بيان الآية المباركة - بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

بيان الآية المباركة: بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن – من مكاتيب حضرة عبدالبهاء، المجلد ۱، الصفحة ٦٤

وَأَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنَ الآيَةِ المُبَارَكَةِ فِي القُرآنِ العَظِيمِ وَالفُرْقانِ المُبِينِ قولُهُ تَعَالَى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ إِلَى آخرِ الآيةِ

إِعْلَمْ أَيَّدَكَ اللّهُ أَنَّ هَذا الإِسْلَامَ وَالتَّسْليمَ لَهُوَ الصِّراطُ المُسْتَقِيْمُ وَالمَنْهَجُ القَوِيْمُ يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ إلَّا لِمَنْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، وَهَذا هُوَ الإِيمانُ الصَّحِيحُ بِرَبِّ العالَمِينَ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فَرْعُ الإِيمانِ فَلا يَكَادُ الإِنْسانُ أَنْ يُسْلِمَ إلَّا بَعْدَ الإِيْقانِ، ثَمَّ أَرْدَفَ هَذا البَيانَ بِأَمْرٍ آخرَ وَقَالَ: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ وَأَطْلَقَ فِي الإِحْسانِ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِشَيءٍ فِي حَيزِ الإِمْكَانِ، فَوجُودُ هَذا الإِنسانِ رَحْمَةٌ لِلعِبادِ لِأَنَّهُ يَزْدادُ لُطْفاً وَإِحْساناً فِي كُلِّ آنٍ، وَحَيْثُ الحَالُ عَلَى هَذا المنوالِ عَرَفْنا أَنَّ الفَلاحَ وَالنَّجاحَ وَالفَوْزَ وَالنَّجَاةَ لِمَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّهِ وَبَلَغَ مَقامَ التَّسْلِيمِ وَالرِّضَا وَفوَّضَ أُمُورَهُ إِلَى اللّهِ وَوَجَّهَ وَجْهَهُ لِلَّذِي فَطَرَ الأَرْضَ وَالسَّماءَ وَأَحْسَنَ إِلَى الوَرَى وَأَعَانَ الضُّعَفاءَ وَأَغَاثَ الفُقَراءَ وَضمَدَ جَرِيحَ الفُؤاد وَقَرِيحَ الأَحشاءِ ودَاوَى كُلَّ طِرِيحِ الفراشِ سقيمِ الانْتِعاشِ بَلْ فَدَى حَياتَهُ حُبًّا بِاللّهِ لِرَاحَةِ عِبادِ ٱللّهِ، وَأَمَّا الإِحْسانُ الحَقِيقِيُّ وَالعَطاءُ المَوفُورُ هوَ الهُدَى مِنْ أَهْلِ التُّقَى لِكُلِّ مَنْ يَتَذَكَّرُ وَيَخْشَى، إِنَّ هَذا لَهُوَ المَوْهِبَةُ العُظْمَى وَالعَطِيَّةُ الَّتِي سَجَدَتْ لَهَا مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ، وَهَذا المَعْنَى قَد نُزِّلَ في القرآنِ في مواقعَ شَتَّى بِعِبارَةٍ أُخْرى، مِنْهَا: ﴿إِنَّ الَّذِيْنَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ ومنها: ﴿وَالعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، فبالاخْتِصارِ الإِسلَامُ الطَّوْعِي الاخْتِيارِيُّ وَمَقامُ الرِّضاءِ وَالتَّسليمِ أَخَصُّ مِنَ الإِيمانِ وَالإِيقانِ مِن حَيثُ عِلْمُ اليَقِينِ، لِأَنَّ الإِيمانَ فِي هَذا المَقامِ التَّصدِيقُ بالنَّبأِ الصَّادِرِ مِنَ الصَّادِقِ الأَمِينِ، وَأَمَّا عَينُ اليَقينِ وَحَقُّ اليقينِ لَا يَكَادُ أَنْ يُضِيءَ مصباحُهُ في زُجاجَةِ القُلُوبِ إلَّا بَعدَ الإِسْلامِ الطَّلُوعِيِّ وَالتَّسْلِيمِ لِرَبِّ العالَمِينَ، وَأَمَّا الإِسلامُ الإِجْبارِي كَمَا قَالَ ٱللّهُ تَعَالَى: وَلَا تَقُولُوا آمَنَّا بلْ قُولُوا أَسْلَمْنَا لَسْنَا بِصَدَدِهِ الآنَ، وَبِالجُمْلَةِ إِنَّ تَسلِيمَ الوَجْهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ مَنْ أَيَّدَهُ ٱللّهُ بِهِ أَدْخَلَهُ فِي جَنَّةِ النَّعِيْمِ وَوَقَاهُ مِنْ عَذَابِ الجَحِيمِ، وَالوَجْهُ لَهُ عِدَّةُ مَعانٍ مِنْهَا بِمَعْنَى الرِّضَاءِ كَمَا قَالَ ٱللّهُ تَعَالَى: ﴿يُرِيْدُوْنَ وَجْهَهُ﴾ وَكَذَلِكَ ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ ٱللّهِ﴾ أَيْ رِضَائِهِ، وَمِنْهَا الوَجْهُ بِمَعْنَى الذَّاتِ وَقَالَ ٱللّهُ تَعَالَى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ﴾، ومنها الوَجْهُ بِمَعْنَى الجِلْوَةِ قَالَ ٱللهُ تَعَالَى: ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ ٱللّهِ﴾؛ وَالوَجْهُ لَهُ مَعانٍ شَتَّى تَفْسِيراً وَتأْوِيلاً وتَشْرِيحاً غَيرَ مَا بَينًّا، ولكنْ لعَدمِ المجالِ قد غضَضْنا الطَّرْفَ عَنِ الإِطنَابِ وَالإِسْهابِ، فَبِنَاءً علَى ذَلِك إِنَّ تَسلِيمَ الوَجْهِ أَمْرٌ مِنْ أَخَصِّ فَضائِلِ الأَبْرارِ وَأَعْظمِ منقَبَةِ الأَحْرارِ، مَنْ أُيِّدَ بِذَلِكَ وُفِّقَ عَلَى الإِيمانِ التَّامِّ فِي أَعْلَى دَرَجَةِ الإِيقانِ وَالاطمِئْنانِ، ثُمَّ أَرْدفَ ٱللّهُ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى إِسْلَامَ الوَجْهِ بِالإِحْسَانِ وَقَالَ: ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أَيْ لَا يكمُلُ إِسْلَامُ الوَجْهِ وَالإِيمانُ الحَقِيقيُّ إِلَّا بِالإِحْسَانِ وَصَالِحِ الأَعْمالِ، ثُمَّ الإِحْسانُ الحَقِيقيُّ أَنْ تَدْعُ إِلَى الهُدى وَتُحَرِّضَ عَلَى التَّوَجُّهِ إِلَى الأُفُقِ الأَعْلَى، وَتُبْرِئَ الأَصَمَّ وَالأَعْمَى وَتَهْدِيَ إِلَى الصِّراطِ السَّوِيِّ بِقُوَّةِ بُرْهانِ رَبِّكَ الأَبْهَى، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّجاةَ تَحومُ حَول هَذا الحِمى وَأَيُّ فَضِيلَةٍ أَعظَمُ مِن هَذا أَنْ يُسلِمَ الإِنسانُ وَجْهَهُ للّهِ وَيُحْسِنَ إِلَى الوَرى؟ وكذلك الإِحْسانُ الحَقِيقِيُّ أَنْ تَكُونَ آيةَ رَحْمَةِ رَبِّكِ الكُبْرى شفاءَ كُلِّ عَلِيلٍ وَرَوَاءَ كُلِّ غَلِيلٍ وَمَلَاذَ كُلِّ وَضِيعٍ وَمَعاذَ كُلِّ رَفِيعٍ وَمَلْجَاءَ كُلِّ مُضْطَرٍّ وَمَرجعَ كُلِّ مُقْتَرٍ، هَذا هُوَ الأَمْرُ المَبْرُورُ وَالفَيضُ المَوفُورُ وَالسَّعْيُ المَشْكُورُ إِنَّ رَبِّي لَعَزِيزٌ غَفُورٌ. (عبدالبهاء عبّاس)

المصادر
المحتوى
OV