تعاليم بهاء الله- في مونتريال – كندا-في 1 أيلول سنة 1912

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

تعاليم بهاء الله

الخطبة المباركة ألقيت في كنيسة الموحّدين في مونتريال – كندا

في 1 أيلول سنة 1912

هو الله

لفد خلق الله تعالى الجميع من التّراب وخلق الكلّ من عنصر واحد ومن سلالة واحدة وعلى كرة أرضيّة واحدة، وخلق الجميع تحت ظلّ سماء واحدة وخلق الكلّ مشتركين في الإحساسات ولم يوجد بين الخليقة تفاوتًا فالكلّ متساوون وهو يرزق الجميع ويربّي الجميع ويحفظ الجميع وهو رؤوف بالجميع ولم يوجد أيّ فرق بين البشر في فضله ورحمته. وبعث الأنبياء وأرسل التّعاليم الإلهيّة للجميع وهذه التّعاليم الإلهيّة هي سبب الألفة بين البشر وسبب المحبّة بين القلوب. وأعلن وحدة العالم الإنسانيّ وهو يذمّ كلّ ما يمنع الاتّحاد ويمدح كلّ ما يسبب الاتّفاق والاتّحاد وهو يحثّ جميع البشر على اختلاف مراتبهم إلى الاتّحاد.

وقد بعث جميع أنبياء الله من أجل المحبّة بين البشر ونزّلت جميع الكتب الإلهيّة من أجل اتّحاد العالم الإنسانيّ، وكان جميع الأنبياء خادمين للحقيقة وتعاليمهم كلّها حقيقة، والحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد. لهذا فإنّ أساس الأديان الإلهيّة واحد.

ولكن برغم هذا فقد حلّت بينها التّقاليد ويا للأسف ولا صلة لها بأساس تعاليم الأنبياء. وحيث إنّ هذه التّقاليد مختلفة لهذا صارت سبب الاختلاف وحصل بين البشر نزاع وجدال وحلّ بينهم حرب وقتال حتّى صاروا يهدمون البنيان الإلهيّ ويقتل بعضهم بعضًا كالحيوانات المفترسة ويخرّب بعضهم بيوت البعض الآخر ويهدم بعضهم مملكة البعض الآخر.

وقد خلق الله الإنسان من أجل المحبّة وتجلّى بالمحبّة على العالم الإنسانيّ وكانت المحبّة سبب اتّحاد الكائنات وكان جميع الأنبياء مروّجين للمحبّة. والآن يقاوم الإنسان رضاء الله ويعمل بكلّ ما يخالف رضاء الله. لهذا لم يجد الرّاحة منذ بداية التّاريخ حتّى يومنا هذا. فكان دائمًا في حرب وقتال وكانت القلوب متنافرة بعضها من بعض وتعمل بكلّ ما يخالف الرّضاء الإلهيّ.

وكلّ الحروب الّتي وقعت وما سفك فيها من دماء كانت ناتجة إمّا من التّعصّب الدينيّ أو منبعثة من التّعصّب الجنسيّ، أو منبعثة من التّعصّب الوطنيّ أو من منبعثة من التّعصّب السّياسيّ. لهذا فالعالم الإنسانيّ في عذاب دائم وقد كان التّعصّب في الشّرق شديدًا جدًّا لأنّه لم تكن هناك حرّيّة وقد بلغ درجة تعذَّر فيها وجود الرّاحة فسيطرت ظلمة التّقاليد وعاشت جميع الطّوائف والأديان والأجناس في منتهى العداوة والنّزاع.

في هذا الوقت ظهر حضرة بهاء الله وتفضّل:

أوّلاً: بإعلان وحدة العالم الإنسانيّ وأنّ جميع الخلق عبيد الله وأنّ جميع الأديان في ظلّ رحمة الله، وأنَّ الله رؤوف بالجميع وهو يحبّ الجميع، وأنَّ جميع الأنبياء كانوا في منتهى الألفة في ما بينهم وأنّ الكتب السّماويّة يؤيّد بعضها بعضًا. ومع وجود هذا لماذا يجب أن يكون هناك بين البشر نزاع وجدال ما دام جميع البشر خلقًا لإله واحد وما داموا جميعًا أغنامًا في ظلّ راعٍ واحد، والرّاعي يرعى الجميع. إذن يتوجّب على الأغنام الإلهيّة أن تآلف بعضها بعضًا ولو افترقت واحدة منها فعلى الجميع أن تجلبها وتدلّها السّبيل وكلّ ما في الأمر أنّ البعض جهلاء تجب تربيتهم وناقصون يجب إكمالهم ومرضى يجب علاجهم وعمي يجب إبصارهم.

ثانيًا: أعلن حضرة بهاء الله أنّ الدّين يجب أن يكون سبب الألفة والمحبّة فإذا أصبح الدّين سبب العداوة فلا تكون نتيجة منه وفي هذه الحال يصبح عدم التّديّن أحسن لأنّ الدّين صار سبب العداوة والبغضاء، وكلّ ما يسبب العداوة مبغوض عند الله وكلّ ما يسبّب الألفة والمحبّة مقبول وممدوح لديه. وإذا صار الدّين سبب القتال والافتراس فإنّ ذلك ليس بدين وعدم التّدين خير منه لأنَّ الدّين بمثابة العلاج فإن أصبح العلاج سببًا لحدوث المرض فعدم العلاج خير منه. لهذا فإن أصبح الدّين سبب الحرب والقتال فلا شكّ أنّ عدم التّديّن أحسن.

ثالثًا: يجب أن يكون الدّين مطابقًا للعلم والعقل فإن لم يكن كذلك كان مجرد أوهام لأنَّ الله أعطى الإنسان عقلاً كي يدرك به حقائق الأشياء وكي يعبد الحقيقة فإذا أصبح الدّين مخالفًا للعلم والعقل فمن المستحيل أن يكون سببًا لاطمئنان القلب وإذا لم يكن سببًا للاطمئنان كان مجرّد أوهام ولا يعود يسمّى دينًا. لهذا يجب توفيق المسائل الدّينيّة مع العقل والعلم كي يطمئنّ القلب ويكون الدّين سببًا لسعادة الإنسان.

رابعًا: إنّ التّعصّب الدّينيّ والتّعصّب المذهبيّ والتّعصب الوطنيّ والتّعصّب السّياسيّ كلّها هادمة للبنيان الإنسانيّ. فالأديان عبارة عن دين واحد لأنّ الأديان الإلهيّة هي الحقيقة. وقد نادى حضرة إبراهيم بالحقيقة وأعلن حضرة موسى الحقيقة وأسّس حضرة المسيح الحقيقة وروّج حضرة الرّسول الحقيقة. وكان جميع الأنبياء خدّامًا للحقيقة وكانوا كلّهم مؤسّسين للحقيقة وكانوا جميعًا مروّجين للحقيقة إذًا فالتّعصّب باطل لأنّ هذه التّعصّبات مخالفة للحقيقة. أمّا التّعصّب الجنسيّ فحيث إنّ جميع البشر من عائلة واحدة وعبيد لإله واحد وكلّهم من جنس واحد فلا تعدّد في الأجناس وما داموا جميعًا أولادا لآدم فإن تعدّد الأجناس أوهام فليس لدى الله إنكليزيّ ولا فرنسيّ ولا تركيّ ولا فارسيّ والجميع جنس واحد لدى الله. ولم يخلق الله هذه التّقسيمات بل خلقها البشر لهذا فهي مخالفة للحقيقة وباطلة. فكلّ واحد من البشر له عينان وآذنان ورأس واحد وقدمان وليس بين الحيوانات تعصّب جنسيّ وليس بين الطّيور هذا التّعصب فالحمامة الشّرقيّة تألف الحمامة الغربيّة والأغنام كلّها جنس واحد فلا يقول خروف لآخر أنت خروف شرقيّ وأنا غربيّ وأينما يكونون فإنّهم متآلفون. والحمامة الشّرقيّة إذا جاءت إلى الغرب فإنّها تتآلف تمامًا مع الحمامة الغربيّة ولا تقول للحمامة الغربيّة أنتِ غربيّة وأنا شرقيّة. إذًا فالشّيء الّذي لا يقبله الحيوان هل يليق بالإنسان أن يقبله؟

وأمّا التّعصّب الوطنيّ فإنّ وجه الأرض بأكمله كرة واحدة وأرض واحدة ووطن واحد. والله لم يقسّمها بل خلقها كلّها متساوية وليس لديه فرق فالتّقسيم الّذي لم يعمله الله كيف يجوز للإنسان أن يعمله؟ إنّ هذه جميعها أوهام. فأوروبّا قارّة واحدة وقد جئنا فعيّنّا خطوطًا وهمية وقرّرنا نهرًا واحدًا وقلنا إنّ هذه الضّفة فرنسا وتلك الضّفة ألمانيا والحال أنّ النّهر يعود للطّرفين، فأيّة أوهام هذه؟ وأيّة غفلة هذه؟ فالشّيء الّذي لم يخلقه الله نتخيّله ونجعله سبب النّزاع والقتال. إذن فجميع هذه التّعصّبات باطلة ومبغوضة لدى الله ولقد أوجد الله المحبّة والوحدة وأراد من عبيده الألفة والمحبّة وعنده العداوة مردودة والاتّحاد والألفة مقبولان.

خامسًا: ومن بين تعاليم حضرة بهاء الله أنّ جميع العالم يجب أن يكتسبوا المعارف حتّى يزول سوء التّفاهم بينهم ويتّحد جميع البشر ويزول سوء التّفاهم عن طريق نشر المعارف لهذا يجب على كلّ أب أن يربّي أولاده فإذا عجز عن ذلك في يوم من الأيّام توجّب على الهيئة الاجتماعية أن تساعده حتّى تعمّ المعارف ويزول سوء التّفاهم بين البشر.

سادسًا: إنّ النّساء كنّ أسيرات وقد أعلن حضرة بهاء الله وحدة حقوق الرّجال والنّساء وإنّ الرّجل والمرأة كليهما إنسانان وعبدان لإله واحد. وليس لدى الله ذكور وإناث بل كلّ من كان قلبه أطهر وعمله أحسن كان مقرّبًا أكثر لدى الله سواء أكان رجلاً أم امرأة وهذا التّفاوت المشهود الآن بين الرّجل والمرأة ناتج عن تفاوت التّربية لأنّ النّساء لا يربّين مثل الرّجال فإن ربّي النّساء والرّجال على حدّ سواء فإنّهم يتساوون في جميع المراتب لأنّهم كلّهم بشر ومشتركون في جميع المراتب ولم يجعل سبحانه وتعالى تفاوتًا بينهم.

سابعًا: وحدة اللّغات: يجب إيجاد لغة يتعلّمها جميع البشر ويحتاج كلّ إنسان إلى لغتين إحداهما لغة خصوصية والأخرى لغة عموميّة بها يعرف جميع البشر حديث بعضهم الآخر. وبهذا يزول سوء التّفاهم من بين الملل لأنّ الجميع يعبدون إلهًا واحدًا والكلّ عبيد لإله واحد وقد كان سوء التّفاهم سببًا لهذا الاختلاف فعندما يعرف بعضهم لغة البعض الآخر لا يبقى سوء التّفاهم ويتحابّ الجميع ويتآلفون ويتّحد الشّرق ويتّفق مع الغرب.

ثامنًا: إنّ العالم محتاج إلى الصّلح العموميّ وما لم يتمّ إعلان الصّلح العمومي لن يرتاح العالم ولا بدّ أن تشكّل الدّول والملل محكمة كبرى حتّى يرجعوا إليها في الاختلافات وتفصل تلك المحكمة في تلك الاختلافات وكما تفصل المحكمة في الاختلافات الّتي تحصل بين الأفراد وكذلك تفصل المحكمة الكبرى في اختلافات الدّول والملل حتّى لا يبقى مجال للحرب والقتال. وقد كتب حضرة بهاء الله قبل خمسين سنة إلى جميع الملوك وجميع هذه التّعاليم مدوّنة في ألواح الملوك وسائر الألواح وقد طبعت في الهند قبل أربعين سنة حتّى امّحى التّعصب من بين البشر. فالّذين اتّبعوا حضرة بهاء الله صاروا متّحدين في ما بينهم ومتآلفين. فإذا دخلت مجلسهم رأيت المسيحيّين واليهود والزرادشتيّين والمسلمين في منتهى الألفة والمحبّة وجميع نقاشهم يدور حول رفع سوء التّفاهم.

وخلاصة القول إنّني حينما جئت إلى أمريكا رأيت أهاليها محترمين جدًّا وحكومتها عادلة وشعبها نجيبًا جدًّا. وأرجو الله أن تكون هذه الدّولة العادلة وهذه الأمة المحترمة سببًا لإعلان الصّلح العموميّ ووحدة العالم الإنسانيّ وأن تصبح سببًا لألفة الملل، وأن تشعل مصباحًا ينير العالم وهو وحدة العالم الإنسانيّ والاتّحاد العمومي.

وأملي أن تصبحوا سببًا لارتفاع علم الصّلح العموميّ هنا وأعني أن تصبح الدّولة والأمة الأمريكيّة سببًا لراحة العالم الإنسانيّ ولكسب الرّضاء الإلهيّ وإحاطة الألطاف الإلهيّة بالشّرق والغرب.

يا إلهي الرّؤوف إنّ هذا الجمع متوجّه إليك ويناجيك بمنتهى التّضرّع وإنّه متبتّل إلى ملكوتك ويطلب منك العفو والغفران. فاجعل يا إلهي هذا الجمع محترمًا وقدّس هذه النّفوس واجعل أنوار الهداية ساطعة ونوّر القلوب، واجعل النّفوس مستبشرة، وأدخل الجميع في ملكوتك وأنل مرادهم في كلا العالمين. يا إلهي نحن أذلاّء فاجعلنا أعزّاء وعجزاء فأنعم علينا قدرة، ونحن فقراء اغننا من كنز الملكوت، ومرضى فأنعم علينا بالشّفاء. يا إلهي اهدنا إلى رضائك وقدّسنا عن شؤون النّفس والهوى واستقمنا يا إلهنا على محبّتك واجعلنا رؤوفين بجميع الخلق ووفّقنا على خدمة العالم الإنسانيّ حتّى نخدم جميع عبيدك ونحبّ جميع عبيدك ونحبّ جميع خلقك ونكون مشفقين بجميع البشر. إنّك أنت المقتدر الرّحيم وإنّك أنت الغفور العظيم.

المصادر
المحتوى
OV