مصائب الجمال المبارك

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

مصائب الجمال المبارك

في يوم الثّلاثاء الموافق 7 تشرين الثّاني 1911 ألقى

حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك:

هو الله

أريد اليوم أن أبيّن لكم قدرًا من مصائب الجمال المبارك:

في يوم من أيّام السّنة الثّالثة لظهور الباب حبس الجمال المبارك في طهران. وفي اليوم التّالي اعترض جمع من الأمراء ووزراء الدّولة وتوسّطوا، أفرج عن الجمال المبارك وأطلق سراحه، وبينما كان حضرته في سفر إلى مازندران ميمّمًا وجهه شطر قلعة الشّيخ طبرسي هجمت جماعة من الفرسان ليلاً واقتادت الجمال المبارك مع أحد عشر شخصًا وساقتهم جميعًا إلى مدينة آمُل، وفي أحد الأيّام اجتمع جميع العلماء في المسجد وأحضروا الجمال المبارك إليه، كما اجتمع أهل مدينة آمُل أيضًا وقد تسلح كلّ صنف منهم بسلاح: النّجار بقدّومه، والقصّاب بساطوره، والزّارع بفأسه وبلطته، وكان هدفهم أن يقتلوا الجمال المبارك بالإجماع.

وشرع العلماء في إلقاء الأسئلة العلميّة على حضرته. وكانوا يتلقّون على كلّ سؤال جوابًا كافيًا شافيًا، وأثبت الجمال المبارك حقيقة الظّهور بالأدلّة والبراهين الثّابتة. وعجز العلماء، فاتّجهوا إلى الحصول على شيء من كتاباته. فاستخرجوا لوحًا من ألواح النّقطة الأولى من جيب أحد خدم الجمال المبارك، وهو المدعو ملاّ باقر. وكان بهذا اللّوح فقرة من بيانات أمير المؤمنين علي عليه السّلام يقول فيها: "محو الموهوم وصحو المعلوم". فتضاحك ملاّ علي جان أحد العلماء آمُل وقال لقد اتّضحت فضيلة الباب وميزته، إنّ الإنسان الّذي يكتب كلمة الصّحو بالصّاد تفهم مرتبة علمه لأنّ الصّحو تكتب بالسّين وقد كتبها الباب خطأ. فقال الجمال المبارك: بل إنّ السّيّد الفقيه هو الّذي أخطأ ولم يفهم. إنَّ هذه العبارة مأخوذة من كلام أمير المؤمنين وهو يجيب كميل بن زياد النّخعيّ عندما سأله عن الحقيقة. فقد أجابه أمير المؤمنين بعدّة فقرات. فكان كميل يقول لأمير المؤمنين بعد كلّ فقرة زدني بيانًا إلى أن تفضّل بقوله: "محو الموهوم وصحو المعلوم" أيّ أنّ من يطلب فهم الحقيقة ويريد الوصول إلى الحقّ يجب عليه أن يطهّر قلبه ويقدّسه عن أوهام التّقاليد وشائعاتها، وأن ينظر إلى ما يقوله صاحب الدّعوة، بمعنى أنّه يتخلّى عن الموهوم وينظر إلى المعلوم. وعندما ظهر رسول الله كان اليهود والنّصارى كلّما تخلّوا عن أوهامهم واستمعوا إليه اهتدوا إلى الحقيقة. وكلمة الصّحو بالصّاد معناها التّفطّن، والسّهو بالسّين معناها النّسيان والغفلة. وشتّان بين الكلمتين. فأنت قد سهوت وغفلت عن أنّ هذه العبارة كتبت صحيحة.

فلمّا جرت هذه البيانات من اللّسان المبارك بمحضر الخواصّ والعوام ذهلوا جميعًا وبهتوا، ووضح لهم جهل ذلك المجتهد وعلموا أنَّ ذلك الفقيه عار عن العلم وبريء منه. فثقل على العلماء هذا الموقف وأدركوا أنّه لو ألقى الجمال المبارك ببياناته على الملأ في عدّة مجالس عامّة لآمن به أكثر الخلق ولهذا اتّفقوا على إصدار حكم الإعدام عليه. وقد خاف ميرزا تقي خان حاكم آمُل من هذا الأمر واضطرب اضطرابًا عظيمًا. وأدرك أنّه لو حدث ذلك لشبّت بين قبيلتي نوري ولاريجاني- أكبر طائفتي مازندران- نار الحرب والقتال إلى الأبد. فخطر له أن يكتفي بأذيّة الجمال المبارك تطييبًا لنفوس العلماء وتسكينًا لخواطرهم. فأمر أن يضرب الجمال المبارك بالعصا. فضرب حتّى سالت الدّماء من قدميه.

بعد ذلك أحضروه إلى مسجد قريب من بيت الحاكم، وأوقفوه بجوار الحائط وأمر ميرزا تقي خان بعضًا من رجاله سرًّا أن يهدموا هذا الحائط من الخلف، ويحملوا الجمال المبارك إلى منزل الحاكم ، ففعل رجال الحاكم ذلك واختطفوا الجمال المبارك بسرعة من بين الجمع المحتشد وحملوه إلى منزل ميرزا تقي خان. وقبل أن يتحوّل النّاس إلى النّاحية الأخرى من الحائظ كان الرّجال قد وصلوا بالجمال المبارك إلى المنزل وأغلقوا الباب وراءهم، وصعد خدم الحاكم فوق السّطح ومنعوا النّاس وصدّوهم، وفرّقوهم بكلّ وسيلة. وقد حال هذا التّدبير بين العلماء وبين أن يقتلوا الجمال المبارك في ذلك اليوم.

وبعد عدة أيّام توجّه الجمال المبارك إلى طهران، وفي السّنة الثّامنة لظهور النّقطة الأولى حبس في طهران، وألقي به في غياهب سجن لا ينفذ إليه نور النّهار قطّ، وضيّقوا عليه تضييقًا شديدًا لا يمكن وصفه، فقيّدوا قدميه، ووضعوا في عنقه سلاسل بلغ من ثقلها أنّها كانت تحني قامة الجمال المبارك، بحيث كان لا بدّ من وضع عصا ذات شعبتين بأسفلها كما سلبوا ملابسه، ووضعوا على رأسه لبدة عتيقة ممزّقة، وظلّ الجمال المبارك على هذه الحال في هذا السّجن مدّة أربعة أشهر.

ثمّ أخرج من الحبس ونفي إلى بغداد، وفي بغداد أقام إحدى عشرة سنة سافر خلالها إلى كردستان حيث أقام فيها عامين، أمّا باقي المدّة فقضاها في بغداد، وفي هذه السّنوات الإحدى عشرة اشتعلت نار العداوة والبغضاء في صدور أعدائه، في حين ظلّ الجمال المبارك في غاية البشاشة والسّرور، وقد جد المعاندون في إلحاق الضّرر بالجمال المبارك بحيث إنّه كان في الصّباح يفقد الأمل في البقاء حتّى المساء، وفي المساء يفقد الأمل حتّى الصباح، وفي هذه السّنوات كان العلماء يقبلون عليه من جميع الجهات ويفوزون بمحضره ويطرحون عليه أسئلتهم العلميّة ويسمعون الأجوبة الشّافية الكافية عليها، وكان ذلك سبب اشتهار صيت الجمال المبارك في جميع الأرجاء، وقد كتب علماء إيران المقيمون في بغداد إلى ناصر الدّين شاه يعلمونه بذلك فالتمس هذا من السّلطان العثمانيّ أن ينفي الجمال المبارك من بغداد إلى إسطنبول، فنقل إلى إسطنبول بأمر السّلطان العثمانيّ، وبعد أن قضى فيها أربعة أشهر نفي إلى الرّوميلي (أدرنة)، ومرّة أخرى التمس ناصر الدّين شاه أن ينفى من الرّوميلي إلى عكّا، فأُنزل الجمال المبارك في السّجن المعروف بالقشلة العسكريّة وقضى بقية حياته في عكّا سجينًا أمّا البلايا الّتي أصابت الجمال المبارك في سجن عكّا فلا يمكن أن توصف.

وبعد أن نزل في سجن عكّا أرسل ألواحه إلى جميع سلاطين الأرض ما عدا اللّوح المرسل إلى ناصر الدّين شاه فقد حمله ميرزا بديع خراساني، وقال له الجمال المبارك: إن قبلت الاستشهاد فاحمله، فقبل ميرزا بديع الشّهادة وحمل اللّوح ويمّم شطر إيران إلى أن بلغ طهران، ولم يكن يلتقي بالأحبّاء أثناء الطّريق، وفي ذلك الوقت كان ناصر الدّين شاه يصطاف في نياوران بشميران فذهب ميرزا بديع وصعد إلى هضبة تواجه قصر الشّاه. وفي ذات يوم كان ناصر الدّين شاه يتأمّل المناظر من حوله بمنظاره المقرّب، فرأى شخصًا يجلس على قمّة الهضبة، وقد ارتدى الملابس البيضاء. وفي اليوم التّالي رأى الشّخص نفسه وهو يتأمّل المناظر بمنظاره المقرّب. وفي اليوم الثّالث أيضًا رآه في الوضع نفسه فعرف أنّ له حاجة. فأرسل في طلبه وسُئِل من أنت؟ ولماذا تجلس هنا؟ فقال: إنّي أحمل رسالة من شخص عظيم إلى السّلطان. فأراد رجال السّلطان أخذ الرّسالة منه إلاَّ أنَّه قال: لا بدّ أن أسلّمها إلى السّلطان يدًا بيد. فحمله هؤلاء إلى محضر الشّاه. فسأله الشّاه: من أنت؟ وماذا بيدك؟ فقال: هذه رسالة من بهاء الله أحضرتها إلى الشّاه. فتناول الشّاه الرّسالة وأمر بالتّحفّظ عليه. فحملوه وحبسوه. فطلب الشّاه أن يسألوه عن رفاقه. فلما سئل قال: أنا لا أعرف أحدًا وليس لي رفيق. فعذّبوه ثلاثة أيّام بشتّى ألوان التّعذيب والضّرب والكيّ فلم يصرّح باسم أحد قطّ. والتقطوا له صورة وهم يعذّبونه ثمّ قتلوه في اليوم الثّالث.

ثمّ إنّ الشّاه أرسل هذه الرّسالة إلى العلماء كي يردّوا عليها. وبعد عدة أيّام قال العلماء: "إنّ هذا الشّخص عدوّك" فقال الشّاه: أنا أعرف أنَّه عدوّي. وإنّما طلبت إليكم أن تجيبوا على مطالبها. فلم يكتبوا جوابًا. فغضب الشّاه وقال: إنّني أحترم العلماء كلّ هذا الاحترام وأنعم عليهم كلّ هذا الإنعام كي يكتبوا في مثل هذا اليوم ردًّا على مثل هذه الرّسالة. فإذا بهم اليوم يجيبون بمثل هذا الجواب.

ولقد تفضّل الجمال المبارك في ذلك اللّوح بقوله: إنّ الأمر لا يخرج عن إحدى اثنتين: إمّا أنه حق وإمّا أنه باطل، فأحضر العلماء وأحضرني كي أناقشهم. فإن كان حقًّا آمنت به، وإن كان باطلاً فافعل بي ما شئت.

وفي هذا اللّوح أيضًا يقدّم النّصائح لناصر الدّين شاه ويقول له: لا تغترّ بسلطنة فانية فكم من السّلاطين جاءوا وذهبوا جميعًا لم يبقَ لهم من أثر. وهذا الأمر أمر الله، وإنّك لا تستطيع مقاومته ولا تقدر على منعه. فإنّ أمر الله لا يقدر على مقاومته أحد، وأنت أيضًا لا تستطيع ذلك. وعمّا قريب سيرتفع أمر الله ويحيط الشّرق والغرب، فلم يقبل النّصائح الإلهيّة، وظلّ على غروره حتّى مات تاركًا هذا العالم.

ثمّ إنّ الجمال المبارك بقي في هذا السّجن إلاّ أنّه كان في منتهى العزّة، ولم يكن سجنه كسجن الآخرين لأنّه لم يأبه لأيّ شخص قطّ. وكم من مرّة جاء رجال الدّولة والتمسوا أن يتشرّفوا بمحضره فلم يكن يأذن لهم، بل إنّ متصرف عكّا ظلّ خمس سنوات يرجو ويلتمس أن يتشرّف بمحضره فلم يأذن له، ولم يمضِ وقت طويل حتّى صار يخرج من السّجن كلّما أراد الخروج، وجاء المتصرّف وجميع الموظفين من عكّا إلى القصر الّذي نزله والّذي يبعد عن المدينة مسافة نصف فرسخ وذلك بمناسبة عقد قران آقا سيّد علي، ومع ذلك لم يلتفت إليهم الجمال المبارك بالسّؤال عن أحوالهم.

وبعد، هذه خلاصة البلايا الّتي تحملها الجمال المبارك والمشقّات الّتي عاناها، والسّجون الّتي ألقي فيها والسّلام.

المصادر
المحتوى
OV