من خطب حضرة عبدالبهاء في اوروبا وامريكا - المقدمة

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

مقدّمة النّاشر

صعد حضرة بهاء الله – مؤسّس الدّين البهائيّ – إلى الرّفيق الأعلى في أواخر أيّار (مايو) سنة 1892، فتولّى تبيين أمره وترويجه من بعده ابنه عبّاس أفندي الّذي يعرف جيّدًا باسم: "المولى" و"حضرة عبد البهاء".

وفي فاتحة هذا القرن بلغ انتشار الدّين البهائيّ في الغرب درجة استلزمت سفره إلى أحبّائه الّذين تعهّدهم بعناية فائقة، غير أنّه لم يستطع أن يغادر شواطئ الأرض المقدّسة إلاّ بعد أن أطاح انقلاب "تركيّا الفتاة" بالحكومة العثمانيّة سنة 1909، وأطلقت حكومة الانقلاب سراح كافّة المسجونين السّياسيّين والدّينيّين، وما كاد عبد البهاء يستردّ حرّيّته بعد اعتقال وسجن وتضييق دام أربعين سنة حتّى نهض في ثقة وعزم وشجاعة ليكرِّس- وهو على أبواب السّبعين من العمر- ما بقي من قوّته، ليقوم بهذه الأسفار الطّويلة الّتي دامت ما لا يقلّ عن ثلاثة أعوام.

الرّحلة الأولى

ففي شهر أيلول (سبتمبر) 1910 أبحر من الأرض المقدّسة وأقام في بور سعيد ما يقرب من شهر واحد، وركب السّفينة من هناك ليبحر إلى أوروبّا، إلاَّ أنّ توعّك صحّته اضطرّه إلى تأجيل رحلته فتوقّف بالإسكندريّة نحو عام واحد حيث أقام مستشفيًا وزار أثناء إقامته تلك: القاهرة، وضاحية الزّيتون.

وفي أغسطس سنة 1911 أبحر من الإسكندريّة عن طريق مارسيليا إلى مدينة تونون لي بان السّويسريّة، ومكث فيها أيّامًا معدودة وألقى هناك خطبته الجامعة الّتي نقلها أحد المراسلين إلى جريدة الأهرام المصريّة.()

وفي اليوم الرّابع من شهر أيلول (سبتمبر) 1911 وصل عبد البهاء مدينة لندن، فمكث فيها شهرًا واحدًا ليغادرها إلى باريس حيث بقي مدّة تسعة أسابيع غادر بعدها العاصمة الفرنسيّة ليعود إلى مصر في شهر كانون الأوّل (ديسمبر) من العام نفسه، وقضى فصل الشّتاء في مدينة الإسكندريّة. وهذه هي ما نطلق عليها اسم "الرّحلة الأولى"، وقد دامت أربعة أشهر أو نحوها.

الرّحلة الثّانية

بدأ حضرة عبد البهاء رحلته الثّانية إلى الغرب في اليوم الخامس والعشرين من شهر آذار (مارس) 1912 فقد أبحر إلى نيويورك عن طريق نابولي، فوصلها بعد 18 يومًا وفي أمريكا قام بجولة واسعة طويلة استغرقت 8 أشهر جاب فيها الولايات المتّحدة من المحيط إلى المحيط وبعض المدن في كندا ثمّ عاد إلى نيويورك وغادرها في اليوم الخامس من كانون الأوّل (ديسمبر) إلى ليفربول، ومنها إلى لندن فزار أكسفورد وأدنبره وبريستول وعاد إلى لندن ومنها سافر إلى باريس في أواخر كانون الثّاني (يناير) 1913 حيث أمضى فيها إلى أواخر آذار (مارس) ثمّ سافر إلى اشتتغارت فبودابست وﭬﻴﻴﻨﺎ وفي 13 حزيران أبحر إلى بور سعيد وزار الإسماعيليّة وأبا قير زيارة قصيرة وأقام في رمل الإسكندريّة مدّة أطول عاد بعدها إلى الأراضي المقدّسة منهيًا أسفاره التّاريخيّة في 5 كانون الأوّل 1913 قبل إعلان الحرب العالميّة الأولى بزمن قصير.

وتشير هذه الأسفار الطّويلة إلى نقطة بالغة الأهميّة في تاريخ الدّين البهائيّ، كما أنّها تقف فذّة فريدة لا شبيه لها ولا مثيل في القرن البهائيّ الأوّل، ذلك لأنّه لا "الباب" المبشّر بهذا الدّين ولا "بهاء الله" – مؤسّس هذا الدّين– استطاعا أن يتّصلا بالغرب أو بالشّرق اتّصالاً مباشرًا أو شخصيًّا، فما كاد حضرة الباب يعلن رسالته حتّى اعتقل وسجن ونفي في قلاع الحدود الإيرانيّة الرّوسيّة التّركيّة ثمّ ما لبث أن شرب كأس الشّهادة رميًا بالرّصاص في ميدان تبريز العام في صيف 1850.

أمّا حضرة بهاء الله فقد قضى معظم حياته سجينًا منفيًّا ابتداءً من طهران فبغداد، ثمّ إسطنبول فأدرنة حتّى استقرّ به منفاه في سجن عكّا، وظلّ سجينًا محرومًا من الحرّيّة إلى آخر نسمة من حياته ثمّ صعد إلى الرّفيق الأعلى بجوار تلك المدينة في صيف عام 1892 ميلاديّة.

وعلى ذلك فهذه هي المرّة الأولى الّتي استطاعت فيها شخصيّة رئيسيّة لهذا الدّين وهي مثله الأعلى ومركز عهده وميثاقه ومبيّن كتاباته المقدّسة أن تتخطّى شواطئ الشّرق وتتمتّع بحرّيّة العمل إلى آخر أيّام حياتها الّتي انتهت في خريف عام 1921.

وينبغي ألاّ يغيب عن بالنا أنّ حضرة عبد البهاء دخل السّجن صبيًّا ثمّ غادره شيخًا فلم يجلس إلى معلّم، ولم يتلقَّ العلم في مدرسة، كما أنّه لم يختلط بالوسط الغربيّ حتّى يعرف عادات أهل الغرب أو لغتهم، ومع ذلك قام ليعلن من المنبر ومن المنصّة في عواصم أوروبّا المهمّة وفي أمّهات مدن أمريكا الشّماليّة الحقائق المميزة للدّين البهائيّ، وليوضح الأصول الإلهيّة لأنبياء الله ورسله جميعًا، ويبيّن الصّلة الّتي تربط رسالاتهم بهذا الدّين، ويشرح عناصر النّظام الإلهيّ العالميّ، ويعزّز عرض هذه الحقائق الحيويّة الّتي وصفها بأنّها "روح العصر" بتحذيراته وإنذاراته باندلاع نار حرب طاحنة داهمة تلتهم أوروبّا، وينبّه على الانحلال الّذي يدبّ في القوى السّياسيّة، ويؤكّد تأكيدًا قاطعًا بأنّ "راية اتّحاد الجنس البشريّ سوف ترتفع ويصبح العالم عالمًا آخر".

وفي أثناء تلك الأسفار أظهر حضرة عبد البهاء من الحيويّة والإقدام والإخلاص للواجب الّذي فرضه على نفسه ما أثار العجب والإعجاب، فقد قضى ثلاثة أعوام يصرّح بالحقائق الإلهيّة، غير مهتمّ براحته أو صحّته، باذلاً كلّ ذرّة من قوّته، عاملاً على رعاية المريض والتّفريج عن البائس والمحروم، ومواساة المحزون والمهموم، وكان راسخًا لا يقبل المساومة في دفاعه عن العناصر المظلومة والطّبقات المحرومة، وكان لا يكترث بالهجمات الّتي كان يشنّها عليه أقطاب الأديان المتعصّبين، وكان عجيبًا في صراحته وهو يبيّن لأتباع موسى عليه السّلام نبوّة السّيّد المسيح له المجد، ويوضح لأتباع عيسى في كنائسهم أصل الإسلام الإلهيّ وصحّة نبوّة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ويقنع الطّبيعييّن بصدق النّبوّة والرّسالة ولزوم الدّين وضرورته للجنس البشريّ.

لقد قام حضرة عبد البهاء بهذه الأسفار لكي يحقّق ثلاثة أهداف أساسيّة؛ أوّلها: أن يشدّ من عزم أحبّائه ويساعدهم على إنجاز مشروعاتهم، وثانيها: أن يسهم بنصيبه في شرح حقائق الدّين البهائيّ إلى الجموع المتعطّشة، وثالثها أن يحذّر قادة العالم المتحضّر من اقتراب اندلاع نيران الحرب العالميّة الأولى.

وقد حقّقت هذه الأسفار تلك الأهداف تحقيقًا كاملاً، بل إنَّ نتائجها فاقت كلّ ما علّق عليها من آمال، فقد وضع بيده الحجر الأساسيّ لمشرق الأذكار –أي المعبد البهائيّ في شيكاغو، الولايات المتّحدة الأمريكيّة– وأكّد تأكيدًا خاصًّا على الميثاق الّذي أبرمه حضرة بهاء الله، وذلك في اجتماع عام عقده أحبّاؤه في نيويورك في 26 تشرين الثّاني (نوﭬمبر) 1912، فسميت لذلك ﺑ"مدينة الميثاق"، وأولم وليمة رمزيّة لعدد كبير من تلاميذه في الهواء الطّلق، وقام بعمل رمزيّ آخر وهو عقد قران اثنين من البهائيّين أحدهما من البيض، وثانيهما من السّود.

على أنّنا نقلّل من شأن هذه الأسفار إذا نحن تجاوزنا عن آلاف العظماء من الفلاسفة والعلماء ورجال الدّين والسّياسة والثّقافة والاجتماع والاقتصاد والصّحافة ممّن التقوا به وفازوا بالاستماع إليه ومناقشته والاستفادة من علمه ونصائحه. كما أنّنا لا يمكننا أن نغضّ الطّرف عن آلاف اللّفتات الإنسانيّة النّبيلة الّتي التفت بها إلى البائسين والمحرومين حتّى لقد لقب – بحقّ– ﺑ "أبي المساكين".

يقتصر هذا الكتاب كما هو واضح من عنوانه على زاوية واحدة من هذه الأسفار والرّحلات المتعدّدة النّواحي، ونقصد بها "حضرة عبد البهاء" و"الجماهير المستمعة في لهفة وشغف وتقدير". والخطب المجموعة هنا تشكّل نزرًا يسيرًا من كلّ ما ألقاه في أوروبّا وأمريكا، فهناك خطب عدّة ألقاها في دور العبادة المختلفة والمعاهد العلميّة والجامعات في المدن الّتي زارها إبّان رحلته لم تدرج في هذه المجموعة، وهي موجودة في شكل مخطوطات أو في المجلات البهائيّة وغير البهائيّة الّتي عاصرت أسفاره لأوروبّا وأمريكا.

وبالرّغم من الشّمول الّذي تتّسم به هذه المجموعة، فإنّها لا تحتوي على كلّ ما تحدّث عنه حضرة عبد البهاء، ولا تتضمّن مثلاً ملاحظاته الدّقيقة الّتي كان يبديها صباحًا ومساءً وفي كلّ مناسبة، والّتي تشكّل في حدّ ذاتها تراثًا غنيًّا في أفق المبادئ الدّينيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة، وتتضمّن منهجًا فريدًا في توجيه البشر نحو كلّ ما هو سامٍ وكلّ ما يعود بالخير والإصلاح على الإنسانيّة جمعاء.

وممّا يجدر ذكره هنا أنّ القائمين على ترجمة المجموعة ونشرها لم يحاولوا تغيير مقوّمات الأسلوب الخطابيّ الّذي ألقيت به حتّى لا تتحوّل الخطب إلى رسائل أو مقالات أو فصول من كتاب، وكلّ ما ينبغي أن يعلمه القارئ هو أنّ هذه الخطب ألقيت ارتجالاً وأنّ حضرة عبد البهاء لم يكتبها أو يعدّها قبل إلقائها، فإنّ أسلوب عبد البهاء كما هو ظاهر من آثاره الّتي دوَّنها بنفسه، أسلوب فريد في نوعه يتميّز ببساطة وسهولة في اللّفظ، ممّا يجعله "سهلاً وممتنعًا" وكلّ ما يلاحظه القارئ من تقصير إنّما هو تقصير المترجم أو النّاقل وليس تقصير صاحب الكلمة الّذي شهدت له ولبلاغته أساطين عصره بأنّه صاحب بيان ساحر ولسان فصيح بليغ.

يجمع هذا الكتاب بين دفّتيه الخطب المجموعة في كتابين:

الكتاب الأوّل وهو مجموعة من الخطب الّتي ألقيت في أوروبّا إبّان الرّحلة الأولى وهو مطبوع في مصر في سنة 1921 أمّا الكتاب الثّاني فيحتوي على مجموعة من ألواح حضرة عبد البهاء وبعض الخطب الّتي ألقيت خلال الأعوام الثّلاثة من أسفاره والمطبوعة في طهران سنة 1942.

ويلاحظ القارئ أنّ هذه الخطب قد أعطيت لها عناوين ليست أصليّة إلاّ أنّ القائمين على نشر الكتاب استخرجوها من فحوى الخطب فأعطوا كلّ واحدة منها عنوانًا ينمّ عن فحواها كما أورد هؤلاء لفظة "هو الله" عند بدء كلّ خطبة، أسوة بما كان من عادة حضرة عبد البهاء في بدء كتاباته وألواحه بكلمة "هو الله"، وبالرّغم من أنّ بعض هذه الخطب قد سبقت ترجمته عن الفرنسيّة أو الإنكليزيّة، إلاّ أنّ ما يجده القارئ هنا ليس إلاّ ترجمة جديدة عن الأصل الّذي ألقيت به وهي الفارسيّة، غير أنّ هناك خطبًا ثلاثًا منشورة في الصّفحات 56- 72- 74 منقولة عن الإنكليزيّة كما أنّ الخطبتين المنشورتين في الصّفحة 52 والصفحة 68 قد ألقيتا باللّغة العربيّة.

ولقد أوردنا ترجمة تسعة ألواح ممّا خطّها حضرة عبد البهاء بيده أو أملاها على كتّابه، ومن ثمّ زيّنها بتوقيعه وذلك من أوّل الكتاب حتّى الصّفحة 52، وإنّنا إذ ننشر هذه المجموعة الفريدة الثّمينة نودّ أن نعبّر عن شكرنا وامتنانا للمجهود الّذي بُذل في جمع مواد هذا الكتاب وترجمتها وإعدادها للنّشر.

المحفل الرّوحانيّ المركزي للبهائيّين

في شمال شرق أفريقيا

صوت السّلام العامّ

هو الله

إنّ هذا المسجون بعد أن قضى أربعين عامًا في السّجن قام مدّة ثلاث سنين بعد إطلاقه –أي منذ (1910) إلى نهاية سنة (1913) – بالسّفر والتّجوال في أوروبّا وفي قارّة أمريكا الواسعة.

ومع ضعفه وعجزه نادى في المحافل العظمى والكنائس الكبرى وألقى خطبًا مفصَّلة، ونشر كلّ ما جاء في ألواح حضرة بهاء الله وتعاليمه حول مسألة الحرب والصّلح.

ولقد نشر حضرة بهاء الله قبل ما يقارب الخمسين سنة تعاليمه، ونادى بنغمة الصّلح العموميّ في جميع ألواحه ورسائله، وأخبر بصريح العبارة بهذه الوقائع الحاليّة، وبأنّ العالم الإنسانيّ في خطر عظيم وعلى أبواب حرب عامّة محتومة فالمواد الملتهبة في خزائن أوروبّا الجهنّميّة سوف تنفجّر بشرارة واحدة، ومنها سيكون انفجار بركان البلقان وتغيير خريطة أوروبّا، ولهذا دعا العالم الإنسانيّ إلى الصّلح العموميّ.

وكتب إلى الملوك والسّلاطين ألواحًا بيَّن فيها أضرار الحرب الجسيمة وأوضح فوائد الصّلح العموميّ ومنافعه، وبأنّ الحرب هادمة للبنيان الإنسانيّ، وأنّ الإنسان بنيان إلهيّ وأنّ الصّلح حياة مجسّمة والحرب ممات مصوَّر، وأنّ الصّلح روح إلهيّة وأنّ الحرب نفثات شيطانيّة، وأنّ الصّلح نور الآفاق وأنّ الحرب ظلمة على الإطلاق، وأنّ الأنبياء العظام والفلاسفة القدماء والكتب الإلهيّة كلّها كانت بشيرة الصّلح والوفاء ونذيرة الحرب والجفاء، وأنّ هذا هو الأساس الإلهيّ والفيض السّماويّ وأساس الشّرائع الإلهيّة.

وخلاصة القول إنّني ناديت في جميع المجامع بأعلى صوتي قائلاً: يا عقلاء العالم، ويا فلاسفة الغرب، ويا علماء الأرض إنّ وراءكم سحابًا مظلمًا يحيط بالأفق الإنسانيّ ويلحقكم طوفان شديد يعصف بسفن حياة البشر وعن قريب سيحيط بمدن أوروبّا وديارها سيل شديد فانتبهوا انتبهوا واستيقظوا استيقظوا لنقوم جميعنا بمنتهى الألفة ونرفع بعون الله وعنايته علم وحدة العالم الإنسانيّ ونروّج الصّلح العمومي حتّى ننجي العالم الإنسانيّ من هذا الخطر العظيم.

ولقد قابلت في أمريكا وأوروبّا نفوسًا مقدّسة كانت متعاونة ومتجاوبة معنا في قضيّة الصّلح العموميّ وكانت متّفقة متوافقة اللّحن في عقيدة وحدة العالم الإنسانيّ إلا أنّها ويا للأسف كانت قليلة العدد وكان أعاظم الرّجال يظنّون بأنّ تجهيز الجيوش ومضاعفة القوى الحربيّة سبب لحفظ الصّلح والسّلام ولقد صرَّحت لهم ببيان صريح أنّ الأمر ليس كذلك، فهذه الجيوش الجرّارة لا بدّ أن تتقدّم يومًا من الأيّام إلى الميدان، وهذه المواد الملتهبة لا بدّ أن تنفجر وأنَّ انفجارها يتوقّف على شرارة واحدة تشعل العالم بغتة ولكنّهم لم يذعنوا لهذا البيان لعدم اتّساع الأفكار ولعمى الأبصار إلى أن آلت شرارة البلقان إلى بركان.

وفي بداية حرب البلقان سألتنا نفوس مهمّة قائلة: "هل حرب البلقان هذه حرب عالميّة؟" فقلنا في الجواب: إنّها تنتهي إلى حرب عالميّة.

وخلاصة القول: إنّ حضرة بهاء الله تفضّل قبل خمسين سنة وحذّر من هذا الخطر العظيم.

ومع أنّ أضرار الحروب كانت واضحة لدى أهل العرفان ولكنّها الآن اتّضحت لعموم النّاس وعلم أنّ الحروب هي آفة العالم الإنسانيّ وهادمة للبنيان الإلهيّ وسبب الموت الأبديّ وهادمة للمدن المعمورة، ونار تحيط بالعالمين، ومصيبة كبرى ولهذا يتعالى الصّراخ إلى الأوج من جميع الأطراف، وزلزلت الدّنيا من الويل والحنين وانطمرت أقاليم معمورة.

لقد سالت العيون بالعبرات من ضجيج الأيتام من الأطفال واحترقت القلوب وذابت من صراخ الأيامى من النّساء البائسات وارتفعت صرخة: واويلاه، وواأسفاه من قلوب الأمّهات، وارتفع إلى الأوج أنين وتأوّه الآباء الطّاعنين في السّنّ. فعالم الخليقة محروم اليوم من الرّاحة والأمان وتصل أصوات المدافع والبنادق كأصوات الرّعد وقد حوّلت المواد الملتهبة ساحات الحرب إلى مقابر للشّبان اليافعين والوضع أسوأ مما أسرده لكم.

فيا دول العالم ارحموا العالم الإنسانيّ ويا مِلَلَ العالم توجّهوا بنظرة عطف على ساحات الحرب، ويا علماء البشر تفقّدوا حال المظلومين، ويا فلاسفة الغرب تعمّقوا في هذه البليّة العظمى، ويا رؤساء العالم تفكّروا في دفع هذه الآفة الكبرى، ويا أيّها الجنس البشريّ تدبّر في منع هذه البربريّة والافتراس فلقد حان الوقت أن ترفعوا عَلَم الصّلح العموميّ وأن تقاوموا هذا السّيل العظيم الّذي هو الآفة الكبرى.

ومع أنّ هذا المسجون كان مدّة أربعين سنة في سجن الاستبداد ولكنّه لم يتأثّر، ولم ينحسر، كما تأثّر في هذه الأيّام، فالرّوح في احتراق وذوبان، القلب في نهاية الأسف والالتهاب والعين دامعة والقلب محترق فابكوا ونوحوا وأسرعوا حتّى تلقوا ماء على هذه النّار الملتهبة لعلّ بهمّتكم تخمد هذه النّار المحرقة للعالمين.

ويا إلهي أغث هؤلاء البؤساء، ويا موجدي ارحم هؤلاء الأطفال، ويا إلهي الرّؤوف اقطع هذا السّيل الشّديد، ويا خالق العالم أخمد هذه النّار المشتعلة، ويا مغيثنا أغث صراخ هؤلاء الأيتام، ويا أيّها الحاكم الحقيقيّ سلّ الأمّهات جريحات الأكباد، ويا رحمن يا رحيم ارحم أعين الآباء الدّامعة وقلوبهم المحترقة وسكّن هذا الطّوفان وبدّل هذه الحرب العالميّة إلى صلح وسلام وإخاء. إنّك أنت المقتدر القدير وإنّك أنت السّميع البصير.

عبد البهاء عبّاس

هو الله

يا أهل العالم،

إذا سرتم في الأرض ومشيتم في مناكبها وجدتم أنّ كلّ ما هو معمور سببه الألفة والمحبّة، وأنّ كلّ ما هو مطمور ناتج عن العداوة والبغضاء. ومع ذلك لم ينتبه الجنس البشريّ إلى ذلك ولم يفق من سبات الغفلة، وما زال البشر يفكّرون في الخلاف والنّزاع والجدال وحشد الجيوش لتصول وتجول في ميادين النّزال والقتال.

وإذا نظرتم إلى الكون والفساد والوجود والعدم وجدتم أنّ كلّ كائن مركّب من أجزاء متنوّعة متعدّدة، وأنّ وجود الشّيء ناتج عن التّركيب بمعنى أنّ الإيجاد الإلهيّ إذا أحدث تركيبًا معيّنًا بين العناصر البسيطة تشكّل من هذا التّركيب كائن معيّن. وجميع الموجودات على هذا المنوال. فإذا حدث في هذا التّركيب خلاف أو تحلّلت أجزاؤه وتفرّقت انعدم هذا الكائن. ومعنى ذلك أنّ انعدام الشّيء ناتج عن تحليل عناصره وتفرّقها. وعلى هذا فكلّ تركيب وتآلف يتمّ بين العناصر هو سبب الحياة، وكلّ اختلاف وتحلّل وتفرّق يدبّ بينها هو علّة الممات. وبالاختصار إنّ تجاذب الأشياء وتوافقها سبب لحصول النّتائج المفيدة والثّمار الطّيّبة، وإنّ تنافر الأشياء واختلافها سبب للاضمحلال والاضطراب.

فمن التّآلف والتّجاذب تتحقّق جميع الكائنات ذات الحياة مثل النّبات والحيوان والإنسان، ومن التّنافر والخلاف يحصل الانحلال ويدبّ الاضمحلال. ولهذا فإنّ كلّ ما ينتج عنه الائتلاف والتّجاذب والاتّحاد بين عامّة البشر هو علّة حياة العالم الإنسانيّ، وكلّ ما ينتج عنه التّنافر والاختلاف والتّباعد هو علّة ممات النّوع البشريّ.

وكلّما مررتم بإحدى المزارع ولاحظتم الزّرع والنّبات والورد والرّيحان ينمو منسجمًا متآلفًا كان ذلك دليلاً على أنّ هذه الحديقة نمت على يد بستانيّ كامل تعهّدها بالتّهذيب والإنبات، أمّا إذا شاهدتم الحديقة مشعّثة مضطربة بلا ترتيب ولا نظام استنتجتم أنّها حرمت من عناية البستانيّ الماهر فنمت فيها الأعشاب الضّارّة فأتلفتها.

من ذلك يتّضح أنّ الألفة والالتئام دليل على تربية المربّي الحقيقيّ، وأنّ الفرقة والتّشتت برهان على الحرمان من التّربية الإلهيّة والبعد عنها.

ولعلّ معترضًا يقول: إنّ لأمم العالم وشعوبه وملله آدابًا ورسومًا مختلفة، وأذواقًا متباينة، وطبائع وأخلاقًا متعدّدة، وإنّ العقول والأفكار والآراء متفاوتة فكيف تتجلّى الوحدة الحقيقيّة ويتمّ الاتّحاد التّام بين البشر؟ فنقول: إنّ الاختلاف نوعان: أحدهما: الاختلاف المسبّب للانعدام والهلاك، كالاختلاف بين الشّعوب المتنازعة والملل المتقاتلة تمحو إحداها الأخرى وتخرّب وطنها وتسلبها الأمن والرّاحة وتعمل فيها القتل وسفك الدّماء. فهذا النّوع من الاختلاف مذموم. أمّا النّوع الآخر من الاختلاف فهو التّنوّع. وهذا هو عين الكمال وموهبة ذي الجلال.

لاحظوا أزهار الحدائق: فمهما اختلف نوعها وتفاوتت ألوانها وتباينت صورها وتعدّدت أشكالها إنّها لمّا كانت تُسقى من ماء واحد، وتنمو من هواء واحد، وتترعرع من حرارة وضياء شمس واحدة فإنّ تنوّعها واختلافها يكون سببًا في ازدياد رونقها وجمالها. وكذلك الحال إذا برز إلى حيّز الوجود أمر جامع – وهو نفوذ كلمة الله – أصبح اختلاف البشر في الآداب والرّسوم والعادات والأفكار والآراء والطّبائع سببًا لزينة العالم الإنسانيّ.

أضف إلى هذا أنّ هذا التّنوّع والاختلاف سبب لظهور الجمال والكمال، مثله في ذلك مثل التّفاوت الفطريّ والتّنوّع الخلقيّ بين أعضاء الإنسان الواقعة تحت نفوذ الرّوح وسلطانها. فإذا كانت الرّوح مسيطرة على جميع الأعضاء والأجزاء، وكان حكمها نافذًا في العروق والشّرايين كان اختلاف الأعضاء وتنوّع الأجزاء مؤيّدا للائتلاف والمحبّة وكانت هذه الكثرة أعظم قوى للوحدة.

ولو كانت أزهار الحديقة ورياحينها وبراعمها وأثمارها وأوراقها وأغصانها وأشجارها من نوع واحد ولون واحد وتركيب واحد وترتيب واحد لما توفر لمثل تلك الحديقة أيّ رونق ولا جمال بأيّ وجه من الوجوه. أمّا إذا تعدّدت ألوانها واختلفت أوراقها وتباينت أزهارها وتنوّعت أثمارها تسبّب كلّ لون في زينة سائر الألوان وإبراز جمالها وبرزت الحديقة في غاية الأناقة والرّونق والحلاوة والجمال. كذلك الحال في تفاوت الأفكار، وتنوّع الآراء والطّبائع والأخلاق في عالم الإنسان. فإنّها إذا استظلّت بظلّ قوّة واحدة، ونفذت فيها كلمة الوحدانيّة تجلّت وهي في نهاية العظمة والجمال والعلويّة والكمال.

ولا شيء اليوم يستطيع أن يجمع عقول بني الإنسان وأفكارهم وقلوبهم وأرواحهم تحت ظلّ شجرة واحدة غير قوّة كلمة الله المحيطة بحقائق الأشياء. فكلمة الله هي النّافذّة في كلّ الأشياء. وكلمة الله هي المحرّكة للنّفوس. وكلمة الله هي الضّابطة لروابط عالم الإنسان.

والحمد لله أن قد أشرقت اليوم نورانيّة كلمة الله على جميع الآفاق، وأن استظلّ بظلّ كلمة الوحدانيّة قبيل من كلّ الفرق والطّوائف والملل والشّعوب والقبائل والأديان، وهم مجتمعون ومتّحدون ومتّفقون وفي غاية الائتلاف.

يا أهل العالم،

إنّ طلوع شمس الحقيقة نورانيّة خالصة للعالم، وظهور للرّحمانيّة في مجمع بني آدم. ولهذه الشّمس نتيجة طيّبة وثمرة مشكورة. وبها تتوفّر السّنوحات لكلّ فيض. وهذه الشّمس رحمة خالصة وموهبة بحتة. ونورانيّة العالم وأهله هي الائتلاف والوئام والمحبّة والارتباط والتّراحم والاتّحاد وإزالة التّباعد وتحقيق الوحدة بين جميع من على الأرض بنهاية الحرّيّة وغاية الشّهامة. وقد تفضّل الجمال المبارك فقال: "كلّكم أثمار شجرة واحدة وأوراق غضن واحد". فشبّهَ عالم الوجود بشجرة واحدة، وجميع النّاس بالأوراق والأزهار والأثمار. ولهذا وجب أن يكون الجميع – من الغصن إلى الورق إلى البراعم إلى الثّمر- في غاية الطّراوة واللّطف. وحصول هذه الطّراوة وهذا اللّطف منوط بالألفة والارتباط. لهذا يجب أن يحافظ بعضكم على بعض بغاية القوّة، ويدعو بعضكم لبعض بالحياة الأبديّة.

ومن ثَمَّ وجب على أحبّاء الله أن يكونوا في عالم الوجود مثالاً لرحمة الرّبّ الودود، وموهبة مليك الغيب والشّهود، وينبغي لهم أن لا يلتفتوا إلى العصيان ولا الطّغيان، ولا ينظروا إلى الظّلم ولا العدوان، وأن ينزّهوا أبصارهم ليروا الجنس البشريّ أوراقًا وبراعم وثمارًا لشجر الوجود، وأن يحصروا فكرهم دائمًا في تقديم الخير وإبداء المحبّة والرّعاية والمودّة والعون لغيرهم. لا يرون في أحد عدوًّا، ولا يفترضون في أحد سوءًا بل يعتقدون أنّ جميع من على الأرض أصدقاء، ويعتبرون الغرباء أحبّاء، ويعدّون المجهولين معروفين. ويجب عليهم ألاّ يقيّدهم قيد، بل عليهم أن يتخلّصوا من كلّ رباط.

إنّ المقرّب اليوم لدى باب الله ذي الكبرياء لهو الشّخص الّذي يقدّم للأعداء كأس الوفاء، ويبذل لهم العطاء، ويعين العاجز المظلوم، ويحوّل الخصم اللّدود إلى وليّ ودود.

تلك هي وصايا جمال المبارك، تلك هي نصائح الاسم الأعظم!

أيّها الأحبّاء الأعزّاء!

إنّ العالم في حرب وجدال. والنّوع الإنسانيّ في غاية الخصومة والوبال. أحاطت ظلمة الجفاء، واستترت نورانيّة الوفاء. إذ أنشبت جميع ملل العالم مخالبها الحادّة في رقاب بعضها البعض، وما زالت تتنازع وتتقاتل، بحيث تزعزع بنيان البشريّة وتزلزل. فكم من نفوس باتت شريدة بلا مأوى ولا وطن. وآلاف مؤلّفة من الرّجال يسقطون- كلّ عام- على الغبراء صرعى في ميادين الحرب والقتال مضرّجين بدمائهم، حتّى لقد طويت خيمة السّعادة والحياة وما زال القادة يتزعّمون ويقودون ويفتخرون بسفك الدّماء ويتباهون بإثارة الفتن. يقول قائل منهم: لقد حكّمت السّيف في رقاب هذه الأمة. ويقول ثانٍ: لقد سوّيت بالتّراب هذه المملكة. ويقول ثالث: لقد اقتطعت تلك الدّولة من أساسها. ذلك مدار فخرهم ومباهاتهم بين الجنس البشريّ. لقد أصبح الصّدق والصّداقة –في جميع الجهات- مذمومين، وأصبح الأمن وعبادة الحقّ مقدوحين. وإنّ منادي الصّلح والصّلاح والمحبّة والسّلام لهو دين الجمال المبارك الّذي ضرب في قطب الوجود خيمته، ويدعو إلى نفسه الأقوام.

فيا أحبّاء الله! اعرفوا قدر هذا الدّين المتين، واعملوا في الحياة بموجبه، وأظهروه للخلائق أجمعين. وأنشدوا بألحان الملكوت، وانشروا تعاليم الرّب الودود ووصاياه، حتّى تصبح الدّنيا غير الدّنيا، ويستنير العالم الظّلماني، وتسري في جسد الخلق الميت روح حياة جديدة وتلتمس كلّ نفس لأختها الحياة الأبديّة وتتحوّل إلى نفس رحمانيّة.

إنّ الحياة في هذا العالم الفاني تنتهي في مدّة قصيرة، وتفنى العزّة والثّروة، وتزول الرّاحة والسّرور التّرابيّان. فنادوا الخلق إلى الخالق، وادعوا النّاس إلى سلوك الملأ الأعلى. كونوا للأيتام أبًا عطوفًا، وللمساكين ملجأً وملاذًا، وللفقراء كنز الغنى وللمرضى الدّواء والشّفاء. كونوا معين كلّ مظلوم، ومجير كلّ محروم. واحصروا فكركم في تقديم الخدمة لكلّ إنسان. ولا تلقوا بالاً إلى الإعراض ولا الإنكار ولا الاستكبار؛ ولا تأبهوا للظّلم ولا العدوان. بل على النّقيض! عاملوا النّاس وكونوا عطوفين عطفًا حقيقيًّا لا صوريًّا ولا ظاهريًّا. ويجب على كلّ فرد من أحبّاء الله أن يحصر فكره في أن يكون رحمة الرّﺤﻤن وموهبة المنّان، فما اتّصل بأحد إلاّ قدّم له الخير والمنفعة، وكان سببًا لتحسين الأخلاق وتعديل الأفكار حتّى يشعّ نور الهداية وتحيط بالعالم موهبة الرّحمن.

المحبّة نور يضيء في كلّ منزل، والعداوة ظلمة تأوي إلى كلّ كهف!

فيا أحبّاء الله ابذلوا الهمّة عسى أن تزول هذه الظّلمة تمامًا فينكشف السّرّ المستور وتبدو حقائق الأشياء وتتجلّى للعيان.

  1. هذه الخطبة منشورة في الصّفحة 52 من هذا الكتاب
المصادر
المحتوى
OV