الدّين تؤام العلم

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

الدّين توأم العلم

في يوم الأحد الموافق 12 تشرين الثّاني 1911 ألقى

حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية في منزله المبارك:

هو الله

بالأمس بيّنّا المبدأ الثّاني من مبادئ البهائيّة وهو وحدة العالم الإنسانيّ. أمّا المبدأ الثّالث فهو أنّ الدّين توأم العلم. فإذا وُجدت مسألة من مسائل الدّين لا تطابق العقل والعلم كانت هذه المسألة وهمًا. لأنّ الجهل ضدّ العلم. فإذا كان الدّين ضدّ العلم فهو الجهل. وإذا كانت هناك مسألة تخرج عن طور العقل الكلّيّ الإلهيّ فكيف نتوقّع أن يقنع بها الإنسان، إذ إنّه لو فعل ذلك لسمّينا ذلك اعتقاد العوام.

أمّا الأساس الّذي وضعه جميع الأنبياء فهو الحقيقة، وهي واحدة ومطابقة بأكملها للعلم. فوحدانيّة الله مثلاً، أليست مطابقة للعقل؟ والرّوحانيّة الإنسانيّة أليست مطابقة للعقل؟ والنّية الصّادقة والصّدق والأمانة والوفاء أليست مطابقة للعقل؟ والثّبات والاستقامة والأخلاق الحميدة أليست مطابقة للعقل؟ إذًا فجميع أحكام الشّريعة الإلهيّة مطابقة للعقل. وتفصيل ذلك أنّ الدّين منقسم إلى قسمين: أحدهما يتعلّق بالرّوحانيّات وهو الأصل. والقسم الثّاني يتعلّق بالجسمانيّات أي المعاملات.

أمّا القسم المتعلّق بالرّوحانيّات والإلهيّات فإنّه لم يتغيّر ولم يتبدّل، وبه بعث جميع الأنبياء الّذين أسّسوا فضائل العالم الإنسانيّ، بمعنى أنّ قبسًا من شمس الحقيقة سطع على عالم الأخلاق فأضاءها وهطل غمام العناية. ازدهرت حديقة الحقيقة وأينعت. وهذا أساس رسالة جميع الأنبياء وهو يتعلذق بعالم الأخلاق والمعرفة، وهو واحد لا يتغيّر، إذ الحقيقة لا تتعدّد ولا تقبل التّعدّد.

أمّا القسم الثّاني من الدّين الإلهيّ -وهو المتعلّق بالأجسام والأحكام فإنّه يتغيّر ويتبدّل بمقتضى الزّمان والمكان. ففي زمان موسى نصّت التّوراة على عشرة أحكام بالقتل. وكان ذلك بمقتضى ذلك الزّمان. أمّا في عهد المسيح فإنّ الزّمان لم يكن يقتضي ذلك. هذا هو سبب التّغيير الّذي حصل، فالقصاص في التّوراة مثلاً يقوم على أساس العين بالعين، ومعنى ذلك أنّه إذا كسر إنسان سنّ إنسان آخر كسرت سنّه. وإذا سرق إنسان قُطعت يده، فهل يمكن الآن القيام بهذا العمل؟ أو هل يمكن قتل مَنْ يكسر السّبت، أو قتل مَنْ يسبّ أباه؟ إنّ ذلك مستحيل اليوم وممتنع. ذلك لأنّ الزمان لا يقتضيه.

اتّضح إذن أنّ لشريعة الله وجهين، أحدهما روحانيّ يتعلّق بعالم الأخلاق والمعرفة وفضائل العالم الإنسانيّ، وهذا لا تغيير فيه ولا تبديل، فهو واحد دائمًا أبدًا، والثّاني لا يتعلّق بالأخلاق، وهذا يتغيّر حسب مقتضيات الزمان.

أمّا أساس دين الله فهو الأخلاق وإشراق نور المعرفة والفضائل الإنسانيّة. وكل ملّة ترتقي إذا تحسّنت أخلاقها، كما أنّ تهذيب الأخلاق مطابق للعقل، ولا خلاف في ذلك أبدًا.

لذلك إذا كان الدّين مخالفًا للعقل فهو أوهام، وهذه أيضًا مسألة من مسائل وتعاليم بهاء الله. فطابقوا إذن جميع عقائدكم على العلم حتّى يتّفق العلم والدّين. ذلك لأنّ الدّين هو أحد جناحي الإنسان والعلم هو الجناح الآخر والإنسان يطير بجناحين ولا يستطيع أن يطير بجناح واحد.

أمّا جميع تقاليد الأديان فهي مخالفة للعقل والعلم ولحقيقة الأديان، ومن هذه التّقاليد نشأت المفاسد الّتي أصبحت سببًا للعداوة والبغضاء بين البشر، ولو طابق النّاس بين الدّين والعلم لظهرت الحقيقة، ولأصبح ظهور الحقيقة سببًا لإزالة الخلاف ولزال البغض الدّينيّ بل لاختلط جميع البشر مع بعضهم البعض بنهاية الألفة والمحبّة. فركّزوا أفكاركم إذن على تطبيق العلم على الدّين، وتطبيق الدّين على العلم.

المصادر
المحتوى
OV