تحرّي الحقيقة وخلود الأرواح – وحدة المظاهر المقدّسة

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

تحرّي الحقيقة وخلود الأرواح

وحدة المظاهر المقدّسة

الخطبة المباركة في مجمع التّياصفة في إسكتلنده

في 9 كانون الثّاني 1913

هو الله

يسرّني جدًّا وجودي في مجلسكم لأنّكم ولله الحمد تتحرّون الحقيقة ونجوتم من تقاليد الآباء والأجداد ومقصودكم عرفان الحقيقة في أيّ مكان ظهرت.

إنّ الأديان الموجودة حاليًّا أسيرة التّقاليد وقد ولّت حقيقة الأديان وحلّت محلها تقاليد لا تتعلّق بأساس الأديان الإلهيّة. فالأديان جاءت من أجل نورانيّة البشر ومن أجل النّوع الإنسانيّ ومن أجل الألفة بين القلوب ومن أجل ظهور وحدة العالم الإنسانيّ ولكنّهم مع ألف أسف جعلوا الأديان سبب النّزاع وصار يجادل بعضهم بعضًا ويسفك بعضهم دم البعض الآخر ويهدم بعضهم بيوت البعض الآخر لأنّهم أسرى التّقاليد.

فمثلاً إذا سألت شخصًا يهوديًّا لماذا أنت يهوديّ؟ لأجابك قائلاً: بما أن والدي كان يهوديًّا فإنّني أنا يهوديّ. آخر مسيحيًّا لأجابك لأنّ والده مسيحيّ وثالث مسلمًا لأنّ والده مسلمًا. وأيّة ملّة سألتها أجابتك بهذا الجواب ولذا فعندما تفحصون تجدون الجميع أسرى التّقاليد وليس بينهم من يتحرّى الحقيقة لأنّه لو تحرّى الجميع الحقيقة فإنّهم يتّحدون، لأنّ الحقيقة واحدة لا تقبل التّعدّد وهي أساس جميع الأديان وحيث إنّ هذا الجمع مجرّد عن التّقاليد ومتحرّر من هذه القيود ويتحرّى الحقيقة لذا فإنّني مسرور جدًّا.

عندما ننظر إلى الكائنات نرى أنّ كلّ كائن مكون من ذرّات لا تتناهى وجاء إلى الوجود من اجتماع هذه الذّرّات الفرديّة وهذا بديهيّ علميًّا وغير قابل للإنكار ولهذا فإنّ كلّ ذرّة من الذّرّات الفرديّة تسير في صور غير متناهية وله كمال في كلّ صورة. مثال ذلك هذه الزّهرة، فممّا لا شكّ فيه أنّها مكوّنة من ذرّات فرديّة وقد مرّ زمن كانت فيه كلّ ذرّة منها موجودة في عالم الجماد وكان لها سير في صور غير متناهية في عالم الجماد وفي كلّ صورة كان لها كمال والآن قد جاء إلى عالم النّبات وهو يسير في الصّور النّباتية فهي يومًا بصورة هذه الزّهرة ويومًا بصورة زهرة وشجرة أخرى. وخلاصة القول تسير في عالم النّبات في صور غير متناهية وهذا ثابت علميًّا وفقًا للعلوم الطّبيعية ثمّ تسير في عالم الحيوان وتظهر في صور ذلك العالم غير المتناهية ثمّ تنتقل إلى عالم الإنسان وتسير فيه في صور غير متناهية.

وخلاصة القول تسير هذه الذّرّة في صور جميع الكائنات ولها في كلّ صورة كمال. ولهذا فإنّ كلّ شيء موجود في كلّ شيء.

إذن فلكلّ ذرّة انتقالات غير متناهية ولها في كلّ انتقال كمال حتّى تصبح جامعة لجميع الكمالات. وهذا طبقًا لقواعد الفلسفة الإلهيّة الّتي تقول إنّ الإنسان لا يفنى بل هو خالد لأنّ بقاء الرّوح أمر مسلّم به فالرّوح أبديّة لا فناء لها ولا نهاية لها. والبرهان العقليّ على ذلك هو أنّ الإنسان له حقيقتان، حقيقة جسمانيّة وحقيقة معنويّة. فالحقيقة الجسمانيّة فانية أمّا الحقيقة المعنويّة فباقية لأنّ الفناء عبارة عن انتقال من صورة إلى أخرى. مثال ذلك هذه الزّهرة لها انعدام صوريّ لأنّها تنتقل من هذه الصّورة إلى الصّورة الجماديّة ولكنّها لا تفنى فمادّتها لم تزل باقية وكلّ ما في الأمر أنّها تنتقل من الصّورة النّباتية إلى الصّورة الجماديّة.

والحيوان كذلك يأكل هذا العشب فالعشب لا يفنى إنّما فناؤه عبارة عن انتقاله من صورة نباتيّة إلى صورة حيوانيّة ولكنّه لا ينعدم انعدامًا صرفًا، وانعدامه مجرّد انتقاله من صورة إلى صورة أخرى أمّا عنصره فباقٍ وهذا هو معنى الفناء والانعدام.

وكذلك أيضًا جسم الإنسان يصير ترابًا وينتقل إلى عالم الجماد وأنّ التّراب له وجود. إذن فمعنى الانعدام والفناء هو الانتقال من صورة إلى صورة أخرى وليس لكائن في عالم الصّور صورتان بل له صورة واحدة فالجسم المثلّث لا يكون مربّعًا أو مخمّسًا فإن أصبح مربّعًا أو مخمّسًا فإنّه لا يعود مثلّثًا. ولكنّ روح الإنسان لها جميع الصّور في آن واحد ففي عقلكم الآن مسدّس موجود ومخمّس ومربّع ومثلّث أي أنّ جميع الصّور موجودة في الرّوح في آن واحد ولم تفقد منها صورة لتنتقل من أجلها من صورة إلى صورة أخرى لذا فالرّوح أبديّة لا تغيير لها، تملك دائمًا جميع الصّور وهذا برهان واضح.

وبرهان آخر هو أنّ جسم الإنسان يكون مرّة عليلاً وأخرى صحيحًا ومرّة ضعيفًا وأخرى سمينًا فله حالات مختلفة. أمّا الرّوح فباقية في حالة واحدة فعندما يصبح الجسم ضعيفًا لا تصير الرّوح ضعيفة. إذن فحقيقة الإنسان المعنويّة لا تتبدّل. فلو قطعت يد أو جرحت رجل فلن يحدث في الرّوح تبديل. إذن فالانعدام عبارة عن تبديل الجسم وليس للرّوح تبديل لذا فالرّوح باقية خالدة.

وبرهان ثالث هو أنّ الموت عبارة عن فقدان الإحساس. والجسد في النّوم لا إحساس له، فالعين لا ترى والأذن لا تسمع والمشام لا تشمّ والذّائقة واللاّمسة تتعطّلان وتتعطّل جميع القوى ويكون الإنسان كجسد ميّت لا إحساس له. أمّا الرّوح فإنّها متنقلة فهي في النّوم ترى وتسمع وتقول وتتحرّك جميع قواها ولو كان الإنسان مجرّد جسد إذن لتوجّب أن يفقد في النّوم كلّ حركة ويكون ميتًا.

إذًا ففي هذا الجسد حقيقة ثانية تحيط بحقائق الأشياء وتكشف أسرار الكائنات فترى بدون عين وتسمع بدون أذن وتتناول الأشياء بدون يد وتدرك بدون قلب وهي حقيقة غير محدودة في حين أنّ الجسم محدود.

إذن ثبت أنّ في الإنسان حقيقة ثانويّة مصونة من كلّ آفة وباقية دون تغيير.

ثمّ إنّك تقول في كلامك إنّني قلت وإنّني مشيت فمن ذا الّذي يقول قلت؟ هناك حقيقة ثانويّة تستشار في هل إنّ هذا العمل نافع أم مضرّ وهل أعمل هذا العمل أم لا؟ وماذا ستكون النّتائج؟ فالرّوح الّتي تستشيرها فهي إن قالت لك اعمل هذا العمل فأنت تعمله وإلاّ فلا. وواضح أنّ الحقيقة الثّانويّة هي المسيطرة وأنّ الحقيقة الجسمانيّة مسيطر عليها. والأولى هي السّراج والثّانية هي الزّجاج ولو كسر الزّجاج فلن يحصل للسّراج ضرر بل هو باقٍ.

والإنسان يسير في مراتب ودرجات حتّى يصل إلى رتبة هي فوق رتبة هذا العالم الجسمانيّ حتّى يصل إلى عالم الكمال فيترك جميع الزّجاجات ويتوجّه إلى عالم الأنوار فلقد كان السّراج حينًا في زجاج نباتيّ وحينًا في زجاج حيوانيّ وصار الآن في زجاج إنسانيّ. لذا فإن كُسر الزّجاج فإنّ السّراج لن يفنى وهذه براهين عقليّة لا نقليّة ولا يمكن إنكارها.

وخلاصة القول لقد وصلنا الآن إلى موضوعنا الأصليّ وهو أنّ عالم الوجود ليس له وجود بذاته لذاته أي إنّه يستفيض الوجود من حقيقة مركزيّة صدر منها هذا الوجود كما أنّ الكرة الأرضيّة مظلمة لكنّ أشعّة تصدر من الشّمس فتنيرها، لأنّ الشّمس مركز الأنوار وأشعتها تنير الكائنات. والكائنات مظلمة ولكنّ الشّعاع الصّادر من مركز الأنوار يفيض على جميع الكائنات.

إنّ ذلك الشّعاع هو الفيوضات الإلهيّة وإنّ أعظم الفيوضات هي المظاهر المقدّسة الإلهيّة وتلك الحقائق هي حقيقة واحدة ولكنّ مظاهرها مختلفة. فالنّور نور واحد ولكنّ الزّجاجات متعدّدة ففي كلّ وقت يظهر ذلك النّور في زجاجة من الزّجاجات. والنّور لا يقبل الانقسام ولكنّ الزّجاجات مختلفة متنوّعة ولو أنّها متعدّدة من حيث الجسم لكنّها واحدة من حيث الحقيقة وتلك الحقيقة هي تجلّي شمس واحدة تسطع وتبهر من مرايا متعدّدة فالمرايا متعدّدة ولكنّ الشّمس واحدة. فهذه البروج الاثني عشر متعدّدة ولكنّ الشّعاع صادر من مركز واحد. وعندما ننظر إلى المركز نرى الجميع واحدًا ولكنّها تنقسم إلى اثني عشر. وهناك شمس واحدة في هذه البروج الاثني عشر لكنّها تطلع حينًا من برج الحمل وحينًا من برج الأسد وحينًا من الجدي وحينًا من نقطة الاعتدال الرّبيعي وحينًا من نقطة الاعتدال الصّيفي وحينًا من نقطة الانقلاب الشّتوي. فمهما كانت البروج متعدّدة ولكنّ الشّمس شمس واحدة. فعندما تطلع من برج السّرطان لا شكّ أنّها تكون قويّة. وعندما تطلع من الجدي لا تكون حرارتها على تلك الشّدة ومن هذه الجهة يكون الفرق بين المظاهر الإلهيّة وهو في الحقيقة حقيقة واحدة.

إذن يجب على الإنسان أن لا ينظر إلى البروج بل يعبد الشّمس من أيّة نقطة طلعت ويعبد النّور من أيّ زجاج لمع، لأنّ الزجاج محدود أمّا النّور فغير محدود. ويجب أن يكون نظر الإنسان غير محدود لأنّه لو نظر إلى الزّجاج وحده فلربّما انتقل النّور من هذه الزّجاجة إلى زجاجة أخرى وحينئذٍ يبقى هو محرومًا من النّور محتجبًا عنه ولكنّه عندما يعبد النّور فإنّه يتوجّه إليه من أيّة زجاجة ظهر.

المصادر
المحتوى
OV