تعاليم بهاء الله-في بوادبست-ليلة 15 نيسان سنة 1913

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

تعاليم بهاء الله

الخطبة المباركة في قاعة المتحف الوطني في بوادبست

ليلة 15 نيسان سنة 1913

هو الله

ما أشد ما يدعو إلى فخر العالم الإنسانيّ أن تتأسّس في مدينة غربيّة كبوادبست جمعيّة لتحسين أحوال الشّرقيّين وترقّيهم! كأنّ طيور حدائق الغرب تفكّر في تأسيس أوكار لطيور الشّرق.

لهذا فإنّني أشكر الله على حضوري في جمع كهذا، فقد كانت بلاد توران حينًا من الدّهر أعظم ممالك الدّنيا عمرانًا والآن قسم كبير منها تحت حكم روسيا وتقطع السّكة الحديديّة الروسيّة تلك الصحراء في يومين وليلتين.

لاحظوا ما أكبر هذه الصّحراء. وقد كانت أرضها في غاية الخصب وهواؤها في منتهى اللّطف وكانت فيها أنهار كثيرة وكان في تلك الصحراء قديمًا أربع عشرة مدينة كلّ واحدة منها مثل بوادبست وباريس منها مدينة نسف، وترمد، وتسا، وأبيورد، وجرجان، ومرو، وكانت جميع صحرائها معمورة وجميع قراها ومزارعها مأهولة وكانت المدنيّة والعلوم والصّناعة والتّجارة فيها في منتهى الرّقيّ خلال القرنين الثّاني عشر والثّالث عشر الميلاديّين وقد ظهر فيها مؤلّفون شرقيّون كثيرون ولكنّها الآن أمست قاعًا صفصفًا لا مدن ولا عمران ولا خضرة ولا طراوة صحراء تسكنها الحيوانات الضّارّية، وقد حدثت جميع هذه الكوارث من جرّاء العصبيّات المذهبيّة والحروب بين السّنّة والشّيعة.

فالآن ما أجدر بنا أن نشكر الله تعالى على تأسيس جمعية في هذه المدينة لترقية النّورانيّين. ولم يسبق مثل هذا الأمر وهو تأسيس جمعية في أوروبّا لإصلاح الأحوال في آسيا. إنّ هذه معجزة من معجزات هذا العصر النّورانيّ. ولهذا أتمنّى أن يحصل نجاح تام وأن تظهر آثار عظيمة من همّة هذه الجمعيّة حتّى يبقى ذكر بودابست إلى الأبد.

منذ بداية تاريخ العالم حتّى الآن كانت المحبّة والألفة سبب العمران والرّقيّ بين البشر وقد ظهر جميع الأنبياء من أجل الألفة والاتّحاد ونزلت جميع الكتب السّماويّة من أجل المودّة والوفاق وقد خدم جميع الفلاسفة العالم الإنسانيّ وكانت الأديان الإلهيّة سبب الألفة والاتّحاد لأنّ أساس جميع الأديان واحد ومبادئ موسى وعيسى ومحمّد واحدة.

إنّ كلّ دين من الأديان ينقسم إلى قسمين: قسم أصليّ يخدم العالم البشريّ وهو فضائل العالم الإنسانيّ، معرفة الله، الفلسفة الرّبّانيّة، وحدة النّوع البشريّ، التّرقّيات الرّوحانيّة، كشف حقائق الأشياء وإسعاد النّوع الإنسانيّ ومحبّته. وليس بينها أيّ اختلاف في هذا القسم. وهذا هو منطوق الدّين الموسويّ وأساس التّعاليم المسيحيّة وأصل الدّين المحمّدي.

أمّا القسم الثّاني الّذي هو فرعيّ ويتعلّق بالمعاملات فإنّه يتغير حسب مقتضى الزّمان والمكان. فمثلاً في زمان موسى لم يكن لبني إسرائيل في الصّحراء سجون فإن وقعت جريمة فإنّها تستلزم عقابًا. وحسب مقتضى المكان كانت اليد تُقطع من أجل سرقة خمسة فرنكات وكذلك من أحكام التّوراة أنّ إنسانًا لو فقأ عين إنسان تُفقأ عينه وإن كسر سنًّا كسرت سنّه. فالآن هل يمكن في أوروبّا أن تُقطع يد من أجل مليون فرنك؟ ولمّا لم تكن أمثال هذه الأمور مقتضية في زمن حضرة المسيح لهذا فإنّه غيّر القسم الثّاني. وفي التّوراة عشرة أحكام بالقتل. فهل يمكن الآن تطبيق هذه الأحكام؟ ولهذا نسخ حضرة المسيح مثل هذه الأحكام، وكان الطّلاق أمرًا مناسبًا في زمن موسى ولكنّه لم يكن مناسبًا في زمن المسيح لهذا فقد غيّره. وهذا النّوع من الحكم كان مقتضيًا.

وخلاصة القول إنّ الاختلاف بين الأديان إنّما هو في الفروع. أمّا أصل الأديان الإلهيّة وأساسها فواحد. لهذا أخبر كلّ نبيّ بخلفه. وكل نبيّ لاحق صدّق سلفه. وقد كان جميع الأنبياء في صلح في ما بينهم وكان بعضهم يحبّ بعضًا فلماذا يجب أن يختلف أتباعهم؟

ولقد خطبت في سان فرانسيسكو في معبد اليهود وقلت لهم: "إنّ هناك سوء تفاهم بينكم وبين المسيحيّين ولهذا السّبب عشتم مدّة ألفي سنة في عناء. وأنتم تتصوّرون أنّ المسيح عدوّ لموسى مع أنّ موسى لم يكن عنده صديق أعظم من المسيح. وقد رفع حضرة المسيح اسم موسى ونشر التّوراة في جميع العالم وأشهر ذكر أنبياء بني إسرائيل. ولو لم يكن المسيح فكيف كانت تنتشر التّوراة في أوروبّا؟ وكيف كانت تنتشر في أمريكا؟ إذن فحضرة المسيح كان صديقًا لموسى والآن يقول المسيحيّون إنّ موسى كان نبيّ الله فأيّ ضرر في أن تقولوا أنتم أيضًا أنّ المسيح كان كلمة الله حتّى ينتهي هذا النّزاع الّذي دام ألفي سنة؟ وقد تحمّلتم هذه المشاقّ ألفي سنة من أجل هذه الكلمة الواحدة. فلو قلتم فقط إنّ المسيح كان كلمة الله لكنتم في ما بينكم في منتهى الألفة والرّاحة".

وكذلك الأمر في القرآن فإنّه يذكر اسم المسيح بمنتهى التّقديس وإنّني لا أقول شيئًا من التّاريخ بل أذكر شيئًا مدوّنًا في القرآن بالصّراحة وهو أنّ المسيح كلمة الله وأنّ المسيح روح الله وأنّ المسيح كان من الرّوح القدس. وفي القرآن سورة مخصوصة باسم مريم يتفضّل فيها أنّ مريم كانت دائمًا في قدس الأقداس وكانت مشغولة بالعبادة وكانت تنزل لها من السّماء مائدة، وأنّ عيسى بمجرّد ولادته تكلّم. وفي الحقيقة إنّ هناك في القرآن محامد للمسيح ليست موجودة في الإنجيل أبدًا.

إذن اتّضح أنّ أنبياء الله كانوا في منتهى الصّلح في ما بينهم وأن أساس الأديان الإلهية واحد. وقد قدّس الأنبياء بعضهم بعضًا وما داموا كذلك فلماذا نختلف نحن في ما بيننا؟ مع أنّنا لو تحرّينا الحقيقة لرأينا أنّ مبادئ حضرة موسى وحضرة زرادشت وحضرة المسيح وحضرة محمّد أساسها واحد وأنّ هذه الاختلافات هي من التّقاليد وهذه التّقاليد سبب النّزاع والجدال وعلّة سفك الدّماء والقتال.

إذن يجب أن ننبذ هذه التّقاليد ونتحرّى أساس الأديان الإلهية حتّى نتّحد ويتبدّل سفك الدّماء هذا بالألفة والمحبّة وتتبدّل هذه الظّلمات بالنّور وتتبدّل أسباب الممات بوسائل الحياة وتتبدّل هذه الضّراوة والافتراس بالإنسانيّة والصّفاء.

وعندما تنظرون إلى التّاريخ تعرفون كم من دماء سفكت في العالم الإنسانيّ! وقد احمرّ كلّ شبر من الأرض بدم الإنسان. وقد حدثت في العالم الإنسانيّ ضراوة وافتراس لم تحدث في العالم الحيوانيّ لأنّ كلّ حيوان يفترس كلّ يوم حيوانًا واحدًا لطعامه لكنّ جماعة من الحيوانات لا تقتل مرّة واحدة جماعة من الحيوانات الأخرى ولا تنهب الأموال ولا تخرّب المساكن والملاجئ ولا تأسر أطفال الآخرين وعيالهم. لكنّ إنسانًا واحدًا قاسيًا يقتل في يوم واحد مائة ألف نفس وينهب ويأسر ويذلّ. وقد كانت الحروب دائمًا منذ بداية التّاريخ حتّى الآن إمّا ناشئة من التّعصّب الدّينيّ أو ناشئة من التّعصّب الجنسيّ أو ناشئة من التّعصّب الوطنيّ أو ناشئة من التّعصّب السّياسيّ والحقيقة أنّ جميع هذه التّعصّبات أوهام لأنّ الأديان هي أساس الألفة والمحبّة وأنّ جميع البشر نوع واحد وعائلة واحدة ووجه الأرض وطن واحد وهذه الحروب وهذا السّفك للدّماء جميعه من التّعصّب.

وخلاصة القول إنّه في الوقت الّذي كان فيه أفق الشّرق مظلمًا وظلمة التّعصب والجدال كانت محيطة بجميع الأديان والمذاهب والأقوام وكانت الأحزاب يعتبر بعضها بعضًا نجسًا وما كانت تختلط ببعضها ففي وقت كهذا طلع حضرة بهاء الله من أفق الشّرق طلوع الشّمس.

أوّلاً: أعلن وحدة العالم الإنسانيّ وأنّ جميع البشر أغنام الله والله هو الرّاعي الحقيقيّ وهو رؤوف بالجميع. وما دام هو رؤوفًا بالجميع فلماذا نكون أشدّاء.

ثانيًا: روّج الصّلح العمومي وكتب إلى جميع العالم أنّ الحرب هادمة للبنيان الإلهيّ فإن هدم إنسان بناءً إلهيًّا فلا شكّ أنّه يكون مسؤولاً عند الله.

ثالثًا: أنّ الدّين يجب أن يكون سبب المحبّة والألفة فإن أصبح الدّين سبب الجدال والعداوة فلا شكّ أنّ عدمه أحسن.

رابعًا: أنّ الدّين يطابق العلم والعقل السّليم. لأنّه لو كان مخالفًا لهما لكان أوهامًا، لأنّ العلم حقيقة. ولو كانت مسألة من المسائل الدينيّة تخالف العلم والعقل فإنّها وهم. والعلم الحقيقيّ نور ولا بدّ أن يكون ما يخالفه ظلمة إذن يجب أن يكون الدّين مطابقًا للعلم والعقل. ولهذا فإنّه لمّا كانت جميع هذه التّقاليد الموجودة بين أيدي الأمم مخالفة للعلم والعقل لذلك صارت سبب الاختلاف والأوهام. إذن يجب علينا أن نتحرّى الحقيقة وأن نصل إلى حقيقة كلّ أمر عن طريق تطبيق المسائل الرّوحانيّة مع العلم والعقل فإن تمّ هذا تصبح جميع الأديان دينًا واحدًا. لأنّ أساس الكلّ هو الحقيقة والحقيقة واحدة.

خامسًا: تفضّل أنّ التّعصب الدّينيّ والمذهبيّ والتّعصّب الوطنيّ والتّعصّب الجنسيّ والتّعصّب السّياسيّ هادمة للبنيان الإنسانيّ وقد خاطب أهل العالم متفضّلاً: "يا أهل العالم كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غصن واحد".

سادسًا: تفضّل ببيان المساواة بين الرّجال والنّساء. وفي التّوراة قال تعالى: "وخلق الله الإنسان على صورته" وجاء في الحديث النّبويّ: "خلق الله آدم على صورته" والمقصود بهذه الصّورة الصّورة الرّحمانيّة يعني أنّ الإنسان صورة الرّحمن ومظهر صفات الله، والله حيّ والإنسان حيّ أيضًا. والله بصير والإنسان بصير. والله سميع والإنسان سميع أيضًا. والله مقتدر والإنسان مقتدر أيضًا. إذن فالإنسان آية الرّحمن وهو صورة الله ومثاله وهذا تعميم لا تخصيص بالرّجال دون النّساء. لأنّه ليس عند الله ذكور وإناث. وكلّ من هو أكمل فإنّه أقرب إلى الله سواء كان رجلاً أم امرأة. لكنّ النّساء لم يربّين حتّى الآن تربية الرّجال ولو ربّين كذلك لأصبحن مثل الرّجال. وعندما ننظر إلى التّاريخ نرى كم من الشّهيرات النّساء وجدن في عالم الأديان وفي عالم السّياسة. وفي دين موسى كانت امرأة سبب نجاة بني إسرائيل وسبب فتوحاتهم. وفي العالم المسيحيّ كانت مريم المجدليّة سبب ثبوت الحواريّين، وقد اضطرب جميع الحواريّين بعد المسيح ولكنّ مريم المجدليّة استقامت كالأسد. وفي زمان حضرة محمّد كانت امرأتان أعلم النّساء وروّجتا شريعة الإسلام. إذن صار معلومًا أنّ النّساء ظهرت بينهنّ أيضًا شهيرات. ولا شكّ أنّكم سمعتم في عالم السّياسة بأحوال زنوبيا في تدمر بحيث زلزلت إمبراطورية الرّومان حينما سارت وفوق رأسها تاج في حلّة أرجوانيّة وشعر منثور وفي يدها سيف. وقد قادت جيوشها بحيث أوقعت الخسائر العظيمة بجيش عدوّها وأخيرًا اضطرّ الإمبراطور إلى أن يحضر بنفسه إلى الحرب وحاصر تدمر عامين وأخيرًا لم يستطع أن يتغلّب عليها بشجاعته. ولكنّ المؤونة نفدت منها فسلّمت. فلاحظوا كم كانت شجاعة بحيث لم يستطع إمبراطور مدّة سنتين أن يتغلّب عليها وكذلك سمعتم حكاية كليوبترا وأمثالها.

وفي هذا الأمر البهائيّ كانت قرّة العين في منتهى الفصاحة والبلاغة وأشعارها وآثار قلمها موجودة. وقد مدحها جميع فصحاء الشّرق وكانت لها سطوة ونفوذ بحيث كانت في المباحثات العلميّة تتغلّب دائمًا على مناظريها ولم يجرؤ أحد على مناظرتها. ولما كانت مروّجة لهذا الأمر حبستها الحكومة وآذتها. ولكنّها لم تسكت أبدًا ونادت في السّجن فهدت نفوسًا وفي الأخير حكموا عليها بالإعدام لكنّها كانت في منتهى الشّجاعة لم تهن أبدًا وكانت مسجونة في دار والي المدينة. ومن الصّدف أنه كان هناك عرس وأنس وطرب وغناء وطعام وشراب وكانت كلّ هذه مهيّأة لكنّ قرّة العين أطلقت للسانها العنان بحيث ترك الجميع وسائل الطّرب والسّرور واجتمعوا حولها ولم يعتنوا بالفرح وكانت هي المتكلّمة الوحيدة. مع أنّ الشّاه كان قد أصدر حكمه بقتلها. ومع أنها لم تتجمّل بزينة طول عمرها لكنّها في ذلك اليوم تزيّنت فدهش الجميع وقالوا لها: "ماذا تعملين؟" فأجابت "إنّ هذا يوم عرسي". ثمّ ذهبت إلى تلك الحديقة في منتهى السّكون والوقار وكان الكلّ يقولون إنّهم سيقتلونها ولكنّها كانت تصيح قائلة: "إنّني أنا صوت السّافور المذكور في الإنجيل" وعلى هذه الحال استشهدت في الحديقة وألقوها في جبّ.

وخلاصة القول إنّ هذه التّعاليم كثيرة والمقصد والأساس الإلهيّ واحد وهو المحبّة والاتّحاد بين النّوع الإنسانيّ وكذلك كان جميع الفلاسفة وجميع المحبّين لخير البشريّة مروّجين لوحدة العالم الإنسانيّ والصّلح العموميّ. لهذا يجب علينا أن نبذل الجهد حتّى تنتشر الوحدة والصّلح بين عموم البشر.

المصادر
المحتوى
OV