عصيان آدم وخطاب الله للرسل والانبياء

حضرة عبد البهاء
أصلي عربي

عصيان آدم وخطاب الله للرسل والانبياء – من مكاتيب حضرة عبدالبهاء، المجلد ١، الصفحة ٧٤

هو الله

حَمْدًا لِمَنْ أَنارَ الأُفُقَ الأَعْلَى بِنُورِ الهُدَى وَأَزالَ ظَلَاَمَ الضَّلَالِ بِتَبَلُّجِ نُورِ الصَّباحِ وَهَدَى المُخْلِصِينَ إِلَى مِنْهاجِ الفَلاحِ وَدَلَّ المُوَحِّدِينَ إِلى سَبِيلِ النَّجاحِ ومَهَّدَ الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ بِنُفُوسٍ مُنْجَذِبَةٍ إِلى مَلَكُوتِ النُّورِ المَبِينِ، والتَّحِيَّةُ والثَّناءُ عَلَى الكَلِمَةِ التَّامَّةِ العُلْيا والفَرِيدَةِ الوَحِيدَةِ الغَرَّاءِ الدَّالَّةِ عَلَى المِنْهَجِ البَيضاءِ السَّاطِعِ مِنَ المَلَكُوتِ الأَعْلَى، وَعَلَى مَنْ تَعَطَّرَ مَشامُهُ بأَنْفاسِ طِيبٍ عَبِقَتْ مِنْ رِياضِ الأَحَديَّةِ وتَنَوَّرَ بَصَرُهُ بِمُشاهَدَةِ آياتِ تَوْحِيدٍ ظَهَرَتْ مِنْ مَلَكُوتِ الوَحْدانِيَّةِ إِلى أَبَدِ الآبادِ ومُرُورِ العُصُورِ والقُرُونِ والأَدْهارِ.

أَيُّهَا الحَبِيبُ النُّورانِيُّ قَد اطَّلَعْتُ بمَضْمُونِ الكِتابِ والسُّؤَالِ عَنْ سَواءِ الصِّراطِ والرَّأْيِ الصَّوابِ، لعَمْرِيْ أَلْهَمَكَ بِذَلِك السُّؤال رَبُّ الأَرْبابِ لأَنَّ الآراءَ اخْتَلَفَتْ والعُقُولَ ذُهِلَتْ والعَقائِدَ تَشَتَّتَتْ فِي تِلْكَ المَسْأَلَةِ الغامِضَةِ المُعْضِلَةِ بَينَ الأَصْحابِ، وإنِّي مَعَ عَدَمِ المَجالِ وَتَشَتُّتِ البالِ وَتَتابُعِ البَلْبالِ أُبادِرُ إِلى الجَوابِ مُقِرًّا بِضَعْفِيَ وَقِلَّةِ بِضاعَتِي وفَقْرِيْ فِي العُلُومِ وَفَاقَتِي، ولَيسَ لِي أَمَلٌ إِلَّا تَأْيِيْدُ رَبِّي فأَقُولُ وعَلى اللّهِ التُّكْلَانُ.

إنَّ عِصْيانَ آدَمَ عَلَيهِ السَّلَامُ فِي الذِّكْرِ الحَكِيمِ أَتَى وَقَالَ ٱللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ وقالَ بِحَقِّ ذِي النُّونِ علَيهِ السَّلامُ: ﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيهِ فَنادَى فِي الظُّلُمَاتِ﴾ وخاطبَ الرَّسُولَ الكَرِيمَ: ﴿إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ﴾، فَهذهِ الآياتُ صَرِيحَةٌ ناطقَةٌ بِحَقِّ الأَنْبِياءِ وتُخالِفُ العِصُمَةَ الكُبْرى، والحالُ أَنَّ المَظاهِرَ المُقَدَّسَةَ الإِلهِيَّةَ نُورٌ عَلَى نُورٍ لا يَعْتَرِيهِمْ ظَلَامُ الذُّنُوبِ الدَّيْجُورِ، ولا يَشُوبُ حَقِيقَتَهُمُ الرَّحْمانِيَّةَ شَوائِبُ العِصْيانِ، لأَ‌نَّهُمْ شُمُوسُ الهُدى وبُدُورُ الدُّجَى ونُجُومُ السَّماءِ، فكيفَ يَجُوزُ أَنْ يَعْتَرِي الشَّمْسَ ظَلَامٌ أَوْ يَسْتُرَ البَدْرَ عَوارِضٌ وحِجابٌ؟ نَعَمْ إنَّ الغُيُومَ المُتكاثِفَةَ فَرُبَّما تَمْنَعُ الأَعْينَ النَّاظرَةَ عَنْ مُشاهِدَةِ الكَواكِبِ السَّاطِعَةِ، ولكنَّ تِلْك العَوارِضَ تَعْتَرِيْ وتَحُولُ دُونَ كُرَةِ الأَرْضِ وتَحْجُبُها عَنِ الشَّمْس، وأَمَّا تِلْك الكَواكِبُ النُّورانِيَّةُ والسَّيَّاراتُ الشَّعْشَعانِيَّةُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ كُلِّ غَيمٍ ومَحْفُوظَةٌ عَنْ كُلِّ ضَيْمٍ، بِناءً عَلَى ذَلِك نَقُولُ إِنَّ تِلْك الآياتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِصْيانِ آدَمَ عَلَيهِ السَّلامُ أَوْ خَطأِ بَعْضِ الأَنْبِياءِ إِنَّما هِيَ آياتٌ مُتَشابِهاتٌ لَيسَتْ مِنْ المُحْكَماتِ، ولَها تآوِيلُ فِي قُلُوبٍ مُلْهَمَةٍ ومَعانِي خَفِيَّةٌ عِنْدَ النُّفُوسِ المُطمَئِنَّةِ، أَمَّا قَضِيَّةُ آدَمَ عَلَيهِ السَّلامُ لَيسَ المُرادُ ظَواهِرَها بِلْ ضَمائِرَها ولَيسَ المَقْصَدُ مِنْ ظَواهِرِها إِلَا سَرائِرَها، فالشَّجَرَةُ هِيَ شَجَرَةُ الحَياةِ الثَّابِتَةُ الأَصْلِ المُمْتَدَّةُ الفَرْعِ إِلَى كَبِدِ السَّماءِ المُثْمِرَةُ بأَكْلٍ دائِمٍ والمُفْطِرَةُ لِكُلِّ مُرْتاضٍ صائِمٍ، فَمَنْعُ آدمَ عَلَيهِ السَّلامُ لَيسَ مَنْعٌ تَشْرِيعِيٌّ تَحْرِيمِيٌّ إِنَّما هُوَ مَنْعٌ وُجُوديٌّ كَمَنْعِ الجَنِينِ عَنْ شُئُونِ البالِغِ الرَّشِيدِ، فالشَّجَرَةُ مَقامٌ اخْتُصَّ بهِ سَيِّدُ الوُجُودِ الحائِز عَلَى المَقامِ المَحْمُودِ حَبِيبُ رَبِّ الوَدُودِ مُحَمَّدٌ المُصْطَفَى عَلَيهِ التَّحِيَّةُ والثَناءُ، والمَقْصَدُ مِنْ حَوَّاءَ نَفْسُ آدَمَ عَلَيهِ السَّلامُ، فآدمُ أَحَبُّ وتَمَنَّى ظُهُورَ الكَمالاتِ الإِلهِيَّةِ والشُّئُونِ الرَّحْمانِيَّةِ الَّتِي ظُهُورُها مَنُوطَةٌ بِظُهُورِ سَيِّدِ الوُجُودِ، فَخُوطِبَ بخِطابٍ وُجُوديٍّ أَنَّ هَذا الأَمْرَ مُمْتَنِعُ الحُصُولِ مُسْتَحِيلُ الوُقُوعِ كامْتِناعِ ظُهُورِ العَقْلِ والرُّشْد لِلأَجِنَّةِ في بُطونِ الأَرْحامِ والنُّطفَةُ في الأَصْلابِ، فَبِما كانَ يتَمَنَّى ظُهُورَ هَذِهِ الكَمالاتِ الرَّحْمانِيَّةِ والشُّئُونِ الرَّبَّانِيَّةِ في دَوْرِ الجَنِينِ - وذلِك مُمْتَنِعٌ مُسْتَحِيلٌ - فالدَّوْرُ وَقَعَ في أَمْرٍ عَسِيرٍ وما كانَتِ النَّتِيجَةُ إِلَّا شَيءٌ يسِيرٌ، وهذا عِبارَةٌ عَنِ الخُرُوجِ مِنَ الجَنَّةِ، وأَمَّا صُدُورُ هذا المُنَى عَنِ الآيةِ الكُبْرى فلَيسَ بأَمْرٍ مُسْتَغْرَبٍ عِنْدَ أُوْلِي النُّهَى، وسُلَيمانُ عَلَيهِ السَّلامُ قالَ: ﴿هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾، وهَذا أَمْرٌ مَمْدُوحٌ وَقْصَدٌ مَرْغُوبٌ، وما عَدا ذَلِك إِذَا نُسِبَ شَأْنٌ مِنَ الشُّئُونِ إِلى مَظاهِرِ الحَيِّ القَيُّومِ لَا يُقاسُ بِشُئُونِ غَيرِهِمْ، فإِذَا قُلْنا: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيهِ﴾ لَيسَ إِيَمانُهُ كإِيْمانِ السَّائِرِينَ، وَإِذَا قُلْنا إِنَّ مُوسَى عَلَيهِ السَّلامُ وصاحِبَهُ ﴿نَسِيَا حُوتَهُمَا﴾ لَيسَ نِسْيانُهُما كَنِسْيانِ غَيرِهِما بَلْ هذا مَقامٌ يُقالُ: [حَسَناتُ الأَبْرارِ سَيئاتُ المُقَرَّبِينَ]، فلَرُبِّما تَعْتَرِيْ أَحَدًا مِنَ المُقَرَّبِينَ زَلَّة‌ٌ لِحِكمَةٍ ولكنَّ المَظاهِرَ المُقَدَّسَةَ مُنَزَّهَةٌ عَنْها أَيضًا، إِنَّما هَذا فِي شَأْنِ المؤْمِنينَ المُوَحِّدِينَ وما عَدا ذَلِك فَلَرُبَّما خُوطبَ وَعُوتِبَ الرَّسُولُ بِما يُراد بِهِ في نُفُوسِ المُؤْمِنِينَ لِئَلَّا يثْقُلُ عَلَى السَّمْعِ العِتابُ الشَّدِيدُ كما قالَ: ﴿وَلَوْ لَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيهِمْ شَيئًا قَلِيلاً﴾، و ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾، ﴿وَلَا تَكُنْ لِلخائِنِينَ خَصِيمًا﴾، و ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى﴾، ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى﴾، إنَّما هذا الخِطابُ مُوَجَّهٌ لِسائِرِ الأَصْحابِ، فَتَهْوِينًا وًتَخْفِيفًا وُجِّهَ العِتابُ إِلى ذَلِك الجَنابِ، كما إنَّ حَبِيبَ النَّجارَ قالَ مُخاطِبًا لِلْقَوْمِ: ﴿وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيهِ تُرْجَعُونَ﴾، والحالُ مُرادُهُ ما لَكُمْ لا تَعْبُدُونَ الَّذِي فَطرَكُمْ، إِنَّما أَسْنَدَ إِلى نَفْسِهِ لِئَلَّا يَثْقُلَ الخِطابُ عَلَى سَمْعِ غَيرِهِ، فَبِالإِجْمالِ إِنَّ الرُّسُل الكِرامَ والأَنْبياءَ العِظامَ المَظاهِرَ النَّورانيَّةَ والحَقائِقَ الرَّحْمانيَّةَ والكَلِماتِ التَّامَّةَ والحَجَجَ البالِغَةَ والشُّمُوسَ السَّاطِعَةَ والبُدُورَ اللَّامِعَةَ والنُّجُومَ البازِغَةَ كُلُّهُمْ تَقَدَّسَتْ سَرائِرَهُم النُّورانِيَّةُ عَنْ اعْتِراءِ الظَّلامِ وتَنَزَّهَتْ ضَمائِرُهُم الرَّحْمانِيَّةُ عَنْ شَوائِبِ الأَوْهامِ، وإنَّما لِحِكمَةٍ ما يُخاطبُهُم ٱللّهُ بهَذا الخِطابِ حَتَّى يَخْضَعَ ويَخْشَعَ أُولوا الأَلْبابِ وَيَتَذلَّلُوا إِلى العَزيز الوَهَّابِ، ولا يَسْتكْبِرُوا ولَوْ رُقُّوا إِلى أَعْلَى القِبابِ بَلْ يَنْتَبِهُوا أَنَّ الحَيَّ القَيُّومَ خَاطَبَ الحَبِيبَ المُعَظَّمَ والنُّورَ المُكرَّمَ هادِيَ الأُمَمِ والنَّاطِقَ بالاسْمِ الأَعْظمِ بهذا الخِطابِ المُبْرَمِ والعِتابِ الواضِحِ المُحْكمِ، فمَاذا شَأْنُ مَقاماتِنا السَّافِلَةِ وَحَقائِقَنا الخامِدَةِ ونُفُوسِنا الهامِدَةِ وعُقُولِنا الجاهِلَةِ؟

فَتَخْشَعُ أَصْواتُهُمْ وَتَخْضَعُ نُفُوسُهُمْ وَيَبْتَهِلُونَ إِلى ٱللّهِ وَيَتَضَرَّعُونَ إِلَيهِ وَيَقُولُونَ: الَّلهُمَّ يَا حَيُّ يا قَيُّومُ ويا مُؤَيِّدَ كُلِّ خاضِعٍ وحافِظَ كُلِّ خاشِعٍ وَدَالَّ كُلِّ سَلِيمٍ وهَادِيَ كُلِّ ذَلِيلٍ إِلى المَقاماتِ العالِيَةِ والمَراتِبِ السَّامِيَةِ، نَسْأَلُكَ الصَّونَ والحِمايَةَ فِي حِصْنِكَ الحَصِينِ والحَرْسَ والرِّعايةَ بِلَحَضاتِ أَعْيُنِ كَلَاءَتِكَ في ظلِّكَ الظَّلِيلِ، اللَّهُمَّ رَبَّنا لا تَدَعْنا بأَنْفُسِنا فاحْفَظْنا بِقُوَّتِكَ المُحِيطةِ على الأَشْياءِ واحْرُسْنا عَنْ كُلِّ زَلَّةٍ وَخَطيئَةٍ واسْلُكْ بِنا في المِنْهَجِ البَيضاءِ والمَحَجَّةِ السَّوِيَّةِ النَّوراءِ، لأَنَّنا خُطاةٌ وأَنْتَ الغَفُورُ الكرِيمُ ونَحْنُ عُصاةُ وأَنْتَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ، ولَوْ لا فَضْلُكَ وعَفْوُكَ لَوَقَعْنا فِي سَواءِ الجَحِيمِ، ولَوْ لا جُودُكَ وغُفْرانُكَ لخُضْنا في غمارِ بحارِ الطُّغْيانِ العَمِيقِ مَحْرُومِينَ عَنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ، رَبَّنا أَيِّدْنا على السُّلُوك على الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ والمِنْهَجِ القَوِيمِ إِنَّكَ أَنْتَ الكَرِيمُ إنَّكَ أَنْتَ العَظِيمُ إِنَّك أَنْتَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. (عبدالبهاء عبّاس)

المصادر
المحتوى
OV