تفسیر الآیة "الم غلبت الروم"

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

تفسیر الآیة "الم غلبت الروم" – آثار حضرة عبدالبهاء – من مكاتيب عبدالبهاء، المجلد ١، الصفحات ١٢-٣٢

هو الأبهى

سبحانك اللّهمّ يا إلهي قد نزّلت من سماء عزّ أحديّتك مياه الوجود بجودك ورحمانيّتك، وأمطرت من سحاب سماء عزّ فردانيّتك أمطار فيوضات صمدانيّتك، حتّى سالت بهذه الموهبة العظمى أنهار فيضك الأعظم في أراضي الحقائق الممكنة بإنشائك، وسقيت بهذه الأنهار الجارية الملكوتيّة كلّ الأراضي والبلاد، وَأَرْوَيْتَ بهذه الغيوث الهاطلة اللّاهوتيّة ‌كلّ التّلال والدّيار، وأشرقت عليهم بشمس رحمانيّتك من أفق قدس كبريائيّتك، وزرعت يا إلهي في أراضي القابليّات حبوب كلماتك العليا وآياتك العظمى بلطفك ورأفتك الكبرى، ولكن بما كانت تلك الحقائق الموجودة المتقابلة المتجلّية بشمس إسمك الأعظم مختلفة متفاوتة، بعضها يا إلهي- كما أحصيت بعلمك المكنون - أفئدةٌ صافيةٌ لطيفةٌ انطبعت فيها آياتها، وظهرت منها شئون آثار مجلّيها واهتزت وربت أرضها، ونبتت منها رياحين حبّك ومعرفتك وتزينت بأزهار قدس جذبك وشوقك كأرض طيّبةٍ مباركةٍ، وبعضها يا إلهي لمّا كانت أفئدة متكّدرةً محجوبةً بِصَدَإِ الأوهام ومحتجبة عن ربّها بحجب الظّلام، لم يظهر فيها آثار مجلّيها وآيات بارئها ومقدّرها، وفسدت في أرضها حبوب ذكر ربّها كأرض خبيثةٍ جُرُزَةٍ، ولكن يا محبوبي ما فرّطت عند تجلّيك على الممكنات، وظهور آثارك في حقائق الموجدات كما قلت وقولك الحقّ ﴿ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ ﴾، ﴿وَمَا خَلَقُكُم وَمَا بَعَثُكُم إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾، حينئذ أسألك باسمك الّذي لو أُلْقِيَ على الجبال لَانْدَكَّتْ وَسُيِّرَتْ ولو أُلْقِيَ على البحور لَسُجِّرَتْ، ولو أُلْقِيَ على الأغصان اليابسة لَاخْضَرَّتْ وَأَثْمَرَتْ، وعلى العُمْيِ لأبصرت وعلى البُكْمِ لنطقت وعلى الصُّمِّ لسمعت وعلى الأموات لقامت، بأن ترفع الحجاب الّذي حال بينك وبين خلقك ومنعهم عن الورود على مَعِينِ رحمانيّتك، وعن السّلوك في سبيل عزّ توحيدك، وعن الاستماع من ألحان طيور عرشك والشّرب من كأوس حبّك وعرفانك، لأنّهم أَذِلَّاءُ ببابك وفقراء عند ظهور غنائك لا يملكون لأنفسهم نَفْعًا ولا ضُرًّا ولا حَيَوةً ولا نُشُورًا، ثمّ ارفع يا إلهي تلك الأفئدة الصّافية إليك وعرّجهم بجناح التّوحيد في هواء بهاء عماء تفريدك، وَتَجَلَّ عليهم في كلّ آنٍ بما تَتَلَطَّفُ هذه الحقائق الموحّدة وهذه القلوب المقدّسة، لأنّه لم يكن لآياتك من بداية ولا نهاية ولا لشئونك من أوّل ولا آخر، لو تتجلّى على المخلصين من بريّتك في كلّ آنٍ بكلّ الشّئون الّتي لم يحصها أحد إلّا أنت لا ينقص شيء من خزائنك القديمة ولا يقلّ شيء من كنوزك المكنونة، فارحم يا إلهي عبادك المفتقرين ثمّ أسكنهم في ظلال شجرة رحمانيّتك وارزقهم من المائدة الّتي نزلت من سماء عزّ فردانيّتك، لأنّك أنت المعطي بالحقّ وإنك أنت الغفور الرّحيم، وأنت تعلم يا إلهي بأنّ هذا العبد أَفْقَرُ عبادك في ملكك وَأَذَلُّ بريّتك في بلادك، فكيف بهذا الفقر الأعظم أَقْتَدِرُ أن أَتَفَوَّهَ بالمعاني المندرجة المندمجة في حقائق كلماتك والأسرار الّتي حجبتها عن أعين العارفين خلف سرادق آياتك، ولكن لمّا أمرتني بهذا لذا أخذت القلم متوكّلا عليك وَمُتَّكِئًا بفضلك ورحمتك، فإنّك يا إلهي إن أردت لأجريت من القلم الفاني بحور معرفتك وطمطام أسرارك، وإن لم تَشَأْ يَخْرَسُ لسان القلم الأعلى بين ملأ الإنشاء وينقطع منه فيضان آثار القدم بين الإمم، الأمر بيدك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد وحدك لا إله إلّا أنت المقتدر العزيز الكريم.

يا أيّها السّائل البارع الصّادع فاعلم بأنّ في كلّ كلمة من كلمات‌ ٱللّه تتموّج بحور أسرار لا نهاية لها، وإنّ كلّ حرف من آيات ربّك لمشرق شموس رموز وآثار وحقائق لا يحصيها أحد إلّا الله ربّك وربّ آبائك الأوّلين، مع ذلك كيف يستطيع المداد أن يجري بهذه الأسرار ولو كان بحورا وكيف يكفيها الأوراق ولو كانت صفحات الآفاق، ليس لهذه الموهبة الكبرى من نهاية ولهذه الرّحمة العظمى من بداية حتّى تنفذ كما قال الحقّ ﴿ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾، ولكنّ ما لا يُذْكَرُ كُلُّهُ لا يُتْرَكُ كُلُّهُ لذا أذكر بعض المعاني الغيبيّة ٱلسّارية الجارية في مجاري كلمات ربّك العليّ العظيم،فاعلم بأنّ لهذه القدسيّة والرَّنَّة اللّاهوتيّة لمعان في الظّاهر والباطن وباطن الباطن إلى ما لا نهاية له، لأنّ كلمات الله مرايا محيطة على صور كلّ شيء لذا قال ﴿ وَلَا رَطبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾، فأمّا الظّاهر أخبر اللّه بِزِهَاقِ كلمة الفُرْسِ وغلبها ونصرة الرُّوْم وظفرها بعد ما غُلِبَت الرُّوْم واضمحلّت تحت أيادي الفرس وَشُتِّتَ شملُهُم وَفُرِّقَ جمعهم، وتفصيل هذا أنّ في أيّام أشرقت شمس الأحديّة من النّقطة المحمّديّة ورفعت أعلام الهدى على أعلام يثرب والبطحاء، وغنّت الورقاء على أفنان سدرة المنتهى وتشهّق الطّاووس في جنّة المأوى، قال المشركون إنّ كِسْرَى ملك الفرس الّذي لم يكن من أهل الكتاب غلب وظفر على عظيم الرّوم الّذي هو من أهل الكتاب، فبمثل هذا نحن نَزْهِقُ كلمة محمّد رسول الله لكونه من أهل الكتاب كعظيم الرّوم ونحن من غير أهل الكتاب كملك الفرس، فأنزل اللّه هذه الآية اللّاهوتيّة وأخبر بأنّ الرّوم سيغلبون أعدائهم الفرس في بضع سنين والبضع من الثّلاثة إلى التّسعة، فبعد سبع من السّنين أظهر اللّه سرّ ما أخبر به حبيبه الأعظم وانتصر الرّوم على الفرس وعلت كلمتهم، فبذلك أيقن المخلصون بأنّ علم ربّك سبق كلّ شيء وأحاط من في الوجود من الغيب والشّهود، هذا ما غنّت به طيور أفئدة المفسّرين في حدائق القرآن العظيم، ومن غير هذا لم يبلغوا إلى الأسرار المودعة والرّموز المكنونة المخزونة السّارية الجارية في مجاري كلمات ربّك العليم الحكيم، وبهذا لم يقنع الظّامي العطشان إلى كوثر الرّوح من أيادي الفضل والإحسان، ولم يكن بشيء عند الّذين جعل اللّه بصرهم حديدا وعرّفهم معاني كلماته وعلّمهم تأويل آياته، لذا ينبغي أن أذكر بعض ما أراد الله في هذه الآية الغيبيّة والرّنّة الملكوتيّة والنّغمة اللّاهوتيّة، وأقول إنّ ﴿ الرُّوْم ﴾ هو الشّئون الّتي ترجع وتنتسب إلى الحقائق الكونيّة وصرف الإِنِّيَّة والحجب السّاترة والظّلمات الصّادرة عن تعينات الوجود وتشخّصات الموجود، وهذه تغلب وتضمحلّ عند شروق الأشعّة السّاطعة عن شمس الحقّ، فلمّا انتهى كور الرّوح خبت مصابيح الهدى وركدت نسائم التُّقَى وانقطعت أرياح الوفاء، وكلّت ألسن بلابل الأحديّة في حديقة الولاء، وتبدّلت الجنّة الغنّاء والرّوضة الغلباء بالفلاة الجدباء، وصاح البوم في أغصان شجرة الزّقّوم، إذا هبّت نسائم ربيع ربّك الرّحمن من الوادي الأيمن البقعة المباركة، وطلعت شمس الأحديّة عن مطلع إرادة ربّك الرّحمن الرّحيم، وارتفعت سحاب الفضل وفاضت على الأفئدة والقلوب والحقائق والنّفوس، واخضرّت أراضي القابليّات والإنّيّات وأنبتت أرض المعرفة ونبتت الشّجرة المباركة الّتي منها سمع النّداء بأن ﴿ يَا مُوْسَى إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوَى ﴾، وظهرت نار الحقيقة في تلك الزّيتونة الّتي ﴿ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَربِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُوْرِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴾، إذا غنّ عندليب المعاني على الأفنان بفنون الألحان وقال ﴿ غُلِبَتِ الرُّوْمُ فِي أَدْنَى الأَرْضِ ﴾، فأيّ أرض أدنى من حقائق الأشياء وتعيناتهم؟ ثمّ أخبر لسان القدم والكلمة الأعظم بأنّ الملك الحيّ القيّوم قدّر لكلّ أمر أجلا محتوما، فسوف - في انتهاء هذا الدّور - تأتي أيّام تغرب هذه الشّمس السّاطعة في خلف سحاب متراكمة، وينتهى هذا الرّبيع الرّوحاني إلى الخريف الظّلمانّيّ، وتتبدّل هذه الجنّة العالية وتنقعر أشجارها وتتناثر أوراقها وتسكن أرياحها وتنقطع أنهارها ويبيد صفاوٴها، وهذه من سنّة ٱلله ولن تجد لسنّته تبديلا ولا تحويلا ، إذا يا أيها السّائل فانظر بالبصر الّذي خلق الله خلف بصرك الظّاهر، هل يقتدر المنصف أن يقول إنّ معاني كلمات الله التّامّات موجودة عند هؤلاء الّذين لا يميّزون يمينهم عن شمالهم؟ لا فو الّذي أنطق الورقاء بذكره بين الأرض والسّماء، بل يتيقّن بأنّ المعاني ملهمة في أفئدة صافية ملكوتيّة، لو أراد الله يقيم أحدا من أحبّائه الواقفين على مركز الهدى بين ملأ الإنشاء، ويفسّر بعونه وقوّته حقائق آياته بمعان ما اطّلع به إلّا الله والرّاسخون في علمه، إذا فَأَقْبِلْ إلى ربّك بوجه ناضر وبصر ناظر وقل أي ربّ ثبّت قدمي على أمرك وعلّمني من علمك المكنون وسرّك المخزون، وعرّجني إلى ملكوتك الأعلى ورفيقك الأبهى، وعرّفني معاني آياتك لأظهر عن أفق مشيّتك ككوكب الصّبح بأنوار علمك ومعرفتك، وأظهر للنّاس سبيلك القويم وصراطك المستقيم الّذي من سلك فيه لوصل إلى مشرق الآثار ومطلع الأنوار، لأنّ هذا ما يُبَيِّضُ وجهي عند مشاهدة آياتك الكبرى وملاحظة آثار تجلّياتك العليا، أي ربّ وفّقني على هذه الموهبة الكبرى والرّحمة العظمى، لأنّ هذا أملي منك ومقصدي ورجائي يا مالكي ومناي في كلّ أحوالي، وفرح قلبي وسلوة فوٴادي في لياليّ وأيامي، إنّك أنت المعطي الباذل الرّوٴف الرّحيم، وفي مقام الأنفس ترى لهذه الآية الرّبّانيّة معاني قدسيّة لاهوتيّة، منها أراد اللّه بكلمة ﴿ الرُّوْم ﴾ جنود النّفس والهوى وشعوب الجهل والعمى بما أيّد عند ظهور حبيبه جنود العقل والنُّهَى بشديد القوى حتّى رأى من آيات ربّه الكبرى وسمع النّداء الأحلى عن الأفق الأعلى، وشرب الرّحيق المختوم من يد ساقي الوفاء وأخذه سكر خمر ذكر ربّه الأعلى على شأن استغرق في بحور محبّة ٱلله، إذ أفنى حقيقة النّفس والهوى مع الشّئون والقوى عند ظهور آثار الحقيقة المطلقة الإلهيّة، وغلبت واضمحلّت من سطوات آيات بارئها ولكن كانت مغلوبيتها مبدأ لقدرتها وقوتّها وعلوّها وعزتها، لأنّها زكّت واطمئنّت في ذكر ربّها وبذلك غلبت على كلّ شيء وأحاطت بقدرة موجدها ومبدعها حقائق الملكوت على ما هي عليها وأدركت أسرار بارئها ومصوّرها، فأيّ غلبة أعظم من هذا لو كان النّاس ببصر الحقّ ينظرون؟ وإنّهم لو يطيرن بجناح الرّوح في سماء العرفان ليشهدن بأنّ هذا هو القدرة القاهرة والقوّة الباهرة والسّطوة البالغة والسّلطنة الغالبة، ولكن لمّا تواروا خلف حجب الغفلة ونسوا ما ذكروا به ضرب ٱللّه على أعينهم غشاوة وعلى آذانهم وَقْرًا، إذا يا أيّها السّائل الجليل قم بقوّة على ذكر ربّك بين ملأ الأرض وقل إلى متى تقنعون بقطرة مُنْتِنَةٍ آسِنَةٍ عن البحر الأعظم الأبهى الّذي تموّج لذاته بذاته، وجعل ٱللّه برشح منه كلّ الوجود حيّا باقيا كما قال وقوله الحقّ ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ ﴾، وفي مقام أراد ٱللّه بكلمة ﴿ الرُّوْم ﴾ النفوس الّتي استضائت وجوههم عند شروق شمس القِدَم عن مشرق ٱسمه الأعظم، وصفت مرايا أفئدتهم وقابلت أشعّة نيّر الأكرم، لأنّ اسم الرّوم في عُرْفِ اللّغى وضعت لطائفة بيضاء وَأُمَّةٍ حُمَيْرَاءَ، والنّفوس الصّافية الّتي ناظرة إلى ربّها بوجوه ناضرة مبيضّة مستبشرة، فبهذا تحصل المشابهة والمناسبة، وأمّا المراد بقوله عزّ اسمه ﴿ غُلِبَتِ الرُّوْمُ ﴾ أي غلبت في عوالم الجسماني تلك النّفوس الزّكيّة الّتي فنت عن صفاتها وحدودها عند ظهور مجلّيها حتّى اتّصفت بصفات رحمانيّة وظهرت بآثار ملكوتيّة، أرسل اللّه عليهم أرياح الامتحان والافتتان وألقاهم تحت مخالب المنكرين الّذين ما استنشقوا رائحة الحياء وتركوا النُّهى وتمسّكوا بالهوى، ولكن لمّا كانوا غالبين من حيث الرّوح كذلك سيغلبون من حيث الجسد على أعدائهم بقدرة بارئهم لأنّ اللّه جعل كلّ الخير لأحبّائه في كلّ عالم من العوالم حتّى في عالم الجسم والذِّكْرِ، أَمَا تشهد بذكرهم ملئت الآفاق وباسمهم رفعت رايات الوفاق؟ وبهم اشتعل العالم واستضائت الممكنات بنور الوجود من العدم، وبهم أنشقّت الأحجار وتفجّرت الأنهار وتموّجت البحار، وشرّعت الشّوارع وصفّت الموارد ونزّلت الموائد، ورفعت الأمراض وَحَيَّتِ الأموات وزلزلت الأرض، وانفطرت السّماء ونسفت الجبال وأزلفت الجنان، وأثمرت الأشجار وظهرت الأسرار وهتكت الأستار ولاحت الأنوار وشاعت الآثار، إذا قل فسبحان ٱللّه موجد هذه الشّهب الثّاقبة والنّجوم السّاطعة والكلمات التّامّة والنّفوس العالية والعقول المجرّدة والأرواح الهائمة في ٱللّه ربّها، وقل أي ربّ أدخلني في ظلّ شجرة رحمانيّتك وأغمسني في لُجَجِ عزّ فردانيّتك وقدّسني عمّا سواك وخلّصني من غمرات النّفس والهوى، حتّى أقوم كما أقمتهم على خدمتك وأستقيم على أمرك بحولك وقوّتك إنّك أنت المعطي لمن تشاء بيدك الخير وإنّك لعلى كلّ شيء قدير.

وفي مقام أراد ٱلله بهذه الكلمة الفرقانيّة شرائع ٱلله وسننه وحدود ٱللّه وحكمه، لأنّ النّاس في أيّام الفترة تركوا أوامر ٱلله وراء ظهورهم، ونسوا حكم ٱلله نَسْيًا مَنْسِيًّا بحيث وضعوا وأسّسوا أساس سياسة‌ جهليّة، وقنّنوا أصولا وقوانين رسوميّة، ورفعوا أعلام أحكام ظُلْمِيَّةٍ ظَنِّيَّةٍ بحيث تركوا العلم والهدى، وتمسّكوا بأذيال الوهم والهوى، هبطوا من سماء العقل والنُّهى وسكنوا في دركات الضّلالة وَالعَمَى، إتّخذوا سبيل المفسدين وظنّوا أنّه صراط مستقيم، اعتكفوا على أصنام مترفِيهم وجهلوا مفسدِيهِم من مُصْلحيهِم، وبذلك خَبَتْ مصابيح العدل والإنصاف واشتدّت قواصف الاعتساف، إِسْتَوْلَتْ آية الظّلم ومحت آثار الأنوار، وَابْتُلِيَ النّاس بطوارق اللّيل وجوارح النّهار بما تركوا أوامر ٱللّه وسننه وحرّفوا أحكام ٱللّه وحدوده، وبذلك غلبت الشّرائع المقدّسة الرّبّانيّة بين النّاس، ولكن بقدرة‌ ٱلله وقوّته عند طلوع صبح الهدى من أفق البقاء فتقت سحاب الظّنّ والغوى ورتقت سماء العلم والتُّقى، لاحت آية النّور ومحت ظلمات الدّيجور، ظهر الصّراط القويم ونصب القسطاس المستقيم، امتدت العروة الوثقى الّتي لا انفصام لها وهبّت لواقح ربيع العدل والحكمة من مهبّ عناية الرّبّ القديم وألبست أشجار الهياكل الإنسانيّة بأوراق العلم والحكم الرّبّانيّة، غرست الشّجرة الطّيّبة الّتي أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السّماء وتوٴتي أكلها في كلّ حين وامتدت أغصانها وأفنانها في الآفاق، وَاوَتْ وَوَكَرَتْ عليها طيور الوفاق وَغَنَّ عليها عندليب الأريب بذكر الحبيب، ورنّت في أفنانها حمامة الوَدُود بمزامير آل داود على شأن اهتزت الأرواح وانشرح الصّدور وقرّت الأعين وطابت النّفوس وصار الإمكان حديقة الرّضوان، أما ترى بأنّه ظهر بين أُمَّةٍ متوحّشةٍ ذليلةٍ وطائفةٍ جاهلةٍ ممقوتةٍ بين كلّ الأمم؟ وكان جَهْلُهُم على درجة ما كانوا يميّزون اليمين عن اليسار، ويكتبون على صفحات الماء ويأتون كل فاحشة ويعملون ما يَتَنَفَّرُ منه الحيوان فكيف الإنسان، ولكن لمّا ظهر بينهم الحبيب الأعظم والنّور الأفخم وآية القدم وَالصُّبْحُ الأَبْسَمُ، وَأَوَوا في كهف تربيته ما مضى أيّام معدودة وسنين محدودة إلّا وترقّت هذه الطّائفة الجاهلة من حضيض الجهل إلى أوج العلم والحكمة، وبرعت في الفنون والمعارف وفرعت على أعلام العلوم والعوارف، واشتهرت بين الخلائق بخصائص الإنسانيّة وصفات الرّحمانيّة، حتّى صارت معدن الكمال والعرفان ومحور دائرة المفاخر والإحسان، وبذا انتصرت على الآفاق وتسلّطت على كلّ القبائل والشّعوب من البرايا، فصارت النّاس يأتون من كلّ فَجٍّ عميق إلى بلادهم حتّى يتعلّموا العلوم والحكم ويتزيّنوا بحلل الفضل والكمال، كلّ ذلك ما كان إلا بفضل اللّه ورحمته بما بعث فيهم خير البريّة بقوّة عجزت عنها الخلائق أجمعون.

وفي مقام أراد ٱلله بكلمة ﴿ الرُّوْم ﴾ الحقائق الممكنة المتجلّية بأسماء ٱللّه وصفاته المصطلية من نار الأحديّة الموقدة في البقعة المباركة في بحبوحة الجنّة الظّاهرة المشهودة على أربعة أركان قدميّة الموٴسّسة بِزُبُرِ الألوهيّة والرّبوبيّة القائمة بجوهر الفردانيّة، فيا ليت فتح الرّحمن عن فم هذا الغلام ختام الحفظ والكتمان، حتّى أُبَيِّنَ لك يا حبيب مقامات نار الأحديّة والشّجرة المباركة وأغصانها وأوراقها، وشئون بقعة الفردوس الّتي سترها ٱللّه عن أعين الكلّ إلّا الّذين طاروا بجناح النّجاح في هواء يظهر فيه الأفراح للأرواح، واستنشقوا رائحة الوفاء عن قميص البهاء المرشوش بالدّم الحمراء بما فعل المشركون بجماله المشرق المنير بعد ما أخذ اللّه العهد منهم في كلّ كتب وصحف وزبر عند إشراق كلّ نور من أنواره وطلوع كلّ نيّر في آفاقه، بأن يعترفوا بقدرته وسلطانه ويسجدوا له يوم يأتيهم في ظلل من غمامه، ويفدوا أنفسهم حين ظهوره فداء للقائه، فوا حسرتا عليهم وأسفا لهم بما فرّطوا في جنب ٱللّه، فسوف يأتيهم نبأ ما كانوا عنه غاففلين إذا اقشعرّت جلودهم واستدّمت أكبادهم وذابت قلوبهم، وناحت أرواحهم وتأوّه سرّهم وعضّوا أناملهم حسرة وندامة على ما فعلوا وحرّموا على أنفسهم مائدة الحياة النّازلة من سماء رحمة ربّهم العزيز الغفور.

فلنرجع إلى ذكر ما كنّا فيه من بيان كلمة ﴿ الرُّوْم ﴾ فقلنا بأنّ المراد منها حقائق الأشياء وماهيّاتها وسعة الممكنات وقابليّاتها، والمراد من ﴿غُلِبَتِ الرُّوْمُ﴾ أي عمّت الفيوضات الرّحمانيّة والتّجلّيات الصّمدانيّة حقائق الممكنة المستفيضة من النّور القديم وشملتهم وغلبت عليهم وأحاطتهم من كلّ الجهات ظاهرا وباطنا اليوم الّذي أشرقت شمس القدم من شطر الآفاق، لأنّ في مثل ذلك اليوم المبارك الموعود لا ينظر الحقّ إلى سعة الحقائق الموجودة واستعدادهم بل يفيض عليهم من بحور فضله وإحسانه ولو لم يكن لهم سعة قطرة من أنهاره، بحيث ترى يلبس الفقير ثوب غنائه ويتردي المسكين الذّليل رداء عزّه وعلائه، كما قال وقوله الحقّ ﴿ وَنُرِيْدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُم الوَارِثِينَ ﴾.

أن يا أيّها الطّائر في هواء محبّة اللّه والسّائح في بحار الفضل، قم عن رقد الأوهام وافتح بصرك لتشهد بأنّ جمال القدم كيف مشرقٌ عليك وعلى الممكنات من أفق الفضل ويلوح وجهه بين السّماء والأرض، وترى شمول فضل مولاك وعميم إحسانه على المقبلين، وتبصر كيف يتموّج طمطام رأفته الكبرى عن يمين إرادته، وتهبّ روائح الرّحمة العظمى من مهبّ عنايته، لتعلم بأنّ هذا يوم لو أراد الذُّباب أن يستنسر والقطرة أن يستبحر في ظلّ هذا الجمال ليقدر بعون ٱللّه وقوّته كما قال وقوله الحقّ: [ لو أرادت نملة أن تتصرّف في القرآن وباطنه وباطن باطنه في حكم سواد عينها لتقدر ] لأنّ سرّ الصمدانيّة قد تلجلج في حقائق الممكنات، اذا قل تبارك الّذي أظهر قدرته وسلطانه ورحمته وإحسانه في هذه الأيّام على الخلائق أجمعين.

وأمّا قوله تعالى ﴿ وَهُم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾ أي يأتي أيّام فيها تغرب شمس الأحديّة في مغرب البقاء وَتَرْكُدُ نسمات الرّوح عن شطر الوفاء وَتَخْبُو سراج المحبّة في صدور ذوي الحِجى وتخمد نار الشّوق في قلوب أولي النُّهى وتنقطع مائدة العرفان من سماء الإيقان، ويمنع سحاب القدس عن بذل الأمطار وبحر الأحديّة عن قذف دُرَرِ الأسرار، وينتهي هذا النّعيم الأوفر والحَظُّ الأكبر وينقلب هذا اليوم الأنور باللّيل الأليل، فإذا وجدت الإمكان على هذه الأحوال فاعلم وأيقن بأن قَرُبَ صباح الإيقان، وَدَنَا طلوع فجر الرّحمن من مشرق الإمكان ومجيء ربّك في ظلل من الغمام، إذا فارفع يديك مقبلا الى مولاك وقل لك الحمد والشّكر يا ربّي الأبهى بما خلقتني وبعثتني في اليوم الّذي لاح وجهك وظهر جمالك وأشرقت طلعتك وسبقت رحمتك وسبغت نعمتك وأحاطت قدرتك وظهرت آياتك وعلت كلمتك وثبت برهانك، فو عزّتك لو أُثْنِي عليك بدوام سلطنتك لن أستطيع أداء كلمة من شكرك، ولكن لمّا رأيت من عميم فضلك وعظيم جودك وإحسانك تَقْبَلُ القطرة من عبادك مقام البحر وَتَحْسَبُ الذّرة مقام الشّمس، لذا قدّمت بين يديك بِضَاعَةَ شكري الّتي لم تكن إلا كَرَنَّةِ بعوضةٍ في الواد أو كدبيب نملةٍ على الأصفاد، وإنّك أنت الغفور الرّحيم.

ومنها أراد اللّه بهذه الكلمة القرآنيّة مقام النّظر والستدلال وإقامة الأدلّة القاطعة والبراهين النّاطقة على وحدانيّة الحقّ وفردانيّته وعزّته وقدرته وسلطانه كما شهدت ورأيت في أيّام الّتي مضت قبل ظهور نيّر الأعظم عن مشرق ٱسمه المكرّم، بحيث ما كان لأحد سبيل إليه ولا دليل عليه إلّا ما دلّت العقول والأنظار من ظهور آياته وبروز آثاره، وكان النّاس يستدلّون بها على وجوده وتنزهه عمّا سواه، ولكن لمّا طلعت شمس الآفاق عن مطلع القدم في الهيكل المكرّم واستضاء الوجود بالأشعّة السّاطعة على كلّ موجود خرقت حجبات النّظر والاستدلال وسقطت رايات الدّلائل والإشارات ورفعت أعلام المكاشفة والشّهود على أعلام القلوب والأبصار وفاز الأحرار بلقاء ربّهم يوم زلزلت الأرض ونسفت الجبال، إذا قل فتبارك ٱللّه الملك العزيز الجبّار الّذي أتى في ظلل من الأنوار بسلطان عظيم، ﴿ غُلِبَتِ الرُّوْمُ ﴾ أي اضمحلّت قطرات مياه النّظر والاستدلال عند تموّج أبحر المكاشفة والشّهود بعد الّذي كان برد لوعة الطّالبين ورواء غلّتهم وشفاء علّتهم، وانعدمت واضمحلّت كأن لم تكن إلّا أوهام وظنون وقياس وتصوّرات لأنّ مثل الأدلّة عند ربّك كمثل الظّلّ عند طلوع الشّمس، ولو كان دليلا عليها لم يكن لها وجود عند ظهورها ولا له بقاء تلقاء سطوع شعاعها، بل هو محجوب عنها ولو دلّ عليها وعند الّذين شربوا سلسال الرّحيق المختوم من يد عناية ٱسمه القيّوم، أعظم حجبات العباد أن يعتمدوا على الظّلّ الفاني لمعرفة شمس القدم أو يتّكئوا على الآثار ويستدلّوا به على وجود موجد الأنوار، ومع ذلك يحسبون أنّهم وصلوا إلى مركز الهدى وساروا في أفلاك النُّهى، كلّا إنّهم في غمرات الظّنون يخوضون، وفي بيداء الأوهام يتيهون، إذا قم بقدرة من ٱللّه وقوّة‌ من سلطانه وخاطب الغافلين وقل إلى متى تركضون في برّية الجهل، قد سطع بَرْقُ المعاني في سماء الرّوح واشتعل الآفاق بنار ٱلله الموقدة الّتي ظهرت عن سدرة سيناء في طور البقاء، أَلَا يا معشر المشتاقين تقرّبوا إليها حتّى تصطلوا منها وتهتدوا بها وتتوقّدوا من جذواتها وتسمعوا زفيرها، وقل قد قرّت عيون الأشياء بلقاء ربّها وأنتم لا تبصرون، قد ٱنتبهت الممكنات وأنتم غافلون، قد قامت الموجودات وأنتم في فراش الغفلة ترقدون، نطقت ألسن كلّ شيء بذكر مليك الأسماء وأنتم تصمتون، إن لم تتوجّهوا إلى ذلك الجمال فبأي جمال تنظرون وإن لم تنتبهوا من هذا النّداء فبأي نداء تنتبهون وإن لم تهتزّوا من هذا الرّوح فبأي روح تتحرّكون؟ هل تحسبون أنفسكم أحياء كلّا إنّكم من أصحاب القبور، أتزعمون بأنّكم تبصرون أو تسمعون بل صمّ بكم عمي فلا تفقهون، هل الرّحمة ما سبقت أم النّعمة ما سبغت أو الحجّة ما كملت والبراهين ما ظهرت والآيات ما نزلت والكلمة ما تمّت وحمامات الفردوس ما غنّت والجنّة ما أزلفت والشّجرة المباركة ما أثمرت وبحور الاسرار ما تموّجت؟ بل وقعت الواقعة العظمى وظهرت الطامّة الكبرى وحشر كلّ شيء في محضر ٱللّه المهيمن القيّوم ولو كان المشركون في سكرتهم يعمهون.

ومنها أراد ٱللّه بهذه الكلمة التّامّة الشّئون الجسمانيّة والحقائق النّاسوتيّة وعوارضها وخصائصها في عالمها وحيزها، والمراد من قوله عزّ شأنه ﴿ غُلِبَتِ الرُّوْمُ ﴾ أي فنت الشّئون الجسمانيّة عند ظهور الآيات الرّوحانيّة وفاضت أنهار الحقيقة على أراضي الأفئدة الصّافية عند ٱستواء الرّحمن على العرش الأعظم بين الأكوان، لأنّ الجنود الرّوحانيّة تبطش وتصول على الأحزاب يوم الإياب بقوّة ربّ الأرباب، لذا تغلب الجسمانيّات ويكون الحكم للرّوحانيّات، وفي ذلك لآيات للمتبصرين.

ومنها أراد ٱللّه بهذه الكلمة المحكمة الثّابتة مقام الظّنون والأوهام في أفئدة العوام، لأنّ في أيّام أُفُوْلِ شمس العلم والحكم تشهد الوهم والظّنّ هو السّلطان الأعظم بين ملأ الأكوان، فترى إنّما يعتمد الكلّ في المسائل والمعارف على الظّنّ حتّى الشّرائع والسّنن فلا يقتدرون أن يسبحوا في بحور العلم ويخوضوا في طمطام الحكمة، ولكن عند شروق شارق اليقين من أفق مبين تزهق أشعّة جمال المعلوم ظلمات الوهم والظّنون، إذا ينطق لسان الإبداع بأن جاء الحقّ وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا، أن يا حبيب قل بلسان بديع‌لك الفضل والمنّ والرّحمة والإحسان على هذا الرّقيق الّذي لا يليق بشيء في ملكك بما نجّيتني من تيه الظّنون وآويتني في أفنان سدرة العلوم، بل أغنيتني عن العلوم بما وفّقتني على معرفة جمالك المعلوم، أي ربّ ثبّتني على حبّك وأقمني على إظهار أمرك وإثبات حكمك وٱجعلني علما على أعلامك بين عبادك لأكون مهبط إلهامك وموٴيدا بآثارك، إنّك أنت المقتدر على كلّ شيء بقدرتك وسلطانك يا محبوب العالمين.

ومنها أراد ٱللّه بهذه الكلمة الجامعة مقامات النّفس ومراتبها ودرجاتها وعلوّها واضمحلالها وصعودها وسقوطها من فضل بارئها ونعمة موجدها وبطش مبدعها، فاعلم بأنّ النّفس لها مراتب شتّى ودرجات لا تحصى، لكنّ كلّياتها في مراتب الوجود معدودة ومحدودة بنفس جماديّة معدنيّة ونفس نامية نباتيّة ونفس حيوانيّة حسّاسة ونفس ناسوتيّة إنسانيّة ونفس أمّارة ونفس لوّامة ونفس ملهمة ونفس مطمئنّة ونفس راضية ونفس مرضيّة ونفس كاملة ونفس ملكوتيّة ونفس جبّروتيّة ونفس لاهوتيّة قدسيّة، فأمّا النّفس المعدنيّة عبارة عن مادّة جوهريّة في المعادن وهي كمالها وصفاوٴها والتّأثيرات الظّاهرة منها، فانظر إلى الأحجار الثّمينة المعدنيّة كيف تنطبخ في معدنها حتّى تصل إلى كمالها وجمالها بظهور نفسها فيها وبروز جوهريّتها بها، وأمّا النّفس النّامية النّباتيّة فهي عبارة عن الجوهر الّذي تقوم به القوّة النّباتيّة التي بها تنبت وتنمو الحبوب والأوراق والأغصان والأشجار بحيث تأخذ من المواد والإسطقسات وتعطي الأشجار والنّباتات حتّى آنا فآنا تترقّى وتمتد أغصانها وتعطي ثمارها وأزهارها أوراقها، وأمّا النّفس الحيوانيّة هي عبارة عن الجوهر الّذي قائم به القوى الحسّاسة للمحسوسات الجسمانيّة، وأمّا النّفس الإنسانيّة عبارة عن النّفس النّاطقة أي الجوهر الّذي به تقوم قوي الإنسان والحواسّ الظّاهرة والباطنة والكمالات والمعارف الرّبّانيّة والعلوم الإلهيّة والفنون الصّمدانيّة والحكم الغيبية، وكذلك معرّض لشئون الشّهوات الظّلمانيّة والنّقائص النّاسوتية فسبحان ٱللّه من هذه الآية العجيبة والنّقطة العظيمة والكلمة الجامعة في صحيفة الإمكان بحيث ترى لها شئونا مختلفة ومراتب متنوّعة متضادّة ودرجات متعدّدة ممّا لا نهاية لها، ولها استعداد أن تكون مرآة لظهور حقائق لاهوتيّة ومجلى لبروز صفات كاملة ربّانيّة، ولها تنزلات في ظلمات كونيّة واحتجابات بحجب كثيفة ناشئة من حدودها وتعينها ومانعة لوصولها إلى مبدئها ومرجعها وساترة عنها آيات موجدها المودعة فيها بفضل بارئها، ولأجل ترقياتها إلى مراتب القرب والوصال وتنزلاتها في مهالك البعد والضّلال تتقمّص في كلّ مرتبة ومقام بثياب أخرى غير الأولى، لذا تعبّر في كلّ مرتبة بعبارة مثلا في مقام تنزلاتها في أسفل مراتب الشّهوات الحيوانيّة واشتغالها بزخارف الدّنيا الدّنيّة وشغفها في مشتهياتها الخبيثة الفانية وانجمادها من برودة الإمكان وانخمادها عن حرارة حبّ ربّها العزيز الوّهّاب وسقوطها وهبوطها في ورطة الضّلال وغلوّها وانهماكها في المنكر والطّغيان فاعتبرت بنفس أمّارة كما قال وقوله الحقّ ﴿إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾، ثمّ تترقّى من هذا المقام الهائل والدّرك السّافل إلى مقام يأتيها أحيانا نبأ خوضها في ورطة المهالك وانغماسها في لجج الغفلة وسلوكها في تلك المسالك وانحجابها عن ٱلله ربّها وغفلتها عن بارئها وحيرتها في تِيْهِ الضّلالة والهوى ونسيانها ذكر ٱلله الملك العزيز الأعلى، تارة يمرّ عليها نسيم التّبصّر في أمرها وتتيقّظ أقلّ من الشّيء فتلوم ذاتها بما تراها خائضة في غمرات الغفلة وَالغَيِّ وتشمتها بما تشهدها هائمة في بيداء المنكر والبغي وتتأسّف لدنوّها وسقوطها وهبوطها في أسفل درجات الذّلّ والشّهوات المهلكة وانحجابها خلف حجبات متراكمة الّتي تمنعها عن الصّعود إلى الدّرجات العالية الرّوحانيّة وتشغلها عن ذكر اللّه بهذه الوساوس الباطلة الشّيطانيّة، فلأسفها وندمها في هذا المقام ولومها ذاتها تعتبر بنفس لوّامة كما قال جلّ اسمه ﴿ وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾، ولمّا ارتقت من هذا المقام الأدنى الأذلّ الأوحش وصعدت إلى مكمن الأعزّ الأقرب الأوفر وأيدت بتأييد ٱللّه وألهمت مضمون كتابها كما قال ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾، وَأَتَتْهَا آيات الإلهام وظهرت لها حقيقة اللّيل من النّهار وَدُعِيَتْ إلى شاطئ بحر العرفان وَرُزِقَتْ بموائد القدس من جنّة الرّضوان وَجَنَتْ من أثمار شجرة الإحسان وَسُقِيَتْ من أنهر الفضل والإكرام وَتَنَعَّمَتْ بِنِعَمِ البقاء وذاقت حلاوة الآلاء وعرفت علوّها ودنوّها وصعودها وهبوطها وطلوعها وأفولها كما هو حقّه وتبصّرت في أمرها وتيسّر لها عُسْرُهَا وصارت تميل من الفانيات إلى الباقيات وتغمض النّظر عن الموجودات وتقلّبه إلى ساحة العزيز الجبّار وترتقب النّداء من الملأ الأعلى وتلتفت إلى الشّئون الّتي ترقّيها حتّى توصلها إلى عرش الاطمئنان وكرسيّ الامتنان، فتصير مهبطا لموارد الإلهام بين الأنام وتجد من سعيها ومجاهدتها الفوائد الّتي توصلها إلى مقصدها ومطلبها، إذا تعتبر بنفس ملهمة لأنّها ألهمت بفجورها وتقواها كما قال تبارك وتعالى ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾، وفي مقام تَنَبُّهِهَا بذكر ربّها وَتَيَقُّظِهَا بنداء بارئها عن رقد الأوهام وَتَذَكُّرِهَا بذكر اللّه العزيز العلّام وصعودها وعروجها إلى مقامات الحبّ والاطمئنان وانغماسها في طمطام الإيقان ومشاهدتها آيات اللّه من مشارق الإمكان وآفاق الأكوان وأنفس الرّحمن وظهور آية التّوحيد من مطلع الجنان ودخولها وخلودها في بحبوحة الجنان وفورانها من حرارة حبّ ربّه العزيز المنّان وسيرها وسلوكها إلى اللّه المقتدر الملك الحنّان وجلوسها على عرش السكينة والاستقرار وشربها من كوٴوس الاستقامة والثّبوت في كلّ الأحيان تعتبر بنفس‌ مطمئنّة، لأنّها اطمئنّت في الإيمان وسكن اضطرابها وقلقها ورويت غلّتها وبردت لوعتها ورقّت وانكشفت حجباتها وتبدّلت بالنّور ظلمتها وزالت بطالتها وكمل نقصانها وخرقت أستارها وهتكت أسبالها وظهرت أسرارها وزلزلت أرضها وأخرجت أثقالها وحدثت أخبارها بأنّ ربّك أوحى لها، فسبحان ٱللّه هاديها وناجيها ومنوّرها ومصوّرها عن كلّ ما يقول الجاهلون، وإذا وصلت إلى هذا المقام الأعزّ الأوفى والمورد الأعذب الأصفى الأحلى وشربت من هذا المنهل الأرقّ من الصبّا تفوز بمقام التّسليم والرّضى وترك الطّلب والاقتضاء وتفوّض الأمور إلى اللّه الملك العزيز القيّوم وتتوكّل عليه وتتّكأ على وسادة فضله وإحسانه، ولا ترى في هذا المقام ما يخالف رضاها ولا تختار الرّاحة الكبرى على المصيبة العظمى بل إنّها راضية بكلّ ما قضى ٱللّه لها فتراها فرحة مسرورة عند نزول البليّات وشاكرة ممنونة لدى تموّج أبحر المصيبات والرّزيات ولو يأتيها من سحاب القضاء سهام الشّدائد والبأساء وتنزل عليه أمطار البثّ والضّرّاء لتراها رطب اللّسان بشكر ربّها المستعان وفصيح البيان في ذكر الملك المنّان، وهذا مقام لو فزت به لتصل إلى سرور لا يتّبعه الأحزان وفرح لا يتلوه الأكدار وفرج وسعة لا ينتهي إلى الضَّنْكِ والشّدّة ويسر لا يعاقبه عسر ومحنة، لأنّ أزمّة الأمور في قبضة قدرة ربّك ﴿ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاٌت بِيَمِيْنِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾، بحيث لا تتحرّك ورقة على شجرة ولا تسقط ثمرة إلّا بإرادة ربّك الرّحمن الرّحيم، والسّالك في ذلك المقام الأعلى لا يبقى له إرادة وسكون وحركة وقدر وقضاء إلا باللّه بل تفنى ذاته وصفاته وكينونته وإنّيّته كلّها بسطوات آيات التّوحيد كما تزول الأظلال عند شروق شارق القديم، فمتى فنت واضمحلّت إرادته في إرادة الحقّ فصارت إرادته عين إرادته ورضاوٴه عين رضائه وارتفع الحجاب وزال النّقاب واضمحلّ الشّرك في حقيقة الفوٴاد ظهرت في النّفس آية الرّضاء، إذا لرضائها بقضاء بارئها وتسليمها لأمر خالقها اعتبرت بنفس راضية، فبما أدركها سوابق الفضل والرّحمة وأحاطتها الآلاء والنّعمة وشملتها ثياب الجود والإحسان وأقمصها ٱللّه قميص الانقياد والرّضوان يخاطب من الملأ الأعلى طوبى لك بما قطعت السّبيل وطويت الطّريق حتّى وردت شريعة الوفاء وشربت زلال التّسليم والرّضاء وتركت هواك ورضيت بقضاء مولاك وأنفقت ما لك وعليك وفديت روحك وقلبك وفؤادك في سبيل مولاك وهذا قرّة عينك، وبذلك تنال إلى المقام الأعلى والرّفيق الأبهى وتصير مرضيّة مقبولة عند ٱللّه ربك ومستظلّا في ظلّ فضل مولاك مستبشرة مسرورة مهتزة بمنّه وإحسانه إنّ فضله بعباده المخلصين عظيم، فلأجل صعودها بوسائط الرّضا إلى المعارج المرضيّة عند ٱللّه ربّها ومقبوليتها في فناء موجدها اعتبرت بنفس مرضيّة، ولمّا طارت بأجنحة القدس في فضاء هذا الفردوس وذاقت حلاوة مقامات الأنس في حديقة الإفريدوس واجتمع فيها هذه المقامات العلية النّورانيّة وتصاعدت إلى هذه المراتب الرّفيعة الرّوحانيّة وتفجّرت من شواهق حقيقتها ينابيع حكم الصّمدانيّة وصارت مهبطا لموارد الإلهام ومطلعا لسطوع أنوار هذا الإشراق واطمأنّت بذكر اللّه المهيمن المنّان وصارت راضية بقضائه ومرضيّة في فناء بابه لذا عبّرت بنفس كاملة لاتّصافها بهذه الكمالات الرّوحيّة الرّحمانيّة واشتمالها لهذه الصّفات الجوهريّة الرّبّانيّة، إذا استحقّت واستعدّت للدّخول في حديقة ملكوت ٱللّه الّتي كانت جنّة الأبرار ومأوى الأحرار الّذين ٱستنارت وجوههم ببشارات ٱللّه وظهرت فيها نضرة الرّحمن وآية المنّان، وإلى هذه المقامات أشار بقوله عز كبريائه ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكَ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ لأنّ جنّة المأوي وحديقة الكبرياء والرّوضة العليا والفردوس الأعلى هي رياض ملكوت ٱللّه الّتي فتحت اليوم أبوابها وانبسطت أرضها وأشرقت أنوارها وأثمرت أشجارها وتفتّحت أزهارها وجرت أنهارها وتموجّت بحارها وتفجّرت ينابيعها ورقّ نسيمها ودقّ أديمها وغنّت ورقاوٴها وتبسّمت ثغورها وتبلّج سحورها وسطع بروقها وأنار شروقها وسجعت طيورها وتزينت قصورها وآن حبورها، إذا قم بقوّة من ٱللّه وقل بأعلى النّداء فاسرعوا يا أيّها المشتاقون إلى مطلع هذا النيّر السّاطع اللّامع القديم واقصدوا هذا الملاذ الشّامخ المنيع، والنّفس إذا دخلت هذه الجنّة العالية والحديقة الباقية واستهدت إلى فجر هذا اليوم الأنور ووردت هذا المورد الأعذب الأصفى الأطهر واكتسبت الكمالات واقتبست أنوار جواهر الأسماء والصّفات وشربت من هذه الكأس الّتي كانت مزاجها كافورا وساحت خلال هذه الدّيار وخاضت عمق هذه البحار وٱهتدت إلى هذه النّار الموقدة المشتعلة في فاران الحبّ تثبت في حقّها كلمة التّوحيد وتستقرّ في ذاتها آية التّجريد وتفوز بحياة أبديّة وعيشة سرمديّة وتتلذّذ من النّعماء الّتي لم تر عين مثلها وما سمعت أُذُنٌ شبهها وتشرب من الينابيع الصّافية الّتي تجري عن يمين عرش الحقيقة وتذوق من أثمار الشّجرة المنبتة في بحبوحة الفردوس المهتزّة من نفحات الّتي تأتي من شطر الجمال ويحيى بها قلوب الموحّدين وتهتز منها أوراق أفنان أفئدة المخلصين وتفوز وتصل إلى مركز البقاء في ظلّ وجه ربّها الأعلى بحيث لا تواريها شائبة الفناء ولا يطرق عليها طوارق الانعدام والاضمحلال كما قال وقوله الحقّ ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ ﴾، والنّفس أذا نشرت أجنحة الرّوح وانجذبت من جذبات ٱللّه وطارت إلى الأفق الأعلى وقصدت رفيق الأبهى ترتقي إلى مقام الجبروتيّة الرّحمانيّة وتوٴيّد بالقوّة القاهرة والقدرةالباهرة والسّرّ المنمنم القديم والرّمز المكرّم العظيم وتطّلع على خفيات الحقائق المكنونة المستورة الغيبية الّتي احترقت في حسرتها قلوب العارفين وتنطبع من الأشعّة السّاطعة من شمس الحقّ وآثارها وتحكي عن ظهورها وأنوارها في كلّ الشّئون والأطوار وتتعارج إلى مقام جعله ٱللّه منزّها عن إدراك المدركين، لأنّ هذا المقام خلق من أركان القدرة والقوّة والعزّة والسّطوة والسّلطنة والإقتدار والهيمنة والاستقلال لا يشوبه شيء من الحدود والكثرات بل هو جوهر التّوحيد وساذج التّفريد والتّجريد ونور الأنوار وسرّ الأسرار وسدرة المنتهى والدّرجة العليا والمركز الأعلى والمسجد الأقصى وغاية القصوى في عالم الخلق، ولو أنّ الكمالات لا بداية لها ولا نهاية ولن تحدّ فهنيئا لمن دخل هذا المقرّ المقدّس المكرّم العظيم، فأمّا النّفس الإلهيّة هي عبارة عن الحقيقة الكلّيّة الجامعة للحقائق اللّاهوتيّة الرّبّانيّة والدّقائق الصّمدانيّة الظّاهرة بالنّور القديم والباطنة بالسّرّ الأعظم العظيم، النّقطة الأحديّة الّتي منها ظهرت الأشياء وإليها أعيدت ومنها بدئت وإليها رجعت، فكانت أحديّة الذّات وواحديّة الصّفات ثمّ تكثّرت بالظّهور والآثار وتشعّبت وتفصّلت وتفنّنت وتلألأت فامتلأت وتنوّرت منها الأنفس والآفاق في يوم الميثاق، واهتزت بها هياكل التّوحيد وتحرّكت ونشأت منها أفنان سدرة التّفريد وتقمّصت بالطّراز الأوّل والنّور الأكمل وظهرت من آية منها كلّ الأسماء المدركة للحقائق الإنسانيّة ونشأت من سمة منها كلّ الصّفات الحقيقيّة الغيبيّة، فهي مركز دائرة الوجود بظهور ﴿ لَا إِلَهَ إِلَّا ٱللّه ﴾ وقطب فلك البقاء الّذي يدور عليه كوكب التّفريد والتّوحيد بحيث يدور كلّ الحقائق الغيبيّة حول هذه النّقطة الأحديّة اللّاهوتيّة وتقتبس كلّ الكينونات اللّطيفة النّورانيّة من هذه النّار المشتعلة الملتهبة النّاطقة في سدرة الإنسانيّة بأنّه لا إله إلّا هو العزيز المقتدر القيّوم، وهذه النّفس عبارة عن حقيقة الهياكل المقدّسة والأعراش الحقيقية، لا تقدر أن تجول فوارس عقول البشريّة في هذا المضمار ولا تطرق طيور إدراكات البرّية هذه الدّيار، إنّما للمخلصين منهم الحظّ الأوفر من أشعّة هذا النّور الأنور عند مسارعتهم ووفودهم إلى فناء باب مليك مقتدر، تَبًّا وَسُحْقًا لقوم يظنّون أنّهم أدركوا علاهم مع أنّهم لم يحوموا حول حماهم، كيف يقتدر ذباب الفناء أن يزاحم عنقاء مشرق البقاء؟ وأنّي للقطرة المنتنة المَلْحِ الأُجَاجِ أن تقتحم بحر العذب الصّافي المّواج، كلّما يتعارج المتعارجون إلى أعلى مقامات العرفان أو يتصاعد الموحّدون إلى أسمى مشاعر مراتب الإيقان إنّما يقرأون أحرف كتاب أنفسهم ويصلون إلى الآية المتجلّية المودعة المندمجة المكنونة في حقائق كينوناتهم ويدورون حول مراكز دوائر ذاتيّاتهم، وأمّا مراتب الّتي فوق عوالمهم ومداركهم لن يقتدروا أن يستنبئوا منها ولا يستطيعوا أن يدركواها، فانظر بعين الحقيقة إلى المكوّنات الخارجيّة تشهد كلّ ما دون لن يقدر أن يدرك ما فوقه ولو يترقّى في مقامه إلى أعلى ذروة الايجاد، كما تشهد أنّ الجماد كلّما يرتقى ويتعارج إلى سموّ الكمال لن يقتدر أن يعرف ويدرك مقام النّبات، وكذلك كلّما يزداد النّبات بهجة ونموّا لا يستطيع أن يطلع على حقيقة الحيوان، وبمثل ذلك الحيوان كلّما يستكثر الحسن والزّهو والاعتدال لن يتمكّن له معرفة هويّة الإنسان وحقائقه وشئونه وصفاته، إذا فأعلم بأنّ النّفوس على اختلاف مراتبهم وشئونهم ودرجاتهم يجري عليهم هذا الحكم بحيث لن يستطيع أحد أن يتجاوز حدّه وشأنه ولا الطّير يقتدر أن يطير فوق منتهى أوج طيرانه، فإذا كان الحال على هذا المنوال بين الأشياء المكوّنة الممكنة الخارجة الّتي تشتمل على المناسبات والمشابهات فكيف إذا بين مقامات الإمكان ومقامات الحقائق اللّاهوتيّة الّتي ذهلت العقول عن إدراكها وتحيّرت النّفوس في عرفانها وعجزت الألسن عن بيانها وكلّت أجنحة طيور القلوب والأفكار عن الطّيران في سماء تبيانها، فلنرجع إلى ما كنّا فيه من مقامات النّفس ومراتبها وشئونها وعلوّها ودنوّها وسموّها، فقلنا هذه الآية الكبرى في مقام تدلّ على النّفس ومراتبها وتقلّبها من مرتبة إلى مرتبة ومن مقام إلى مقام، لأنّها في كلّ مرتبة تترك حدودها وشئونها وتغلب من سطوات آيات مرتبة الّتي فوقها وتضمحلّ من صدمات شئون الّتي تزكّيها وتلطّفها وتطهّرها وتنزّهها عمّا لا يليق بها في سبيل بارئها، وإذا خلصت ونجت من كلّ مرتبة دانية وصعدت بإعانة موجدها ومصوّرها إلى مرتبة عالية تنتصر على قوى المراتب السّافلة وتغلب جنود حقائق الشّئون الدّانية، إذا فاعرف ما قال جلّ ذكره ﴿ غُلِبَتِ الرُّوْمُ ﴾ أي غلبت واضمحلّت وفنت نفس الأمّارة بالسّوء من الصّواعق النّازلة عليها من عوالم الملك والملكوت والشّهب الثّاقبة الواردة عليها من مكامن العزّ والجبروت، إذا أيّدت بجنود النّصر والهدى ونصرت بملائكة الرّوح والتُّقى وانتبهت من نومها وغفلتها وانتهت من خوضها وهبوطها وسقوطها وشهدت نزولها ودنوّها، ثمّ تذكّرت في أمرها ودقّت بصرها وصفّت نظرها حتّى عرفت ما هي عليها والّذي حجبها ومنعها وصار سببا لبعدها ونكرها وغفلتها وسكرها، إذا تمسّكت بأذيال الفضل والرّحمة وابتهلت إلى ٱللّه ولاذت بحضرته حتّى صعدت ونجت من ذلك المقام والمرتبة ودخلت المقام الأعلى، وكذلك تتقلّب في المقامات والمراتب وتغلب حتّى تعود إلى مبدئها وترجع إلى مركزها وتتردّى برداء كمالها وتدخل في ظلّ ربّها مقعد صدق عند مليك مقتدر.

أن يا أيّها المشتعل الملتهب من نار محبّة ٱلله فاعلم بأنّ هذا العبد لو يريد أن يفسّر هذه الآية اللّاهوتيّة بكلّ المقامات الغيبيّة والحقائق الإلهيّة والمراتب الجبروتيّة والملكوتيّة والحقائق الكونيّة والعوالم الغيبيّة والشّهوديّة والظّهورات الأحديّة والشّئونات الواحديّة والكينونات الرّوحيّة والأركان القلبيّة والمشاعر الحقيقيّة والنّفسيّة وتوابعها ولواحقها بأتمّ بيان وأكمل تبيان لأقدر بعون ٱللّه وقوّته وفضله وتأييده، ولكنّ النّفوس لن يقتدروا ولن يستطعوا أن يسمعوها ويدركوها لذا أمسكنا القلم عن البيان والجريان وأعطيتك مفاتيح التّبيان فافتح بقوّة مولاك كلّ الأبواب المسدودة على الوجوه لتطّلع على أسرار ٱللّه الغيبيّة المستورة المكنونة المخفيّة وتشهد وتجتلي مواقع السّرّ المستسرّ المصون وتسيح وتسير في هذا الملكوت الواسع العظيم وتخوض في هذا البحر الزّاخر الموّاج وهذا الطّمطام العظيم الثّجّاج وتلتقط من دراري النّور بفضل مالك الظّهور، فوربّ غفور وجمال مشكور مشهور لو أحد من المخلصين يتوجّه إلى اللّه في هذا اليوم الأكبر وينظر بالبصر الأطهر ليعرف كلّ الحقائق والمعاني من كلّ كلمة من آيات ٱللّه المهيمن القيّوم بل في كلّ حرف وفي كلّ نقطة لأنّ الحقائق والمعاني بتمامها سارية جارية في باطنها وتتفجّر منها أنهارها وتتموّج فيها بحورها فهنيئا للواصلين، وهذه المعاني الّتي أوردناها تظهر وتنجلي من هذه الآية المباركة إذا قرأنا ﴿غُلِبَتِ الرُّوْمُ﴾ أي بصيغة المجهول ولكن إذا قرأناها بصيغة المعلوم يظهر منها معان أُخَرُ لا يسعنا اليوم بيانها وإظهارها وكشف رموزها وأسرارها وتركناها لوقت معلوم وعلى ٱللّه نتوكّل في كلّ الأمور وبحبل رحمته وفضله نتوسّل إنّه معطي السّائلين ومغني المفتقرين. (عبدالبهاء عبّاس)

المصادر
المحتوى
OV