سبحانک اللهم یا إلهی قد نزلت من سماء عز أحدیتک میاه الوجود بجودک و رحمانیتک و أمطرت من سحاب سماء عز فردانیتک أمطار فیوضات صمدانیتک حتی سالت بهذه الموهبة العظمی أنهار فیضک الأعظم فی أراضی الحقائق الممکنة بإنشائک و سقیت بهذه الأنهار الجاریة الملکوتیة کل الأراضی و البلاد و أرویت بهذه الغیوث الهاطلة اللاهوتیة کل التلال و الدیار و أشرقت علیهم بشمس رحمانیتک من أفق قدس کبریائیتک و زرعت یا إلهی فی أراضی القابلیات حبوب کلماتک العلیا و آیاتک العظمی بلطفک و رأفتک الکبری و لکن بما کانت تلک الحقائق الموجودة المتقابلة المتجلیة بشمس اسمک الأعظم مختلفة متفاوتة بعضها یا إلهی- کما أحصیت بعلمک المکنون - أفئدة صافیة لطیفة انطبعت فیها آیاتها و ظهرت منها شئون آثار مجلیها و اهتزت و ربت أرضها و نبتت منها ریاحین حبک و معرفتک و تزینت بأزهار قدس جذبک و شوقک کأرض طیبة مبارکة و بعضها یا إلهی لما کانت أفئدة متکدرة محجوبة بصدإ الأوهام و محتجبة عن ربها بحجب الظلام لم یظهر فیها آثار مجلیها و آیات بارئها و مقدرها و فسدت فی أرضها حبوب ذکر ربها کأرض خبیثة جرزة و لکن یا محبوبی ما فرطت عند تجلیک علی الممکنات و ظهور آثارک فی حقائق الموجدات کما قلت و قولک الحق: ما تری فی خلق الرحمن من تفاوت – و ما خلقکم و ما بعثکم إلا کنفس و احدة
حینئذ أسألک باسمک الذی لو ألقی علی الجبال لاندکت و سیرت و لو ألقی علی البحور لسجرت و لو ألقی علی الأغصان الیابسة لاخضرت و أثمرت و علی العمی لأبصرت و علی البکم لنطقت و علی الصم لسمعت و علی الأموات لقامت بأن ترفع الحجاب الذی حال بینک و بین خلقک و منعهم عن الورود علی معین رحمانیتک و عن السلوک فی سبیل عز توحیدک و عن الاستماع من ألحان طیور عرشک و الشرب من کأوس حبک و عرفانک لأنهم أذلاء ببابک و فقراء عند ظهور غنائک لا یملکون لأنفسهم نفعا و لا ضرا و لا حیوة و لا نشورا ثم ارفع یا إلهی تلک الأفئدة الصافیة إلیک و عرجهم بجناح التوحید فی هواء بهاء عماء تفریدک و تجل علیهم فی کل آن بما تتلطف هذه الحقائق الموحدة و هذه القلوب المقدسة لأنه لم یکن لآیاتک من بدایة و لا نهایة و لا لشئونک من أول و لا آخر لو تتجلی علی المخلصین من بریتک فی کل آن بکل الشئون التی لم یحصها أحد إلا أنت لا ینقص شیء من خزائنک القدیمة و لا یقل شیء من کنوزک المکنونة فارحم یا إلهی عبادک المفتقرین ثم أسکنهم فی ظلال شجرة رحمانیتک و ارزقهم من المائدة التی نزلت من سماء عز فردانیتک لأنک أنت المعطی بالحق و إنک أنت الغفور الرحیم و أنت تعلم یا إلهی بأن هذا العبد أفقر عبادک فی ملکک و أذل بریتک فی بلادک فکیف بهذا الفقر الأعظم أقتدر أن أتفوه بالمعانی المندرجة المندمجة فی حقائق کلماتک و الأسرار التی حجبتها عن أعین العارفین خلف سرادق آیاتک و لکن لما أمرتنی بهذا لذا أخذت القلم متوکلا علیک و متکئا بفضلک و رحمتک فإنک یا إلهی إن أردت لأجریت من القلم الفانی بحور معرفتک و طمطام أسرارک و إن لم تشأ یخرس لسان القلم الأعلی بین ملأ الإنشاء و ینقطع منه فیضان آثار القدم بین الإمم الأمر بیدک تفعل ما تشاء و تحکم ما ترید و حدک لا إله إلا أنت المقتدر العزیز الکریم
یا أیها السائل البارع الصادع فاعلم بأن فی کل کلمة من کلمات ٱلله تتموج بحور أسرار لا نهایة لها و إن کل حرف من آیات ربک لمشرق شموس رموز و آثار و حقائق لا یحصیها أحد إلا الله ربک و رب آبائک الأولین مع ذلک کیف یستطیع المداد أن یجری بهذه الأسرار و لو کان بحورا و کیف یکفیها الأوراق و لو کانت صفحات الآفاق لیس لهذه الموهبة الکبری من نهایة و لهذه الرحمة العظمی من بدایة حتی تنفذ کما قال الحق: لو کان البحر مدادا لکلمات ربی لنفد البحر قبل أن تنفد کلمات ربی و لو جئنا بمثله مددا و لکن ما لا یذکر کله لا یترک کله لذا أذکر بعض المعانی الغیبیة ٱلساریة الجاریة فی مجاری کلمات ربک العلی العظیم
فاعلم بأن لهذه القدسیة و الرنة اللاهوتیة لمعان فی الظاهر و الباطن و باطن الباطن إلی ما لا نهایة له لأن کلمات الله مرایا محیطة علی صور کل شیء لذا قال: و لا رطب و لا یابس إلا فی کتاب مبین فأما الظاهر أخبر الله بزهاق کلمة الفرس و غلبها و نصرة الروم و ظفرها بعد ما غلبت الروم و اضمحلت تحت أیادی الفرس و شتت شملهم و فرق جمعهم و تفصیل هذا أن فی أیام أشرقت شمس الأحدیة من النقطة المحمدیة و رفعت أعلام الهدی علی أعلام یثرب و البطحاء و غنت الورقاء علی أفنان سدرة المنتهی و تشهق الطاووس فی جنة المأوی قال المشرکون إن کسری ملک الفرس الذی لم یکن من أهل الکتاب غلب و ظفر علی عظیم الروم الذی هو من أهل الکتاب فبمثل هذا نحن نزهق کلمة محمد رسول الله لکونه من أهل الکتاب کعظیم الروم و نحن من غیر أهل الکتاب کملک الفرس فأنزل الله هذه الآیة اللاهوتیة و أخبر بأن الروم سیغلبون أعدائهم الفرس فی بضع سنین و البضع من الثلاثة إلی التسعة فبعد سبع من السنین أظهر الله سر ما أخبر به حبیبه الأعظم و انتصر الروم علی الفرس و علت کلمتهم فبذلک أیقن المخلصون بأن علم ربک سبق کل شیء و أحاط من فی الوجود من الغیب و الشهود هذا ما غنت به طیور أفئدة المفسرین فی حدائق القرآن العظیم و من غیر هذا لم یبلغوا إلی الأسرار المودعة و الرموز المکنونة المخزونة الساریة الجاریة فی مجاری کلمات ربک العلیم الحکیم و بهذا لم یقنع الظامی العطشان إلی کوثر الروح من أیادی الفضل و الإحسان و لم یکن بشیء عند الذین جعل الله بصرهم حدیدا و عرفهم معانی کلماته و علمهم تأویل آیاته لذا ینبغی أن أذکر بعض ما أراد الله فی هذه الآیة الغیبیة و الرنة الملکوتیة و النغمة اللاهوتیة و أقول:
إن الروم هو الشئون التی ترجع و تنتسب إلی الحقائق الکونیة و صرف الإنیة و الحجب الساترة و الظلمات الصادرة عن تعینات الوجود و تشخصات الموجود و هذه تغلب و تضمحل عند شروق الأشعة الساطعة عن شمس الحق فلما انتهی کور الروح خبت مصابیح الهدی و رکدت نسائم التقی و انقطعت أریاح الوفاء و کلت ألسن بلابل الأحدیة فی حدیقة الولاء و تبدلت الجنة الغناء و الروضة الغلباء بالفلاة الجدباء و صاح البوم فی أغصان شجرة الزقوم إذا هبت نسائم ربیع ربک الرحمن من الوادی الأیمن البقعة المبارکة و طلعت شمس الأحدیة عن مطلع إرادة ربک الرحمن الرحیم و ارتفعت سحاب الفضل و فاضت علی الأفئدة و القلوب و الحقائق و النفوس و اخضرت أراضی القابلیات و الإنیات و أنبتت أرض المعرفة و نبتت الشجرة المبارکة التی منها سمع النداء بأن یا موسی إنک بالواد المقدس طوی و ظهرت نار الحقیقة فی تلک الزیتونة التی لا شرقیة و لا غربیة یکاد زیتها یضیء و لو لم تمسسه نار نور علی نور یهدی الله لنوره من یشاء إذا غن عندلیب المعانی علی الأفنان بفنون الألحان و قال: غلبت الروم فی أدنی الأرض فأی أرض أدنی من حقائق الأشیاء و تعیناتهم؟ ثم أخبر لسان القدم و الکلمة الأعظم بأن الملک الحی القیوم قدر لکل أمر أجلا محتوما فسوف - فی انتهاء هذا الدور - تأتی أیام تغرب هذه الشمس الساطعة فی خلف سحاب متراکمة و ینتهی هذا الربیع الروحانی إلی الخریف الظلمانی و تتبدل هذه الجنة العالیة و تنقعر أشجارها و تتناثر أوراقها و تسکن أریاحها و تنقطع أنهارها و یبید صفاوٴها و هذه من سنة الله و لن تجد لسنته تبدیلا و لا تحویلا
إذا یا أیها السائل فانظر بالبصر الذی خلق الله خلف بصرک الظاهر هل یقتدر المنصف أن یقول إن معانی کلمات الله التامات موجودة عند هؤلاء الذین لا یمیزون یمینهم عن شمالهم؟ لا فوالذی أنطق الورقاء بذکره بین الأرض و السماء بل یتیقن بأن المعانی ملهمة فی أفئدة صافیة ملکوتیة لو أراد الله یقیم أحدا من أحبائه الواقفین علی مرکز الهدی بین ملأ الإنشاء و یفسر بعونه و قوته حقائق آیاته بمعان ما اطلع به إلا الله و الراسخون فی علمه إذا فأقبل إلی ربک بوجه ناضر و بصر ناظر و قل:
أی رب ثبت قدمی علی أمرک و علمنی من علمک المکنون و سرک المخزون و عرجنی إلی ملکوتک الأعلی و رفیقک الأبهی و عرفنی معانی آیاتک لأظهر عن أفق مشیتک ککوکب الصبح بأنوار علمک و معرفتک و أظهر للناس سبیلک القویم و صراطک المستقیم الذی من سلک فیه لوصل إلی مشرق الآثار و مطلع الأنوار لأن هذا ما یبیض وجهی عند مشاهدة آیاتک الکبری و ملاحظة آثار تجلیاتک العلیا أی رب و فقنی علی هذه الموهبة الکبری و الرحمة العظمی لأن هذا أملی منک و مقصدی و رجائی یا مالکی و منای فی کل أحوالی و فرح قلبی و سلوة فوٴادی فی لیالی و أیامی إنک أنت المعطی الباذل الروٴف الرحیم
و فی مقام الأنفس تری لهذه الآیة الربانیة معانی قدسیة لاهوتیة منها أراد الله بکلمة الروم جنود النفس و الهوی و شعوب الجهل و العمی بما أید عند ظهور حبیبه جنود العقل و النهی بشدید القوی حتی رأی من آیات ربه الکبری و سمع النداء الأحلی عن الأفق الأعلی و شرب الرحیق المختوم من ید ساقی الوفاء و أخذه سکر خمر ذکر ربه الأعلی علی شأن استغرق فی بحور محبة الله إذ أفنی حقیقة النفس و الهوی مع الشئون و القوی عند ظهور آثار الحقیقة المطلقة الإلهیة و غلبت و اضمحلت من سطوات آیات بارئها و لکن کانت مغلوبیتها مبدأ لقدرتها و قوتها و علوها و عزتها لأنها زکت و اطمئنت فی ذکر ربها و بذلک غلبت علی کل شیء و أحاطت بقدرة موجدها و مبدعها حقائق الملکوت علی ما هی علیها و أدرکت أسرار بارئها و مصورها فأی غلبة أعظم من هذا لو کان الناس ببصر الحق ینظرون؟ و إنهم لو یطیرن بجناح الروح فی سماء العرفان لیشهدن بأن هذا هو القدرة القاهرة و القوة الباهرة و السطوة البالغة و السلطنة الغالبة و لکن لما تواروا خلف حجب الغفلة و نسوا ما ذکروا به ضرب الله علی أعینهم غشاوة و علی آذانهم و قرا إذا یا أیها السائل الجلیل قم بقوة علی ذکر ربک بین ملأ الأرض و قل:
إلی متی تقنعون بقطرة منتنة آسنة عن البحر الأعظم الأبهی الذی تموج لذاته بذاته و جعل الله برشح منه کل الوجود حیا باقیا کما قال و قوله الحق: وجعلنا من الماء کل شیء حی و فی مقام أراد ٱلله بکلمة الروم النفوس التی استضائت وجوههم عند شروق شمس القدم عن مشرق اسمه الأعظم و صفت مرایا أفئدتهم و قابلت أشعة نیر الأکرم لأن اسم الروم فی عرف اللغی و ضعت لطائفة بیضاء و أمة حمیراء و النفوس الصافیة التی ناظرة إلی ربها بوجوه ناضرة مبیضة مستبشرة فبهذا تحصل المشابهة و المناسبة و أما المراد بقوله عز اسمه: غلبت الروم أی غلبت فی عوالم الجسمانی تلک النفوس الزکیة التی فنت عن صفاتها و حدودها عند ظهور مجلیها حتی اتصفت بصفات رحمانیة و ظهرت بآثار ملکوتیة أرسل الله علیهم أریاح الامتحان و الافتتان و ألقاهم تحت مخالب المنکرین الذین ما استنشقوا رائحة الحیاء و ترکوا النهی و تمسکوا بالهوی و لکن لما کانوا غالبین من حیث الروح کذلک سیغلبون من حیث الجسد علی أعدائهم بقدرة بارئهم لأن الله جعل کل الخیر لأحبائه فی کل عالم من العوالم حتی فی عالم الجسم و الذکر أما تشهد بذکرهم ملئت الآفاق و باسمهم رفعت رایات الوفاق؟ و بهم اشتعل العالم و استضائت الممکنات بنور الوجود من العدم و بهم أنشقت الأحجار و تفجرت الأنهار و تموجت البحار و شرعت الشوارع و صفت الموارد و نزلت الموائد و رفعت الأمراض و حیت الأموات و زلزلت الأرض و انفطرت السماء و نسفت الجبال و أزلفت الجنان و أثمرت الأشجار و ظهرت الأسرار و هتکت الأستار و لاحت الأنوار و شاعت الآثار إذا قل:
فسبحان الله موجد هذه الشهب الثاقبة و النجوم الساطعة و الکلمات التامة و النفوس العالیة و العقول المجردة و الأرواح الهائمة فی ٱلله ربها و قل أی رب أدخلنی فی ظل شجرة رحمانیتک و أغمسنی فی لجج عز فردانیتک و قدسنی عما سواک و خلصنی من غمرات النفس و الهوی حتی أقوم کما أقمتهم علی خدمتک و أستقیم علی أمرک بحولک و قوتک إنک أنت المعطی لمن تشاء بیدک الخیر و إنک لعلی کل شیء قدیر
و فی مقام أراد الله بهذه الکلمة الفرقانیة شرائع الله و سننه و حدود الله و حکمه لأن الناس فی أیام الفترة ترکوا أوامر الله وراء ظهورهم و نسوا حکم ٱلله نسیا منسیا بحیث و ضعوا و أسسوا أساس سیاسة جهلیة و قننوا أصولا و قوانین رسومیة و رفعوا أعلام أحکام ظلمیة ظنیة بحیث ترکوا العلم و الهدی و تمسکوا بأذیال الوهم و الهوی هبطوا من سماء العقل و النهی و سکنوا فی درکات الضلالة و العمی إتخذوا سبیل المفسدین و ظنوا أنه صراط مستقیم اعتکفوا علی أصنام مترفیهم و جهلوا مفسدیهم من مصلحیهم و بذلک خبت مصابیح العدل و الإنصاف و اشتدت قواصف الاعتساف إستولت آیة الظلم و محت آثار الأنوار و ابتلی الناس بطوارق اللیل و جوارح النهار بما ترکوا أوامر ٱلله و سننه و حرفوا أحکام ٱلله و حدوده و بذلک غلبت الشرائع المقدسة الربانیة بین الناس و لکن بقدرة الله و قوته عند طلوع صبح الهدی من أفق البقاء فتقت سحاب الظن و الغوی و رتقت سماء العلم و التقی لاحت آیة النور و محت ظلمات الدیجور ظهر الصراط القویم و نصب القسطاس المستقیم امتدت العروة الوثقی التی لا انفصام لها و هبت لواقح ربیع العدل و الحکمة من مهب عنایة الرب القدیم و ألبست أشجار الهیاکل الإنسانیة بأوراق العلم و الحکم الربانیة غرست الشجرة الطیبة التی أصلها ثابت فی الأرض و فرعها فی السماء و توٴتی أکلها فی کل حین و امتدت أغصانها و أفنانها فی الآفاق و اوت و وکرت علیها طیور الوفاق و غن علیها عندلیب الأریب بذکر الحبیب و رنت فی أفنانها حمامة الودود بمزامیر آل داود علی شأن اهتزت الأرواح و انشرح الصدور و قرت الأعین و طابت النفوس و صار الإمکان حدیقة الرضوان أما تری بأنه ظهر بین أمة متوحشة ذلیلة و طائفة جاهلة ممقوتة بین کل الأمم؟ و کان جهلهم علی درجة ما کانوا یمیزون الیمین عن الیسار و یکتبون علی صفحات الماء و یأتون کل فاحشة و یعملون ما یتنفر منه الحیوان فکیف الإنسان و لکن لما ظهر بینهم الحبیب الأعظم و النور الأفخم و آیة القدم و الصبح الأبسم و أووا فی کهف تربیته ما مضی أیام معدودة و سنین محدودة إلا و ترقت هذه الطائفة الجاهلة من حضیض الجهل إلی أوج العلم و الحکمة و برعت فی الفنون و المعارف و فرعت علی أعلام العلوم و العوارف و اشتهرت بین الخلائق بخصائص الإنسانیة و صفات الرحمانیة حتی صارت معدن الکمال و العرفان و محور دائرة المفاخر و الإحسان و بذا انتصرت علی الآفاق و تسلطت علی کل القبائل و الشعوب من البرایا فصارت الناس یأتون من کل فج عمیق إلی بلادهم حتی یتعلموا العلوم و الحکم و یتزینوا بحلل الفضل و الکمال کل ذلک ما کان إلا بفضل الله و رحمته بما بعث فیهم خیر البریة بقوة عجزت عنها الخلائق أجمعون
و فی مقام أراد الله بکلمة الروم الحقائق الممکنة المتجلیة بأسماء ٱلله و صفاته المصطلیة من نار الأحدیة الموقدة فی البقعة المبارکة فی بحبوحة الجنة الظاهرة المشهودة علی أربعة أرکان قدمیة الموٴسسة بزبر الألوهیة و الربوبیة القائمة بجوهر الفردانیة فیا لیت فتح الرحمن عن فم هذا الغلام ختام الحفظ و الکتمان حتی أبین لک یا حبیب مقامات نار الأحدیة و الشجرة المبارکة و أغصانها و أوراقها و شئون بقعة الفردوس التی سترها الله عن أعین الکل إلا الذین طاروا بجناح النجاح فی هواء یظهر فیه الأفراح للأرواح و استنشقوا رائحة الوفاء عن قمیص البهاء المرشوش بالدم الحمراء بما فعل المشرکون بجماله المشرق المنیر بعد ما أخذ الله العهد منهم فی کل کتب و صحف و زبر عند إشراق کل نور من أنواره و طلوع کل نیر فی آفاقه بأن یعترفوا بقدرته و سلطانه و یسجدوا له یوم یأتیهم فی ظلل من غمامه و یفدوا أنفسهم حین ظهوره فداء للقائه فوا حسرتا علیهم و أسفا لهم بما فرطوا فی جنب الله فسوف یأتیهم نبأ ما کانوا عنه غاففلین إذا اقشعرت جلودهم و استدمت أکبادهم و ذابت قلوبهم و ناحت أرواحهم و تأوه سرهم و عضوا أناملهم حسرة و ندامة علی ما فعلوا و حرموا علی أنفسهم مائدة الحیاة النازلة من سماء رحمة ربهم العزیز الغفور
فلنرجع إلی ذکر ما کنا فیه من بیان کلمة الروم فقلنا بأن المراد منها حقائق الأشیاء و ماهیاتها و سعة الممکنات و قابلیاتها و المراد من غلبت الروم أی عمت الفیوضات الرحمانیة و التجلیات الصمدانیة حقائق الممکنة المستفیضة من النور القدیم و شملتهم و غلبت علیهم و أحاطتهم من کل الجهات ظاهرا و باطنا الیوم الذی أشرقت شمس القدم من شطر الآفاق لأن فی مثل ذلک الیوم المبارک الموعود لا ینظر الحق إلی سعة الحقائق الموجودة و استعدادهم بل یفیض علیهم من بحور فضله و إحسانه و لو لم یکن لهم سعة قطرة من أنهاره بحیث تری یلبس الفقیر ثوب غنائه و یتردی المسکین الذلیل رداء عزه و علائه کما قال و قوله الحق: و نرید أن نمن علی الذین استضعفوا فی الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثین
أن یا أیها الطائر فی هواء محبة الله و السائح فی بحار الفضل قم عن رقد الأوهام و افتح بصرک لتشهد بأن جمال القدم کیف مشرق علیک و علی الممکنات من أفق الفضل و یلوح وجهه بین السماء و الأرض و تری شمول فضل مولاک و عمیم إحسانه علی المقبلین و تبصر کیف یتموج طمطام رأفته الکبری عن یمین إرادته و تهب روائح الرحمة العظمی من مهب عنایته لتعلم بأن هذا یوم لو أراد الذباب أن یستنسر و القطرة أن یستبحر فی ظل هذا الجمال لیقدر بعون الله و قوته کما قال و قوله الحق: لو أرادت نملة أن تتصرف فی القرآن و باطنه و باطن باطنه فی حکم سواد عینها لتقدر لأن سر الصمدانیة قد تلجلج فی حقائق الممکنات إذا قل: تبارک الذی أظهر قدرته و سلطانه و رحمته و إحسانه فی هذه الأیام علی الخلائق أجمعین
و أما قوله تعالی: و هم من بعد غلبهم سیغلبون أی یأتی أیام فیها تغرب شمس الأحدیة فی مغرب البقاء و ترکد نسمات الروح عن شطر الوفاء و تخبو سراج المحبة فی صدور ذوی الحجی و تخمد نار الشوق فی قلوب أولی النهی و تنقطع مائدة العرفان من سماء الإیقان و یمنع سحاب القدس عن بذل الأمطار و بحر الأحدیة عن قذف درر الأسرار و ینتهی هذا النعیم الأوفر و الحظ الأکبر و ینقلب هذا الیوم الأنور باللیل الألیل فإذا وجدت الإمکان علی هذه الأحوال فاعلم و أیقن بأن قرب صباح الإیقان و دنا طلوع فجر الرحمن من مشرق الإمکان و مجیء ربک فی ظلل من الغمام إذا فارفع یدیک مقبلا الی مولاک و قل:
لک الحمد و الشکر یا ربی الأبهی بما خلقتنی و بعثتنی فی الیوم الذی لاح وجهک و ظهر جمالک و أشرقت طلعتک و سبقت رحمتک و سبغت نعمتک و أحاطت قدرتک و ظهرت آیاتک و علت کلمتک و ثبت برهانک فوعزتک لو أثنی علیک بدوام سلطنتک لن أستطیع أداء کلمة من شکرک و لکن لما رأیت من عمیم فضلک و عظیم جودک و إحسانک تقبل القطرة من عبادک مقام البحر و تحسب الذرة مقام الشمس لذا قدمت بین یدیک بضاعة شکری التی لم تکن إلا کرنة بعوضة فی الواد أو کدبیب نملة علی الأصفاد و إنک أنت الغفور الرحیم
و منها أراد الله بهذه الکلمة القرآنیة مقام النظر و الستدلال و إقامة الأدلة القاطعة و البراهین الناطقة علی و حدانیة الحق و فردانیته و عزته و قدرته و سلطانه کما شهدت و رأیت فی أیام التی مضت قبل ظهور نیر الأعظم عن مشرق اسمه المکرم بحیث ما کان لأحد سبیل إلیه و لا دلیل علیه إلا ما دلت العقول و الأنظار من ظهور آیاته و بروز آثاره و کان الناس یستدلون بها علی وجوده و تنزهه عما سواه و لکن لما طلعت شمس الآفاق عن مطلع القدم فی الهیکل المکرم و استضاء الوجود بالأشعة الساطعة علی کل موجود خرقت حجبات النظر و الاستدلال و سقطت رایات الدلائل و الإشارات و رفعت أعلام المکاشفة و الشهود علی أعلام القلوب و الأبصار و فاز الأحرار بلقاء ربهم یوم زلزلت الأرض و نسفت الجبال إذا قل: فتبارک الله الملک العزیز الجبار الذی أتی فی ظلل من الأنوار بسلطان عظیم غلبت الروم أی اضمحلت قطرات میاه النظر و الاستدلال عند تموج أبحر المکاشفة و الشهود بعد الذی کان برد لوعة الطالبین و رواء غلتهم و شفاء علتهم و انعدمت و اضمحلت کأن لم تکن إلا أوهام و ظنون و قیاس و تصورات لأن مثل الأدلة عند ربک کمثل الظل عند طلوع الشمس و لو کان دلیلا علیها لم یکن لها وجود عند ظهورها و لا له بقاء تلقاء سطوع شعاعها بل هو محجوب عنها و لو دل علیها و عند الذین شربوا سلسال الرحیق المختوم من ید عنایة اسمه القیوم أعظم حجبات العباد أن یعتمدوا علی الظل الفانی لمعرفة شمس القدم أو یتکئوا علی الآثار و یستدلوا به علی وجود موجد الأنوار و مع ذلک یحسبون أنهم و صلوا إلی مرکز الهدی و ساروا فی أفلاک النهی کلا إنهم فی غمرات الظنون یخوضون و فی بیداء الأوهام یتیهون إذا قم بقدرة من الله و قوة من سلطانه و خاطب الغافلین و قل:
إلی متی ترکضون فی بریة الجهل قد سطع برق المعانی فی سماء الروح و اشتعل الآفاق بنار الله الموقدة التی ظهرت عن سدرة سیناء فی طور البقاء ألا یا معشر المشتاقین تقربوا إلیها حتی تصطلوا منها و تهتدوا بها و تتوقدوا من جذواتها و تسمعوا زفیرها و قل قد قرت عیون الأشیاء بلقاء ربها و أنتم لا تبصرون قد انتبهت الممکنات و أنتم غافلون قد قامت الموجودات و أنتم فی فراش الغفلة ترقدون نطقت ألسن کل شیء بذکر ملیک الأسماء و أنتم تصمتون إن لم تتوجهوا إلی ذلک الجمال فبأی جمال تنظرون و إن لم تنتبهوا من هذا النداء فبأی نداء تنتبهون و إن لم تهتزوا من هذا الروح فبأی روح تتحرکون؟ هل تحسبون أنفسکم أحیاء کلا إنکم من أصحاب القبور أتزعمون بأنکم تبصرون أو تسمعون بل صم بکم عمی فلا تفقهون هل الرحمة ما سبقت أم النعمة ما سبغت أو الحجة ما کملت و البراهین ما ظهرت و الآیات ما نزلت و الکلمة ما تمت و حمامات الفردوس ما غنت و الجنة ما أزلفت و الشجرة المبارکة ما أثمرت و بحور الأسرار ما تموجت؟ بل وقعت الواقعة العظمی و ظهرت الطامة الکبری و حشر کل شیء فی محضر الله المهیمن القیوم و لو کان المشرکون فی سکرتهم یعمهون
و منها أراد الله بهذه الکلمة التامة الشئون الجسمانیة و الحقائق الناسوتیة و عوارضها و خصائصها فی عالمها و حیزها و المراد من قوله عز شأنه: غلبت الروم أی فنت الشئون الجسمانیة عند ظهور الآیات الروحانیة و فاضت أنهار الحقیقة علی أراضی الأفئدة الصافیة عند استواء الرحمن علی العرش الأعظم بین الأکوان لأن الجنود الروحانیة تبطش و تصول علی الأحزاب یوم الإیاب بقوة رب الأرباب لذا تغلب الجسمانیات و یکون الحکم للروحانیات و فی ذلک لآیات للمتبصرین
و منها أراد الله بهذه الکلمة المحکمة الثابتة مقام الظنون و الأوهام فی أفئدة العوام لأن فی أیام أفول شمس العلم و الحکم تشهد الوهم و الظن هو السلطان الأعظم بین ملأ الأکوان فتری إنما یعتمد الکل فی المسائل و المعارف علی الظن حتی الشرائع و السنن فلا یقتدرون أن یسبحوا فی بحور العلم و یخوضوا فی طمطام الحکمة و لکن عند شروق شارق الیقین من أفق مبین تزهق أشعة جمال المعلوم ظلمات الوهم و الظنون إذا ینطق لسان الإبداع بأن: جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل کان زهوقا
أن یا حبیب قل بلسان بدیعلک الفضل و المن و الرحمة و الإحسان علی هذا الرقیق الذی لا یلیق بشیء فی ملکک بما نجیتنی من تیه الظنون و آویتنی فی أفنان سدرة العلوم بل أغنیتنی عن العلوم بما و فقتنی علی معرفة جمالک المعلوم أی رب ثبتنی علی حبک و أقمنی علی إظهار أمرک و إثبات حکمک و اجعلنی علما علی أعلامک بین عبادک لأکون مهبط إلهامک و موٴیدا بآثارک إنک أنت المقتدر علی کل شیء بقدرتک و سلطانک یا محبوب العالمین
و منها أراد الله بهذه الکلمة الجامعة مقامات النفس و مراتبها و درجاتها و علوها و اضمحلالها و صعودها و سقوطها من فضل بارئها و نعمة موجدها و بطش مبدعها فاعلم بأن النفس لها مراتب شتی و درجات لا تحصی لکن کلیاتها فی مراتب الوجود معدودة و محدودة بنفس جمادیة معدنیة و نفس نامیة نباتیة و نفس حیوانیة حساسة و نفس ناسوتیة إنسانیة و نفس أمارة و نفس لوامة و نفس ملهمة و نفس مطمئنة و نفس راضیة و نفس مرضیة و نفس کاملة و نفس ملکوتیة و نفس جبروتیة و نفس لاهوتیة قدسیة
فأما النفس المعدنیة عبارة عن مادة جوهریة فی المعادن و هی کمالها و صفاوٴها و التأثیرات الظاهرة منها فانظر إلی الأحجار الثمینة المعدنیة کیف تنطبخ فی معدنها حتی تصل إلی کمالها و جمالها بظهور نفسها فیها و بروز جوهریتها بها
و أما النفس النامیة النباتیة فهی عبارة عن الجوهر الذی تقوم به القوة النباتیة التی بها تنبت و تنمو الحبوب و الأوراق و الأغصان و الأشجار بحیث تأخذ من المواد و الإسطقسات و تعطی الأشجار و النباتات حتی آنا فآنا تترقی و تمتد أغصانها و تعطی ثمارها و أزهارها أوراقها
و أما النفس الحیوانیة هی عبارة عن الجوهر الذی قائم به القوی الحساسة للمحسوسات الجسمانیة
و أما النفس الإنسانیة عبارة عن النفس الناطقة أی الجوهر الذی به تقوم قوی الإنسان و الحواس الظاهرة و الباطنة و الکمالات و المعارف الربانیة و العلوم الإلهیة و الفنون الصمدانیة و الحکم الغیبیة و کذلک معرض لشئون الشهوات الظلمانیة و النقائص الناسوتیة فسبحان الله من هذه الآیة العجیبة و النقطة العظیمة و الکلمة الجامعة فی صحیفة الإمکان بحیث تری لها شئونا مختلفة و مراتب متنوعة متضادة و درجات متعددة مما لا نهایة لها و لها استعداد أن تکون مرآة لظهور حقائق لاهوتیة و مجلی لبروز صفات کاملة ربانیة و لها تنزلات فی ظلمات کونیة و احتجابات بحجب کثیفة ناشئة من حدودها و تعینها و مانعة لوصولها إلی مبدئها و مرجعها و ساترة عنها آیات موجدها المودعة فیها بفضل بارئها و لأجل ترقیاتها إلی مراتب القرب و الوصال و تنزلاتها فی مهالک البعد و الضلال تتقمص فی کل مرتبة و مقام بثیاب أخری غیر الأولی لذا تعبر فی کل مرتبة بعبارة مثلا فی مقام تنزلاتها فی أسفل مراتب الشهوات الحیوانیة و اشتغالها بزخارف الدنیا الدنیة و شغفها فی مشتهیاتها الخبیثة الفانیة و انجمادها من برودة الإمکان و انخمادها عن حرارة حب ربها العزیز الوهاب و سقوطها و هبوطها فی و رطة الضلال و غلوها و انهماکها فی المنکر و الطغیان فاعتبرت بنفس أمارة کما قال و قوله الحق: إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربی ثم تترقی من هذا المقام الهائل و الدرک السافل إلی مقام یأتیها أحیانا نبأ خوضها فی و رطة المهالک و انغماسها فی لجج الغفلة و سلوکها فی تلک المسالک و انحجابها عن الله ربها و غفلتها عن بارئها و حیرتها فی تیه الضلالة و الهوی و نسیانها ذکر الله الملک العزیز الأعلی تارة یمر علیها نسیم التبصر فی أمرها و تتیقظ أقل من الشیء فتلوم ذاتها بما تراها خائضة فی غمرات الغفلة و الغی و تشمتها بما تشهدها هائمة فی بیداء المنکر و البغی و تتأسف لدنوها و سقوطها و هبوطها فی أسفل درجات الذل و الشهوات المهلکة و انحجابها خلف حجبات متراکمة التی تمنعها عن الصعود إلی الدرجات العالیة الروحانیة و تشغلها عن ذکر الله بهذه الوساوس الباطلة الشیطانیة فلأسفها و ندمها فی هذا المقام و لومها ذاتها تعتبر بنفس لوامة کما قال جل اسمه: و لا أقسم بالنفس اللوامة و لما ارتقت من هذا المقام الأدنی الأذل الأوحش و صعدت إلی مکمن الأعز الأقرب الأوفر و أیدت بتأیید ٱلله و ألهمت مضمون کتابها کما قال: اقرأ کتابک کفی بنفسک الیوم علیک حسیبا و أتتها آیات الإلهام و ظهرت لها حقیقة اللیل من النهار و دعیت إلی شاطئ بحر العرفان و رزقت بموائد القدس من جنة الرضوان و جنت من أثمار شجرة الإحسان و سقیت من أنهر الفضل و الإکرام و تنعمت بنعم البقاء و ذاقت حلاوة الآلاء و عرفت علوها و دنوها و صعودها و هبوطها و طلوعها و أفولها کما هو حقه و تبصرت فی أمرها و تیسر لها عسرها و صارت تمیل من الفانیات إلی الباقیات و تغمض النظر عن الموجودات و تقلبه إلی ساحة العزیز الجبار و ترتقب النداء من الملأ الأعلی و تلتفت إلی الشئون التی ترقیها حتی توصلها إلی عرش الاطمئنان و کرسی الامتنان فتصیر مهبطا لموارد الإلهام بین الأنام و تجد من سعیها و مجاهدتها الفوائد التی توصلها إلی مقصدها و مطلبها إذا تعتبر بنفس ملهمة لأنها ألهمت بفجورها و تقواها کما قال تبارک و تعالی: و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها و فی مقام تنبهها بذکر ربها و تیقظها بنداء بارئها عن رقد الأوهام و تذکرها بذکر الله العزیز العلام و صعودها و عروجها إلی مقامات الحب و الاطمئنان و انغماسها فی طمطام الإیقان و مشاهدتها آیات الله من مشارق الإمکان و آفاق الأکوان و أنفس الرحمن و ظهور آیة التوحید من مطلع الجنان و دخولها و خلودها فی بحبوحة الجنان و فورانها من حرارة حب ربه العزیز المنان و سیرها و سلوکها إلی الله المقتدر الملک الحنان و جلوسها علی عرش السکینة و الاستقرار و شربها من کوٴوس الاستقامة و الثبوت فی کل الأحیان تعتبر بنفس مطمئنة لأنها اطمئنت فی الإیمان و سکن اضطرابها و قلقها و رویت غلتها و بردت لوعتها و رقت و انکشفت حجباتها و تبدلت بالنور ظلمتها و زالت بطالتها و کمل نقصانها و خرقت أستارها و هتکت أسبالها و ظهرت أسرارها و زلزلت أرضها و أخرجت أثقالها و حدثت أخبارها بأن ربک أوحی لها فسبحان الله هادیها و ناجیها و منورها و مصورها عن کل ما یقول الجاهلون و إذا و صلت إلی هذا المقام الأعز الأوفی و المورد الأعذب الأصفی الأحلی و شربت من هذا المنهل الأرق من الصبا تفوز بمقام التسلیم و الرضی و ترک الطلب و الاقتضاء و تفوض الأمور إلی الله الملک العزیز القیوم و تتوکل علیه و تتکأ علی و سادة فضله و إحسانه و لا تری فی هذا المقام ما یخالف رضاها و لا تختار الراحة الکبری علی المصیبة العظمی بل إنها راضیة بکل ما قضی الله لها فتراها فرحة مسرورة عند نزول البلیات و شاکرة ممنونة لدی تموج أبحر المصیبات و الرزیات و لو یأتیها من سحاب القضاء سهام الشدائد و البأساء و تنزل علیه أمطار البث و الضراء لتراها رطب اللسان بشکر ربها المستعان و فصیح البیان فی ذکر الملک المنان و هذا مقام لو فزت به لتصل إلی سرور لا یتبعه الأحزان و فرح لا یتلوه الأکدار و فرج و سعة لا ینتهی إلی الضنک و الشدة و یسر لا یعاقبه عسر و محنة لأن أزمة الأمور فی قبضة قدرة ربک و الأرض جمیعا قبضته یوم القیامة و السموات مطویات بیمینه سبحانه و تعالی عما یشرکون بحیث لا تتحرک و رقة علی شجرة و لا تسقط ثمرة إلا بإرادة ربک الرحمن الرحیم و السالک فی ذلک المقام الأعلی لا یبقی له إرادة و سکون و حرکة و قدر و قضاء إلا بالله بل تفنی ذاته و صفاته و کینونته و إنیته کلها بسطوات آیات التوحید کما تزول الأظلال عند شروق شارق القدیم فمتی فنت و اضمحلت إرادته فی إرادة الحق فصارت إرادته عین إرادته و رضاوٴه عین رضائه و ارتفع الحجاب و زال النقاب و اضمحل الشرک فی حقیقة الفوٴاد ظهرت فی النفس آیة الرضاء إذا لرضائها بقضاء بارئها و تسلیمها لأمر خالقها اعتبرت بنفس راضیة فبما أدرکها سوابق الفضل و الرحمة و أحاطتها الآلاء و النعمة و شملتها ثیاب الجود و الإحسان و أقمصها الله قمیص الانقیاد و الرضوان یخاطب من الملأ الأعلی طوبی لک بما قطعت السبیل و طویت الطریق حتی و ردت شریعة الوفاء و شربت زلال التسلیم و الرضاء و ترکت هواک و رضیت بقضاء مولاک و أنفقت ما لک و علیک و فدیت روحک و قلبک و فؤادک فی سبیل مولاک و هذا قرة عینک و بذلک تنال إلی المقام الأعلی و الرفیق الأبهی و تصیر مرضیة مقبولة عند الله ربک و مستظلا فی ظل فضل مولاک مستبشرة مسرورة مهتزة بمنه و إحسانه إن فضله بعباده المخلصین عظیم فلأجل صعودها بوسائط الرضا إلی المعارج المرضیة عند ٱلله ربها و مقبولیتها فی فناء موجدها اعتبرت بنفس مرضیة و لما طارت بأجنحة القدس فی فضاء هذا الفردوس و ذاقت حلاوة مقامات الأنس فی حدیقة الإفریدوس و اجتمع فیها هذه المقامات العلیة النورانیة و تصاعدت إلی هذه المراتب الرفیعة الروحانیة و تفجرت من شواهق حقیقتها ینابیع حکم الصمدانیة و صارت مهبطا لموارد الإلهام و مطلعا لسطوع أنوار هذا الإشراق و اطمأنت بذکر الله المهیمن المنان و صارت راضیة بقضائه و مرضیة فی فناء بابه لذا عبرت بنفس کاملة لاتصافها بهذه الکمالات الروحیة الرحمانیة و اشتمالها لهذه الصفات الجوهریة الربانیة إذا استحقت و استعدت للدخول فی حدیقة ملکوت الله التی کانت جنة الأبرار و مأوی الأحرار الذین استنارت وجوههم ببشارات الله و ظهرت فیها نضرة الرحمن و آیة المنان و إلی هذه المقامات أشار بقوله عز کبریائه: یا أیتها النفس المطمئنة ارجعی إلی ربک راضیة مرضیة فادخلی فی عبادی و ادخلی جنتی لأن جنة المأوی و حدیقة الکبریاء و الروضة العلیا و الفردوس الأعلی هی ریاض ملکوت الله التی فتحت الیوم أبوابها و انبسطت أرضها و أشرقت أنوارها و أثمرت أشجارها و تفتحت أزهارها و جرت أنهارها و تموجت بحارها و تفجرت ینابیعها و رق نسیمها و دق أدیمها و غنت و رقاوٴها و تبسمت ثغورها و تبلج سحورها و سطع بروقها و أنار شروقها و سجعت طیورها و تزینت قصورها و آن حبورها
إذا قم بقوة من الله و قل بأعلی النداء: فاسرعوا یا أیها المشتاقون إلی مطلع هذا النیر الساطع اللامع القدیم و اقصدوا هذا الملاذ الشامخ المنیع و النفس إذا دخلت هذه الجنة العالیة و الحدیقة الباقیة و استهدت إلی فجر هذا الیوم الأنور و وردت هذا المورد الأعذب الأصفی الأطهر و اکتسبت الکمالات و اقتبست أنوار جواهر الأسماء و الصفات و شربت من هذه الکأس التی کانت مزاجها کافورا و ساحت خلال هذه الدیار و خاضت عمق هذه البحار و اهتدت إلی هذه النار الموقدة المشتعلة فی فاران الحب تثبت فی حقها کلمة التوحید و تستقر فی ذاتها آیة التجرید و تفوز بحیاة أبدیة و عیشة سرمدیة و تتلذذ من النعماء التی لم تر عین مثلها و ما سمعت أذن شبهها و تشرب من الینابیع الصافیة التی تجری عن یمین عرش الحقیقة و تذوق من أثمار الشجرة المنبتة فی بحبوحة الفردوس المهتزة من نفحات التی تأتی من شطر الجمال و یحیی بها قلوب الموحدین و تهتز منها أوراق أفنان أفئدة المخلصین و تفوز و تصل إلی مرکز البقاء فی ظل وجه ربها الأعلی بحیث لا تواریها شائبة الفناء و لا یطرق علیها طوارق الانعدام و الاضمحلال کما قال و قوله الحق: کل من علیها فان و یبقی وجه ربک ذو الجلال و الإکرام
والنفس إذا نشرت أجنحة الروح و انجذبت من جذبات الله و طارت إلی الأفق الأعلی و قصدت رفیق الأبهی ترتقی إلی مقام الجبروتیة الرحمانیة و توٴید بالقوة القاهرة و القدرةالباهرة و السر المنمنم القدیم و الرمز المکرم العظیم و تطلع علی خفیات الحقائق المکنونة المستورة الغیبیة التی احترقت فی حسرتها قلوب العارفین و تنطبع من الأشعة الساطعة من شمس الحق و آثارها و تحکی عن ظهورها و أنوارها فی کل الشئون و الأطوار و تتعارج إلی مقام جعله الله منزها عن إدراک المدرکین لأن هذا المقام خلق من أرکان القدرة و القوة و العزة و السطوة و السلطنة و الإقتدار و الهیمنة و الاستقلال لا یشوبه شیء من الحدود و الکثرات بل هو جوهر التوحید و ساذج التفرید و التجرید و نور الأنوار و سر الأسرار و سدرة المنتهی و الدرجة العلیا و المرکز الأعلی و المسجد الأقصی و غایة القصوی فی عالم الخلق و لو أن الکمالات لا بدایة لها و لا نهایة و لن تحد فهنیئا لمن دخل هذا المقر المقدس المکرم العظیم
فأما النفس الإلهیة هی عبارة عن الحقیقة الکلیة الجامعة للحقائق اللاهوتیة الربانیة و الدقائق الصمدانیة الظاهرة بالنور القدیم و الباطنة بالسر الأعظم العظیم النقطة الأحدیة التی منها ظهرت الأشیاء و إلیها أعیدت و منها بدئت و إلیها رجعت فکانت أحدیة الذات و واحدیة الصفات ثم تکثرت بالظهور و الآثار و تشعبت و تفصلت و تفننت و تلألأت فامتلأت و تنورت منها الأنفس و الآفاق فی یوم المیثاق و اهتزت بها هیاکل التوحید و تحرکت و نشأت منها أفنان سدرة التفرید و تقمصت بالطراز الأول و النور الأکمل و ظهرت من آیة منها کل الأسماء المدرکة للحقائق الإنسانیة و نشأت من سمة منها کل الصفات الحقیقیة الغیبیة فهی مرکز دائرة الوجود بظهور لا إله إلا الله و قطب فلک البقاء الذی یدور علیه کوکب التفرید و التوحید بحیث یدور کل الحقائق الغیبیة حول هذه النقطة الأحدیة اللاهوتیة و تقتبس کل الکینونات اللطیفة النورانیة من هذه النار المشتعلة الملتهبة الناطقة فی سدرة الإنسانیة بأنه لا إله إلا هو العزیز المقتدر القیوم و هذه النفس عبارة عن حقیقة الهیاکل المقدسة و الأعراش الحقیقیة لا تقدر أن تجول فوارس عقول البشریة فی هذا المضمار و لا تطرق طیور إدراکات البریة هذه الدیار إنما للمخلصین منهم الحظ الأوفر من أشعة هذا النور الأنور عند مسارعتهم و وفودهم إلی فناء باب ملیک مقتدر تبا و سحقا لقوم یظنون أنهم أدرکوا علاهم مع أنهم لم یحوموا حول حماهم کیف یقتدر ذباب الفناء أن یزاحم عنقاء مشرق البقاء؟ و أنی للقطرة المنتنة الملح الأجاج أن تقتحم بحر العذب الصافی المواج کلما یتعارج المتعارجون إلی أعلی مقامات العرفان أو یتصاعد الموحدون إلی أسمی مشاعر مراتب الإیقان إنما یقرأون أحرف کتاب أنفسهم و یصلون إلی الآیة المتجلیة المودعة المندمجة المکنونة فی حقائق کینوناتهم و یدورون حول مراکز دوائر ذاتیاتهم و أما مراتب التی فوق عوالمهم و مدارکهم لن یقتدروا أن یستنبئوا منها و لا یستطیعوا أن یدرکواها فانظر بعین الحقیقة إلی المکونات الخارجیة تشهد کل ما دون لن یقدر أن یدرک ما فوقه و لو یترقی فی مقامه إلی أعلی ذروة الایجاد کما تشهد أن الجماد کلما یرتقی و یتعارج إلی سمو الکمال لن یقتدر أن یعرف و یدرک مقام النبات و کذلک کلما یزداد النبات بهجة و نموا لا یستطیع أن یطلع علی حقیقة الحیوان و بمثل ذلک الحیوان کلما یستکثر الحسن و الزهو و الاعتدال لن یتمکن له معرفة هویة الإنسان و حقائقه و شئونه و صفاته
إذا فاعلم بأن النفوس علی اختلاف مراتبهم و شئونهم و درجاتهم یجری علیهم هذا الحکم بحیث لن یستطیع أحد أن یتجاوز حده و شأنه و لا الطیر یقتدر أن یطیر فوق منتهی أوج طیرانه فإذا کان الحال علی هذا المنوال بین الأشیاء المکونة الممکنة الخارجة التی تشتمل علی المناسبات و المشابهات فکیف إذا بین مقامات الإمکان و مقامات الحقائق اللاهوتیة التی ذهلت العقول عن إدراکها و تحیرت النفوس فی عرفانها و عجزت الألسن عن بیانها و کلت أجنحة طیور القلوب و الأفکار عن الطیران فی سماء تبیانها
فلنرجع إلی ما کنا فیه من مقامات النفس و مراتبها و شئونها و علوها و دنوها و سموها فقلنا هذه الآیة الکبری فی مقام تدل علی النفس و مراتبها و تقلبها من مرتبة إلی مرتبة و من مقام إلی مقام لأنها فی کل مرتبة تترک حدودها و شئونها و تغلب من سطوات آیات مرتبة التی فوقها و تضمحل من صدمات شئون التی تزکیها و تلطفها و تطهرها و تنزهها عما لا یلیق بها فی سبیل بارئها و إذا خلصت و نجت من کل مرتبة دانیة و صعدت بإعانة موجدها و مصورها إلی مرتبة عالیة تنتصر علی قوی المراتب السافلة و تغلب جنود حقائق الشئون الدانیة
إذا فاعرف ما قال جل ذکره: غلبت الروم أی غلبت و اضمحلت و فنت نفس الأمارة بالسوء من الصواعق النازلة علیها من عوالم الملک و الملکوت و الشهب الثاقبة الواردة علیها من مکامن العز و الجبروت إذا أیدت بجنود النصر و الهدی و نصرت بملائکة الروح و التقی و انتبهت من نومها و غفلتها و انتهت من خوضها و هبوطها و سقوطها و شهدت نزولها و دنوها ثم تذکرت فی أمرها و دقت بصرها و صفت نظرها حتی عرفت ما هی علیها و الذی حجبها و منعها و صار سببا لبعدها و نکرها و غفلتها و سکرها إذا تمسکت بأذیال الفضل و الرحمة و ابتهلت إلی الله و لاذت بحضرته حتی صعدت و نجت من ذلک المقام و المرتبة و دخلت المقام الأعلی و کذلک تتقلب فی المقامات و المراتب و تغلب حتی تعود إلی مبدئها و ترجع إلی مرکزها و تتردی برداء کمالها و تدخل فی ظل ربها مقعد صدق عند ملیک مقتدر
أن یا أیها المشتعل الملتهب من نار محبة الله فاعلم بأن هذا العبد لو یرید أن یفسر هذه الآیة اللاهوتیة بکل المقامات الغیبیة و الحقائق الإلهیة و المراتب الجبروتیة و الملکوتیة و الحقائق الکونیة و العوالم الغیبیة و الشهودیة و الظهورات الأحدیة و الشئونات الواحدیة و الکینونات الروحیة و الأرکان القلبیة و المشاعر الحقیقیة و النفسیة و توابعها و لواحقها بأتم بیان و أکمل تبیان لأقدر بعون الله و قوته و فضله و تأییده و لکن النفوس لن یقتدروا و لن یستطعوا أن یسمعوها و یدرکوها لذا أمسکنا القلم عن البیان و الجریان و أعطیتک مفاتیح التبیان فافتح بقوة مولاک کل الأبواب المسدودة علی الوجوه لتطلع علی أسرار الله الغیبیة المستورة المکنونة المخفیة و تشهد و تجتلی مواقع السر المستسر المصون و تسیح و تسیر فی هذا الملکوت الواسع العظیم و تخوض فی هذا البحر الزاخر المواج و هذا الطمطام العظیم الثجاج و تلتقط من دراری النور بفضل مالک الظهور فورب غفور و جمال مشکور مشهور لو أحد من المخلصین یتوجه إلی الله فی هذا الیوم الأکبر و ینظر بالبصر الأطهر لیعرف کل الحقائق و المعانی من کل کلمة من آیات الله المهیمن القیوم بل فی کل حرف و فی کل نقطة لأن الحقائق و المعانی بتمامها ساریة جاریة فی باطنها و تتفجر منها أنهارها و تتموج فیها بحورها فهنیئا للواصلین و هذه المعانی التی أوردناها تظهر و تنجلی من هذه الآیة المبارکة إذا قرأنا: غلبت الروم أی بصیغة المجهول و لکن إذا قرأناها بصیغة المعلوم یظهر منها معان أخر لا یسعنا الیوم بیانها و إظهارها و کشف رموزها و أسرارها و ترکناها لوقت معلوم و علی الله نتوکل فی کل الأمور و بحبل رحمته و فضله نتوسل إنه معطی السائلین و مغنی المفتقرین
(عبدالبهاء عباس)