تحرّي الحقيقة

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

تحرّي الحقيقة

في يوم الجمعة الموافق 10 تشرين الثّاني 1911 ألقى

حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك:

هو الله

بالأمس ذهبنا إلى جمعية الرّوحانيّين ولمّا كانوا روحانيّين فقد تحدّثنا عن الرّوح وخلودها وعن فناء الجسد. وأثبتنا بالبراهين القاطعة أنّ بقاء الجسد مشروط بفيض الرّوح القدس. فإذا انفكّ هذا الفيض عن الجسد انعدم الجسد. وبقاء الرّوح ليس مشروطًا ببقاء الجسد. ذلك لأنّنا نلاحظ أنّ اليد إذا قطعت من جسم الإنسان لم تنقص الرّوح وأنّ عين الإنسان إذا أصيبت بالعمى لم تنقص روح الإنسان. وإذا نام جسم الإنسان فإنّ روحه تظلّ يقظة. وفي أثناء النّوم تُصاب جميع أعضاء الإنسان الجسمانيّة بالخلل، فالعين لا ترى والأذن لا تسمع واليدان والقدمان لا تتحرّك. ولكنّ الرّوح تستمرّ في عملها. فهي في عالم الرّؤيا ترى وتسمع وتطير. إذن فالرّوح ليست محتاجة إلى الجسم، وإن كان الجسم محتاجًا إلى الرّوح. ولهذا فالرّوح خالدة لا تعتريها العوارض ولا الخلل ولا الفتور.

كتب أحدهم في إحدى الصحف قائلاً: كنّا نتوقع أن يحدّثنا فلان عن أساس دعوة بهاء الله إلا أنّه تحدّث عن الرّوح. ولهذا فإنّنا لم نستفد، كما يليق وينبغي. وحدث أنّني ذكرت أساس دين حضرة بهاء الله في جمعيّة أخرى، وفصّلت فيه القول فلم أجد ضرورة للتّكرار. ولا يليق بي أن أكرّر بيانًا واحدًا في كلّ المجالس. فمن العجز أن يقتصر الإنسان على مسألة واحدة يبيّنها في كلّ مجلس يخطب فيه. ولهذا فإنّي اتّحدث في كلّ مجلس بحديث مختلف، ولا أكرّر أيّ حديث أو بيان، لأنّ الفائدة تتحقّق في أن اتحدّث في كلّ مجلس بحديث مخصوص، والإنسان العاقل لا يقدّم للناس طعامًا واحدًا في جميع الأوقات. بل لا بدّ له من أن يقدّم في كلّ يوم طعامًا جديدًا، ولو أنّه قدّم طعامًا واحدًا لحصل الملل، ولعاف النّاس الطّعام وزهدوا فيه. إذن فلا بدّ من أن يقدّم في كلّ يوم فاكهة جديدة. والطّبيب يصف في كلّ يوم دواء جديدًا، ولا يليق به أن يصف دواءً واحدًا في كلّ حين، والأمر الّذي أحبّ أن أوضّحه هو أنّني عملاً بهذه الحكمة لم اتّحدث بالأمس عن مبادئ حضرة بهاء الله، ولهذا رأيت من الضّروري أن أبيّن لكم في كلّ يوم مبدأ من مبادئ حضرة بهاء الله لكي تدركوها حق الإدراك (أرجو أن تترجم لي أيّ سؤال يسأله أحد الحاضرين حتّى يكونوا جميعًا على علم كامل بمبادئ حضرة بهاء الله).

أوّل مبدأ من مبادئ حضرة بهاء الله تحرّي الحقيقة، ومعنى ذلك أنّه ينبغي أن ينزّه النّاس نفوسهم ويقدّسوها عن تلك التّقاليد الّتي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، فللموسويّين تقاليدهم، وللزرادشتيّين تقاليدهم، وللمسيحيّين تقاليدهم وللبوذيّين تقاليدهم، ولكل ملّة تقاليدها، وكل ملّة تحسب أنّ تقاليدها هي الحقّ وأنّ تقاليد الآخرين باطلة، فالموسويّون مثلاً يتصوّرون أنّ تقاليدهم هي الحقّ وتقاليد الآخرين باطلة، ونحن نريد أن نعرف أيّها هو الصّحيح، والواقع أنّ جميع التّقاليد ليست صحيحة، فلو أنّنا تمسكنا بتقليد معيّن لمنعنا ذلك عن التّدقيق في تحرّي تقاليد الآخرين، فاليهوديّ المؤمن والمتمسّك بتقاليد الموسويّين لا يمكنه قطّ أن يدرك أنّ الآخرين على حقّ، إذن فلا بدّ من التّخلي عن التّقاليد، ولا بدّ من تحرّي الحقيقة عسى أن يكون الحقّ مع الآخرين. وعلى ذلك فإنّه ما لم نترك ونهجر التّقاليد فإنّ الحقيقة لا تبدو ولا تتجلّى. فعبدة الأوثان مثلاً يقولون إنّ الأوثان حقّ، وما لم يتركوا هذه التّقاليد فلن يتمكّنوا من أن يفوزوا بالهداية ولن يدركوا وحدانيّة الله وعند تحرّي الحقيقة يتوجّب على الإنسان أن يتخلّى عن التّقاليد، فعلى جميع الملل إذًا أن تهجر التّقاليد، ثمّ تتحرّى الحقيقة. وبهذا لا بدّ أن تظهر الحقيقة.

ولو افترضنا أنّ هناك خمسة أشخاص، وأنّ كلّ واحد من هؤلاء الخمسة يدّعي أنّه أعلم من الآخر فلا بدّ من وضعهم موضع الامتحان. وما لم نترك التّعصّب فكيف نستطيع أن نظهر الحقيقة؟ فالمجوسيّ يقول أنا على حقّ، واليهوديّ يقول أنا على حقّ، والمسيحيّ يقول أنا على حقّ، والبوذيّ يقول أنا على حقّ. فكيف يمكن أن يظهر الحقّ؟ إذن لا بدّ أن يترك الموسويّ التّعصّب، ويترك المسيحيّ التّعصّب، ويترك البوذيّ التّعصّب، وما لم يتمّ هذا فلا يمكن للحقّ أن يظهر.

إنّ غاية طالب العلم العاقل الكامل هي تحصيل العلم بغض النّظر عن الّذي بينه له، والنّور محبوبه في أيّ زجاج أضاء، والورد مطلوبه في أيّة أرض نبت، والنّيِّر الأعظم يهب الفيض الإلهيّ من أيّ مشرق طلع. ولا يجوز أن يتعصّب، بل ينبغي أن يكون عاشقًا للشّمس سواء طلعت من المشرق الموسوي أم المحمّدي أم العيسوي. فالشّمس هي الشّمس.

وعلى هذا فالحقيقة يجب أن تكون هدف الإنسان بغض الطّرف عمّن سمعها منه. هذه هي مسألة تحرّي الحقيقة.

فما هي نتيجة هذا البحث؟

نتيجته أنّ على جميع ملل العالم أن تتخلّى عن كلّ ما سمعت من قبل، وألاّ تتمسّك بملّة ما أو تنفر من غيرها من الملل. فلعلّ الملّة الّتي نفرت منها على حقّ، ولعلّ تلك الّتي تمسّكت بها على باطل، فإذا ما تخلّت عمّا سمعت ولم تتمسّك بملّة معيّنة ولم تنفر من غيرها عندئذ يبدأ تحرّي الحقيقة وسوف تلاحظ في النّهاية أنّ حقيقة الأديان الإلهيّة واحدة، وأنّ الاختلاف منحصر في التّقاليد، وهكذا يكون تحرّي الحقيقة سببًا في اتّفاق جميع البشر.

هذا مبدأ من مبادئ حضرة بهاء الله. وغدًا نحدثكم عن مبادئ دينه واحدًا بعد الآخر حتّى يمكنكم الوقوف عليها جيّدًا. ففكّروا وتعمّقوا في هذا المبدأ كي أحدّثكم غدًا عن مبدأ آخر.

المصادر
المحتوى
OV