خلود الرّوح

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

خلود الرّوح

ألقيت هذه الخطبة في مدينة بوسطن في 24 تموز 1912

هو الله

لقد قرأتم في الكتب المقدّسة مسألة بقاء الرّوح وأدلّتها النّقلية فلا حاجة بأن أكرّر ما قرأتموه وسمعتموه بل أذكر لكم الآن الأدلة العقلية على ذلك حتّى ينطبق ما نقوله مع الكتاب المقدّس الّذي يقول بأنّ الرّوح الإنسانيّة باقية. والآن نقيم الأدلّة على ذلك:

الدّليل الأوّل: من الواضح لدى الجميع أنّ كافّة الكائنات الجسمانيّة مركّبة من عناصر ومن كلّ تركيب معين يحصل كائن من الكائنات فمثلاً هذا الورد وجد واكتسب شكله من تركيب العناصر وعندما يتحلّل هذا التّركيب فذاك هو الفناء. ولا بدّ أن ينتهي كلّ تركيب إلى التّحليل ولكن لو كان هذا الكائن الحي غير مركّب من العناصر الجسمانيّة فإنّه لا يتحلّل ولا يموت بل يبقى حيًّا إلى الأبد. وحيث إنّ الرّوح ليست في الأصل مركّبة من عناصر فإنّها لا تتحلّل لأن كلّ تركيب يعقبه تحليل وحيث إنّ الرّوح لا تركيب فيها فإنّها لا تتحلّل.

الدّليل الثّاني: هو أنّ لكلّ كائن من الكائنات له صورة تحقّق وجوده. فإمّا أن تكون له صورة مثلّثة أو صورة مربّعة أو صورة مخمّسة

أو صورة مسدّسة وجميع هذه الصّور المتعدّدة لا يمكن اجتماعها في زمان واحد في كائن واحد ولا يمكن أن يوجد كائن في صور غير متناهية. فصورة المثلّث لكائن ما لا تتحوّل إلى صورة المربّع في آن واحد وصورة المربّع لا تصير مخمّسًا وصورة المخمّس لا تصير مسدّسًا لذلك فإنّ الكائن الواحد إمّا أن تكون صورته مثلّثًا أو مربّعًا أو مخمّسًا وبانتقاله من صورة إلى صورة أخرى يحصل التّغيير والتّبديل ويظهر الفساد والانقلاب وحينما نتأمّل نجد أنّ الرّوح الإنسانيّة تكون في آن واحد وفي صور غير متناهية فالرّوح تتحقّق في صورة المثلّث وصورة المربّع وصورة المخمّس وصورة المثمّن والرّوح مصوّر في كلّ هذه الصّور موجود في حيّز العقل وليس له انتقال من صورة إلى صورة أخرى ولهذا فالعقل والرّوح لا يتلاشيان لأنّنا لو أردنا أن نحوّل كائنًا من الكائنات في صورة المربّع إلى صورة المثلّث فإنّنا يجب أن نهدم الصّورة الأولى تمامًا حتّى يمكننا تكوين الصّورة الثّانية، أمّا الرّوح فإنّها جامعة لجميع الصّور وهي في جميع الصّور هذه روح كاملة. لهذا فليس من الممكن أن تتحوّل من صورة إلى صورة أخرى ولهذا لا يعتريها تغيير أو تبديل وهي باقية دائمة إلى الأبد. وهذا دليل عقليّ.

الدّليل الثّالث: لجميع الكائنات هناك وجودها أوّلاً ثمّ أثرها. فالمعدوم لا أثر حقيقيّ له ولكنّنا نلاحظ أنّ أناسًا عاشوا قبل ألفي سنة ولا تزال آثارهم تتوالى في الظهور وتشرق كالشّمس إشراقًا. فحضرة المسيح عاش قبل ألف وتسعمائة سنة والآن نرى سلطته باقية فهذا هو أثر والأثر لا يترتّب على شيء معدوم والأثر يستلزم وجود المؤثّر.

الدّليل الرّابع: ما هو الموت؟ الموت هو اختلال القوى الجسمانيّة للإنسان فلا تبصر عيناه ولا تسمع أذناه ولا تدرك قواه ولا يتحرّك وجوده ومع هذا نراه برغم اختلال قواه الجسمانيّة أثناء النّوم يسمع ويدرك ويرى ويحسّ وواضح أنّ الرّوح هي الّتي ترى وتملك جميع القوى في حين أنّ القوى الجسمانيّة مفقودة. إذن فبقاء قوى الرّوح غير منوط ببقاء الجسد.

الدّليل الخامس: إنّ الجسم الإنسانيّ يضعف ويسمن ويمرض ويصحّ ولكنّ الرّوح تبقى على حال واحدة. فعندما يضعف الجسم لا تضعف الرّوح وعندما يسمن الجسم لا ترتقي الرّوح فالجسم يمرض والرّوح لا تمرض والجسم يصحّ والرّوح لا تنال الصحّة.

إذن اتّضح أنّ هناك في جسد الإنسان حقيقة أخرى غير هذا الجسم لا يعتريها تغيير.

الدّليل السّادس: إنّكم تفكّرون في كلّ أمر وتشاورون أنفسكم فما هو ذلك الشّيء الّذي يعطيكم الرّأي؟ كأنّه إنسان مجسّم جالس أمامكم ويتّحدث إليكم، فحينما تفكّرون في الّذي تتحدّثون معه توقنون أنّه الرّوح.

والآن نأتي إلى ما يقوله البعض من أنّنا لا نشاهد الرّوح. إنّ قولهم هذا صحيح لأنّ الرّوح مجّرد وليست بجسم فكيف إذًا تمكن رؤيته؟ فالمرئيّات يجب أن تكون أجسامًا فإن كانت أجسامًا فهي ليست أرواحًا وحينئذٍ لا يكون هناك روح. لاحظوا الآن هذا الكائن النّباتيّ فإنه لا يرى الإنسان ولا يسمع الصّوت وليست له ذائقة ولا يحسّ وليس له علم أبدًا بالعوالم العالية ويقول لنفسه ليس هناك عالم آخر غير عالم النّبات وليس هناك جسم وراء النّبات، وبمقتضى عالمه المحدود يظنّ أنّ عالم الحيوان وعالم الإنسان ليس لهما وجود. فالآن هل إنّ عدم إحساس هذا النّبات دليل وبرهان على عدم وجود عالم الحيوان وعالم الإنسان. إذن فعدم إحساس البشر للرّوح ليس بدليل على عدم وجود عالم الرّوح وليس بدليل على موت الرّوح لأنّ كلّ دانٍ في مرتبته لا يدرك مرتبة أعلى منه، فعالم الجماد لا يدرك عالم النّبات وعالم النّبات لا يدرك عالم الحيوان وعالم الحيوان لا يصل إلى حقيقة عالم الإنسان.

وعندما ننظر إلى العالم الإنسانيّ نراه بمقتضى هذا الدّليل ناقصًا وليس له علم بعالم الرّوح الّذي هو من المجرّدات ولا يثبت وجوده إلا بالأدلّة العقليّة. وعندما ندخل عالم الرّوح نرى أنّ له وجودًا محقّقا واضحًا وله حقيقة أبديّة، ومثل هذا كمثل الجماد حين يصل إلى عالم النّبات فإنّه يرى قوّة النّموّ موجودة وعندما يصل عالم النّبات إلى عالم الحيوان يجد حقًّا أنّ فيه قوّة الإحساس، وعندما يصل عالم الحيوان إلى عالم الإنسان يفهم أنّ له قوى عقلية، وعندما يدخل الإنسان في العالم الرّوحانيّ يدرك أنّ الرّوح كالشّمس ثابتة أبديّة باقية موجودة لا يعتريها زوال.

المصادر
المحتوى
OV