نداء وحدة العالم الإنسانيّ

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

نداء وحدة العالم الإنسانيّ

ألقيت في كنيسة كربث متوديث في نيويورك بتاريخ 13 أيّار 1912

هو الله

عندما ننظر إلى التّاريخ نشاهد أنّ البشر منذ بداية العالم الإنسانيّ إلى زماننا هذا كانوا في حرب وجدال فإمّا كانت الحرب بين الأديان وإمّا كانت بين الأجناس وإمّا كان النّزاع بين الدّول وإمّا بين إقليمين وكانت جميع تلك الحروب ناشئة من جهل البشر ومن سوء التّفاهم أو من عدم التّربية.

إنّ أعظم نزاع وقتال كان بين الأديان في حين أنّ أنبياء الله جاؤوا بين البشر من أجل الألفة والاتّحاد لأنّهم كانوا رعاة لا ذئاب والرّاعي يأتي من أجل جمع الخراف لا من أجل تفريقها. فكلّ راعٍ إلهيّ من أولئك الرّعاة جمع جماعة من الأغنام المفرّقة فكان أحدهم حضرة موسى الّذي جمع أغنام أسباط إسرائيل المتفرّقة وألَّف بينها وذهب بها إلى الأرض المقدّسة فبعد تفرّقهم جمعهم ولمَّ شعثهم وصار سببًا لرقيّهم فتبدّلت بهذا ذلّتهم إلى عزّة وفقرهم إلى غنى ورذائل أخلاقهم إلى فضائل إلى درجة تأسّست سلطنة سليمان وبلغ صيت عزّتهم الشّرق والغرب.

إذن اتّضح أنّ موسى كان راعيًا حقيقيًّا لأنّه جمع أغنام إسرائيل المتفرّقة وألَّف بينها. وعندما ظهر حضرة المسيح صار سببًا في جمع الأغنام المتفرّقة وفي ألفتها فجمع أغنام إسرائيل المتفرّقة مع أغنام اليونان والرّومان والكلدانيّين والسّوريّين والمصريّين وقد كانت هذه الأقوام في منتهى الجدال والقتال في ما بينها يسفك بعضها دم البعض الآخر ويمزّق بعضها البعض الآخر شان الحيوانات المفترسة. ولكنّ حضرة المسيح جمع هذه الملل ووحَّدها وألَّف بينها وهدم بناء النّزاع والجدال هدمًا تامًّا.

إذن اتّضح أنّ الأديان الإلهيّة كانت سبب الألفة والمحبّة. وليس دين الله سبب النّزاع والجدال. فإن صار الدّين سبب الجدال والقتال فإنّ عدمه خير من وجوده لأنّ الدّين يجب أن يكون سبب الحياة فإن صار الدّين سبب الممات فلا شكّ أنّ عدمه خير من وجوده ولأصبحت اللاّدينيّة خيرًا منه لأنّ التّعاليم الدّينيّة بمثابة العلاج فإن أصبح العلاج سبب المرض فلا شكّ أنّ عدم الدّواء خير وأولى.

وكذلك حينما كانت القبائل العربيّة في منتهى العداوة والجدال يسفك بعضها دم البعض الآخر وتنهب الأموال وتؤسر النّساء والأطفال وحينما كانت الحروب بينها مستمرّة ودائمة في صحراء الجزيرة العربيّة حيث لم تجد نفس راحة ولم يقرّ لقبيلة قرار ففي مثل هذا الوقت ظهر حضرة محمّد فجمع هؤلاء وألَّف بين القبائل المتفرّقة ووحَّدها فلم يبقَ بين العرب قتال مطلقًا وبلغوا في الرّقيّ درجة تأسّست فيها الخلافة الكبرى وتأسّست سلطنة في الأندلس.

أمّا هذه الخلافات فقد نشأت من التّقاليد الّتي ظهرت فيما بعد فأصل الدّين واحد وهو الحقيقة وأساس الأديان إنّما هو أساس إلهيّ لا اختلاف فيه وإنّ الاختلاف ينشأ من التّقاليد. ولمّا كانت التّقاليد مختلفة لهذا صارت سببًا في الاختلاف والجدال، فلو تركت جميع أديان العالم تقاليدها واتّبعت أساس الدّين فإنّها تتّفق في ما بينها ولن يبقى نزاع ولا جدال لأنّ الدّين حقيقة والحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد.

أمّا الامتيازات العنصريّة والاختلافات القوميّة فإنّها وهمٌ محض لأنّ النّوع البشريّ نوع واحد وكلّه جنس واحد وجميعه سلالة شخص واحد وجميعه سكّان الكرة الأرضيّة.

ولم يكن الاختلاف العنصري في أصل الخلقة الإلهيّة فقد خلق الله خلقة بشريّة واحدة فلم يخلق واحدًا إنكليزيًّا والآخر فرنسيًّا والآخر إيرانيًّا والآخر أمريكيًّا لهذا فليس هناك اختلاف في الجنس البشريّ والكلّ أوراق شجرة واحدة وأمواج بحر واحد وأثمار شجرة واحدة ورياحين حديقة واحدة.

لاحظوا عالم الحيوانات ليس بينها تمييز في النّوع فأغنام الشّرق ترعى مع أغنام الغرب لا ينظر بعضها البعض الآخر بعين الغرباء ولا يعتبره أجنبيًّا بل يرعى بعضها مع البعض الآخر في منتهى الألفة والوئام وليس بينها نزاع عنصريّ ولا نزاع قوميّ وكذلك الأمر في طيور الشّرق والغرب حيث نجد الحمام في منتهى الألفة والارتباط لا امتيازات قوميّة بينهم أبدًا. إنّ هذه الأمور لا تكون سببًا لوجود هذه الأوهام بين الحيوانات المجردة من الشّعور فهل يليق بالإنسان أن يتّبع مثل هذه الأوهام؟ في حين أنّه عاقل ومظهر الوداعة الإلهيّة وله قوّة مدركة وقوّة مفكّرة. ومع وجود هذه المواهب كيف يتّبع أمثال هذه الأوهام؟ فيقول أحدهم إنّني ألمانيّ ويقول الآخر إنّني إنكليزيّ ويقول الآخر إنّني إيطالي وبهذه الأوهام يتنازعون في ما بينهم ويتحاربون. فهل هذا لائق؟ لا والله. لأنّ الحيوانات لا ترضى بهذه الأوهام فكيف يرضى الإنسان بها؟ مع أنّها أوهام وخيالات محضة.

أتجوز هذه الحروب وهذه الاختلافات الوطنيّة أو يقال هذا شرق وذاك غرب وهذا جنوب وذاك شمال؟ لا والله. إنّ هذه الأقوال أوهام محضة وخيالات صرفة فجميع الأرض قطعة واحدة ووطن واحد لهذا يجب أن لا يتمسّك البشر بهذه الأوهام.

والآن جئت ولله الحمد من الشّرق وأرى هذ البلاد في منتهى العمران وهواءها في منتهى البداعة والنّقاء والنّاس في أسمى درجة من الآداب والحكومة عادلة منصفة. فهل يجوز لي أن أقول إنّ هذا ليس وطني وليس أهلاً لرعايتي واحترامي؟ كلاّ إنّ في ذلك منتهى التّعصّب.

يجب على الإنسان أن لا يكون متعصّبًا بل يجب أن يتحرّى الحقيقة ومن المؤكّد أنّ البشر كلّهم نوع واحد وأنّ الأرض وطن واحد وقد ثبت أنّ الباعث لكلّ حرب وقتال هو وهم محض لا أساس له أبدًا.

لاحظوا بلاد طرابلس وشاهدوا ماذا يحدث فيها نتيجة الهجوم الإيطاليّ غير المشروع وكم من مساكين يتمرّغون في دمائهم وتهلك كلّ يوم آلاف النّفوس من كلا الجانبين. وكم من أطفال باتوا بدون آباء وكم من آباء فقدوا أبناءهم وكم من أمّهات يولولن بالعويل لموت أبنائهنّ. لعمركم ما الثّمرة الّتي تُجنى من هذا؟ لا ثمرة ولا نتيجة وليس من الإنصاف أن يكون الإنسان غافلاً إلى هذه الدّرجة من الغفلة.

لاحظوا الحيوانات الوديعة تجدوا أنّه لا حرب بينها ولا جدال فترعى آلاف الأغنام معًا وتطير آلاف الأسراب من الحمام ولا تتنازع أبدًا لكنّ الذّئاب والكلاب المفترسة في نزاع وجدال مستديم. فهي مضطرّة من أجل طعامها إلى الصّيد أمّا الإنسان فليس محتاجًا لذلك فلديه من الأطعمة والأقوات ما يكفيه ولكنّه لمجرّد الطّمع وحبّ الشّهرة والصّيت يسفك هذه الدّماء.

وعظماء البشر في منتهى الرّاحة في قصورهم العالية مستقرّون ويدفعون البؤساء إلى ساحات الحروب ويخترعون كلّ يوم آلة جديدة يهدمون بها البنيان البشريّ ولا يرحمون أبدًا حال هؤلاء المساكين ولا يرثون لحال الأمّهات اللّواتي ربّين أطفالهن بكمال المحبّة وكم من ليال سهرن فيها على راحة أبنائهنّ وكم من أيّام عانين فيها المشاق من أجل تربيتهم إلى أن أوصلنهم إلى البلوغ. فهل يجوز أن ترى الأمّهات والآباء الألوف من أبنائهم تتمزّق إربًا إربًا يوم واحد؟ فأيّة وحشية هذه الوحشيّة وأيّة غفلة وجهالة هذه! وأيّة بغضاء وعداوة هذه!

فالحيوانات المفترسة تفترس مدفوعة بطلب قوتها الضّروريّ، والذّئب يفترس في اليوم حملاً واحدًا. أمّا الإنسان عديم الإنصاف فإنّه في يوم واحد يمرّغ مائة ألف نفس في الدّماء والتّراب ويفتخر قائلاً: إنّني أصبحت بطلاً وبلغت من الشّجاعة والبأس حدًّا أهلكت فيه في يوم واحد مائة ألف ودمّرت مملكة كاملة.

لاحظوا أنّ جهل الإنسان وغفلته بلغت إلى درجة لو يقتل إنسان شخصًا واحدًا فإنّهم يسمّونه قاتلاً ويعاقبونه بعقاب الموت أو الحبس الأبديّ ولكنّهم إذا شاهدوا إنسانًا يقتل في يوم واحد مائة ألف شخص فإنّهم يسمّونه القائد الأعظم وأشجع أهل زمانه. ولو سرق إنسان ريالاً واحدًا من أموال الآخرين فإنّهم يسمّونه خائنًا ظالمًا ولكنّه إذا أغار على مملكة كاملة ونهبها فإنّهم يسمّونه الفاتح العظيم. فما أعظم هذه الجهالة وما أشدّ هذه الغفلة!

وخلاصة القول لقد كانت العداوات والمشاحنات في إيران بين المذاهب والأديان المختلفة في أوجها وكذلك كانت الأديان في منتهى العداوة في سائر ممالك آسيا وكان أتباع المذاهب المختلفة يسفك بعضهم دم البعض الآخر وكانت القبائل والأجناس المختلفة في حرب وجدال ونزاع وقتال مستديم وكانوا يفاخرون في قتل أبناء نوعهم. وإذا تغلّب دين على آخر نهب القوم بعضهم بعضًا وفخروا بهذا منتهى الفخر. ففي وقتٍ مثل هذا ظهر حضرة بهاء الله في إيران وأسّس وحدة العالم الإنسانيّ ووضع أساس الصّلح الأكبر ودعا الجميع عبادًا للرّﺤﻤﻥ والّذي هو خالق الكلّ ورازق الكلّ وهو رؤوف بالكلّ فلماذا لا نرأف ببعضنا؟ وهو رؤوف رحيم بعباده. ولماذا يكون بعضنا أعداء البعض الآخر ما دام الله يحبّ الجميع ولماذا تكون بيننا عداوة وبغضاء؟ ما دام الخالق رؤوفًا بالجميع ويرزق الجميع ويربّيهم لهذا يجب علينا نحن أيضًا أن نحبّ الجميع ونرأف بالجميع، هذه هي السّياسة الإلهيّة وعلينا نحن أن نتّبع السّياسة الإلهيّة.

فهل يمكن أن يؤسّس البشر سياسة أحسن من السّياسة الإلهيّة؟ إنّ هذا غير ممكن أبدًا.

إذن يجب أن نتّبع السّياسة الإلهيّة وكما أنّ الله رؤوف يعامل الجميع بالمحبّة والرّأفة فكذلك نحن يجب أن نكون رؤوفين بالجميع.

وخلاصة القول إنّ حضرة بهاء الله وضع أساس الصّلح العام ورفع نداء وحدة العالم الإنسانيّ ونشر تعاليم الصّلح والسّلام في الشّرق وكتب في هذا الخصوص ألواحًا إلى جميع الملوك وحثَّ الكلّ على الصّلح والسّلام وأعلن للجميع أنّ عزّة العالم الإنسانيّ في الصّلح والسّلام وذلك قبل ستّين سنة.

وبما أنّ أمره تضمّن تعاليم السّلام فقد قام ملوك الشّرق على مخالفته لأنّهم زعموا أنّ نداءه منافٍ لمصالحهم وأهوائهم وآذوه بكلّ نوع من الأذى فضربوه ضربًا مبرّحًا وحبسوه حبسًا شديدًا ونفوه إلى بلاد بعيدة ثمّ حبسوه أخيرًا في قلعة وقاموا على مقاومة أحبّائه.

ومن أجل هذه المسألة أي مسألة ترك التّقاليد الوهميّة وتأسيس الوحدة الإنسانيّة والصّلح والاتّحاد سفكوا دم عشرين ألف نفر. فكم من أسر بدّدوها وكم من نفوس سلبوها وقتلوها.

لكنّ أحبّاء حضرة بهاء الله لم يهنوا أبدًا وما زالوا يسعون حتّى الآن بقلوبهم منتهى السّعي ويرجون الصّلح والاتّفاق وهم قائمون على هذا الأمر الخطير اليوم قيامًا فعليًّا.

إنّ جميع الطّوائف الّتي قبلت تعاليم حضرة بهاء الله أصبحت حماة الصّلح العام ومروّجة لوحدة العالم الإنسانيّ ولها منتهى المحبّة نحو النّوع البشريّ لأنّها تعرف أنّ الجميع كلّهم عبيد إله واحد وكلّهم من جنس واحد وسلالة واحدة وغاية ما في الأمر أنّ البعض جاهل تجب تربيته ومريض تجب معالجته وأطفال يجب تعليمهم وتلقينهم الآداب فلن يجوز اعتبار الطّفل عدوًّا ولن تجوز عداوة المريض بل تجب معالجته. وكذلك الجاهل يجب تعليمه وتربيته.

إنّ أسّ أساس الأديان الإلهيّة هو الألفة ومحبّة البشر ولو كان الدّين الإلهيّ سبب البغضاء والعداوة فإنّه ليس دينًا إلهيًّا لأنّ الدّين يجب أن يكون الاتّحاد وسبب ترويج الألفة والوفاق.

لكنّ مجرد معرفة الشّيء لا يكفي. فكلّنا يعرف أنّ العدل خير لكن لزم لذلك قوّة تنفيذيّة. فمثلاً لو علمنا أنّ بناء المعبد خير فإنّ مجرد العلم بهذا لا يحقّق المعبد أو يجلبه إلى حيّز الوجود بل ينبغي أن تكون هناك إرادة وعزم على البناء ثمّ تلزم الثّروة بعد ذلك. ومجرد العلم لا يكفي. وكلّنا يعلم أنّ الصّلح خير وسبب للحياة لكنّنا في حاجة إلى العمل والتّرويج له.

وحيث إنّ هذا العصر عصر نورانيّ والاستعداد للصّلح موجود فلا بدّ أن تنتشر هذه الأفكار وتبلغ مرحلة العمل والتّنفيذ ومن المؤكّد أنّ الزمان ينشئ حماة الصّلح ويربّيهم. وهناك في جميع أقاليم العالم حماة للصّلح.

وخلاصة القول إنّ أعظم سبب للصّلح هو أساس الأديان الإلهيّة ولو زال سوء التّفاهم من بين الأديان فإنّكم ستلاحظون أنّ الجميع يصبحون حماة للصّلح ومروّجين لوحدة العالم الإنسانيّ لأنّ أساس كلّ الأديان واحد وهو الحقيقة. والحقيقة لا تقبل التّعدّد والانقسام. فمثلاً إنّ حضرة موسى روَّج الحقيقة وحضرة المسيح أسّس الحقيقة وكان حضرة محمّد حاميًا للحقيقة وكان جميع الأنبياء نورًا للحقيقة وقد رفع حضرة بهاء الله راية الحقيقة وروّج الصّلح العام وتفضّل بوحدة العالم الإنسانيّ ولم يجد الرّاحة آنًا واحدًا في سجنه حتّى رفع علم الصّلح في الشّرق وإنّ جميع النّفوس الّتي قبلت تعاليمه أصبحت حامية للصّلح تنفق أرواحها وأموالها في سبيله وكما أنّ النّاس في أمريكا أصبحوا مضرب المثل في الآفاق في رقيّهم المادّيّ واشتهروا في نشر العلوم ورقيّ الصّنائع بالهمّة العالية فكذلك ينبغي أن يكونوا في غاية الغيرة في نشر الصّلح العام حتّى يؤيّدوا ويسري هذا الأمر الخطير من هذا المكان إلى سائر الجهات وإنّي لأدعو في حقّكم حتّى تتوفّقوا وتؤيّدوا في هذا.

المصادر
المحتوى
OV