربلاء، وإذ ارتفع نداء الرب الأعلى من مدينة شيراز قالت: "بلى!"، وآمنت على الفور. وفي تلك الآونة، سافر إلى شيراز قرينها المحترم آقا ميرزا هادي النهري وأخوه المبجّل لأنه قد سبق لهذين الأخوين أن شاهدا جمال النقطة الأولى (الباب)، روحي له الفداء، في ضريح سيد الشهداء (الحسين بن علي) عليه الصلاة والسلام وعند ذلك أخذتهم الحيرة بمجرد مشاهدة شمائله النورانية وخصاله وفضائله الرحمانية حتى قالا لبعضهما: لا شبهة في أن هذا الرجل رجل عظيم ولذا أجابا ب "بلى" بمجرد استماع النداء واشتعلا بنار محبة الله لأنهما كانا يسمعان المرحوم السيد كاظم كل يوم ينادي في مجالسه المملوءة بالفيض ويقول صراحة: "إن الظهور لقريب!"، وإن هذا المطلب غاية في الدقة والرقة وعلى الكل أن يتنسموا أخباره ويتفحصوا أيضًا لعل حضرة الموعود يكون حاضرًا وموجودًا بين الناس. لكن الكل غافلون كما أشير إلى ذلك في بعض الأحاديث (الشريفة).
وما أن بلغ الشقيقان إيران حتى بلغهما أن حضرة الأعلى (الباب) قد سافر إلى مكة المكرمة. لهذا ذهب حضرة آقا سيد محمد علي إلى أصفهان، أما آقا ميرزا هادي فقد عاد إلى كربلاء. وكانت شمس الضحى قد تعرفت في تلك الأثناء بأمةالله ورقة الفردوس أخت جناب باب الباب (ميرزا حسين البشروئي) ثم تقابلت بواسطة هذه الأخيرة مع جناب الطاهرة، وتمكنت عرى الألفة والمحبة والمؤانسة بينهن، وكن يجتمعن ليل نهار ويشتغلن بأمر التبليغ. ولما كان الأمر الإلهي في بدايته كان القوم ينفرون منه بعض النفور. وأدت ملآقاة شمس الضحى بحضرة الطاهرة إلى زيادة انجذابها واشتعالها واستفاضتها التي لا حدّ لها وقد استمرت في عشرة حضرة الطاهرة في كربلاء مدة ثلاث سنوات تجالسها ليل نهار، وكانت كلما تحدثت تدفق من فمها الحديث كالبحر الزاخر بنسائم الرحمن وهي هائجة مائجة تتكلم بلسان فصيح.
ولما اشتهر أمر الطاهرة في كربلاء وانتشر صيت أمر حضرة الأعلى (الباب)، روحي له الفداء، في أنحاء إيران قام علماء آخر الزمان على تكفير معتنقيه وتحقيرهم وتدميرهم وأصدروا فتوى بقتل عموم أتباع الباب. وقام علماء السوء في كربلاء على تكفير جناب الطاهرة ثم هاجموا بيت شمس الضحى ظانين أن حضرة الطاهرة فيه، ثم أحاطوا بأمةالله المنجذبة (شمس الضحى) وأوسعوها ضربًا وشتمًا ولعنًا وزجرًا وتأنيبًا بدرجة لا توصف ثم سحبوها من الدار إلى السوق، فهجم عليها الأعداء وأوسعوها ضربًا بالعصي وقذفوها بالحجارة وبينما هي على هذه الحال إذ أتى والد زوجها المحترم الحاج سيد مهدي وصاح في القوم قائلا: "إن هذه السيدة ليست بجناب الطاهرة". فلم تصدقه الشرطة والعامة ولم يتركوها ثم طلبوا من حضرة الحاج سيد مهدي أن يأتي بمن يشهد على ما يقول وما لبثوا أن سمعوا أحد الغوغاء يصيح قائلا: "إن قرة العين قد قبض عليها"، ولهذا تركوا شمس الضحى.
ومختصر القول، إن الحكومة وضعت بعضًا من الحراس في بيت جناب الطاهرة ومنعوا الناس من الدخول والخروج حتى تأتي الأوامر من بغداد وإسلامبول. ولما طالت مدة انتظار الأوامر طالبت جناب الطاهرة لها ورفيقاتها بالذهاب إلى بغداد ريثما تأتي الأوامر بشأنها من إسلامبول ويفعل الله ما يشاء. فلبّت الحكومة طلبها فسافرت من كربلاء هي وجناب ورقة الفردوس ووالدتها وجناب شمس الضحى إلى بغداد وكان الرعاع يرجمونهن بالحجارة على مسافة من كربلاء ولما وصلن بغداد نزلن في بيت حضرة الشيخ محمد شبل والد جناب آقا محمد مصطفى البغدادي. ولما كثر الوافدون على جناب الطاهرة هاج أهالي ذلك الحي فاضطرت إلى الانتقال إلى منزل خاص بجهة أخرى من المدينة وداومت على التبليغ وإعلاء كلمة الله ليل نهار وكان يفد عليها العلماء والمشايخ وغيرهم، ويلقون عليها بعض الأسئلة فكانت تجيبهم بما يقنعهم واشتهرت في بغداد شهرة عجيبة لأنها كانت تتكلم في المسائل الإلهية ذات الشأن والدقة. ولما علمت الحكومة بذلك نقلتها هي وشمس الضحى وورقة الفردوس إلى دار المفتي حيث أقمن مدة ثلاثة شهور حتى وصلت الأوامر من إسلامبول بشأنهن.
أما مفتى بغداد فكان دائمًا يحادثهن ويناقشهن مدة آقامتهن في داره وكن يقمن له الحجج والبراهين القاطعة على دعواهن وكن يشرحن له المسائل الدينية شرحًا وافيًا ويتباحثن معه في مسائل الحشر والنشر والحساب والميزان ويوضحن له معضلات الحقائق والمعاني.
تصادف أن حضر والد المفتي إلى الدار ذات يوم، وما أن وقع نظره على جناب الطاهرة ورفيقاتها حتى انهال عليهن بما لا يليق من الألفاظ النابية، وكان المفتي حاضرًا فاستاء مما كان من والده واعتذر للسيدات ثم أخبرهن بورود الأوامر بشأنهن من إسلامبول تفيد أن السلطان العثماني قد عفا عنهن شريطة مغادرة الدولة. فخرجت في صباح اليوم التالي من بيت المفتي وتوجهت إلى الحمام، وبعد عودتها أخذ جناب الحاج الشيخ محمد شبل وجناب الشيخ سلطان العربي بتهيئة لوازم السفر وبعد ثلاثة أيام بارحت جناب الطاهرة بغداد هي وجناب شمس الضحى وجناب ورقة الفردوس ووالدة آقا ميرزا هادي ونفر من سادات مدينة يزد قاصدين إيران والذي تولى الصرف على هذه الرحلة من جيبه الخاص هو جناب الشيخ محمد شبل إلى أن وصلوا مدينة كرمانشاه فنزلت المخدّرات في دار على حدة والرجال في بيت آخر واستمر أمر التبليغ على ما كان عليه في بغداد ولما علم العلماء بذلك حكموا بإخراج الجميع من المدينة وهذا حفّز حاكم المدينة وأناسًا آخرين على مهاجمة السيدات ونهب ممتلكاتهن ثم أركبوا السيدات هودجًا مكشوفا وذهبوا بهن إلى الصحراء حيث تركوهن في العراء يتخبطن في البادية بلا زاد ولا فراش. عند ذلك، كتبت الطاهرة لوالي كرمانشاه تقول: "إننا مسافرون وضيوف (وجاء في الحديث): "أكرموا الضيف ولو كان كافرا فهل من اللائق والجائز إهانة الضيف وتحقيره؟"، وما أن وصل ذلك إلى الوالي حتى أمر بإعادة المسروقات وكل ما سلب من السيدات. فأعيدت في الحال إليهن بتمامها ثم أحضروا لهن الركائب من المدينة وأركبوهن إلى همدان حيث توافدت عليهن النساء حتى نساء العائلة المالكة لملاقاة جناب الطاهرة يوميًا.
آقامت جناب الطاهرة ومن معها في همدان مدة شهرين وفي غضونهما سمحت لبعض من كانوا برفقتها بالعودة إلى بغداد ورافقها الباقون إلى مدينة قزوين وبينما هي في الطريق إذ أتى ركب من آقاربها يعني إخوانها وقالوا لها: "إننا أتينا إلى هنا بأمر والدنا وإرادته حتى نأخذك منفردة إلى الدار. أما جناب الطاهرة فلم تقبل ذلك ومن ثمّ وصلوا جميعًا إلى قزوين. وذهبت جناب الطاهرة إلى دار أبيها مع رفيقاتها أما الرجال فقد نزلوا في نُزُل.
وكان جناب آقا ميرزا هادي قرين شمس الضحى قد عاد إلى قزوين منتظرًا إيّاها بعد أن تشرف بحضور حضرة الأعلى (الباب) في قلعة ماه كو (يعني قلعة جبل القمر)، ثم اصطحبها إلى أصفهان، ومنها توجه جناب آقا ميرزا هادي إلى قرية بدشت التي لاقى فيها وفي ضواحيها من الأذى والجفاء والمشاق والابتلاء وما لا يدخل تحت حصر فضلاً عن رجمه بالحجارة حتى أدركته المنية في إحدى النُزُل الخربة فدفنه أخوه المدعو آقا ميرزا محمد علي على رأس الطريق بين أصفهان وبدشت أما شمس الضحى فقد بقيت في أصفهان مشغولة بذكر الله في جميع آناتها قائمة بتبليغ أمرالله بين النساء بلسان فصيح بتوفيق من الله ومؤيدة بالبيان البديع وكانت ماجدات أصفهان يحترمنها كل الاحترام، وكان الكل على بيّنة من زهدها وورعها وتقواها وعفّتها المجسمة وعصمتها المشخّصة وهي مشتغلة إما بترتيلها للآيات ليل نهار أو بتفسير آيات الكتاب أو بشرح غوامض المسائل الإلهية أو بتبليغ أمرالله ونشر النفحات القدسية. فسبب كل ذلك اقتران حضرة سلطان الشهداء، روح المقربين له الفداء، بابنتها المحترمة أما هي فقد سكنت في سراي صهرها حضرة سلطان الشهداء فتوالت عليها الزائرات من النساء الماجدات ممن تعرف وممن لا تعرف من الأحباء والأغيار فزاد ذلك من اشتعالها بنار محبة الله وانجذابها إلى إعلاء كلمة الله بكل ما في مكنتها حتى لقبها الأغيار "فاطمة الزهراء" عند البهائيين.
ولما استمر الحال على هذا المنوال اتفق كل من الرقشاء والذئب (أما الرقشاء فهو المدعو ميرزا محمد حسين إمام الجمعة بأصفهان، والذئب هو المدعو الشيخ محمد باقر الأصفهاني قد جرى القلم الأعلى بتلقيب الأول بالرقشاء والثاني بالذئب) وأصدرا فتوى بقتل حضرة سلطان الشهداء وشقيقه حضرة محبوب الشهداء فباغتهما بالهجوم عليهما كل من الرقشاء وأعوانه والذئب والجلادون والشرطة المملوءة قلوبهم بالجفاء وصفدوهما بالسلاسل والأغلال وساقوها إلى السجن ثم سطوا على سرايهما وبددوا محتوياتها ولم تنج الأطفال الرضع من أذاهم وصبوا على أقرباء هذين الشخصين المقدّسين سياط الطعن واللعن والسب والضرب والتعذيب بدرجة لا توصف.
وقد حكى لي أثناء وجودي في باريس المدعو – ظل السلطان – مؤكدًا ما حكاه بالأيمان المغلّظة بأنه طالما نصح هذين السيدين الجليلين بالإقلاع عن معتقدهما دون جدوى. وقال: "إنني دعوتهما ذات ليلة وألححت عليهما بترك ما هما عليه، وأريتهما أن حضرة الشاه قد أمر بقتلهما ثلاث مرات، وقد أتى المرسوم الشاهاني بالحكم القطعي في هذا الصدد، وإذًا لا مفر من أنكما تتبرآن من هذا الدين أمام العلماء. فأجابا بما يلي: "يا بهاء الأبهى، إن روحينا مقدمتان قربانًا"، وفي النهاية قبلت أن يقولا: "إننا لسنا بهائييْن، وقلت لهما إنني أكتفي بهاتين الكلمتين وأحرر واقعة الحال لجلالة الشاه متخذا إقراركما وسيلة لخلاصكما ونجاتكما"، فقالا: "إن هذا لا يكون منا أبدًا، إننا بهائيان، يا بهاء الأبهى! إننا لمتعطشان لشرب كأس الشهادة الكبرى". فاغتظت وخاطبتهما بحدة وشدة علّهما ينصرفا عن تصميمهما فما أمكن، فاضطررت أخيرًا إلى تنفيذ ما جاء بالفتوى التي أصدرها الرقشاء والذئب الضاري".
وبالإجمال، إن رجال الحكومة، بعد استشهاد هذيْن الشخصين تعقبوا السيدة شمس الضحى التي اضطرت أن تذهب إلى بيت أخيها، والحال أن أخاها لم يكن مؤمنا تمامًا وهو مشهور في أصفهان بالزهد والتقوى والعلم والفضل والاعتكاف والانزواء ولذا أصبح محل احترام الجميع واعتمادهم، وظلّت الحكومة تتعقبها وتبحث عنها إلى أن علمت بمكانها فاستدعتها، بالاتفاق مع علماء السوء. فاضطر أخوها أن يأخذها إلى بيت الحاكم، فدخلت إلى محل الحريم أما أخوها فقد انتظرها خارج باب الدار، وما أن وصلت إلى مدخل محل الحريم قابلها الحاكم وأخذ يركلها بكل ما أوتي من قوة حتى سقطت على الأرض مغشيًا عليها، وعند ذلك نادى الحاكم زوجته وقال لها، انظري فاطمة البهائيين الزهراء، ثم نقلوها إلى إحدى الغرف وأخوها خارج السراي محتار في أمره، وأخيرًا تقدم إلى الحاكم ليشفع لأخته، ثم قال: "إن أختي هذه قد أوشكت على الموت من شدة الضرب، فما الفائدة من وجودها في داركم ما دام الأمل في حياتها مفقود، وأملي أن تسمحوا لي بأخذها إلى دارنا، إذ من باب أولى أن تقضي نحبها هناك، مع العلم بأن هذه السيدة من السلالة الطاهرة، لم تقصّر ولم تقترف جرمًا –وذنبها- فقط أنها منسوبة إلى زوج ابنتها". فقال الحاكم: "إنها لمن صناديد البهائيات، ولا بد من أنها سوف تحدث هيجانًا بعد"، فقال أخوها: "إنني أتعهد بأنها لا تنبس ببنت شفة ومن المؤكد أنها سوف لا تعيش إلا أيامًا قليلة، إذ إنها جسم بلا روح ولا حياة، وقد أخذ الضعف منها كل مأخذ، ووهن العظم منها وأصبحت عرضة لمختلف الصدمات".
ولما كان أخوها محترمًا للغاية ومحل اعتماد الخاص والعام، لهذا، سمح له الحاكم وسلّمه أخته (شمس الضحى). فمضت في دار أخيها أيامًا تبكي وتنتحب ليل نهار وكأنها في مأتم وعزاء، وهذا أقلق راحة أخيها، والأعداء لا يفترون عن مناوأتها وقَلْبِ ظهر المجن لها يوما إثر يوم. ولما شاهد أخوها ذلك، رأى من المصلحة، حسمًا للضوضاء والغوغاء، أن يأخذها إلى مشهد قصد زيارة أهل البيت، وأسكنها في بيت على حدة، بجوار ضريح حضرة علي بن موسى الرضا عليه السلام. ولما كان أخوها غارقًا في بحار الزهد والتقوى، كان لا ينقطع عن زيارة أضرحة آل البيت في كل يوم من الصباح الباكر إلى الزوال وبعد الظهر يذهب إلى البقعة المباركة قصد التعبد والصلاة وتلاوة الأدعية والأذكار إلى آخر النهار. وكانت شمس الضحى، أثناء تغيب أخيها عن البيت، تعقد مجالسًا لنساء الأحباء وتتحدث إليهن لأنها كانت لا تتحمل السكوت لاشتعال نار محبة الله في قلبها، وكانت نساء الأحباء يكثرن من الذهاب إليها ويستمعن لبياناتها التي كانت تلقيها بلسان فصيح وعبارات بليغة.
وعلى الجملة، إنه لما كانت الأحوال في شدة الصعوبة في مشهد، في تلك الأيام، وكان الأعداء يتعقبون الأحباء، حتى إنهم إذا ما عثروا على أحد من الأحباء قتلوه، وانعدمت الراحة والأمان. أما شمس الضحى، فقد أخذ من يدها زمام الاختيار، واستمرت على ما هي عليه ورمت بنفسها في غمار البلايا غير هيابة ولا وجلة ولم تهدأ عن التبليغ. ولم يكن عند أخيها خبر عما تجريه، لأنه لم يعاشر أحدا ويمضي نهاره وليله في الزيارات للأضرحة المذكورة ويعود إلى البيت قصد النوم، ولم يعرف أحدا في تلك الجهة لانزوائه، حتى كان لا يحادث أحدا. ومع كل هذا، فقد شاهد في المدينة غاغة ولغطًا يؤديان إلى شديد التصادم (مما تجريه أخته). ولما كان دائمًا ساكنًا لا يُسمع له صوت، فلم يتعرض لأخته بل أخذها توًا إلى أصفهان وأرسلها إلى دار ابنتها حرم سلطان الشهداء، ولم يُنزلها في داره.
وبالاختصار، إن شمس الضحى أمضت أيامًا في أصفهان وكانت جريئة في إلقاء البيانات الأمرية، وبكل جسارة كانت تنشر نفحات الله. ومن اشتعالها بنار محبة الله كانت تفتح لسانها بالتبليغ لكل طالب، ولما كان متوقعًا وقوع أسرة سلطان الشهداء مرة أخرى في المصائب الشديدة وأن تصبح في شديد المتاعب والقلق، لهذا، تعلقت إرادة المبارك بأن تحضر هذه الأسرة إلى السجن الأعظم، وصدر لها الأمر المبارك بذلك. فسافرت شمس الضحى وحرم سلطان الشهداء وجميع الأطفال إلى الأرض المقدّسة، وأمضى جميعهم فيها أوقاتهم في غاية من الروح والريحان والسرور الذي لا مزيد عليه إلى أن توفي، في مدينة عكاء، نجل حضرة سلطان الشهداء المدعو آقا ميرزا عبدالحسين، متأثرًا بمرض السل الذي أصابه في أصفهان، فضلاً عما لآقاه من المصاعب والصدمات. فتأثرت لوفاته السيدة شمس الضحى وحزنت حزنًا عظيمًا، واكتوت بنار الفرقة والحسرة، وعلى الأخص، لحدوث المصيبة الكبرى والرزية العظمى (وهي الصعود المبارك) فتزلزل بنيان حياتها، وأخيرا وهنت قواها فلازمت الفراش بعد أن كانت كالشمعة المضيئة. مع كل هذا لم تركن إلى السكوت والسكون، إذ كانت طورًا تتحدث عن أيامها السالفة، وطورًا عن الوقائع الأمرية، وطورًا ترتل الآيات البينات، وطورًا تتضرع وتتلو الأنجية، حتى طارت وهي في السجن الأعظم إلى العالم الإلهي، وتخلصت من عالم التراب وخلعت الثوب الترابي، ورحلت إلى عالم الأنوار. عليها التحية والثناء وعليها الرحمة العظمى في جوار رحمة ربها الكبرى.
اللوح الذي نزل بشأنها
وإنك أنت يا إلهي، ترى في جوار روضتك الغناء وحوالي حديقتك الغلباء مجمع أحبائك واجتماع أرقائك في يوم من أيام عيدك الرضوان يوم السعيد الذي فيه أشرقت بأنوار تقديسك على الممكنات وأظهرت أنوار توحيدك على الآفاق. وخرجت من الزوراء بقدرة وسلطنة أحاطت الآفاق، وعظمة خرت لها الوجوه وذلت لها الرقاب وعنت لها الوجوه وخضعت لها الأعناق متذكرين بذكرك منشرحين الصدر بأنوار ألطافك، ومنتعشين الروح بآثار إحسانك، وناطقين بالثناء عليك ومتوجهين إلى ملكوتك ومتضرعين إلى جبروتك، ليتذكروا بذكر أمتك المقدّسة النوراء وورقة شجرة رحمانيتك الخضراء، الحقيقة النورانية والكينونة المتضرعة الرحمانية التي ولدت في حضن العرفان ورضعت من ثدي الإيقان ونشأت في مهد الاطمئنان وانتعشت في حجر محبتك يا رحيم ويا رحمن، وبلغت أشدها في بيت انتشرت منها نفحات التوحيد على الآفاق، وأصابتها الضرّاء والبأساء في صغر سنها في سبيلك يا وهّاب وتجرعت كؤوس الأحزان والآلام منذ نعومة أظفارها حبا بجمالك يا غفار.
إلهي أنت تعلم البلايا التي احتملت بكل سرور في سبيلك، والرزايا التي قابلتها بوجه طافح بالسرور في محبتك. فكم من ليال استراحت النفوس في مضاجعهم، وهي تبتهل وتتضرع إلى ملكوتك. وكم من أيام اطمأنت عبادك في حصن أمنك وأمانك وهي مضطربة القلب مما جرى على أصفيائك.
فيا إلهي، مضت عليها أيام وأعوام، كلما أصبحت بكت على مصائب أرقائك، وكلما أمست ضجت وصرخت واحترقت حزنا على ما ورد على أمنائك، وقامت بجميع قوائها على عبادتك والتضرع إلى سماء رحمتك والتبتل إليك والتوكل عليك. وظهرت بإزار التقديس في حلل التنزيه عن شؤون خلقك إلى أن دخلت في ظل عصمة عبدك الذي أكرمت عليه بمواهبك الكبرى، وأظهرت فيه آثار رحمتك العظمى، ونوّرت وجهه بنور البقاء في ملكوتك الأبهى، وأسكنته في نزل اللقاء في الملأ الأعلى، ورزقته كل الموائد والآلاء ولقبته بسلطان الشهداء. فعاشت أعوامًا في حمى ذلك النور المبين، وخدمت بروحها عتبتك المقدّسة النوراء بما كانت تهيئ الموائد والمنازل والمضاجع لعموم أحبائك، وليس لها سرور إلاّ ذلك. فخضعت وخشعت وبخعت لكل أمَةٍ من إمائك وخدمتها بروحها وذاتها وكينونتها حبا بجمالك وطلبا لرضائك إلى أن اشتهر بيتها باسمك وشاع صيت قرينها بنسبته إليك. واهتزت وربت أرض الصاد بنزول ذلك الفيض المدرار من ذلك الجليل المغوار وأنبتت رياحين معرفتك وأوراد موهبتك واهتدى جمّ غفير إلى معين رحمانيتك، فقاموا عليه جهلاء خلقك والزنماء من بريتك وأفتوا بقتله ظلما وعدوانا وسفكوا دمه الطاهر جورا واعتسافا، وذلك الرجل الجليل يناجيك تحت اهتزاز السيف ويقول: "لك الحمد يا الهي على ما وفقتني على هذا الفضل المشهود في اليوم الموعود واحمرت الغبراء بثاري في سبيلك وأنبتت بأزهار حمراء. لك الفضل ولك الجود على هذه الموهبة التي كانت أعظم آمالي في حيز الوجود. ولك الشكر بما وفقتني وأيدتني وسقيتني هذا الكأس الذي مزاجها كافور في يوم الظهور عن يد ساقي الشهادة الكبرى في محفل الحبور. إنك أنت المعطي الكريم الوهّاب.
وبعد ما قتلوا أغاروا إلى بيته المعمور وهجموا هجوم الذئاب الكاسرة والسباع الضارية ونهبوا الأموال وسلبوا الأمتعة والحليّ والحطام، فكانت هي مع أفلاذ كبدها في خطر عظيم. وكان هذا الهجوم الشديد عند انتشار نبأ قتل الشهيد. فضج الأطفال وارتعب قلوب الأولاد وبكوا وصرخوا وارتفع العويل من ضواحي ذلك البيت الجليل فلم يرثِ لهم أحد ولا ترق لهم نفس، بل زادوا الظلمة طغيانا واشتد جحيم الاعتساف نيرانا فما ابقوا من عذاب إلاّ أجروه وما بقي من عقاب إلا نفذوه وبقت هذه الورقة المباركة مع أطفالها تحت سلطة الظالمين وتعرض الغافلين بلا ناصر ومعين وقضت أيامها وأنيسها بكاؤها وجليسها ضجيجها وقرينها أحزانها وخدينها آلامها. وما وهنت يا إلهي مع كل هذه الآلام في حبك ولا فترت يا محبوبي مع هذه الأحزان في أمرك فتتابعت عليها المصائب والرزايا، وترادفت عليها المحن والبلايا، وتحملت وصبرت وشكرت وحمدت على هذه المحنة العظمى وعدتها أنها هي المنحة الكبرى يا ذا الأسماء الحسنى، ثم تركت وطنها وراحتها ومسكنها ومأويها وطارت كالطيور مع أفراخها إلى هذه الأرض المقدّسة النوراء حتى تتعشش في أوكارها وتذكرك كالطيور بألحانها وتشتغل بحبك بجميع قويها وخدمتك بقلبها وروحها وكينونتها وخضعت لكل أمَةٍ من إمائك وخشعت لكل ورقة من أوراق حديقة أمرك وانقطعت عن دونك وتذكرت بذكرك وكان يرتفع ضجيجها في الأسحار وصوت مناجاتها في جنح الليالي ورابعة النهار إلى أن رجعت إليك وطارت إلى ملكوتك والتجأت إلي عتبة رحمانيتك وصعدت إلى أفق صمدانيتك.
أي رب أجبها بمشاهدة لقائك وارزقها من مائدة بقائك وأسكنها في جوارك وارزقها ما تحب وترضى في حديقة قدسك وأكرم مثواها وظلل عليها بسدرة رحمانيتك، وأدخلها في خيام ربانيتك واجعلها آية من آياتك ونورا من أنوارك. إنك أنت المكرم المعطي الغفور الرحيم.