تفسير بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

تفسير بسم الله الرحمن الرحيم – حضرة عبدالبهاء – من مكاتيب عبدالبهاء، جلد۱، الصفحة ٣٥

﴿ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ﴾

إعلم أنّ البسملة عنوانها الباء وأنّ الباء التّدوينيّ هي الحقيقة المجملة الجامعة الشّاملة للمعاني الإلهيّة والحقائق الرّبّانيّة والدّقائق الصّمدانيّة والأسرار الكونيّة وهي - في مبداء البيان وجوهر التّبيان - عنوان الكتاب المجيد وفاتحة منشور التّجريد بظهور لا إله إلّا اللّه كلمة التّوحيد وآية التّفريد والتّقديس من حيث الإجمال والتّفصيل، وإنّ الباء التّكويني هي الكلمة العليا والفيض الجامع اللّامع الشّامل المجمل الحائز للمعاني والعوالم الإلهيّة والحقائق الجامعة الكونيّة بالوجه الأعلى، لأنّ التّدوين طبق التّكوين وعنوانه وظهوره ومثاله ومجلاه وتجلّيه وشعاعه عند تطبيق المراتب الكونيّة بالعالم الأعلى، فانظر في منشور هذا الكون الإٓلهي تلقاء لوحا محفوظا وكتابا مسطورا وسفرا جامعا وإنجيلا ناطقا وقرآنا فارقا وبيانا واضحا، بل أمّ الكتاب الّذي منه انتشر كلّ الصّحائف والزّبر والألواح، وإنّ الموجودات والممكنات والحقائق والأعيان كلّها حروف وكلمات وأرقام وإشارات تنطق بافصح لسان وأبدع بيان بمحامد موجدها ونعوت منشئها وتسبيح بارئها وتقديس صانعها بل كلّ واحدة منها قصيدة فريدة غرّاء وخريدة بديعة نوراء قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدَا، ولا يحيطون بشيء من علمه، وهذا الرّقّ المنشور وحقيقة الزّبور المحتوي على كلمات الوجود منظوما ومنثورا تلاه علينا الرّبّ الغفور تلاوة آيات الكينونة بسرّ البينونة إجمالا وتفصيلا من حيث الإيجاد من الغيب إلى الشّهود، ولا زالت هذه الكلمات صادرة والآيات نارلة والبيّنات واضحة والمعاني ظاهرة والحقائق بارزة والأسرار كاشفة والرّموز سافرة والألسن ناطقة سرمدا أبدا في هذه النّشأة الكبرى ومجالي القدرة العظمى، فسبحان ربّي الأعلى طوبى لأذن واعية وأسماع صاغية وأفئدة صافية وإدراكات كافية تنتبه لاستماع هذه الآيات الجليلة وإدراك المعاني الكلّيّة الإلهيّة.

ولنرجع إلى بيان الباء ونقول إنّها متضمّنة معنى الألف المطلقة الإلهيّة بشئونها وأطوارها اللّينيّة والقائمة والمتحرّكة والمبسوطة ونحوها في البسملة الّتي هي عنوان كتاب القدم بالطّراز الأوّل المشتملة على جميع المعاني الإلهيّة والحقائق الرّبّانيّة والأسرار الكونيّة المبتداء فيها بالحرف الأوّل من الاسم الأعظم بالوجه الأتمّ الأقوم، كما قال إمام الهدى جعفر بن محمّد الصّادق - عليه السّلام - في تفسير البسملة [الباء بهاء اللّه] والقوم إنّما اعتبروا الحذف والتّقدير للألف بين الباء والسّين جهلا وسفها، حيث لم ينتبهوا لمعرفة الآيات الباهرة والبيّنات الظّاهرة والجامعيّة الكاملة الشّاملة الزّاهرة السّافرة في هذا الحرف المجيد والسّرّ الفريد لأنّها متضمّنة بالوجه الأعلى جميع المعاني الكلّيّة المندمجة المندرجة في هويّة الحروفات العاليات والكلمات التّامّات، أَمَا تَرَى أَنَّ الأَلِفَ ظَهَرَتْ فِي سَبِّح اسْمِ رَبِّكَ الأَعْلَى وَاقْرَأْ بِاسْم رَبِّكَ وَبِاسْم اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا، لا سيما إنّها أي الباء ألف مطلقة إلهيّة في غيبها وألف مبسوطه في شهادتها وعينها، فاجتمعت الشّهادة والغيب والعلم والعين والباطن والظّاهر والحقيقة والشّئون في هذا الحرف السّاطع البارع الصّادع العظيم، وإنّ سائر الحروف والكلمات شئونها وأطوارها وآثارها وأسرارها، فإنّها مبداء الوجود ومصدر الشّهود في عالمي التّكوين والتّدوين، وإنّها عنوان الكتب الإلهيّة والصّحف الرّبّانيّة والزّبر الصّمدانيّة في البسملة الّتي هي فاتحة الألواح والأسفار والصّحائف والقرآن العظيم، وهذه الكتب بأجمعها وأتمّها وأكملها وجميع معانيها الإلهيّة المندرجة المندمجة في حقيقة كلماتها سارية وجارية‌ في هويّة هذا الحرف الكريم والعنوان المجيد كما هو مسلّم عند أولي العلم.

وَمَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ - عليه السّلام - [إنّ كلّ ما في التّوراة والإنجيل والزّبور في القرآن، وكلّ ما في القرآن في الفاتحة، وكلّ ما في الفاتحة في البسملة، وكلّ ما في البسملة في الباء وكلّ ما في الباء في النّقطة] والمراد من النّقطة الألف اللّينيّة الّتي هي باطن الباء وعينها في غيبها وتعيّنها وتشخّصها وتميّزها في شهادتها.

وقد صرّح به من شاع وذاع في الآفاق علمه وفضله السّيّد الأجلّ الرّشتيّ في ديباجة كتابه وفصل خطابه شرحا على القصيدة اللّاميّة فقال [الحمد للّه الّذي طرّز ديباج الكينونة بسرّ البينونة بطراز النّقطة البارز عنها الهاء بالألف بلا إشباع ولا انشقاق] فهذه النّقطة هي الألف اللّينيّة الّتي هي غيب الباء وطرازها وعينها وجمالها وحقيقتها وسرّها وكينونتها كما بينّاه آنفا، وهذه العبارة الجامعة اللّامعة الواضحة الصّريحة ما أبدعها وأفصحها وأبلغها وأنطقها، للّه درّ قائلها وناطقها ومنشئها الّذي اطّلع بأسرار القدم، وكشف اللّه الغطاء عن بصره وبصيرته وأيّده شديد القوى في إدراكه واستنباطه وجعل ٱللّه قلبه مهبط إلهامه ومشرق أنواره ومطلع أسراره ومعدن لآلئ حكمه حتّى صرّح بالاسم الأعظم والسّرّ المنمنم والرّمز المكرّم ومفتاح كنوز الحكم بصريح عبارته وبديه إشارته ووضوح كلامه ورموز خطابه؛ فإنّك إذا جمعت النّقطة الّتي هي عين الباء وغيبها والهاء والألف بلا إشباع ولا انشقاق استنطق منهنّ الاسم الأعظم الأعظم والرّسم المشرق اللّائح في أعلى أفق العالم الجامع لجوامع الكلم المشتهر اليوم بين الأمم، ثمّ انظر إلى المتلبّسين بالعلم المنتسبين إلى ذلك المنادي في أعلى النّادي، كم من ليال تلوا هذه الخطبة الغرّاء وكم من أيّام رتّلوا هذه الدّيباجة النّوراء ولم يلتفتوا إلى هذه الصّراحة الكبرى وهذه البشارة العظمى، والحال إنّ هذه العبارة صريحة اللّفظ واضحة المعنى معلومة ومنطوقة من معالم التّنزيل ولا تحتاج إلى تفسير وتأويل وإيضاح وتفصيل ليثبت أنّهم مصداق الآية المباركة إِنَّكَ لَا تَهْدِي العُمْيَ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ، إِنَّكَ لَا تَهْدِي مِنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وهذا الرّاسخ في العلم الشّهير الشّريف قد بيّن في جميع المواضع من شرحه المنيف بعبارات شتّى وإشارات غير معمّى وبشارات أظهر من الصّبح إذا بدا سرّ هذا الظّهور النّاطق في شجرة الطّور والسّرّ المكنون والرّمز المصون، والقوم يَدْرُسُونَ وَيُدْرَسُونَ ولا يفهمون ولا يفقهون بل في طغيانهم يعمهون ذرهم في خوضهم يلعبون، ولو لا يطول بنا الحديث ونخرج عن صدد ما نحن به حثيث لبيّنت بيانه وشرحت عباراته وأتيت بصريحه وكناياته، ولكن فلنضرب صفحا الآن عن هذا البيان ونتركه لزمان قدّره العزيز المنّان.

ونعود إلى ما كنّا فيه من أنّ القرآن عبارة عن كلّ الصّحف والألواح والفاتحة جامعة القرآن والبسملة مجملة الفاتحة، والباء هي الحقيقة الجامعة للكلّ بالكلّ في الكلّ، وإنّ الحمد فاتحة القرآن والبسملة فاتحة الفاتحة وإنّ الباء فاتحة فاتحة الفاتحة، وإنّها لعنوان البسملة في الصّحف الأولى صحف إبراهيم وموسى والأناجيل الأربعة الفصحى والقرآن الّذي علّمه شديد القوى والبيان النّازل من الملكوت الأعلى وصحائف آيات ربّك الّتي انتشرت في مشارق الأرض ومغاربها، ولمّا نزلت سورة البرائة في الفرقان مجرّدة عن البسملة فابتديٴ فيها بالباء دون غيرها من الحروف لجامعيّتها وكامليّتها وعظيم برهانها وكثرة معانيها وقوّة مبانيها، وإنّها أي الباء أوّل حرف نطقت به ألسن الموحّدين وانشقّت به شفة المخلصين في كور الظّهور والاختراع، بل أوّل حرف خرج من فم الموجودات وفاهت به أفواه الممكنات في مبداء التّكوين والإبداع عند ما خاطب الحقّ سبحانه وتعالى خلقه في ذرّ البقاء ونادى ألست بربّكم قالوا بلى، فابتدأوا بهذا الحرف الشّفويّ التّامّ دون غيره من سائر الأحرف، وبهذا ثبت له خصوصيّة ليس عليها كلام، وفي الباء الواقعة المتّصلة بخبر ليس في الخطاب إشارة لطيفة بديعة يعرفها العارف الخبير والنّاقد البصير فافهم.

وبالجملة إنّ الباء حرف لاهوتيّ ‌جامع لمعاني جميع الحروف والكلمات، وشامل لكلّ الحقائق والإشارات ومقامه مقام جمع الجمع في عالم التّدوين والتّكوين، والأدلّة واضحة والبراهين قاطعة والحجج بالغة في ذلك، وإنّها سبقت الأحرف الملكوتيّة والأرقام الجبروتيّة في جميع الشّئون والمراتب والمقامات والتّعينات الخاصّة بالحروفات العاليات، فهو في أعلى مقامات الوحدة والإجمال في الحقيقة الأولى على الوجه الأعلى.

وقد قال العالم البصير [ما رأيت شيئا إلّا ورأيت الباء مكتوبة عليه، فالباء المصاحبة للموجودات من حضرة الحقّ في مقام الجمع والوجود أي بي قام كلّ شيء وظهر].

وقال محي الدّين [بالباء ظهر الوجود وبالنّقطة تميّز العابد من المعبود، والنّقطة للتّمييز وهو وجود العبد بما تقتضيه حقيقة العبوديّة].

والنّقطة في هذا المقام آية الباء ورايتها ومن علائمها ومعالمها وتعيّن‌من تعيّناتها وبها تمييزها وتعريفها وتشخيصها.

يا أيّها السّائل المبتهل إذا اطّلعت على بعض المعاني والحقائق والعلوم من المنقول والمعقول المودوع في هذا الحرف الكريم القديم السّاطع الجامع المبين الّذي هو عنوان الاسم الأعظم العظيم، قل فتبارك اللّه أحسن النّاطقين وتعالى اللّه خير المقدّرين ونعم المنشئين.

وقال السّيّد السّند في شرح القصيدة [وقد قال سبحانه وتعالى اللّهُ نُورُ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ فأطلق النّور على الاسم الّذي هو العلّة لأنّ الظّاهر بالألوهيّة هو الاسم الأعظم الأعظم] إلى أن قال بقول مولانا وسيّدنا أبو عبد ٱللّه جعفر بن محمّد الصّادق - عليهما آلاف التّحيّة والثّناء من الملك الخالق - في تفسير البسملة [إنّ الباء بهاء ٱللّه].

يا أيّها السّائل فاكرع خمر المعاني من هذه الكأس الّتي ملئت من فيض عناية الباري وتمعّن في هذا التّصريح الّذي قدّسه ٱللّه عن التّفسير والتّأويل، حتّى تعرف أسرار ٱللّه المودعة في هذا الحرف المجيد والرّكن الشّديد، فئبت بالبرهان الواضح المبين والدّليل اللّائح العظيم، أنّ الاسم الأعظم والطّلسم الأكرم والسّرّ الأقدم هو عنوان جميع الكتب السّماويّة والصّحف والألواح النّازلة الإلهيّة، ومبتدء به في اللّوح المحفوظ والرّقّ المنشور ومستعان به في أمّ الكتاب الّذي انتشر منه التّوراة والإنجيل والفرقان والزّبور، بل كان ملجاء منيعا للأنبياء وكهفا رفيعا وملاذا آمنا للأصفياء في كلّ كور ودور من الأكوار والأدوار.

وأيضا قال في شرح القصيدة [وهو باء بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الّتي ظهرت الموجودات منها وهي الألف المبسوطة وشجرة طوبى واللّوح الأعلى]، فإذا اطّلعت بهذه الأسرار وأشرق عليك الأنوار وهتكت الأستار وخرقت الحجبات المانعة عن مشاهدة العزيز الجبّار وشربت الرّحيق في الكأس الأنيق من يد الرّحمن في رياض العرفان ولاحظتك عين العناية بجود وإحسان وعرفت حقائق المعاني والرّموز والأسرار الفائضة من حرف الاسم الأعظم في عالم الأنوار، قل تعالى تعالى من هذا السّرّ العجيب وتبارك ٱللّه من هذا الكنز الغريب والقدرة والقوّة والعزة والكبرياء للنّاطق بالحقّ والهدى من هذا الحرف الّذي جمع الحقائق والمعاني كلّها ودقائق الكلمات بأسرها حتّى الزّبر والصّحف الأولى وألواح ملكوت ربّك الأبهى، وهذا بيان في منتهى الإجمال وتبيان في غاية الاختصار في معاني هذا الحرف الكريم من النّباء العظيم، فإن أطلق زمام جواد المداد في مضمار المعاني الكلّيّة والحقائق الجليلّة الّتي تتموّج كالبحار وتتلاطم كالمحيط الزّخار في حقيقة سرّ الأسرار السّاري في بواطن هذا الحرف المبين والنّور القديم لضاقت صفحات الآفاق وتتابع هذا الإشراق مستمرّا في مطالع الأوراق، ولكن أين المجال في مثل هذه الأحوال وأنّي لهذا الطّير المنكسر الجناح الطّيران في أوج العرفان بعد ما حجبت الأبصار عن مشاهدة الأنوار وصمّت الآذان عن استماع نداء الرّحمن، والقوم في حجاب عظيم وضلالهم القديم لعّل ٱللّه بيد القدرة العظمى يشقّ الحجبات الظّلماء عن الأعين الرّمداء والبصائر المبتلية بالعمى، عند ذلك تسمع نغمات عندليب الوفاء على أفنان دوحة الذّكرى، وأمّا الآن نمسك العنان في ميدان التّبيان ونبتديٴ ببيان معني الاسم ونقول إنّ الأسماء الإلهيّة مشتقّة عن الصّفات الّتي هي كمالات لحقيقة الذّات، وهي أي الأسماء في مقام أحديّة الذّات ليس لها ظهور وتعين ولا سمة ولا إشارة ولا دلالة، بل هي شئون للذّات بنحو البساطة والوحدة الأصليّة، ثمّ في مقام الواحديّة لها ظهور وتعين وتحقّق وثبوت ووجود فائض منبعث من الحقيقة الرّحمانيّة على الحقائق الرّوحانيّة والكينونات الملكوتيّة في حضرة الأعيان الثّابتة، فمن ثمّ إنّ الذّات من حيت الرّبوبيّة لها تجلّيّات وإشراقات على الحقائق الكونيّة والموجودات الإمكانيّة، يستغرق بها تلك الحقائق في مقتضياتها وآثارها وشئونها وكمالاتها وأسرارها في الحقيقة الأولى بالوجه الأعلى، فبذلك الاعتبار أي أحديّة الذّات الاسم عين المسمّى وحقيقته وهويّته وليس له وجود زائد ممتاز عن الذّات فإنّ الوجود إمّا عين الماهيّة أو غيرها، فإذا كان غيرها هل هو ملازم لها ومن مقتضاها من غير تعطيل وانفكاك أو جاز التّعطيل والانفكاك؟ فالأوّل حقيقة الذّات من حيث أحديّته، وجوده عين ماهيّته وماهيّته عين وجوده، والثّاني مقام الوجوب فالوجود ممتاز عن الماهيّة وملازم لها بوجه لا يتصوّر الانفكاك ولا يتخطّر الانفصال لأنّه من مقتضاها، والثّالث مقام الإمكان أي الوجود المستفاد من الغير المكتسب عمّن سواه، فوجوده غير ماهيّته وماهيّته غير وجوده مع جواز الانفكاك والانفصال ومثله في المضيئات، فانظر في جرم القمر حال كونه ساطعا منيرا لامعا، إنّما اكتسب واستفاد النّور من الشمس وغير ملازم له ويجوز انفكاكه منه، وهذا مقام الوجود الإمكانيّ وشأنه الحدوث في عالم الكيان، لأنّ الماهية غير الوجود والوجود غير الماهيّة ويجوز الانفكاك بينهما، وأمّا الشّمس مع وجود الجرم والضّياء أي الماهيّة والوجود بالاستقلال والامتياز بينهما الالتزام والاقتضاء أي الضّياء ملازم لجسمها وجسمها مقتضي له بوجه لا انفكاك ولا انفصال ولا انقطاع، لأنّها شمس بوجوب الضّياء وإذا وقع أدني توهّم التّعطيل سقطت عن الوجوب الذّاتيّ والضّياء الاستقلالي وثبت الاستفادة والاستفاضة من الغير وهذا شأن الإمكان ليس شأن الوجوب، وأمّا حقيقة النّور بذاته في ذاته فشعاعه عين جسمه وجسمه عين شعاعه أي ماهيّته عين وجوده ووجوده عين ماهيّته، لا تتصوّر الكثرة والامتياز ولا تتوهّم الغيريّة والاختلاف، وهذا مقام الوجود البحت وواحديّة الذّات مع بساطة ووحدة الأسماء والصّفات، فإذا كان الوجود المفهوم المحاط الواقع تحت التّصوّر والإدراك من حيث حقيقته المجرّدة عن النّسب والإضافات هويّة مقدّسة عن الكثرات في أحديّة الذّات، فما ظنّك بالحقيقة البسيطة الكلّيّة الّتي هي محيطة بالحقائق والإدراكات ومنزّهة عن الأوهام والإشارات بل عن كلّ وصف ونعت من جوهر الأحديّة وساذج الواحديّة، لأنّها حقيقة صمدانيّة مجرّدة عن كلّ سمة وإشارة ودلالة، فهل يتصوّر فيها التّكثّر والتّعدد والامتياز من حيث كمالات الذّات ووجه تعلّقه بالصّفات وجامعيّته للأسماء الإلهيّة والرّبوبيّة المقتضية لوجود الممكنات؟ أستغفر ٱللّه عن ذلك تبارك اسم ربّك ذو الجلال والإكرام، فبهذا الدّليل والبرهان والمكاشفة والعيان ثبت أنّ الاسم في الحقيقة الأولى عين المسمّى وكنهه وهويّته وذاته وحقيقته لأنّ الأسماء والصّفات في الحقيقة وتعبيرات كماليّة وعنوانات حقيقة واحدة، كَانَ اللّهُ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ شَيءٌ وهذا بيان شاف كاف ظاهر باهر لا رموز ولا غموض يزيل كلّ حجاب ويكشف كلّ نقاب عن وجه الحقيقة عند من بلغ مقام المكاشفة والشّهود بتأييد من الرّبّ الودود، والمقصود من الأسماء معانيها المقدّسة وحقائقها المنزّهة عن كلّ دلالة وإشارة، فإنّ الأسماء المنطوقة الملفوظة بإعانة الهواء في عالم الشّهادة لا شكّ إنّها غير المسمّى لأنّها أعراض تعتري الهواء وإشارات للمعاني الموجودة المعقولة في الأفئدة المقدّسة والعقول المجرّدة، بل المراد المعنى القائم بالذّات بوجه البساطة والوحدة دون شائبة الامتياز، فلنختصر في بيان الاسم ونذكر معاني الاسم الجليل والذّكر الحكيم والعنوان الإلهيّ في لسان القاصي والدّاني أي اسم الجلالة المتصرّف في عوالم الغيب والشّهادة ونقول إنّ المفسّرين والمأوّلين من أهل الظّاهر والباطن واللّبّ والقشور بمثل ما تحيّرت عقولهم وذهل شعورهم في إدراك كنه ذات الأحديّة وحقيقة صفاته الكماليّة قد تكثّرت بياناتهم وتعدّدت تعريفاتهم واختلفت معانيهم واحتارت عقولهم وعجزت نفوسهم في بيان حقيقة مفهوم هذا الاسم الكريم والعلم العظيم واشتقاقه، قوم ذهبوا إنّ اللّام للتّعريف والإله اسم مصدر بمعنى المألوه كالكتاب بمعنى المكتوب وقالوا معناه المعبود بالاستحقاق والمنعوت بكلّ كمال جامع عند ملاء الآفاق، وقوم اعتقدوا أنّ معناه وفحواه المحتار في إدراك كنهه كلّ العقول والنّفوس على الإطلاق وأمثال ذلك كما هو المذكور في الكتب والأوراق، وأصحّ الأقوال عند المحقّقين منهم إنّه علم للذّات المستجمع لجميع الصّفات الكماليّة الفائض بالوجود والشّئون الإلهيّة على الموجودات الكونيّة واختصروا على ذلك، ونحن لسنا بصدد ذلك ولا نسلك في أضيق المسالك بل نقول إنّ هذه الكلمة الجامعة والحقيقة الكاملة من حيث دلالتها على كنه الذّات البحت الباتّ لا يتصوّر عنها الإشارة ولا تدخل في العبارة، أمّا من حيث ظهور الحقّ سبحانه وتعالى بمظهر نفسه واستقراره واستوائه على العرش الرّحمانيّ، هذه الكلمة الجامعة بجميع معانيها ومبانيها وإشاراتها وبشاراتها وشئونها وحقائقها وآثارها وأنوارها وباطنها وظاهرها وغيبها وشهودها وسرّها وعلانيتها وأطوارها وأسرارها ظاهرة باهرة ساطعة لامعة في الحقيقة الكلّيّة الفردانيّة والسّدرة اللّاهوتيّة والكينونة الرّبّانيّة والذّاتيّة السّبحانيّة، الهويّة المطلقة المجلّية بصفتها الرّحمانيّة وشئونها الصّمدانيّة النّاطقة في غيب الإمكان قطب الأكوان المشرقة في سيناء الظّهور طور النّور فاران الرّحمن المتكلّمة في سدرة الإنسان إنّي أنا اللّه الظّاهر الباهر المتجلّي على آفاق الإمكان بحجّة وبرهان وقدرة وقوّة أحاطت ملكوت الأكوان خضعت الأعناق لآياتي وخشعت الأصوات لسلطاني وشاخصت الأبصار من أنواري وملئت الآفاق من أسراري وقامت الأموات بنفحاتي واستيقظت الرّقود من نسماتي وحارت العقول في تجلّياتي واهتزت النّفوس من فوحاتي وقرّت العيون بكشف جمالي وتنوّرت القلوب بظهور آثاري وانشرحت الصّدور في جنّة لقائي وفردوس عطائي، فآه آه، يا أيّها السّائل النّاظر إلى الحقّ بعين الخلق المستوضح الدّليل من أبناء السبيل لو استمعت بأذن الخليل لسمعت الصّريخ والعويل والأنين والحنين من حقائق الموجودات والألسنة الملكوتيّة من الممكنات بما غفل العباد وضلّوا عن الرّشاد في يوم الميعاد عن الصّراط الممتد بين ملكوت الأرض والسّموات، مع أنّ كلّ الأمم مبشّرة وموعودة في صحائف ٱللّه وكتبه وصحفه وزبره بصريح العبارة المستغنية عن الإشارة بهذا الظّهور الأعظم والنّور الأقدم والصّراط الأقوم والجمال المكرّم والنّيّر الأفخم فإذا راجعت تلك الصّحائف والرّقاع تجدها ناطقة بأنّ هذا القطر العظيم والإقليم الكريم منعوت بلسان الأنبياء والمرسلين موصوف وموسوم بأنّه أرض مقدّسة وخطة طيبة طاهرة، وأنّها مشرق ظهور الرّبّ بمجده العظيم وسلطانه القويم، وأنّها مطلع آياته ومركز راياته ومواقع تجلّياته وسيظهر فيها بجنود حياته وكتائب أسراره، وأنّها البقعة البيضاء وأنّ فيها الجرعاء بوادي طوى وفيها طور سيناء ومواضع تجلّى ربّك الأعلى على أولي العزم من الأنبياء، وفيها الوادي الأيمن البقعة المباركة والوادي المقدّس، وفيها سمع موسى بن عمران نداء الرّحمن من الشّجرة المباركة الّتي أصلها ثابت وفرعها في السّماء، وفيها نادى يحيى بن زكريا يا قوم توبوا قد اقترب ملكوت ٱللّه، وفيها انتشرت روح اللّه ورفع منه النّداء ربّي ربّي إلٓهي إلٓهي أيّدني بروحك على أمرك الّذي تزلزل منه أركان الأرض وقوّات السّماء، وفيها المسجد الأقصى الّذي بارك ٱللّه حوله وإليها أسرى بالجمال المحمّديّ في ليلة الإسراء ليرى من آيات ربّه الكبرى ووروده عليها هو العروج إلى الملكوت الأعلى والأفق الأبهى، فتشرّف بلقاء ربّه وسمع النّدء واطلع بأسرار الكلمة العليا وبلغ سدرة المنتهى ودنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى، ودخل الجنّة المأوى والفردوس الأعلى وأراه ٱللّه ملكوت الأرض والسّماء، كلّ ذلك بوفوده على ربّه في هذه البقعة المباركة النّوراء وهذه الحظيرة المقدّسة البيضاء، وهذا كلّه صريح الآية من غير تفسير وتأويل وإشارة لا ينكره إلّا كلّ معاند جحود جهول، ولا يتوقّف في الإذعان به إلّا كلّ من أنكر صحف ٱللّه وزبره، ونعوذ باللّه من كلّ لجوج وعنود وإذا عاند معاند وقال تلك الأوصاف والنّعوت والمحامد الّتي شاعت وذاعت في صحائف الملكوت إنّما حازها هذا الإقليم الكريم والقطر العظيم حيث كان منشأ الأنبياء وموطن الأصفياء وملجأ الأتقياء وملاذ الأولياء في زمن الأوّلين فالجواب القاطع والبرهان السّاطع أنّ اللّه شرّف وبارك وقدّس هذه البقعة النّوراء بتجلّياته وظهور آياته ونشر راياته وبعث رسله وإنزال كتبه وما نبيّ ولا رسول إلّا وهو بعث منها أو هاجر إليها أو تشرّف بطوافها أو كان معراجه فيها، فالخليل أوى إلى كهف الرّبّ الجليل فيها، وموسى بن عمران سمع نداء الرّبّ المنّان من الشّجرة المباركة المرتفعة في طور سيناء فيها، وإلى الآن لم يلتفتوا النّاس ما معنى هذه الواقعة العظيمة المذكورة في كلّ الصّحف والزّبر وما هذه الشّجرة المباركة زيتونة لَا شَرْقِيَّةٌ وَلَا غَرْبِيَّةٌ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ، نُورٌ عَلَى نُورٍ، فالشّجرة هذه الحقيقة الظّاهرة الباهرة اليوم، النّاطق من في نارها بورك من في النّار فموسى بن عمران كان يسمع هذا النّداء منها وذلك الاستماع والإصغاء مستمرّ إلى الآن، لأنّ حدود الزّمان ليس لها حكم في عالم الرّحمن، ومقامات الألوهيّة والرّبوبيّة مقدّسة عن الوقت والأوان جميع الأزمنة فيها زمن واحد والأوقات وقت واحد، وفيها يتعانق الماضي والحال والاستقبال لأنّه عالم‌ أبد سرمد دهر ليس له أوّل ولا آخر.

فلنرجع إلى بيان ما كنّا فيه ونقول وإنّ المسيح نادى ربّه لبّيك اللّهمّ لبّيك في جبالها وسهولها وانتشرت روائح قدسه فيها، والحبيب أسري به إليها وتشرّف بلقاء ربّه ورأى آياته العظمى في مشارقها ومغاربها بوفوده عليها، وقس على ذلك سائر الأنبياء والمرسلين إلى أن ظهر هذا الأمر المبين الكريم والنّبأ العظيم والسّرّ القديم ودار في الأقطار الشّاسعة والأقاليم الواسعة إلى أن تلألأ هذا الإشراق في هذه الآفاق واستقرّ العرش الأعظم في هذا القطر المكرّم، فلو كان شرفها وعزّها وسموّها وتقديسها وتنزيهها لبعث الأنبياء فيها وهجرتهم إليها ووفودهم عليها لما خوطب موسى بن عمران فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوىً، لو كانت البقعة المباركة شرفها بقدومه لما أمر بخلع نعله بخضوع وخشوع الّذي من لوازم آداب الوفود على ملك كريم وسلطان عظيم وقال بُوْرِكَ مَنْ فِي النَّارِ، وبهذه كفاية لمن ألقى السّمع وهو شهيد وإلّا ولو يأتيهم بكلّ آية لن يوٴمنوا بها وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ صَدَقَ اللّهُ العَلِيِّ العَظِيمِ.

وفي كتاب محي الدّين إنّ هذه الأرض المقدّسة أرض ميعاد أي تقوم فيها القيامة الكبرى وهي البقعة البيضاء، وإنّ الملحمة الكبرى بمرج عكّا وتصبح أرضها كلّ شبر منها بدينار، وفي جفر ابن مجله إنّ مرج عكّا مأدبة اللّه، وإذا أردنا بيان الأحاديث والأخبار والرّوايات الواردة في مناقب هذه الأرض المقدّسة ليطول بنا الكلام ونقع في الملام، فاختصرنا بما هو صريح القرآن وأشرنا مجملا بما هو في الصّحف الأولى والسّلام على من اتّبع الهدى، ولنعد إلى معنى البسملة ونقول في بيان الرّحمن والرّحيم، اعلم أنّ الرّحمة عبارة عن الفيض الإلهيّ الشّامل لجميع الموجودات وسعت رحمته كلّ شيء، وأنّها مصدر لجميع الممكنات من جميع الشّئون والأطوار والظّواهر والأسرار والحقيقة والوجود والآثار والتّعيّنات والقابليّات والتّشخّصات من الغيب والشّهادة في عالم الأنوار، وأنّها تنقسم قسمين، بالرّحمة الذّاتيّة الإلهيّة وهي عبارة عن إفاضة الوجود بالفيض الأقدس الأعلى في جميع المراتب والمقامات الّتي لا نهاية لها للحقائق والأعيان الثّابتة في حضرة العلم الذّاتيّ الأعلى، وبالرّحمة الصّفاتيّة الفائضة من الحضرة الرّحمانيّة بالفيض المقدّس الأوّل بحسب الاستعداد والقابليّات المستفيضة من التّجلّيّات الظّاهرة الباهرة في أعيان الموجودات، كلّ واحدة منهما تنحلّ إلى رحمة عامّة الّتي تساوت فيها الحقائق الموجودة من حيث الوجود العلميّ والعينيّ، ورحمة خاصّة ظهر برهانها وانكشفت أسرارها واشتهرت آياتها وخفقت راياتها وتلألأت أنوارها وتموّجت بحارها وطلعت شموسها واكفهرّت نجومها ورقّ نسيمها وفاح شميمها وأضاء أفق مبينها في الحقائق النّورانيّة الّتي استضائت واستفاضت واستنارت من الأشعّة السّاطعة من شمس الحقيقة في جميع الشّئون والأطوار والأحوال والآثار، وبمثل هذا فانظر في عالم التّشريع والظّهور والإشراق، ترى أنّ الفيض الأقدس الخاصّ الّذي به وجود الهياكل القدسيّة والكينونات المنزّهة اللّطيفة الرّوحانيّة، هو إفاضة الهداية الكبرى وإيقاد نار المحبّة الإلهيّة الموقدة في القلوب الصّافية المشتعلة من النّفس الرّحماني والمدد السّبحاني والفيض الإلهي والجود الصّمداني، وتجد أنّ الفيض المقدّس الرّبّانيّ هو إفاضة الكمالات والفيض الوجداني والصّفات والملكات والعطاء الرّوحاني والخصائل والفضائل الّتي بها حياة العالم ونورانيّة سائر الأمم، فهاتان الرّحمتان الذّاتيّتان أي الخاصّة والعامّة الصّادرتان من الفيض الأقدس الإلهي الذّاتيّ مذكورتان في البسملة الّتي فاتحة الايجاد وإفاضة الوجود للموجودات المجرّدة والمادّية، وأمّا الرّحمتان الصّفاتيّتان الخاصّة والعامّة الصّادرتان من الفيض المقدّس الصّفاتي فهما مذكورتان في الفاتحة الّتي هي بيان المحامد والنّعوت الإلهيّة، وبهذه كفاية لمن أراد أن يطّلع بأسرار البسملة وإلّا ليس لمعانيها بداية ونهاية والرّوح والبهاء على أهل الهداية والسّلام. (عبدالبهاء عبّاس)

المصادر
المحتوى
OV