النّفس واسطة بين الرّوح والجسد

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

النّفس واسطة بين الرّوح والجسد

في يوم الخميس الموافق 16 تشرين الثّاني 1911 ألقى

حضرة عبد البهاء أيضًا الخطبة التّالية في منزله المبارك:

هو الله

في العالم الإنسانيّ مقامات ثلاثة: مقام الجسم وهو المقام الحيوانيّ للإنسان، الّذي يشترك فيه مع جميع الحيوانات في كلّ القوى وجميع الشّؤون، فجسم الحيوان مركّب من العناصر وجسم الإنسان أيضًا مركّب من العناصر، وللحيوان حواس مثل السّمع والبصر والذّوق والشّم واللّمس. وكذلك الإنسان يمتلك هذه القوى، إلاّ أنّ الحيوان تنقصه النّفس النّاطقة، وهذه النّفس النّاطقة هي الواسطة بين الرّوح الإنسانيّ والجسم، وهذه النّفس النّاطقة كاشفة لأسرار الكائنات بشرط أن تستمدّ من الرّوح وتستفيض منها لأنّه إذا لم يصل المدد من الرّوح إلى النّفس أصبح حكمها حكم سائر الحيوانات، وتغلّبت عليها الشّهوات، وهذا هو سبب ما نلاحظه منه أنّ بعض البشر على صفة البقر، ومحض حيوان ولا يمتازون عنها بأيّ شيء.

أمّا إذا استفاضت هذه النّفس من عالم الرّوح فإنّ إنسانيّتها تتجلّى عندئذٍ.

اتّضح إذن أنّ للنّفس جانبين: جانب جسمانيّ وجانب روحانيّ فإن تغلّب الجانب الحيوانيّ على النّفس أصبح الإنسان أكثر شرًّا من الحيوان وهذا هو السّبب في أنّنا نرى في عالم البشر أناسًا أشدّ فتكًا وافتراسًا من الحيوان، وأشدّ ظلمًا من الحيوان، وأشدّ ضراوة من الحيوان، وأخسّ من الحيوان. فهم سبب لأذيّة البشر، وعلّة لنكبة العالم الإنسانيّ، ومركز الظّلمات.

وإذا تغلّب الجانب الرّوحانيّ على النّفس أصبحت النّفس قدسيّة وأصبحت ملكوتيّة، وأصبحت سماويّة، وأصبحت ربّانيّة، وأشرقت فيها جميع فضائل الملأ الأعلى، وكانت رحمة من الله الّتي أصبحت سببًا لاطمئنان العالم الإنسانيّ وراحته، وهذا هو الفرق بين النّفس الأمّارة بالسّوء والنّفس المطمئنّة.

اتّضح إذن أنّ النّفس واسطة بين الرّوح والجسد، مثلها مثل ساق هذه الشّجرة فهي واسطة بين هذه التّربة والثّمر. فإذا ظهر هذا الثّمر من هذا الشّجر كان مظهرًا للكمالات. وكذلك حال النّفس إذا تأيّدت بالرّوح فإنّها تكون نفسًا مباركة. أمّا إذا لم تعطِ الشّجرة أيّة ثمرة، وظلّت على ما هي عليه نابتة من التّربة كانت لا تصلح إلا للنّار، وهذا مثل ضربته لكم لتفهموا.

وإنّني لآمل من ألطاف الله اللاّنهائيّة أن تتغلّب أرواحكم حتّى تصبح نفوسكم نفوسًا قدسيّة، وتتجلّى الكمالات السّماويّة فيكم جميعًا، وتشرق عليكم أنوار شمس الحقيقة، وتقوموا في هذا العالم بأعمال وتنطقوا بأقوال تجعل منكم شموعًا للبشريّة جمعاء.

ألا ترون جميع البشر وقد شغلهم عالم النّاسوت، فلا يفكّرون قطّ في تهذيب الأخلاق أو بفيض اللاّهوت، ولا يفكّرون قطّ في اكتساب كمالات العالم الإنسانيّ. بل إنّهم قد انهمكوا كالحيوانات في عالم الشّهوات، يأكلون ويشربون ويتوسّعون في معيشتهم كالحيوان سواء بسواء. نعم إنّ الإنسان لا بدّ أن يفكّر في معيشته، ولكنّه لا ينبغي أن يحصر تفكيره في المعيشة وحدها. بل ينبغي أن يكون فكره رفيعًا، وأن يسعى إلى أن يكون مظهر الموهبة الإلهيّة، وأن يكسب الكمالات المعنويّة ويتحلّى بين الخَلق بالأخلاق السّماويّة، حتّى يصبح شخصًا ملكوتيًّا. وإلاّ كان ناسوتيًّا يقضي على وجه الأرض أيّامًا معدودات يحياها كالحيوان ثمّ يمضي. وأنا أريد لكم عالمًا من نوع آخر وأريد أن تكونوا أرواحًا مجسّمة كي تصبحوا سبب حياة العالم الإنسانيّ.

المصادر
المحتوى
OV