تفسير "الجن" و "الملائكة"

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

تفسير "الجن" و "الملائكة" - آثار حضرة عبدالبهاء – بر اساس نسخه مائده آسمانى، جلد٢، ص ٤٣-٤٧

أمّا ما سألت يا أيّها المتوجّه إلى ساحة البقاء والمقتبس من قبسات شجرة طور السّيناء من الملائكة والمراد بهذا الإسم في الآيات الإلهيّة فاعلم بأنّ له معان شتى

وفي مقام الخلق يطلق على الّذين قدّست أذيالهم عن الشّهوات ويتّبعون ربّ السّموات في كلّ الصّفات وهذا الإسم يطلق على باطنهم ويحكي عن سرّهم وحقيقتهم وأولئك الّذين يذكرهم الله في آياته ويسمّيهم بأسماء شتي وإنّي أذكر لك من أسمائهم وأفسره لك لكي تعرف المقصود معاني كلمات حضرة المعبود

منها حملة العرش فاعلم بأنّ المراد من العرش هو قلب الإنسان كما تغرّد عندليب البقاء وورقاء العماء [قلب المؤمن عرش الرّحمن] ونطق لسان العظمة في الكلمات المكنونة [فُؤَادُكَ مَنْزِلِي قَدِّسْهُ لِنُزُولِي وَرُوحُكَ مَنْظَرِي طَهِّرْهَا لِظُهُوريِ] لأنّه يقبل تجلّي الجمال ويستقرّ عليه سلطان محبّة مالك المبداء والمآل

وفي مقام الحقّ يطلق على أنبياء الله ورسله كما قال تبارك وتعالى في القرآن الكريم ﴿الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلَائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَثَنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ وقد أراد ربّ العزّة من الأجنحة في هذه الآية شئون الآيات وأقسام البيّنات الّتي بعثهم بها وجعلها سبب وصول العباد إلى معدن الرّشاد وهداية الخلق إلى جنّة الحبّ والوداد لأنّها هي السّبب الأعظم لترقي العالم والجناح الأقوم لطيران القلوب الصّافية إلى جنّة الأحديّة ومقام قدس الواحديّة لذا سمّيت بالأجنحة في الكتب الإلهيّة فوالله يا أيّها المتوجّه لو يسمع أحد من آيات ربّه يسمع الفؤاد ويدرك لذّة المعاني الّتي سترت فيها ليرتقي إلى منتهى مقامات السّداد ويتصاعد من العوالم التّرابيّة إلى العوالم الحقيقيّة

وفي مقام يطلق هذا الإسم على مشيّة الله النّافذة وإرادته المحيطة الكاملة لأنّها هي علّة خلق العالم وسبب تقمّص قميص الوجود هيكل العدم وإنّ هذا الإسم يطلق على جميع الصّفات الإلهيّة وإنّي لو أريد أن أفصّل في هذا المقام ليطول الكلام ومن يريد أن يطّلع ويعرف بالتّفصيل فليقرأ آيات الله العزيز الجميل ويتفكّر في المقامات الّتي نزلت هذا الإسم إذا يعرف المراد ويقنع عمّا ذكر في كتب العباد

وفي مقام يطلق هذا الإسم على أحكام نزلت من سماء مشيّة الرّحمن وجعلها الله السّبب الأعظم لحفظ العالم وقدّر بها الموت والحيات وإنّها هي في مقام أخذ الرّوح عن المشركين تسمّى عزرائيل

وفي مقام حفظ عباد الله عن الافات تسمّى ملائكة حافظات

وفي كل مقام تسمّى في الآيات الإلهيّة باسم مخصوص ولا يقدر العاقل أن يشكّ و يضطرب من اختلافات الأسماء الّتي نزلت في كتب الأنبياء

ثم اعلم يا أيّها المؤمن بالله بأنّ الّذي خلق الوجود من العدم وعلّم الإنسان ما لا يعلم يكون مختارا فيما يشاء ومقتدرا على ما يريد من خلق جديد ولا ينكر العارف قدرته القادرة وقوّته القويّة القاهرة ويوقن كلّ بصير بأنّه لو يشاء ليخلق خلقا لا تدركه حوادث الزّمان ولا يحيط عليه حواس من في الإمكان وإنّي في هذا المقام اكتب لك ما نزل من جبروت الله العزيز الجميل في جواب من سأل ربّه الجليل من جبرئيل قوله جلت عظمته وعلت قدرته

وأمّا ما سألت من جبرئيل إذا جبرئيل قام لدى الوجه ويقول يا أيّها السّائل فاعلم إذا تكلّم لسان العظمة بكلمته العليا يا جبرئيل تراني موجودا على أحسن الصّور في ظاهر الظّاهر لا تعجب من ذلك إنّ ربّك لهو المقتدر القدير

وأمّا ما سألت من الجن فاعلم بأنّ الله تعالى خلق الإنسان من أربع عناصر نار والهواء والماء والتّراب وظهر من النّار الحرارة ومنها ظهرت الحركة ولما غلب في الإنسان طبيعة النّار على ساير الطّبايع يطلق عليه هذا الإسم وهو في الحقيقة الأوّليّة يطلق على المؤمنين بالله والموقنين بآياته والمجاهدين في سبيله لأنّهم خلقوا من نار الكلمة الرّبانيّة الّتي تكلّم بها لسان العظمه قال وقوله الحقّ ﴿وَخَلَقَ الجَانَ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ﴾ وكذلك وصفهم في كتابه المبين بقوله المتين ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ﴾ لأنّ في مقام الجهاد مع أهل العناد تراهم كالبرق اللّامع والرّمح القامع تعالى من حرّكهم بتلك النّار الموقدة ولمّا تنظر إلى رحمهم ولطفهم واتّباعهم أمر الله وتقديسهم عمّا سواه تسمّيهم بالملائكة كما ذكرنا في بدو الكلام

وفي مقام يطلق على الّذين يسبقون في الإيمان عمّا دونهم بما يرى منهم سرعة الحركة من النّار الموقدة من الكلمة الإلهيّة لأنّ من قلوبهم ترتفع زفرات المحبّة والوداد في بواطنهم تلتهب نيران مودّة مالك المبداء والمعاد

إذا فاعرف يا أيّها السّائل بأنّا فسّرنا لك التّفسير الحقيقي في هذا الإسم ولكن فاعلم بأنّه يطلق على غير المؤمنين مجازا بما يرى منهم من الكبر والاستكبار في أمر الله والمحاربة والمجاهدة مع أنبياء الله ويدلّ على هذين التّفسيرين ما نزل من جبروت مشيّة الله ربّ العالمين في سورة الجن قوله تعالى ﴿قُلْ أُوْحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ أَسْمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بَرَبِّنَا أَحَدًا (إلى قوله تعالى) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُوْنَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾.

فيا أيّها العبد المتوجّه إلى الله قد نزّل في آيات مالك المبداء والمآل كلّ ما يخطر بالبال فلا تحتاج بالجواب والسّؤال ولكن احتياج أهل الوداد هو من تشتت الألواح في البلاد نسئل الله بأن يوفّق أحبّائه على قرائة آياته وألواحه ويؤيّدهم على عرفانها والاستغناء عمّا دونها ونسأله تعالى بأن يقدّر لك ولأحبّائه خير الدّنيا والآخرة ويسكنكم في ظلال شجرة عنايته وألطافه ويشربكم من معين رحمته وإفضاله إنّه على كلّ شيء قدير لا إله إلّا هو الواحد الفرد العزيز الحكيم. (عبدالبهاء عبّاس)

المصادر
المحتوى
OV