اللّوح المبارك إلى أعضاء مجمع الصّلح العموميّ في هولند

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

اللّوح المبارك: إلى أعضاء مجمع الصّلح العموميّ في هولندا بواسطة سكرتيرة اللّجنة التّنفيذيّة أمة الله الآنسة أ.ج. دايزرنك

هو الله

أيّها المجمع المحترم في العالم الإنسانيّ،

من أجل نواياكم الخيّرة ومقاصدكم السّامية يجب على جميع البشر أن يتقدّموا بشكرهم إليكم ويكونوا ممتنّين راضين منكم لأنّكم قمتم ببذل مثل هذه الهمّة الّتي أصبحت سبب راحة عموم البشر.

إنّ راحة عالم الخليقة ورخاءه يتمّان عن طريق تحسين الأخلاق العامّة للعالم الإنسانيّ وإنّ أعظم وسيلة لتربية الأخلاق هي علوّ الهمّة وتوسّع الأفكار ويجب دعوة العالم الإنسانيّ إلى هذه المنقبة العظيمة.

لاحظوا أنّ المبادئ الأصليّة المرعيّة من قبل كلّ فرد من أفراد البشر هي جلب المنفعة لنفسه ودفع الضّرر عنها فهو يفكّر في راحته وسروره ويتمنّى الانفراد في معيشته ويبذل الجهد حتّى يتفوّق على جميع الأفراد الآخرين في الرّاحة والثّروة والعزّة. هذا أمل كلّ فرد من أفراد البشر وهذا منتهى الدّناءة والبؤس وإسفاف الرّأي.

إنّ الإنسان حينما يرتقي أقلّ رقيّ فكريّ وتسمو همّته يجب أن يكون في صدد جلب المنفعة لعموم عائلته ودفع الضّرر عنها، لأنّه يرى في راحة عموم عائلته ورخائها سعادة نفسه وعندما يتّسع فكره أكثر وتسمو همّته سموًّا أكثر يفكّر في جلب المنفعة إلى أبناء جنسه ووطنه وفي دفع الضّرر عنهم ولكنّ هذه الهمّة وهذا الرّأي مهما كانا مفيدين للفرد ولعائلته أو حتّى لعموم أبناء أمّته ووطنه فإنّهما يؤدّيان إلى الضّرر بسائر الأمم، لأنّ الفرد يسعى بكلّ جوارحه إلى قصر جميع منافع العالم الإنسانيّ على ملّته وحصر جميع ما على الأرض من فوائد في عائلته وتخصيص سعادة جميع العالم الإنسانيّ لنفسه، ويعتقد أنّه كلّما تدنّت سائر الدّول المجاورة ارتقت أمّته ووطنه حتّى يصبح بهذه الطّريقة متفوّقًا على جميع ما سواه في القوّة والثّروة والاقتدار.

أمّا الإنسان الإلهيّ والشّخص السّماويّ فهو براء من هذه القيود وإنّ سعة أفكاره وسموّ همّته في منتهى الدّرجات وتتّسع دائرة أفكاره اتّساعًا بحيث يرى منفعة عموم البشر أساسًا لسعادة كلّ فرد من أفراد البشر، ويرى ضرر كلّ الملل والدّول عين ضرر دولته وأمّته، بل ضرر عائلته، بل ضرر نفسه بالذّات، ولهذا فهو يجهد بجسمه وبروحه ليجلب السّعادة والمنفعة لعموم البشر ويدفع الضّرر عن عموم الملل ويسعى في ترقية عموم البشر ونورانيّتهم وسعادتهم ولا يفرّق في المعاملة لأنّه يرى العالم الإنسانيّ عائلة واحدة وعموم الملل أفراد تلك العائلة بل إنّه يرى الهيئة الاجتماعيّة البشريّة كشخص واحد، ويعتبر كلّ ملّة من الملل عضوًا من أعضاء ذلك الجسم. ينبغي للإنسان أن يبلغ بسموّ همّته إلى درجة يخدم الأخلاق العامّة، ويكون سبب عزّة العالم الإنسانيّ. في حين أنّ الأمر في هذا اليوم على العكس من هذا. فجميع ملل العالم تفكّر في ترقية نفسها وانحطاط الآخرين بل إنّها فوق ذلك تفكّر في جلب النّفع لنفسها والضّرر للآخرين وتحسب هذا تنازعًا على البقاء وتقول إنّ هذا أساس فطريّ في العالم الإنسانيّ ولكنّ هذا خطأ كبير، بل لا يوجد خطأ أعظم من هذا.

سبحان الله إنّ التّعاون والتّعاضد لدى بعض الحيوانات يؤدّي إلى بقائها. لاحظوا أنّها تتسابق في موارد الخطر في إبداء المعونة لبعضها. ففي ذات يوم كنت واقفًا على شاطئ نهر صغير، وكانت سراب أسراب من الجراد تريد عبوره لتحصل على رزقها ولم تكن لها أجنحة لتطير بها ولهذا هجم ذلك الجراد عديم الجناح وتسابق فألقى بنفسه في الماء ليشكّل ما يشبه الجسر من هذا الجانب من النّهر إلى ذلك الجانب، فعبر الجراد الآخر فوقه ووصل من جانب النّهر إلى الجانب الآخر، ولكنّ ذلك الجراد الّذي شكل جسرًا فوق سطح الماء هلك. لاحظوا هذا هو التّعاون على البقاء لا التّنازع على البقاء.

وإذا كانت للحيوانات مثل هذه الإحساسات الشّريفة فكيف يجب أن يكون عليه الإنسان وهو أشرف الكائنات؟ وماذا يليق به أن يعمله ولا سيّما أنّ التّعاليم الإلهيّة والشّرائع السّماويّة تجبر الإنسان على هذه الفضيلة.

إنّ جميع الامتيازات القوميّة والتّقسيمات الوطنيّة والانفراديّة العائليّة والقيود الشّخصيّة مذمومة مردودة عند الله، وقد بُعث جميع أنبياء الله ونزّلت جميع الكتب السّماويّة من أجل هذه المزيّة والفضيلة، وانحصرت جميع تعاليمهم الإلهيّة في إزالة هذه الأفكار النّفعيّة الانفراديّة، وتحسين الأخلاق في العالم الإنسانيّ وتأسيس المساواة والمواساة بين عموم البشر حتّى يفدي كلّ فرد من الأفراد بروحه الآخرين. هذا هو الأساس الإلهيّ وهذه هي الشّريعة السّماويّة.

ولا يمكن تأسيس مثل هذا الأساس المتين إلا بقوّة كلّيّة قاهرة للإحساسات البشريّة لأنّ كلّ قوّة تعجز دون ذلك إلاّ قوّة الرّوح القدس، ونفثات الرّوح القدس، فإنّها تغيّر الإنسان تغييرًا إلى درجة تبدّل أخلاقه فينال الولادة الثّانية ويتعمّد بنار محبّة الله الّتي هي محبّة عموم الخلق ويتعمّد بماء الحياة الأبديّة وبالرّوح القدس.

إنّ الفلاسفة الأوّلين الّذين بذلوا أقصى الهمّة في تحسين الأخلاق وجاهدوا بأرواحهم وقلوبهم قد تمكّنوا فقط من تربية أخلاق أنفسهم لا أخلاق العموم. راجعوا التّاريخ يتّضح لكم ذلك.

أمّا قوّة الرّوح القدس فإنّها تحسّن الأخلاق العامّة وتنير العالم الإنسانيّ وتمنح السّمو الحقيقيّ وتربّي عموم البشر. إذ يجب أن يبذل محبّو الخير للعالم جهودهم حتّى يجذبوا تأييدات الرّوح القدس بالقوّة الجاذبة.

وأملي أن يقتبس ذلك المجمع المحترم الخيريّ في العالم الإنسانيّ الأنوار من شمس الحقيقة ويصبح سببًا في تربية أخلاق عموم البشر.

وأملي أن يقع احترامي لتلك الهيئة العالية القدر موقع القبول.

ع.ع

المصادر
المحتوى
OV