آفة الأنانيّة

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

آفة الأنانيّة

الخطبة المباركة ألقيت في حيفا في المقام الأعلى

يوم 28 آب 1914

هو الله

ما أروع هذا المجلس إنّه في غاية الرّوحانيّة وهو مرتّب ومنظّم.

في هذا العالم تتشكّل مجامع كثيرة ولكن لا نظم لها ولا ترتيب وهناك اختلاف بين أعضائها في الآراء. أمّا في هذا المجمع ولله الحمد فإنّ قلوب جميع الأعضاء متّحدة مع بعضها، ونوايا الجميع ومقاصدهم واحدة وليس بينهم أي أثر لأفكار مختلفة وأتمنّى أن يحصل لهذا المجمع يومًا فيومًا تقدّم باهر ويرتقي في جميع مراتب الوجود سواء في التّوجّه إلى الله أو في الفضائل المعنويّة أو في العلوم والفنون المكتسبة ويرتقي في جميع الأحوال ولا تحلّ بين أعضائه أفكار مختلفة وآراء متنوّعة لأنّ جميع المشاكل الّتي تحدث إنّما هي من الأفكار المختلفة ومن الأنانيّة وحبّ الذّات.

وهذه الأنانيّة وحبّ الذّات سبب جميع هذه الاختلافات. وليس في عالم الوجود آفة كحبّ الذّات الّذي يعني أن لا يرضى الإنسان على الآخرين بل يرضى على نفسه فقط. وحبّ الذّات يؤدّي إلى التّكبّر وإلى العجرفة وإلى الغفلة. ولو تحرّينا بصورة دقيقة لوجدنا أنّ كلّ بلاء في عالم الوجود ينتج من حبّ الذّات فيجب أن لا نعجب بأنفسنا بل نعتبر سائر النّاس خيرًا منا حتّى النّفوس غير المؤمنة. لأنّ حسن الخاتمة مجهول. فكم من نفوس ليست مؤمنة بل يأتي يوم تؤمن فيه وتكون مصدرًا لخدمات عظيمة وكم من نفوس مؤمنة الآن ولكنّها تغفل في آخر حياتها عن اللّحق. فيجب علينا أن نفضّل كلّ إنسان على أنفسنا ونراه أعظم وأشرف وأكمل منّا لأنّنا بمجرّد اعتبارنا أنفسنا ممتازين عن الآخرين نبتعد عن طريق النّجاة والفلاح. إنّ هذا يأتي من النّفس الأمّارة الّتي تجعل الإنسان يرى كلّ شيء سيئًّا ما عدا نفسه وهكذا ترمي الإنسان في بئر عميقة ظلماء لا قعر لها فهي تجعل الظّلم في نظر الإنسان في كلّ ساعة عدلاً وتصوّر له الذّلّة المحضة شرفًا أكبر وتبدي له المصيبة العظيمة راحة تامّة. وعندما نحقّق جيّدًا نرى أنّ هذه البئر الظّلماء هي بئر حبّ الذّات لأنّ الإنسان لا يعجب بأطوار الآخرين وسلوكهم وأقوالهم بل يعجب بأطواره وسلوكه وشؤونه.

معاذ الله أن يخطر ببال أحدنا حبّ الذّات. لا سمح الله، لا سمح الله، لا سمح الله، فنحن حين ننظر إلى أنفسنا يجب أن نرى أنّه ليس في الدّنيا نفس أذلّ منها وأوضع منها وأحقر منها. وحين ننظر إلى الآخرين نرى أنّه ليس في الدّنيا أعزّ وأكمل وأعلم منهم. لأنّنا يجب أن ننظر إلى الجميع بنظر الحقّ ويجب أن نعتبرهم أعزّاء ونعتبر أنفسنا أذلاّء. وكلّ تقصير نشاهده في إنسان نعتبره تقصيرًا في أنفسنا لأنّنا لو لم نكن مقصّرين لمّا شاهدنا هذا التّقصير. ويجب على الإنسان دائمًا أن يرى نفسه مقصرًا وغيره كاملاً. وإنّي على سبيل الذّكرى أقول إنّ حضرة المسيح روحي له الفداء مرّ ذات يوم بجيفة وهو بصحبة الحواريّين. فقال أحدهم: "ما أشدّ تعفّن هذا الحيوان!" وقال آخر: "ما أقبح صورته!" وعبّر ثالث عن كراهيّته له فتفضّل حضرة المسيح: "لاحظوا أسنانه ما أشدّها بياضًا!". فمن هذا تلاحظون أنّ حضرة المسيح لم يرَ أيّ عيب من عيوب ذلك الحيوان بل فتّش حتّى شاهد أنّ أسنانه بيضاء فشاهد بياض الأسنان وغضّ الطّرف بعد ذلك عن تفسّخه وتعفّنه وقبح منظره.

واعلموا يقينًا أنّ كلّ قلب فيه بصيص من نورانيّة الجمال المبارك لن تجري على لسانه كلمة "أنا" أعني الكلمة الّتي تدلّ على الأنانيّة بقوله أنا كذا وأنا عملت كذا وأنا أحسنت وفلان أساء. فكلمة الأنانيّة هذه ظلمة تغشى نور الإيمان. وكلمة حبّ الذّات هذه تجعل الإنسان غافلاً عن الله تمامًا.

هو الأبهى يا إلهنا القدير حرّر عبيدك العجزة هؤلاء من قيود الذّاتيّة وأطلقهم من شراك الأنانيّة وآونا جميعًا في ظلّ عنايتك ونجّنا جميعًا في كهف الحفظ والحراسة والانقطاع والتّحرّر من شؤون النّفس والهوى حتّى نتّفق ونتّحد جميعًا في ظلّ خيمة الوحدة وحتّى نعبر الصّراط وندخل في جنّة الأبهى جنّة الوحدة الحقيقيّة. إنّك أنت الكريم وإنّك أنت الرّحيم لا إله إلاّ أنت القويّ القدير.

المصادر
المحتوى
OV