لقاء الله والرؤية

حضرة عبد البهاء
النسخة العربية الأصلية

لقاء الله والرؤية – آثار حضرة عبدالبهاء – من مكاتيب حضرة عبدالبهاء، المجلد ١، الصفحة ٦٨

أَمَّا بَعْدُ أَيُّهَا السَّائِلُ الجَلِيلُ المُتَوَجِّهُ إِلَى المَلَكُوتِ العَظِيمِ اعْلَمْ أَنَّ الرُّوٴْيةَ فِي يَوْمِ ٱللّهِ مَذكُورٌ فِي جَمِيعِ الصَّحائِفِ وَالزُّبُرِ وَالأَلْواحِ النَّازلَةِ مِنَ السَّماءِ عَلَى الأَنْبياءِ فِي غابِرِ الأَزْمانِ العُصُورِ الخالِيةِ وَالقُرُونِ الأَوَّلِيَّةِ، وَكُلُّ نَبِيٍّ مِنَ الأَنبِياءِ بَشَّرَ قَوْمَهُ بِيَوْمِ اللِّقاءِ فَارْجِعْ إِلَى النُّصُوصِ المَوْجُودَةِ فِي الإِنْجِيلِ وَالزُّبُورِ وَالتَّوراةِ وَالقُرآنِ قَالَ ٱللّهُ تَعَالَى فِي الفُرْقانِ: ﴿ٱعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ﴾ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَيضًا ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ﴾ رَبِّهُمْ، وَأَيضًا ﴿لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾، وَفِي حَدِيثٍ مَرْوِيٍّ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الصَّحابَةِ أَنَّ رَسُولَ ٱللّهِ صَلَّى اللّهُ علَيهِ وَآلِهِ وَقَالَ: [ستَرَوْنَ رَبِّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ البَدْرَ فِي لَيلَةِ أَرْبَعَ عَشَرَ ] وَقَالَ عَلَيٌّ عَلَيهِ السَّلَامُ: [رَأَيتُ ٱللّهَ وَالإِفْرِيْدُوسَ بِرَأْيِ العَينِ] وَأَيضًا قَالَ: [وَرَأَيتُه وَعَرَفْتُه فَعَبَدْتُهُ لَا أَعْبُدُ رَبًّا لَمْ أَرَهُ] مَع هَذِهِ العِباراتِ المُصَرَّحَةِ وَالنُّصُوصِ الصَّريحَةِ وَالرَّواياتِ المَأْثُورَةِ اخْتَلَفَ الأَقْوامُ فِي هَذِهِ المَسْئَلَةِ، مِنْهُم مَنْ قَالَ إنَّ الرُّؤْيةَ مُمْتَنِعَةٌ وَاسْتَدلَّ بِالآيةِ المُبارَكَةِ وَهِيَ ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إِذَا أَنْكَرْنَا الرُّؤْيةَ بِالكُلِّيَةِ يَقْتَضِي إِنْكَارَ نُصُوصِ القُرْآنِ وَيَثْبُتُ عَدَمُ العِصْمَةِ للأَنْبِياءِ، فَإِنَّ السُّوٴالَ عَنِ المُمْتَنِعِ المَحالِ لَا يَجُوزُ قَطعِيًّا مِنْ نَبِيٍّ مَعْصُومٍ، وَسَئَلَ مُوسَى الكَلِيمُ عَلَيهِ السَّلامُ الرُّوٴْيَةَ وَقَالَ: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُر إِلَيكَ﴾ وَالعِصْمَةُ مانِعَةٌ عَنْ سُؤالِ شَيءٍ مُمْتَنعٍ، وَحَيثُ صَدَرَ مِنْهُ هَذا السُّؤالُ فَهُوَ بُرْهانٌ قاطعٌ وَدَلِيلٌ لَائِحٌ عَلَى إِمْكَانِ الرُّؤْيةِ وَحُصُولِ هَذِهِ البُغْيَةِ، وَمَا عَدا هَذا الدَّلِيلَ الجَلِيلَ عِنْدَكَ دَلِيلٌ وَاضِحٌ مُبِينٌ وَهُوَ إِذَا فَرَضْنا امْتِناعَ الرُّؤْيةِ حَقِيقَةً فِي عَالَمِ الشُّهُودِ وَالعَيانِ فَما النِّعْمَةُ الإِلهِيَّةُ الَّتِي اختَصَّ ٱللّهُ بِها فِي جَنَّةِ اللِّقَاءِ عِبادَهُ المُكْرَمينَ مِنَ الَأصْفِياءِ بَلْ امْتِناعُ الرُّوٴْيةِ إِنَّما هُوَ فِي الدُّنْيا، وَأَمَّا فِي الآخِرَةِ مُتَيسِّرَةٌ حاصِلَةٌ لِكُلِّ عَبْدٍ أَوَّابٍ، فَإِنَّ الكَلِيمَ الكَرِيمَ عَلَيهِ السَّلَامُ لَمَّا شَرِبَ مُدامَ مَحَبَّةِ ٱللّهِ واهْتَزَّ مِن اسْتِماعِ كَلَامِ اللّهِ وَثَمِلَ مِن سَوْرَةِ صَهْباءِ الخِطابِ نَسِيَ أَنَّهُ فِي الدُّنْيا وَانْكشَفَتْ لَهُ الجَنَّةُ المَأْوى، وَحَيثُ إنَّ الجَنَّةَ مَقامُ المُشاهدةِ واللِّقَاءِ قَالَ: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُر إِلَيكَ﴾ فأَتاهُ الخِطابُ مِن رَبِّ الأَرْبابِ أَنَّ هَذِهِ المِنْحَةَ المُخْتَصَّةَ بِالأَصْفياءِ وَيْخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ إنَّما تَتَيسَّرُ فِي اليَوْمِ الَّذِيْ تَرتَعِشُ فيهِ أَرْكَانُ الأَرْضِ وَالسَّماءِ وَتقُومُ القِيامَةُ الكُبْرى وَتَنْكَشِفُ الواقِعَةُ عَنِ الطَّامَّةِ العُظْمَى، هَذا مَا وَرَدَ فِي جَمِيعِ التَّفاسِيرِ وَالتَّآوِيلِ من أَعْلَمِ عُلَماءِ الأَسْرارِ في كُلِّ الأَعْصارِ مِنْ جَمِيعِ الأَقْطارِ، وأَمَّا جَوْهَرُ المَسْأَلَةِ وحقيقَةُ الأَمْرِ إنَّ اللِّقَاءَ أَمْرٌ مُسَلَّمٌ مَحْتُومٌ مَنْصُوصٌ في الصُّحُفِ وأَلْواحِ الحَيِّ القَيُّومِ، وَهَذا هُوَ الرَّحِيقُ المَخْتُومُ ﴿خِتامُهُ مِسْكٌ﴾ وَفِي هَذا ﴿فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ﴾، فَإِنَّ للحَقِيقَةِ الكُلِّيَةِ وَالهُوِيَّةِ اللَّاهُوتيَّةِ الظُّهُورَ فِي جَمِيعِ المَراتِبِ وَالمَقاماتِ وَالشُّئُونِ، لِأَنَّها وَاجِدَةٌ لِلمَراتِبِ ساطِعَةُ البُرْهانِ لَامِعَةُ الحُجَّةِ فِي كُلِّ كَيانٍ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ مُحِيط كَمَا قَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: [أَيَكُونُ لِغَيرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ المُظْهِرَ لَكَ عَمِيَتْ عَينٌ لَا تَرَاكَ] وقالَ: [يَا مَنْ دَلَّ عَلَى ذَاتِهِ بِذَاتِهِ وَتَقَدَّسَ عَنْ مُجانَسَةِ مَخْلُوقاتِهِ]، لِأَنَّ المَراتِبَ وَالمَقاماتِ مَجالٍ وَمَرايا لظُهُورِ الأَسْماءِ وَالصِّفاتِ، فَظُهُورُ الحَقِّ مُحَقَّقٌ فِي جَمِيعِ الشُّئُونِ حَتَّى يَكُونَ الوصُولُ إِلَيهِ فِي جَمِيعِ المَراتِبِ مِمَّا كانَ وَيَكُونُ، وَالمُمْكِناتُ مُمْتَلِئَةٌ مِنْ أَسْرارِ الأَسْماءِ وَالصِّفاتِ، وَالإِدْراك لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا مِنْ حَيثُ الصِّفَةُ وَأَمَّا الذَّاتُ مِنْ حَيثُ هُوَ هُوَ مَسْتُورٌ عَنِ الأَنْظارِ وَمَحْجُوبٌ عَنِ الأَبْصارِ، غَيْبٌ مَنِيعٌ لَا يُدْرَكُ ذَاتٌ بَحْتٌ لَا يُوْصَفُ [السَّبِيلُ مُسْدْودٌ وَالطَّلَبُ مَردُودٌ]، فَإِنَّ الحَقَّ مِنْ حَيثُ الأَسْماءُ وَالصِّفاتُ لَهُ ظُهُورٌ فِي جَميعِ المَراتِبِ المُتَرَتِّبَةِ فِي الوجُودِ عَلَى النَّظْمِ الطَّبِيعِيِّ وَالتَّرتِيبِ الفِطْرِيِّ وَلَهُ تَجليَّاتٌ عَلَى روٴُوُسِ الأَشْهاد فِي جَنَّةِ اللِّقاءِ الفِرْدَوْسِ الأَعْلَى وَالمَلكُوتِ الأَبْهَى، إِذًا فَاعْلَمْ بِأَنَّ الرُّوٴْيةَ وَاللِّقاءَ مِنْ حَيثُ الحَقِيقَةُ الغَيبِيَّةُ الَّتِي تُعَبَّرُ عَنْها بِالغَيبِ الوِجْدانِيِّ ﴿لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ﴾ ، وَأَمَّا مِنْ حَيثُ الظُّهُورُ وَالبُرُوزِ وَالتَّجَلِّي وَكَشْفُ الحِجابِ وَإِزالَةُ السَّحابِ وَرَفْعُ النِّقابِ فِي يَوْمِ الايابِ فَالرُّؤْيَةُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ مَوْعُودٌ فِي اليَوْمِ المَشْهُودِ، يَخْتَصُّ اللّهُ بها مَنْ يشاءُ منْ أَهْلِ السُّجُودِ الَّذِينَ لَهُمْ نَصِيبٌ مَفرُوضٌ مِن هَذا المَقامِ المَحْمُودِ، وَالبُرْهانُ وَاضِحٌ مَنصُوصٌ مَثْبُوتٌ وَيَشْهَدُ بِهِ العُقُولُ المُسْتَوِيَةُ الرَّبَّانِيَّةُ الإِلَهِيَّةُ، فَإِنَّ الفَيضَ لَا يَنْقَطِعُ مِن مَرْتَبَةٍ مِنَ المَراتِبِ وَالفَضْلُ وَالجُودُ لَا يُحْرَمُ مِنْهُ مَقامٌ مِنَ المَقاماتِ ... (عبدالبهاء عبّاس)

المصادر
المحتوى
OV