من النساء الطاهرات والآيات الباهرات اللائي هن قبس من نار محبة الله وسراج موهبة الله – جناب الطاهرة التي كان اسمها المبارك – أم سلمة – وهي ابنة الحاج ملا صالح المجتهد القزويني شقيق الملا تقي إمام الجمعة في قزوين.
اقترنت (الطاهرة) بالمدعو ملا محمد ابن الحاج ملا تقي المذكور ورزقت منه بثلاثة أولاد وهم ذكران وبنت واحدة. هؤلاء الأولاد الثلاثة حرموا من المواهب التي نالتها والدتهم.
وبالإجمال، إن أباها قد عين لها معلّما منذ طفولتها. فجدّت في تحصيل العلوم والفنون حتى طال باعها وعلا كعبها في علوم الأدب بدرجة أن أبويها قالا: "لو كانت هذه الابنة ولدًا ذكرًا لأصبح ربّ المنزل ولأخذ مقام والده بين فضلاء القوم".
وبينما كانت الطاهرة في دار ابن خالتها المدعو – ملا جواد – ذات يوم، إذ عثرت في مكتبته على كتاب من مؤلفات المرحوم الشيخ أحمد الإحسائي فتصفحته، وما كادت أن تأتي على آخره حتى بهرتها عباراته وراقت لها آراؤه ثم طلبت من ملا جواد أن يعيرها إياه لتطالعه في خلوتها. فأكبر الملا ذلك وقال لها: "كيف أعيرك إياه وأبوك هو ضد كلٍ من النورين النيرين الشيخ أحمد الإحسائي والسيد كاظم الرشتي، والحقيقة، إذا استشم أنه قد وصل إلى سمعك أو أنك قد وقفت على شيء من نفحات المعاني المتضوعة من رسائل هذين العظيمين لقام على قتلى ولحل عليك غضبه الشديد". فقالت الطاهرة: "اعلم أنني، كنت ولا أزال متعطشة إلى تجرّع مثل هذا الكأس الصافي ومتشوقة لمثل هذه البيانات والمعاني منذ أمد غير قصير. وعليه أرجوك أن تتكرم على بكل ما لديك من هذه المصنفات ولو أدى الحال إلى اشمئزاز والدي". فارتاح الملا جواد لجوابها ولهذا أرسل لها كل ما وصل إلى يده من مؤلفات حضرتي الشيخ والسيد.
وتصادف أن دخلت الطاهرة على والدها ذات ليلة وهو في غرفة المطالعة وفاجأته بالتحدث عن مطالب المرحوم الشيخ أحمد الإحسائي وخاضت في مسائله. فما كاد والدها يفهم من كلامها أنها لعلى بينة من مطالب الشيخ حتى انهال عليها بالسب والشتم والتأنيب، ثم قال لها: "إن الميرزا جواد (يعني الملا جواد المذكور) قد أضلك السبيل". فقالت: "يا أبتِ، إنني قد استنبطت من مؤلفات ذلك العالم الرباني – حضرة الشيخ المرحوم – معانٍ لا حصر لها، لأن مضامين كل ما جاء به مستندة إلى روايات الأئمة الأطهار. والمعلوم أن حضرتك، أيها الوالد المحترم، تدعو نفسك عالمًا ربانيًا وتعتبر عمي المحترم فاضلاً ومظهرًا لتقوى الله. والحال أن لا أثر مشهود فيكما من تلك الصفات".
ثم أخذت تباحث أباها في مسائل القيامة والحشر والنشر والبعث والمعراج والوعد والوعيد وظهور حضرة الموعود حتى ضاق والدها ذرعًا لقلة بضاعته ولم يقوَ على دحض حججها وأخيرًا أمطرها وابلاً من السباب واللعنات. وحدث أنها روت لأبيها ذات ليلة حديثًا من المأثور عن جعفر الصادق عليه السلام لإثبات مدعاها. ورغم أن الحديث كان برهانًا دامغًا على مدعاها فقد جنح أبوها إلى السخرية والاستهزاء. فقالت: "يا أبتِ، إن هذا من البيانات المنسوبة لحضرة جعفر الصادق عليه السلام فَلِمَ تستوحش منه وتظهر السخرية. وفي النهاية، قطعت حبل المذاكرة والمناقشة مع والدها وكانت تكاتب حضرة المرحوم – السيد الرشتي - وتستخبر منه عن جل المسائل الإلهية المعضلة. وهذا ما جعل حضرته يلقبها ب "بقرة العين" حتى إنه قال: "حقًا، إن قرة العين أزاحت الستار عن وجه مسائل المرحوم الشيخ أحمد الإحسائي". وقد نالت هذا اللقب في أول الأمر وهي في مدينة بدشت واستصوبه حضرة الأعلى (الباب) وجرى به قلمه في ألواحه المباركة. فأثّر ذلك في الطاهرة أيّما تأثير وأهاجها حتى إنها سافرت إلى كربلاء قصد التشرف بملآقاة الحاج سيد كاظم الرشتي. وما أن وصلت كربلاء حتى علمت أن السيد قد انتقل إلى الملأ الأعلى قبل وصولها بعشرة أيام ولذا لم يتيسر لها ملآقاته.
كان حضرة السيد الرشتي المرحوم يبشر تلاميذه، قبل وفاته، بظهور الموعود ويقول لهم: "اذهبوا وجوسوا خلال الديار وطوفوا في الأرض وابحثوا عن سيدكم". فذهب نفر من أَجِلَّةِ تلاميذه إلى الكوفة واعتكفوا بمسجدها واشتغلوا بالرياضة (التنسّك). وذهب بعضهم إلى كربلاء مترصدين ظهور الموعود وكان من جملتهم حضرة الطاهرة التي أشغلت نفسها بالصوم نهارًا وبالتهجد وتلاوة الأنجية ليلاً. وبينما هي سابحة في هذا الخضم إذ رأت رؤية صادقة في وقت السَّحر وهي منقطعة عن العالم فرأت سيدًا شابًا بعمامة خضراء يرتدي عباءة سوداء وما أن وقع قدمه على الأرض حتى ارتفع إلى أوج الهواء ثم انتصب يصلي ويتلو في قنوته بعض الآيات. فحفظت حضرتها آية مما كان يتلوه. ولما استيقظت دوّنتها في مذكرتها. ولما انتشر، بعد ظهور حضرة الأعلى (الباب) كتابه الموسوم بأحسن القصص (قيوم الأسماء)، تناولته وبينما هي تتصفحه إذ وقع نظرها على نفس الآية التي حفظتها في المنام (كما ذكرنا) فقامت على الفور بشكران الله وخرّت على الأرض للحق وأيقنت أن هذا الظهور حق لا ريب فيه. وعندما بلغتها البشرى بظهور الموعود وهي في كربلاء أخذت في التبليغ وكانت تترجم للقوم أحسن القصص وتفسير آياته لهم. ثم إنها وضعت مصنفات باللغتين الفارسية والعربية ولها منظومات في الغزل وغيره من الروحانيات وكانت عظمة خضوعها وخشوعها ظاهرة للعيان ولم تترك مستحبًا حتى أوردته.
ولما بلغ علماء السوء في كربلاء خبرها، وتأكدوا أن هذه السيدة تدعو الناس إلى أمر جديد، وأن دعوتها قد انتشرت، رفعوا شكايتهم إلى الحكومة وكانت النتيجة قيام المعارضة والتعرض الشديد من قبل الهيئة الحاكمة، بل ومن كل الجهات. وعندما قامت الحكومة بالتحقق في الأمر اعتقدت بأن شمس الضحى هي جناب الطاهرة ولهذا تعرّضوا لها. وعندما علم الأعداء بأنه تمّ إلقاء القبض على جناب الطاهرة أفرجوا عن شمس الضحى، ومن ثمّ أرسلت جناب الطاهرة رسالة إلى الحكومة تقول إنها مستعدة لإجابة كل ما تطلبه الحكومة ولا لزوم للتعرض لشمس الضحى. وما لبثت الحكومة أن وضعت دار الطاهرة تحت المراقبة وطلبت من رئاسة الحكومة في بغداد أن تحدّد لها أسلوب معاملة هذه السيدة. واستمرت دارها تحت المراقبة ثلاثة شهور ولم يصرّح لأحد بدخول دارها أو بمحادثتها. ولما طال أمد حضور الجواب من حكومة بغداد، قامت حضرة الطاهرة بالاستفهام عما تم بشأنها. عند ذلك، رأت الحكومة إرسالها إلى بغداد حتى يأتي الجواب بشأنها من إسلامبول ثم صرحت لها بمغادرة بيتها والذهاب إلى بغداد على أن تأخذ معها كلا من السيدة شمس الضحى وورقة الفردوس أخت جناب (الملا حسين البشروئي) باب الباب ووالدتها أيضاّ. وما وصلن بغداد حتى أنزلهن حضرة الشيخ محمد شبل والد حضرة محمد مصطفى البغدادي في داره. ولما ضاق سكنها بالزائرين والزائرات اتخذت لها مسكنًا فسيحًا فاتسع لها مجال التبليغ ليل نهار فازدادت المراودة والاتصال بينها وبين أهالي بغداد وذاعت شهرتها في المدينة وهاج القوم واضطربوا وعلا صياحهم بينما كانت الطاهرة في معمعة الأخذ والرد مع علماء الكاظمين الذين كانوا يباحثونها ليقفوا على حقيقة الحال وكانت تقنع كل من حادثها من العلماء بأدلة واضحة وبراهين دامغة. وفي النهاية، كتبت لعلماء الشيعة بأنها ستقوم على مباهلتهم (يعني مناظرتهم) إن لم يقتنعوا بما تقيمه من الأدلة الواضحة والبراهين القاطعة. فأثار ذلك حفيظة العلماء الذين أجبروا الحكومة على أن ترسلها هي وبعض النساء إلى دار مفتي بغداد المدعو "ابن الآلوسي". فآقامت في دار المفتي ثلاثة شهور في انتظار الأمر من الآستانة. كان المفتي، خلال مدة آقامتها في بيته يباحثها في مسائل علمية معضلة فكانت تجيبه بأجوبة كافية شافية، وكان ذلك يثير فيه عوامل الغيظ والغضب مستغربًا مما كانت عليه من طلاقة اللسان وآقامة الحجج والبراهين الدامغة. واتفق أن ابن الآلوسي قد رأى رؤية وقصها على حضرة الطاهرة وطلب منها تعبيرها قائلا: "إنني رأيت في منامي أن علماء الشيعة أتوا إلى ضريح سيد الشهداء (الحسين بن علي) المطهر ورفعوا مقصورة الضريح ونبشوا قبره المنور وعروا جسده المطهر وكشفوه للعيان ثم أرادوا أن يأخذوا رفاته المباركة، فمَنَعْتهم عن ذلك ورميت نفسي على الرفات". فقالت له السيدة الطاهرة: "إن تعبير رؤياك هو أنك ستخلّصني من يد علماء الشيعة". فقال ابن الآلوسي: "وهذا هو تعبيري لها أيضًا".
ولمّا وقف ابن الآلوسي على مدى اطلاعها وطول باعها في حل المسائل العلمية وشواهد التفسير كان يصرف أغلب أوقاته في طرح الأسئلة عليها فكانت تجيبه بأجوبة شافية وعلى الأخص فيما يتعلق بالحشر والنشر والميزان والصراط وما إلى ذلك. وكانت تروق له أجوبتها. واتفق أن أتى حضرة والد ابن الآلوسي إلى الدار وما أن وقع نظرة على حضرة الطاهرة حتى انطلق لسانه بأنواع السباب والشتائم واللعنات والطعن في الطاهرة بكل وقاحة وقلة حياء. فخجل ابنه من ذلك وأخذ في تقديم الأعذار لحضرة الطاهرة وقال لها: "إن الأمر بشأنك قد أتى من إسلامبول وفيه يأمر السلطان بإطلاق سراحك شريطة ألا تقيمي في الممالك العثمانية، وعليه يجب عليك أن تعدي عدة السفر وتبارحي المملكة". فما لبثت الطاهرة أن خرجت من بيت المفتي مع بعض النسوة وتهيأن للرحيل وبارحت بغداد في حراسة بعض الأحباء العرب بسلاحهم راجلين وكان من جملتهم حضرة الشيخ سلطان والشيخ محمد شبل ونجله الجليل محمد مصطفى البغدادي والشيخ صالح وهؤلاء الأربعة كانوا يمتطون جيادهم. وقد قام جناب الشيخ بدفع جميع النفقات حتى وصلوا مدينة – كرمانشاه – فنزلت النساء في دار على حدة والرجال في دار أخرى. فتوافد أهل المدينة على حضرة الطاهرة بلا انقطاع للوقوف على ما لديها من مواضيع جديدة. وبعد أيام قلائل، هاجت العلماء وحكموا بإخراجها من المدينة فهاجم دارها مأمور الشرطة وأعوانه ونهبوا متاعها وبدّدوا كل ما كان بالدار ثم حملوا النساء في هودجٍ مكشوفٍ وساروا بالجميع من رجال ونساء إلى الصحراء وتركوهم يهيمون في البادية بلا زاد ولا فراش. عند ذلك كتبت الطاهرة إلى أمير المقاطعة تقول: "أيها الحاكم العادل، نحن بمنزلة ضيوف على حضرتك، فهل يستحق الضيوف مثل هذه المعاملة؟"
ولما وصلت رسالة الطاهرة إلى حاكم كرمانشاه قال: "إنني براء من مثل هذه المعاملة ولا علم لي بهذه السيدة. إن العلماء هم الذين أيقظوا هذه الفتنة". ثم أصدر أمرًا صارمًا بإعادة كل ما سلبه أو بدده المأمورون فورا إلى دار الحكومة، وقد كان. وبعد ذلك، أمر الحاكم بإحضار الركائب وأركبوا الطاهرة ومن في معيتها من وسط الصحراء إلى مدينة همدان. فتخلصوا من تلك الورطة وآقاموا في همدان هانئين حيث زار الطاهرة لفيف من علماء المدينة وكامل أفراد الأسرة الشاهانية قصد الاستفاضة من بياناتها القيّمة ثم سافرت إلى قزوين مع بعض رفاقها وأرسلت البقية إلى بغداد. وبينما هي في طريقها إلى قزوين إذ لآقاها كل من حضرة شمس الضحى والشيخ صالح وطلبا إليها أن تذهب معهما منفردة إلى دار أبيها فأبت إلا أن يكون معها رفيقاتها وعلى هذا الشرط ذهبت هي ورفيقاتها إلى بيت أبيها في قزوين، وأما الرجال الذين كانوا يحافظون عليها فقد نزلوا في النزل المعد للقوافل. ثم انتقلت الطاهرة بعد أيام معدودات إلى دار أخيها حيث جاء لملآقاتها نساء الأعيان واستمر الحال على هذا المنوال إلى أن وقع حادث قتل الملا تقي عمها. فألقت الحكومة القبض على جميع البابيين في قزوين وأرسلت بعضهم إلى طهران ثم أعادوهم إلى قزوين وقتلوهم.
أما السبب المجهول لقتل ذلك الظالم– الحاج ملا تقي – فهو كونه صعد على المنبر وأمطر حضرة الشيخ الأكبر الجليل أحمد الإحسائي وابلاً من السباب والطعن واللعنات فأوقد بذلك نار الفتنة ووقع القوم في نزاع وخصام وبلغ مسامع القاصي والداني ما زلف به لسان الملا تقي من الشتائم والألفاظ النابية والعبارات الركيكة الدالة على قلة الحياء وكان من بين الذين سمعوا ما قاله الملا تقي شخص من أهالي شيراز حديث العهد باعتناق الأمر وقد كبُر عليه ما تفوه به الملا تقي من الألفاظ الخشنة في حق الشيخ أحمد الإحسائي فانتظر إلى أن جن الليل ثم ذهب إلى المسجد حيث الملا تقي المذكور ودس في حلقه رمحًا وركن إلى الفرار. ولما قابله الأحباء في الصباح أنّبوه وزجروه على ما فعل. وما كادت الحكومة تقف على ما وقع حتى أمرت باعتقال بعض الأتباع قصد التحقيق معهم أما هم فقد نفوا علمهم بالحادث وهذا مما زاد الأمر إبهامًا. وبعد عدة أيام سلم القاتل نفسه للحكومة واعترف بما اقترفت يداه وقال: "إن السبب الذي جعلني أقتل الملا تقي هو كونه قد سبّ ولعن المرحوم الشيخ أحمد الإحسائي علانية وعلى مسمع مني فهاجني ذلك فقتلته، وها أنا أسلم الآن نفسي لتطلقوا سراح من اعتقلتموهم بسبب هذا الحادث وتخلوا سبيلهم لأنهم أبرياء وأنا وحدي الجاني" فاعتقلوه وكبلوه بالسلاسل والأغلال وأرسلوه مع بقية المعتقلين الأبرياء إلى طهران مكبلين بالأصفاد.
وفي طهران، لم تُخْلِ الحكومة سبيل المعتقلين دون جرم مع اعتراف القاتل بارتكاب الجريمة. أما القاتل فقد تمكن من الهرب من السجن ليلاً إلى دار من هو حقًا صدفة اللؤلؤ الوحيدة، الصادق في محبة الله، ذلك الكوكب المضيء في برج الفداء (حضرة رضا خان) بن رئيس ديوان محمد شاه المدعو محمد خان، وآقام لديه عدة أيام ثم فرّ خفية هو ورضا خان المذكور رادفَين على صهوة جواد واحد إلى قلعة مازندران. ولما علم محمد خان المشار إليه بفرارهما أرسل في طلبهما عددًا من الراكبة إلى جميع الجهات، فلم يعثروا عليهما بعد أن أعياهم البحث والتنقيب، أما هما فقد وصلا الطبرسي واستشهدا فيها.
أما الأحباء الذين اعتقلوا ظلمًا وعدوانًا فقد أُرسل بعضهم إلى قزوين حيث أسقوهم جام الاستشهاد.
وحدث أنه، بينما كان القائل في دار رضا خان المذكور، إذ دعاه ذات يوم أحد رؤساء الديوان وهو المدعو – ميرزا شفيع – وقال له: "يا حضرة الفاضل، هل أنت من أرباب الطرق أم من أهل شريعة من الشرائع؟ فإن كنت تنتمي إلى شريعة ما فكيف تقدم على قتل ذلك المجتهد الفاضل بأن أحدثت في عنقه جرحًا عميقا أدى إلى موته! وإن كنت من أرباب الطرق فليس من شروط أي طريقة كانت إيصال الأذى إلى مخلوق. فكيف أقدمت على قتل ذلك العالِم الشفيق المرحوم الملا تقي؟" وكانت القاتل يجيب بقوله: "يا صاحب الديوان هناك حقيقة واحدة وهي أنني قد جازيته جزاءًا يستحقّه".
وبالإجمال، إن هذه الحوادث وقعت قبل ذيوع الأمر وقبل أن تتضح حقيقته، لأنه لم يَدُرْ في خلد أحد، في ذلك الحين، أن دورة ظهور حضرة الأعلى (الباب)، روحي له الفداء، تنتهي بظهور الجمال المبارك، وعند ذلك يمحى أساس الانتقام من بين البرية ويوطّد أساس شريعة الله وهو "وأن تُقتلوا خير من تَقتلوا"، وينهار بنيان الحرب والقتال ولا تكون لمثل هذه الحوادث من أثر. هذا، وقد سطع بظهور الجمال المبارك، والحمد لله، نور الصلح والسلام وحلّت المظلومية الكبرى. إذ حدث أنّ الرجال والنساء والأطفال في مدينة يزد، كانوا هدفًا للسهام وعرضة للسيوف والانتقام، وحدث أن هجم على هؤلاء المظلومين علماء السوء وأرباب الحكومة يدًا واحدة وسفكوا دماءهم وهم أبرياء وقطعوا أجساد المخدّرات إربًا إربًا، وطعنوا الأيتام بخناجر الجفاء وأبانوا أعناقهم وألقوا بأجسامهم في النيران بعد تمزيقها. ومع كل هذا، لم يتطاول أحد من الأحباء على هؤلاء الأعداء، بل كان الأحباء في كربلاء كلما شاهدوا الأعداء قادمين عليهم شاهرين سيوفهم ليقتلوهم وضعوا في أفواه تلكم الأعداء قطعًا من السكّر النبات قائلين: "هذا ليكون طعم حلاوة السكر في أفواهكم عندما تقتلونا نحن المساكين. لأن هذا مقام القداسة والشهادة الكبرى ومنتهى آمالنا".
وانتهى الحال، بجناب الطاهرة في قزوين بعد مقتل عمها غير الورع، أن وقعت في مخالب المصائب والأحزان والسجون وكاد قلبها أن يتفتت من هذه الوقائع المؤلمة رغم عظيم تضايقها من كثرة المراقبة من الشِحنة والشرطة. وبينما هي على هذا الحال، وإذا بالجمال المبارك قد أرسل المدعو جناب آقا ملا هادي القزويني زوج خاتون جان المشهورة من طهران إلى جناب الطاهرة قصد إحضارها إلى طهران فتمكن بحسن تدبيره من إحضارها إلى طهران فوصلتها ليلاً وذهبت إلى السراي المبارك حيث سكنت في الطابق العلوي. وما أن وصل خبر مجيئها إلى حكومة طهران حتى أخذت في البحث عنها، وأصبحت حديث القوم ولم يعلم مكان وجودها. ورغم كل هذا، كان يرد عليها الأحباء حيث هي بلا انقطاع وكانت تخاطب الرجال من وراء حجاب.
حدث أن حضر ذات يوم جناب آقا سيد يحيى الوحيد، ذلك الشخص الفريد، روح المقربين له الفداء، وجلس في غرفة الضيوف وكانت الطاهرة جالسة وراء الحجاب وكنت أنا نفسي (عبدالبهاء) إذ ذاك طفلاً جالسًا على حجرها وما لبثنا حتى أخذت الآيات والأحاديث تتدفق كالدر المنثور من فم جناب الوحيد في إثبات هذا الأمر وما لبثت الطاهرة أن هاجت ثم قالت: "يا يحيى، فأتِ بعمل إن كنت ذا علم رشيد. ليس الوقت وقت الأقوال والروايات إنما الوقت وقت الآيات البينات، وقت الاستقامة وهتك الأستار والأوهام وإعلاء كلمة الله، وقت تضحية الروح في سبيل الله. العمل! العمل! لابد من العمل!"
وبالإجمال، كان الجمال المبارك قد هيأ ما يلزم لراحة الطاهرة، من خدم وحشم، وما إلى ذلك وبعث بحضرتها إلى بدشت، وبعد عدة أيام تحرك الركاب المبارك إلى تلك الجهة ونزل خفية في بستان لجناب القدوس، روح المقربين له الفداء. أما هذا البستان فواقع في ميدان بمدينة بدشت تحيط به المياه الجارية والحدائق الغناء من ثلاث جهات وكأن ذلك البستان غبطة الجنان. أما حضرة الطاهرة، فكانت تقيم على حدة في بستان مجاور. وبعد قليل انتقل الجمال المبارك إلى بستان آخر ونصب خباءه ليقيم فيه حضرته. أما الأحباء، فقد نصبوا خيامهم في البستان الواقع في وسط الميدان وكان جناب القدوس وحضرة الطاهرة يتشرفان أثناء الليل بملآقاة الجمال المبارك. ولم تكن، إلى ذلك الحين، قد أعلنت قائمية حضرة الأعلى (الباب) (يعني أنه هو القائم الموعود). فقرّر الجمال المبارك هو وجناب القدوس إعلان الظهور الكلي وفسخ الشرائع الموجودة ونسخها. ثم اعتكف الجمال المبارك حكمة منه قصد النقاهة، وبعد ذلك، بارح جناب القدّوس خيمته وذهب على مرًاى من الجميع إلى فسطاط الجمال المبارك ولما علمت الطاهرة باعتكاف جمال القدم، أرسلت إليه ترجوه أن يشرف بستانها مدة النقاهة فأجابها حضرته بقوله: "إنني أفضّل الآقامة في بستاني هذا ويمكنك أن تحضري لدينا". فخرجت من بستانها سافرة وتوجهت إلى خيمة جمال القدم. عند ذلك صاحت قائلة: "إن هذا لنقرة الناقور ونفخة الصور وإن الظهور الكلي قد أعلن". وقع الكل في حيرة وارتباك وهم يقولون: "كيف نسخت الشرائع وكيف خرجت هذه المرأة سافرة؟ "فتفضل جمال القدم في ذلك الحين بقوله: "اقرءوا سورة الواقعة". فقرأها أحد القراء، ثم أعلنت الدورة الجديدة وظهور القيامة الكبرى. ففرّ جميع الأصحاب لأول وهلة وانصرف بعضهم بالكلية ودبّ في روع بعضهم عامل الشكّ والارتياب غير أن بعضهم قد عاد إلى الحضور المبارك بعد التردّد. فاختلط الحابل بالنابل في مدينة بدشت بعد إعلان الظهور الكلي. وما لبث جناب القدوس أن توجه إلى قلعة الطبرسي وتأهب الجمال المبارك أيضًا للسفر إلى بلدة نيالا ليلاً ليتمكنوا من دخول قلعة الطبرسي. ولما علم بذلك حاكم بلدة آمل المدعو ميرزا تقي أتى ليلاً إلى نيالا على رأس سبعمائة جندي حاملين بنادقهم وحاصروا البلدة وأرجعوا الجمال المبارك إلى آمُل يحرسه اثنا عشر نفرًا من الراكبة، وهنا تكرّرت البلايا وتوالت المصائب على حضرته.
أما حضرة الطاهرة فقد ارتبكت واشتد قلقها في بدشت ووقعت فريسة النكبات. وأخيرا، ألقت الحكومة عليها القبض وأرسلتها إلى طهران وأنزلوها في بيت المدعو محمود خان كلانتر محافظ المدينة بصفة سجينة. ولكن شدة انجذابها وعظيم اشتعالها جعلاها لم تستقرّ ولم تسكت عن التحدث في الأمر، وكان يزورها سيدات من أعيان وأكابر أهل طهران وغيرهم بحجة استماع حديثها والإصغاء لبياناتها.
واتفق أن آقامت إحدى العائلات عرسًا في بيت المحافظ المذكور فأقيمت الولائم ومدت الموائد وعليها من ألوان الطعام الفاخر ما لا يدخل تحت حصر وكان ضمن المدعوات سيدات الأسرة المالكة ونساء الوزراء وعقيلات الكبراء والعظماء والأعيان. وأخذت العازفات في العزف على آلات الطرب المتنوعة كالكمان والعود والسنطير وما إلى ذلك وغنّى بعضهن بعض المقطوعات الغزلية بألحان شجيّة واستمر ذلك طول الليل إلا أقلّه والكل غارقات في بحر الطرب العظيم. وبينما هن في لجة الفرح والمرح إذ شرعت الطاهرة في البيان والتقرير بحديثها الشيق فاسترعت الأسماع وجاءت السيدات من البيوت المجاورة وابتعدن عن سماع الطار والطنبور وآلات الطرب وتركن الفرح والمرح واللهو والتفَفْنَ حول الطاهرة ولَهَيْنَ عن النغمات باستماع حلو حديثها وشهيّ كلامها إلى أن انفضّ العرس بسلام.
أما الطاهرة، فقد استمرت سجينة في دار المحافظ إلى أن وقعت حادثة الشاه فصدر الأمر بقتلها ثم أخرجوها من بيت كلانتر المذكور بحجة الذهاب بها إلى منزل رئيس الوزراء فتزيّنت ما استطاعت ولبست أفخر ثيابها وطلَت وجهها بالعطر وماء الورد ودهنت شعرها بالروائح المسكيّة النفسية وبارحت دار المحافظ فقادها الحراس إلى بستان لينفّذوا فيها حكم الإعدام. ولما حان وقت قتلها تردّد الجلادون وامتنعوا عن قتلها. فأحضروا زنجيًّا نشوان يترنح وأعطوا لذلك الأسود ذي القلب الأسود منديلاً ليدسه في حلقها ففعل ثم خنقها. وبعد أن فاضت روحها الزكية ألقوا بجسدها المطهر في بئر واقع في وسط البستان ورجموه بالحجارة ثم أهالوا عليه التراب. أما هي فكانت تتلقى كل ما حلّ بها (وهي على قيد الحياة) هاشة باشة مسرورة للغاية وفدت بروحها مستبشرة بالبشارات الكبرى متوجهة إلى الملكوت الأعلى. عليها التحية والثناء وطابت تربتها بطبقات من النور النازلة من السماء.