وصيّتي في توديعكم

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

وصيّتي في توديعكم

الخطبة المباركة ألقيت في منزل السّيّدة بارسنز في دوبلن

في 15 آب سنة 1912

هو الله

لقد مضت عليّ ثلاثة أسابيع وأنا في دوبلن. إنّ دوبلن في الحقيقة مكان لطيف وبديع جدًّا ومكان عليل الهواء خاصّة وأنّ النّفوس الموجودة في دوبلن نفوس محترمة: أخلاقهم طيّبة، يكرمون الضّيف ويعبدون الغريب ولقد شاهدت منهم أقصى الرّعاية ولن أنسى محبّتهم ورعايتهم هذه وهي في خاطري دائمًا ولهذا فإنّني أدعو الله أن يؤيّدهم تأييدًا كلّيًّا وأن يبارك هذه النّفوس المحترمة وأن تشمل ألطافه الجميع حتّى يرتقوا يومًا بعد يوم.

هذا وإنّني حينما جئت إلى أمريكا شاهدت آثار الرّحمة الإلهيّة من كلّ الجهات ورأيت مملكة واسعة جدًّا شملتها كمالات الطّبيعة بأجمعها، أمّة في منتهى الشّهامة ورجالها ونساؤها في ارتقاء ولهذا فإنّني ممتنّ مسرور جدًّا من ذلك.

ولكنّني حينما جئت من الشّرق جئت برسالة إلهيّة فالرّوحانيّات في هذه البلاد لم ترتقِ ولهذا جئت برسالة إلهيّة وجئت ببشارة سماويّة وبشّرت الجميع بسطوع أنوار الملكوت وبيّنت تعاليم حضرة بهاء الله وجئت ببراهين ودلائل عقليّة على وجود الألوهيّة وجئت بدلائل عقليّة على وجود الوحي. وقد أقمت الحجج العقليّة على أن رحمة الله لا انقطاع لها وأنّ أبواب الملكوت مفتوحة وأنّ الفيض الإلهيّ أبديّ وأنّ أنوار شمس الحقيقة ساطعة ولا انقطاع لسطوعها لحظة واحدة وحيث إنّ السّلطنة الإلهيّة دائمة ولهذا فإنّ الفيض الإلهيّ دائم وكلّ من يحدّد الفيوضات الإلهيّة بحدود فإنّه يحدّد الله بحدود وما دام الله غير محدود بحدود فليست للفيوضات الإلهيّة من نهاية.

وخلاصة القول لقد بيّنت كلّ برهان وأوضحت كلّ دليل على أنّ في العالم الإنسانيّ قوّة روحانيّة واحدة وروحًا فعّالة واحدة وبها يمتاز الإنسان عن غيره. فالإنسان يشترك مع جميع الكائنات في جميع المراتب ولكنّه يمتاز عنها بموهبة الرّوح. إنّ هذه الرّوح نفحة من النّفحات الإلهيّة وشعاع من شمس الحقيقة.

ولقد أقمت البراهين القاطعة على بقاء الرّوح وأوضحت جليًّا أنّ الرّوح الإنسانيّ يظلّ في ظلمة بدون هداية الله.

لهذا يجب أن تتوجّه القلوب إلى الملكوت الإلهيّ حتّى تتجلّى أنوار الفيوضات الّتي لا منتهى لها وحتّى ترقى الأمة الأميركية النّجيبة رقيًّا روحانيًّا كما سبق لها أن ارتقت تمام الرّقيّ في المادّيّات حتّى تعرف عن عالم ما وراء الطّبيعة وتشاهد ببصيرتها السّلطنة الإلهيّة وحتّى تتعمّد بالرّوح القدس وتتعمّد بماء الحياة وتتعمّد بنار محبّة الله كما يتفضّل حضرة المسيح حتّى ينالوا الحياة الأبديّة وحتّى يشاهدوا أنوار الملكوت الإلهيّ وحتّى يدخلوا ملكوت الله.

خلاصة القول إنّ هذا هو آخر يوم لمكوثي هنا وغدًا أنا عازم على السّفر ونصيحتي إليكم أن تكون هممكم عالية ومقاصدكم سامية. إنّ هذا العالم الجسمانيّ حياة مؤقّتة لا بدّ أن تنتهي وإنّ حياة هذا العالم ولذائذه فانية. تنتهي راحته بمشقّة وتنتهي عزّته بذلّة وتنتهي حياته بالممات وينتهي بقاؤه بالفناء.

وكلّ شيء لا بقاء له لا جلوة له لدى العقلاء لأنّ الإنسان العاقل لا يتوجّه إلى العالم الفاني بل إنّه يهتمّ بالعالم الباقي ولا يقنع بالحياة المؤقّتة بل يطلب حياة أبديّة ولا يبقى في ظلمة الطّبيعة بل يتمنّى ملكوت الأنوار.

ولهذا لا تقنعوا بهذه الحياة الفانية بل اطلبوا حياة لا نهاية لها واطلبوا عزّة أبديّة سرمديّة واطلبوا راحة سماويّة واطلبوا روحانيّة ربانيّة واطلبوا كمالات معنويّة وابحثوا عن فضائل ملكوتيّة وتمنّوا القرب الإلهيّ وتوجّهوا إلى ملكوت الله وفوزوا بما هو منتهى كمالات العالم الإنسانيّ واطلبوا منتهى الفيوضات السّماويّة.

لاحظوا العقلاء السّابقين والعلماء السّابقين والأنبياء السّابقين فإنّهم أنقذوا أنفسهم من ظلمات عالم الطّبيعة ونالوا نصيبًا من أنوار عالم الملكوت ولم يأبهوا بحياة هذه الدّنيا المؤقّتة بل طلبوا الحياة الأبديّة. ولو أنّهم كانوا على الأرض لكنّهم كانوا يسيرون في الملكوت الإلهيّ. ولو أنّ أرواحهم كانت أسيرة لهذا الجسد ولكنّهم كانوا يرجون حرّيّة عالم البقاء إلى أن صعدت أرواحهم المقدّسة إلى الملكوت الأبهى ونالوا الحياة الأبديّة.

لاحظوا أنّ جميع عظماء الدّنيا انعدموا ولم يبقَ منهم أثر أمّا تلك النّفوس المقدّسة فآثارها باقية إلى الأبد. فقد انطفأت شموع جميع الملوك ولكنّ شمعهم يتّقد يومًا فيومًا.

كم من ملكات جئن إلى هذا العالم وكنّ في منتهى السّطوة وانعدمن كلّهنّ ولم يبقَ منهنّ غير الاسم في بعض الكتب التّاريخيّة ولكنّ مريم المجدليّة كانت امرأة قرويّة فلمّا تنوّرت بأنوار الملكوت أصبحت نجمة ساطعة تشرق إلى الأبد في أفق العزّة الأبديّة وقيسوا على ذلك. ما أعظم العزّة الّتي تنالها النّفوس الّتي تدخل الملكوت الأبهى! فإنّ صيتهم يبقى إلى الأبد ويسطعون كالنّجوم في أفق الملكوت. أولئك حياتهم أبديّة وأولئك أسماؤهم أبديّة وأولئك ذكرهم أبديّ وأولئك آثارهم أبديّة.

فاجهدوا إذن لتنالوا أنوار الملكوت ولتحيوا بفضل الله ولتنالوا حياة بنفثات الرّوح القدس. هذه وصيّتي وإنّي لأدعو من أجلكم حتّى ينزل الله عليكم ألطافه الّتي لا منتهى لها وإنّي لن أنسى محبّتكم أبدًا وقد ذكرت في رسائلي جميع ما قمتم به نحوي وسأذكركم.

المصادر
المحتوى
OV