تعاليم بهاء الله -إلى أمريكا ليلة الخميس 28 آذار 1912

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

تعاليم بهاء الله

ألقى حضرة عبد البهاء الخطبة التّالية على ظهر الباخرة

سدريك هوايت ستارلاين كومباني في سفره المبارك

إلى أمريكا ليلة الخميس 28 آذار 1912

هو الله

أشكر الله على جمعه في هذا المحفل أجناسًا مختلفة فنحن من أهل الشّرق وأنتم من أهل الغرب. إنّ هذا الاجتماع لدليل على إمكانيّة التّآلف بين الشّرق والغرب لأنّ أوّل تجلٍّ فيه هو تجلّي المحبّة. ونشكر الله لأنّه تهيّأت لنا وسائل المحبّة والألفة.

عندما ننظر إلى الكائنات نرى أنّ لكلّ كائن كمالات. فللجماد كمالات وللنّبات كمالات ولكنّ عالم النّبات يملك كمالات الجماد فضلاً عمّا لديه من كمالات نباتيّة. وكذلك الحيوان يملك كمالات نباتيّة فضلاً عمّا لديه من كمالات حيوانيّة. ونصل أخيرًا إلى الإنسان الّذي هو اشرف جميع المخلوقات وجامع لجميع الكمالات الخاصّة بالجماد والنّبات والحيوان وحائز فوق ذلك على الكمال الإنسانيّ الخاصّ به.

وحينما ننظر إلى التّاريخ البشريّ نرى أنّ العالم الإنسانيّ منذ البداية ولا يزال حتّى الآن متوجّهًا نحو الكمال ومع أنّ كمالاته غير محدودة إلاّ أنّه لم يصل حتّى الآن إلى الرّقيّ التّامّ وإلى درجة البلوغ وهكذا شهدت القرون الأولى والقرون الوسطى والقرون الأخيرة حروبًا مستديمة إمّا بين دولتين أو بين أمّتين أو بين دينين أو بين مذهبين. وقد تهدّمت بنتيجتها آلاف البيوت وأصبح مئات الألوف من الأبناء أيتامًا وثكلت مئات الألوف من الأمّهات أبناءهنّ. لهذا فإنّ العالم الإنسانيّ لم يصل بعد إلى الكمال. فهذا الافتراس لائق بعالم الحيوان لا بعالم الإنسان. وما يليق بالإنسان هو المحبّة. ولا تليق الحروب والمشاحنات إلاّ بالحيوانات المفترسة.

إنّ الحيوانات المفترسة تفترس بقدر ما يلزمها لقوتها الضّروري أمّا الإنسان فإنّه يقوم بالقتل لا من أجل قوته الضّروري بل من أجل إبراز شهرته وإظهار قدرته وإشهار سطوته وصولته. والإنسان لا يملك آلة الافتراس أي المخالب والأنياب المعقوفة الّتي لدى الذّئاب والكلاب بل يملك الأسنان لأكل الحبوب والفواكه. ومع هذا فإنّه مفترس متعطّش للدّماء. والحيوانات لا تفترس حيوانات من جنسها بل تفترس حيوانات من جنس آخر ليكون طعامًا لها. فالأسد مثلاً لا يفترس شبله، لكنّ كثيرًا من الملوك قتلوا حتّى أولادهم. إذن فالإنسان الغافل الظّالم أشدّ افتراسًا من الحيوان.

لهذا جاء جميع الأنبياء لتعليم المحبّة وكان الدّين الإلهيّ أساس الألفة والمحبّة ولكن ويا للأسف جعل النّاس كلّ ما كان سبب الألفة والمحبّة علّة العداوة وحدثت باستمرار حروب متنوّعة سواء كانت حروبًا عرقيّة أم حروبًا دينيّة أم حروبًا سياسيّة أم حروبًا وطنيّة. مع أنّ النّوع الإنسانيّ كلّه جنس واحد وجميعهم سلالة آدم وجميعهم أهل وطن واحد فلماذا يختلفون؟ ولماذا يتحاربون؟

لقد خلق الله الجميع جنسًا واحدًا وخلق الأرض كرة واحدة وخلق الجميع سلالة واحدة، فهل يليق أن يخرّب بعضهم ممالك البعض الآخر ويهلك بعضهم البعض الآخر؟

لاحظوا الأمّ المسكينة وكم تلاقي من الغصص وتتحمّل من المشاق مدّة عشرين سنة فلا تنام ليلها ولا تستقرّ نهارها كي يكبر ولدها ويصير شابًّا لطيفًا. وفجأة يسلب الحكّام ذلك الشّاب الوسيم القامة ويضعونه أمام المدفع ويسلّمونه إلى القتل دون هدف أو نتيجة.

لاحظوا كم من دماء سفكت حين تغلّبت فرنسا على ألمانيا، ثمّ عادت ألمانيا فتغلّبت عليها. وكم أتلف من النّفوس كلّ مرّة دون نتيجة! وكيف أنّ في النّهاية يفنى الجميع.

والدّولة اليونانيّة في سالف الزمان فتحت كثيرًا من الممالك فماذا كانت العاقبة؟ وأخضع الرّومان جميع أوروبّا فماذا كانت العاقبة؟ لقد قام هؤلاء بفتوحات أفني بنتيجتها هباء أربعة ملايين من النّفوس! فماذا كانت النّتيجة؟ لقد غلبوا في النّهاية. قسمًا بالعزّة الإلهيّة إنّ مثل هذا الاقتتال لا يليق حتّى بالعالم الحيوانيّ فكيف بالإنسان!

والله الرّؤوف خلقنا جميعًا وهو يرزق الجميع ويرأف بهم. إذن يجب أن نتّبع السّياسة الإلهيّة، إنّ الإنسان مهما بذل من جهد فإنّه لن يستطيع أن يؤسّس سياسة أفضل من السّياسة الإلهيّة. إنّ الله في سلم مع الجميع فلماذا نكون في حرب في ما بيننا؟ وهو رؤوف بالكلّ فلماذا نكون قساة بعضنا نحو البعض الآخر؟

وخلاصة القول إنّ القرون الماضية كانت قرون جهل أمّا هذا القرن فللّه الحمد قرن العلم وقرن الأخلاق وقرن التّمدّن وقرن اكتشاف حقائق الأشياء ولقد ارتقت العقول فيه واتّسعت دائرة الأفكار. وكم هو رائع أن تتحقّق في هذا القرن النّورانيّ وحدة العالم الإنسانيّ فتصبح جميع الفرق فرقة واحدة ويترك النّاس التّعصّبات الدّينيّة والتّعصّبات الجنسيّة والتّعصّبات الوطنيّة والتّعصّبات السّياسيّة.

ولقد ضحّى حضرة المسيح بروحه العزيزة من أجل هذا المقصد، وأعطانا مثالاً لنقتدي به فيجب أن تفعلوا أنتم مثلما فعل. وبذل حضرة موسى جهده في هذا السّبيل أربعين عامًا. كما بذل حضرة إبراهيم الهمّة من أجل هذا المقصد ذاته كي نبذل نحن أيضًا الجهد المستمرّ في سبيل الألفة والمحبّة. لأنّ راحة البشر ونورانيّة العالم الإنسانيّ تكمنان في المحبّة والألفة.

وفي الوقت الّذي كانت تعيش الفرق والملل المختلفة في إيران وكان الفرس والعرب والمجوس واليهود والنّصارى والمسلمون والطّوائف والأديان المختلفة في منتهى المشاكسة ويعتبر بعضهم البعض الآخر نجسًا بحيث لم يكن اجتماعهم ممكنًا حول مائدة واحدة ففي مثل هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله من الشّرق ظهور الشّمس ورفع علم الوحدة الإنسانيّة وألَّف بين الأقوام المختلفة بحيث لو دخل أحد مجامع البهائيّين فإنّه لا يعرف أيّهم المسيحيّ وأيّهم المسلّم وأيّهم اليهوديّ وأيّهم الزّرادشتيّ.

والتّعليم الأوّل لحضرته هو وحدة العالم الإنسانيّ حيث تفضّل بالقول كلّكم عبيد إله واحد وفي ظلّ مربّ حقيقيّ واحد. وقد خلع الله على الجميع صفة الإنسانيّة. وغاية ما في الأمر أنّ بعضهم جاهل يجب إرشاده، وطفل تجب تربيته، مريض تجب معالجته. أفهل يليق أن لا نعتني بالمريض أو نكون قساة مع الطّفل؟

التّعليم الثّاني لحضرة بهاء الله هو تحرّي الحقيقة لأنّ الملل والأديان المختلفة لو تحرّت الحقيقة فإنّها تتّحد. ولقد روَّج حضرة موسى الحقيقة وكذا حضرة المسيح وحضرة إبراهيم وحضرة الرّسول وحضرة الباب وحضرة بهاء الله كلّهم أسّسوا الحقيقة وروّجوها.

التّعليم الثّالث لحضرة بهاء الله هو أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة والمحبّة فإن أصبح سبب الاختلاف فإنّ عدمه خير من وجوده.

التّعليم الرّابع لحضرة بهاء الله هو أنّ الدّين والعلم توأمان فإذا خالف الدّين العلم صار جهلاً. إذن يجب أن نطبّق جميع المسائل الدينيّة على العلم لأنّ ما يخالف العلم جهل. والحكمة والعقل السّليم يطابقان الدّين ويؤيّدانه ولا يخالفانه في شيء.

التّعليم الخامس لحضرة بهاء الله هو أنّ التّعصّب الدينيّ والتّعصّب السّياسيّ والتّعصّب الجنسيّ والتّعصّب الوطنيّ هادمة للبنيان الإنسانيّ وبوجود هذه التّعصّبات لا يمكن أن يرتقي العالم الإنسانيّ.

التّعليم السّادس لحضرة بهاء الله تساوي حقوق الرّجال والنّساء فيجب أن تتحقّق هذه المساواة كي يساوي النّساء الرّجال في جميع الكمالات.

التّعليم السّابع لحضرة بهاء الله هو تساوي حقوق الأفراد وتعديل نمط المعيشة ويجب أن ينال جميع البشر نصيبًا من السّعادة والرّاحة. فإذا عاش الغنيّ في قصرٍ عالٍ فيجب أن يكون للفقير كذلك عشّ حقير وإذا كان الغنيّ في منتهى الثّروة فيجب أن يكون للفقير أيضًا قوت كي لا يموت. ولكن يجب المحافظة على تفاوت الدّرجات لأنّه لا يمكن أن يكون الجميع متساوين.

التّعليم الثّامن لحضرة بهاء الله هو أنّ العالم الإنسانيّ مهما ارتقى رقيًّا مادّيًّا فإنّه يبقى محتاجًا لنفثات الرّوح القدس ولقد بذل القدماء جهدًا مخلصًا في سبيل إيجاد وسائل لتربية النّفوس بقوّة العقل لكنّ الفلاسفة استطاعوا فقط تربية أنفسهم وتربية بعض النّفوس القليلة لكنّهم لم يستطيعوا تربية العموم وكلّ قوّة تعجز عن تربية العموم ما عدا قوّة الرّوح القدس. فمثلاً حضرة المسيح قام بتربية العموم بقوّة الرّوح القدس وألّف بين الملل المختلفة بحيث تآلفت أمم الكلدان والمصريّين والرّومان واليونان والآشوريّين وغيرها بقوّة الرّوح القدس. إذن فالعالم الإنسانيّ محتاج لهذه القوّة الإلهيّة كي يرتقي من ناحية العلم والعقل ومن الوجهة الرّوحانيّة أيضًا.

إنّ العقلية المادّيّة والسّياسيّة المادّيّة هي في أكثر الأحيان سبب التّفرّقة والاختلاف ويعتقد بعض السّياسيّين أنّ فلاسفة اليونان بثّوا بذور التّفرّقة بين الإيرانيّين كي يظلّوا ضعفاء. وكان هذا سبببًا في تشتّت الإيرانيّين في ما بينهم سنين عديدة. أمّا الرّوح القدس فقد كان سبب الاتّحاد والاتّفاق في ما بينهم.

إذن يجب علينا أن نبذل الجهد كي تصبح جميع أقاليم العالم إقليمًا واحدًا. فالعالم الإنسانيّ أشبه شيء بقطيع من الغنم وراعيه هو الله. فما دام الرّاعي رؤوفًا بالكلّ فلماذا تكون الأغنام متنازعة؟ ولا يجوز نسيان نصائح الرّاعي الرّؤوف كهذا. فقد أراد لنا الألفة فلماذا نريد لأنفسنا التّفرّقة وأرسل الأنبياء والأولياء كي نتّفق جميعًا فلماذا نختلف؟

الحمد لله إنّنا مجتمعون هذه اللّيلة في هذا المجمع المحترم. فأملي أن نكون سبب نورانيّة العالم الإنسانيّ وأن لا تهمّنا قلّة عددنا. فكثيرًا ما حدث أنّ أفرادًا قلائل معدودين قاموا بأمور مهمّة وتوفّقوا في إنجازها. فقد كان أصحاب حضرة المسيح قليلين ولكن بما أنّهم كانوا ذوي نوايا حسنة لذلك تغلّبوا على العالم. والآن وإن كنّا نحن قلّة هنا إلاّ أنّني أرجو أن نكون سبب القضاء على الحروب والمشاحنات. بحيث ينبغي لنا أن نبذل أرواحنا وأموالنا من أجل هذا المقصد العزيز كي يتحقّق الصّلح العموميّ. لأن كلّ أمر عموميّ هو إلهيّ وغير محدود وكلّ أمر خصوصيّ بشريّ ومحدود. فعلينا أن نضحّي بأمورنا الخصوصيّة من أجل الأمور العموميّة وإنّي أقوم بهذه الجولة من أجل ألفة الشّرق والغرب وأتمنّى أن تؤيّدوني أنتم أيضًا في مهمّتي.

لقد قضينا ستّة آلاف سنة في الحروب والمشاحنات ورأينا نتائج ذلك والآن يتوجّب علينا أن نصرف قسطًا من وقتنا وهمّتنا في سبيل المحبّة والألفة فإن لمسنا في ذلك ضررًا عدنا إلى ما كنّا عليه.

ولا شكّ أنّ النّورانيّة السّماويّة تتغلّب فتجعل النّاسوتيّ لاهوتيًّا والظّلمانيّ نورانيًّا. وإنّي أدعو الله من أجلكم كي توفّقوا إلى خدمة العالم الإنسانيّ. وسوف يأتي يوم تصبح فيه ملل الشّرق والغرب في كمال الألفة والاتّحاد في ما بينها.

المصادر
المحتوى
OV