الدّينُ البَهَائيّ

الجامعة البهائية العالمية
مترجم

الدّينُ البَهَائيّ

الجامعة البهائيّة العالميّة

Bahá’í International Community

P.O. Box 2562, London W5 3ZB

United Kingdom

1994

صفحة خالية

المحتويات

مقدّمة .....................................................................

1

من مبادئ الدّين البهائيّ ...................................................

5

وحدة الأديان ....................................................

5

السّعي إلى الكمال ....................................................

6

توافق العلم والدّين ...................................................

7

نبذ التّعصّبات ...................................................

8

وحدة الجنس البشريّ ....................................................

8

التّضامن الاجتماعيّ ....................................................

9

مساواة حقوق الرّجال والنّساء ...........................................

10

النّظم البديع ...........................................................

11

من تاريخ الدّين البهائي ..................................................

13

رسالة البشير أو البابيّة ...................................................

14

طلعة الظّهور أو البهائيّة ..................................................

21

العهد والميثاق ...........................................................

28

ولاية الأمر .............................................................

34

شهادة المنصفين ..............................................................

35

من آثار بهاء الله .............................................................

38

مصادر المقتطفات ............................................................

41

صفحة خالية

الدّينُ البَهَائيّ

مقدّمة

الدّين البهائيّ هو أقرب الأديان السّماويّة عهدًا، ويشترك معها أساسًا في الدّعوة إلى التّوحيد، ولكنّه دين مستقلّ له كتبه المقدّسة ومبادئه وأحكامه، دعا إليه ميرزا حسين علي النّوري، ولقبه بهاء الله، بعد أن أعلن بعثته في ربيع عام 1863، وفقًا لما بشّر به من قبل السّيد علي محمد، ولقبه الباب، المبعوث في عام 1844. يختلف انتشار الدّين البهائيّ باختلاف المجتمعات، ولكن ما ينفرد به هو القبول العام المطلق لمبادئه وتعاليمه، فالملايين الّتي تؤمن به اليوم تمثّل مختلف الأجناس، والأعراق، والجنسيّات، والثّقافات، والطّبقات، والخلفيّات الدّينيّة. ومنهم تتألّف جامعة عالميّة موحّدة، تحظى باحترام وافر في المجالس الدّوليّة، وتشترك، بوصفها منظّمة عالميّة غير حكوميّة، في نشاط هيئة الأمم المتّحدة ووكالاتها المتخصصّة.

تتميّز تعاليم الدّين البهائيّ بالبساطة والوضوح، وتركّز على الجوهر، وتبعد عن الشّكليّات، وتحثّ على تحرّي الحقيقة، وتنادي بنبذ التّقليد والأوهام، وتهتمّ بنقاء الوجدان، وتنشد السّعادة الحقّة في السّموّ الرّوحانيّ، وتؤكّد أبديّة الرّوح الإنسانيّ، وتبشّر باستمرار تتابع الأديان، وتعلن أنّ الدّين سبب انتظام العالم واستقرار المجتمع، وتنشد الحرّيّة في الامتثال لأحكام الله، وتشترط أن تكون أقوال الإنسان وأعماله مصداقًا لعقيدته ومرآة لإيمانه، وترفع إلى مقام العبادة كل عمل يؤدّى بروح البذل والخدمة، وتعتبر الفضل في الخدمة والكمال لا في حبّ الزّينة والمال، وتدعو للصّلح الصّلاح، وتنادي بنزع السّلاح، وتروم تأسيس

الوحدة والسّلام بين الأمم، وترى إن كان حبّ الوطن من الإيمان فمن الأولى أن يكون كذلك حبّ العالم وخدمة الإنسان.

لا وجود في الدّين البهائيّ لكهنة، ولا رهبان، ولا رجال دين، ولا قدّيسين، ولا أولياء. والعبادة فيه خالية من الطّقوس والمراسيم، وتؤدّى صلاته على انفراد. وتميل أحكامه لتهذيب النّفس أكثر منها للعقاب. وتجعل أساس الطّاعة هو حبّ الله. وتسهر على رعاية شؤون أتباعه هيئات منتخبة هي المحافل الرّوحانيّة، وعلى رأسها مجلس أعلى هو بيت العدل الأعظم. ويقع مركزه العالميّ بالقرب من أماكنه المقدّسة في مدينتي حيفا وعكّا، حيث نقل رفات الباب، وحيث سُجن ودُفن بهاء الله عام 1892.

يعترف الدّين البهائيّ بأن كلّ الأديان السّابقة سماويّة في أصلها، متّحدة في أهدافها، متكاملة في وظائفها، متّصلة في مقاصدها، جاءت جميعًا بالهدي لبني الإنسان. ولا يخالف الدّين البهائيّ في جوهره المبادئ الرّوحانيّة الخالدة الّتي أُنزلت على الأنبياء والرّسل السّابقين، وإنّما تباينت عنها تعاليمه وأحكامه وفقًا لمقتضيات العصر ومتطلّبات الرّقيّ والحضارة، وأتت بما يجدّد الحياة في هياكل الأديان، وهيّأت ما يزيل أسباب الخلاف والشّقاق، وأتت بما يقضي على بواعث الحروب، وأظهرت ما يوفّق بين العلم والدّين، وساوت حقوق الرّجال والنّساء توطيدًا لأركان المجتمع. هذا بعض ما يقدّمه الدّين البهائيّ لإنقاذ عالم مضّطرب وحماية انسانيّة محاطةٍ بخطر الفناء. ما لم يتجدّد تفكيرها وتتطوّر أساليبها لتتمشّى مع احتياجات عصر جديد.

إنّ مبادئ وأحكام الدّين البهائيّ الّتي أعلن بهاء الله،

أنّها السّبب الأعظم والدّرياق الأتمّ لنجاة البشر واتّحاد العالم، قد أثبتت خلال القرن الأوّل لهذا الدّين قدرتها لتحقيق غاياتها: فقد أدّت إلى تطوير أفكار النّاس، وتقويم سلوك الملايين من أتباعه وألّفت منهم، مع تباين أعراقهم، وثقافاتهم، وبيئاتهم، ومكاناتهم، وثرواتهم، وسابق معتقداتهم، جامعة إنسانيّة لا شرقيّة ولا غربيّة متّحدة في مُثُلها ودوافعها وأهدافها، دائبة السّعي لرعاية مصالح الإنسانيّة جمعاء، بغض النّظر عن اختلاف الدّين والرّأي والتّفكير.

كما أظهرت الهيئات الإداريّة لهذا الدّين رغم حداثة عهدها أمانة ونزاهة في قيادتها، ورشدا في تدبيرها، وحنكة في تخطيطها، وتمتّعت بتأييد الخاضعين لها؛ وسعت لحلّ مشاكل المجتمعات الّتي وجدت فيها، وجهدت في معاونة كثير من المجتمعات المتخلّفة في مجال التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة في أنحاء العالم، وقدّمت حلولاً عمليّة للمشاكل المعضلة الّتي تواجه زماننا. إنّ هذا النّظم الجديد المتدفّق بالثّقة والحيويّة، والقادر على مواجهة المشاكل، والوفاء بالآمال المعقودة عليه، هو نظم توفّرت فيه عناصر الصّلاحية والكفاءة والنّجاح، ودلّل على أنّ تحدّيات هذا العصر ومشاكله لا يتسنّى مجابهتها إلاّ ببعث روحانيّ، وإحياء فكريّ، لا يتحققان إلاّ برسالة سماويّة جديدة.

فالأديان أُمّ الحضارات ونبع الفضائل والكمالات. وتتابعها هو الّذي مهّد طريق الرّقي الفكريّ، والسموّ الخلقيّ، والتقدّم الاجتماعيّ الّذي سلكته شعوب الأرض عبر أحقاب التّاريخ. فما من حضارة خلت من هذا الجوهر الّذي أمدّها بالقدرة والحيويّة والإلهام، وقاد أهلها إلى أوج المجد ومعارج الابتكار، ولكن إلى حين. إنّ استمرار تعاقب الأديان ليس مجرد ظاهرة مطّردة سجّلها التّاريخ فحسب، وإنّما هو العروة الوثقى الّتي تربط الإنسان

بفاطره، والقوّة الّتي تواصل إنماء خصائصه، والنّهج القويم الّذي يضمن له بلوغ الغاية الّتي خلق من أجلها، والشّرب الّذي يمدّ وجدانه بما يرقى بأدنى غرائزه إلى أفلاك المُثُل العليا، والرّبيع الّذي يجدّد فيه روح البطولة والبذل والعلا ويمدّه من حين إلى حين بالطّاقة الرّوحانيّة اللاّزمة لإنماء المواهب الكامنة في ذاته.

وتصوّر انتهاء هذه المصادر للقوى المعنويّة تصوّر تقليدي ردّده أتباع كل دين، بدافع الولاء والإخلاص، واستندوا إلى روايات حمّلوها أكثر مما تحتمل، ولكن حقيقة الأمر أنّ هذا التّصوّر لا يعتمد على فهم صحيح لمعاني الكتب السّماويّة، ولا يستند إلى حقيقة علميّة، ولا يستقيم مع الغايات الّتي تتوخّاها الأديان، ولا يصمد للتّحليل والبحث المنزَّهَيْن عن التّعصُّب والتّزمّت.

إنّ المسلّمات القديمة الّتي يطرحها الدّين البهائي على بساط البحث من جديد، والمفاهيم الواضحة الّتي يقدّمها لمن يعنيهم دراسة الأديان على أسس جديدة، والحلول الّتي يقدّمها لإعادة تنظيم الحياة الفرديّة والجماعيّة على السّواء، تفتح أمام المتطلّعين لغد أفضل آفاقًا فسيحة لما يمكن أن يقود العالم إلى التّعاون والوحدة والاتّفاق.

لا يمكن لمحاولة عاجلة كهذه للتّعريف بالحقائق الأساسيّة للدّين البهائيّ إلاّ أن تكتفي بموجز لبعض المبادئ الّتي تدور حولها تعاليمه وأحكامه، ونذر يسير من أحداث تاريخه، وعرض سريع لآراء بعض من عرفوه عن كثب، ومقتطفات وجيزة من نصوصه وآياته. هذا ما ستسعى لتقديمه الصّفحات التّالية، في جهد متواضع لا يكاد يفي بالغاية، ولكن الأمل معقود على أن يكون فيما تعرضه ما يحثّ القارئ على مداومة البحث بدافع المسئولية والسّعي وراء الحقيقة.

مِن مَبَادِئ الدّين البَهَائيّ

نعني بالمبادئ تلك الأصول المستخلصة من الآيات والألواح المنزّلة في هذا الدّور الجديد، والّتي يعتبرها البهائيّون هاديًا لهم وتوجيهًا إلهيًّا يحدّد معالم الشّوط الحاليّ من المسيرة الإنسانيّة، ويجدون فيها الأساس الّذي ستشاد عليه الحضارة العالميّة المقبلة. فالمبادئ بهذا التّصوّر هي بمثابة أهداف تدور حولها وتسدّد إليها جهود وموارد وإمكانات كلّ من الأفراد والجماعات على السّواء. ويضع البهائيّون مبادئ وأحكام دينهم موضع التّنفيذ، ويركّزون جهدهم لتحقيق مضمونها في حياتهم اليوميّة، وهذا ما يميّز هذه المبادئ عن الشّعارات الجذّابة التي تزخر بها أقوال فلاسفة ومفكّري هذا العصر، دون أن نلمس لها أثرًا يذكر في الحياة العمليّة.

من المبادئ الّتي جاء بها الدّين البهائيّ مبدأ وحدة الأديان ودوام تعاقبها. وينطلق هذا المبدأ من حقيقة ما فتئت تزداد وضوحًا، وهي أن الأديان واحدة في أصلها وجوهرها وغايتها، ولكن تختلف أحكامها من رسالة إلى أخرى تبعًا لما تقتضية الحاجة في كل زمان، وفقًا لمشكلات العصر الّذي تُبعث فيه هذه الرّسالات. للبشريّة في كل طور من أطوار تقدّمها، مطالب وحاجات تتناسب مع ما بلغته من رقّي ماديّ وروحانيّ، ولا بدّ من ارتباط أوامر الدّين ونواهيه بهذه الحاجات والمطالب. فالمبادئ والتّعاليم والأحكام الّتي جاء بها الأنبياء والرّسل، كانت بالضّرورة على قدر طاقة النّاس في زمانهم وفي حدود قدرتهم على استيعابها، وإلاّ لما صلحت كأداة لتنظيم ومعيشتهم والنّهوض بمداركهم في مواصلة التّقدم نحو الغاية الّتي توخّاها خالقهم.

يؤمن البهائيّون إذًا بأن الحقائق الدّينيّة نسبيّة وليست مطلقة، جاءت على قدر طاقة الإنسان وإدراكه المتغيّر من عصر إلى عصر، لا على مقدار علم أو مكانة الأنبياء والمرسلين. ويؤمن البهائيّون أيضًا باتّحاد الأديان في هدفها ورسالتها، وفي طبيعتها وقداستها، وفي لزومها وضرورتها، ولا ينال من هذه الوحدة، كما رأينا، تباين أحكامها أو اختلاف مناهجها. لهذا لا يزعم البهائيّون أن دينهم أفضل الأديان أو أنّه آخرها، وإنّما يؤمنون أنّه الدّين لهذا العصر، الدّين الّذي يناسب مدارك ووجدان الإنسان في وقتنا وزماننا، والدّين الّذي يعدّ إنسان اليوم لإرساء قواعد الحضارة القادمة، وفي هذا وحده تتلخّص علّة وجوده وسبب اختلاف أحكامه عن أحكام الأديان السّابقة.

ومن مبادئ الدّين البهائي السّعي إلى الكمال الخلقي، فالغاية من ظهور الأديان هي تعليم الإنسان وتهذيبه. ما من دين حاد عن هذا الهدف الجليل الّذي ينشد تطوير الإنسان من كائن يحيا لمجرّد الحياة ذاتها، إلى مخلوق يريد الحياة لما هو أسمى منها، ويسعى فيها لما هو أعزّ من متاعها وأبقى، ألا وهو اكتساب الفضائل الإنسانيّة والتّخلّق بالصّفات الإلهيّة تقرّبًا إلى الله. والقرب إليه ليس قربًا مكانيًّا أو زمانيًّا، ولكن قرب مشابهة والتّحلّي بصفاته وأسمائه. ويفرض هذا المبدأ على البهائيّ واجبين: واجبه الأوّل السّعي الدائب للتّعرّف على ما أظهر الله من مشرق وحيه ومطلع إلهامه. وواجبه الثّاني أن يتّبع في حركته وسكونه، وفي ظاهره وباطنه ما حكم به مشرق الوحي. فالعمل بما أنزل الله هو فرع من عرفانه، ولا يتمّ العرفان إلاّ به. وليس المقصود بعرفان الإنسان لصفات الله التّصوّر الذهنيّ لمعانيها، وإنّما الاقتداء بها في قوله وعمله وفي ذلك تتمثّل العبوديّة الحقّة لله تنزّه تعالى عن كلّ وصف وشبه ومثال.

ومن مبادئ الدّين البهائيّ ضرورة توافق العلم والدّين. بالعلم والدّين تميّز الإنسان على سائر المخلوقات، وفيهما يكمن سرّ سلطانه، ومنهما انبثق النّور الّذي هداه إلى حيث هو اليوم، وما زالا يمدّانه بالرّؤية نحو المستقبل. العلم والدّين سبيلان للمعرفة. فالعلم يمثل ما اكتشفه عقل الإنسان من القوانين الّتي سنّها الخالق لتسيير هذا الكون، وأداته في ذلك الاستقراء: فيبدأ بالجزئيّات ليصل إلى حكم الكلّيّات. والدّين هو ما أبلغنا الخالق من شئون هذا الكون، ونهجه في تفصيل ذلك هو الاستنتاج: استنباط حكم الجزئيّات من الكلّيّات. فكلاهما طريق صحيح إلى المعرفة، ويكمّل أحدهما الآخر، ولعلّ اختلاف الدّين عن العلم ناتج عن فساد أسلوب مِراسنا، لأنّهما وجهان لحقيقة واحدة.

طالما تعاون العلم والدّين في خلق الحضارات وحلّ ما أشكل من معضلات الحياة. فالدّين هو المصدر الأساسيّ للأخلاق والفضائل وكلّ ما يعين الإنسان في سعيه إلى الكمال الرّوحانيّ، بينما يسمح العلم للإنسان أن يلج أسرار الطّبيعة ويهديه إلى كيفيّة الاستفادة من قوانينها في النّهوض بمقوّمات حياته وتحسين ظروفها. فبهما معًا تجتمع للإنسان وسائل الرّاحة والرّخاء والرّقي مادّيًّا وروحانيًّا. هما للإنسان بمثابة جناحي الطّير، على تعادلهما يتوقّف عروجه إلى العُلى، وعلى توازنهما يقوم اطّراد فلاحه. إن مال الإنسان إلى الدّين دون العلم، سيطرت على فكره الشّعوذة والخرافات، وإن نحا إلى العلم دون الدّين، سيطرت على عقله المادّيّة، وضعف منه الضّمير. واختلافهما في الوقت الحاضر هو أحد الأسباب الرّئيسيّة للاضطراب في المجتمع الإنسانيّ، وهو اختلاف مرجعه انطلاق التّفكير العلميّ حرًّا، مع بقاء التّفكير الدّينيّ في أغلال الجمود والتّقليد.

ومن مبادئ الدّين البهائيّ نبذ جميع التّعصّبات. فالتّعصّبات أفكار ومعتقدات نسلّم بصحتها ونتّخذها أساسًا لأحكامنا، مع رفض أي دليل يثبت خطأها أو غلوّها، وعلى هذا تكون التّعصّبات جهالة من مخلّفات العصبيّة القبليّة. وأكثر ما يعتمد عليه التّعصب هو التّمسك بالمألوف وخشية الجديد، لمجرد أن قبوله يتطلّب تعديلاً في القيم والمعايير الّتي نبني عليها أحكامنا. فالتّعصّب نوع من الهروب، ورفض لمواجهة الواقع.

بهذا المعنى، التّعصب أيّا كان جنسيًّا أو عنصريًّا أو سياسيًّا أو عرقيًّا أو مذهبيًّا، هو شرّ يقوّض أركان الحقّ ويفسد المعرفة، بقدر ما يدعّم قوى الظّلم ويزيد سيطرة حريّته قوى الجهل. وبقدر ما للمرء من تعصّب يضيق نطاق تفكيره وتنعدم حرّيّته في الحكم الصّحيح. ولولا هذه التعصّبات لما عرف الناس كثيرًا من الحروب والاضطهادات والانقسامات. ولا زال هذا الدّاء ينخر في هيكل المجتمع الإنسانيّ، ويسبّب الحزازات والأحقاد الّتي تفصم عرى المحبّة والوداد. إنّ البهائية بإصرارها على ضرورة القضاء على التّعصّب، إنّما تحرِّر الإنسان من نقيصة مستحكمة، وتبرز دوره في إحقاق الحقّ وأهمّية تحلّيه بخصال العدل والنّزاهة والإنصاف.

ومن مبادئ الدّين البهائيّ وحدة الجنس البشريّ. الاتّحاد هدف بعيد المدى أنهجتنا سبيله الأديان منذ القدم، فوطّدت أركان الأسرة، فالقبيلة، فدولة المدينة، فالأمّة، وعملت على تطوير الإنسان من البداوة إلى الحضارة، وتوسيع نطاق مجتمعه بالتئام شعوب متنابذة في أمّة متماسكة، إعدادًا ليوم فيه يلتقي البشر جميعًا تحت لواء العدل والسّلام في ظلّ وهدي الحقّ جلّ جلاله.

حقيقةً، لم ينفرد الدّين وحده كقوّة جامعة للبشر، فقد اتّحدت أقوام كثيرة استجابة لدوافع قوميّة أو اقتصاديّة أو دفاعيّة،

ولكن امتاز الاتّحاد القائم على الانتماء الدّينيّ عن غيره بطول أمده ورسوخ دعائمه في وجدان أبناء العقيدة الواحدة. وإن لم يخل، مع الأسف، تاريخ الأديان أيضًا من الانقسامات والانشقاقات الّتي استنزفت كثيرًا من الموارد البشريّة والاقتصاديّة.

الاتّحاد هدف نبيل في حدّ ذاته، ولكنّه أضحى اليوم ضرورة تستلزمها المصالح الحيويّة للإنسان. فالمشاكل الكأداء الّتي تهدّد مستقبل البشريّة مثل حماية البيئة من التّلوث المتزايد، واستغلال الموارد الطبيعيّة في العالم على نحو عادل، وإلحاح الحاجة إلى الإسراع بمشروعات التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة في الدّول المتخلّفة، وإبعاد شبح الحرب النّوويّة عن الأجيال القادمة، ومواجهة العنف والتّطرف اللّذين يهددان بالقضاء على الحريّات الفرديّة، كلّ هذه، وعديد من المشاكل الأخرى، يتعذر معالجتها على نحو فعّال إلاّ من خلال تعاون وثيق مخلص على الصّعيد العالميّ.

علّمنا التّاريخ، كما تعلّمنا أحداث الحاضر المريرة، أنّه لا سبيل لنزع زؤام الخصومة والضّغينة والبغضاء وبذر بذور الوئام بين الأنام، ولا سبيل لمنع القتال ونزع السّلاح ونشر لواء الصّلح والصّلاح، ولا سبيل للحدّ من الأطماع والسّيطرة والاستغلال، إلاّ بالاعتصام بتعاليم دين جديد وتشريع سماويّ تتناول أحكامه تحقيق هذه الغايات. من خلال نظام بديع يقوم على إرساء قواعد الوحدة الشّاملة لبني الإنسان.

ومن مبادئ الدّين البهائيّ تحقيق التّضامن الاجتماعيّ. لقد كان وما زال العوز داء يهدّد السّعادة البشريّة والاستقرار الاجتماعيّ، ومن ثمّ توالت المحاولات للسّيطرة عليه. وإن صادف بعضها نجاحًا محدودًا، إلاّ أنّ الفقر قد طال أمده واستشرى خطره في وقتنا الحاضر، وهو أقوى عامل يعوّق جهود الإصلاح

والتّنمية في أكثر المجتمعات. وقد امتدّت شروره الآن إلى العلاقات بين الدّول لتجعل منه وممّا ينجم عنه من تخلّف، أزمة حادّة عظيمة التّعقيد.

إن كانت المساواة المطلقة مستحيلة وعديمة الجدوى، فإنّ من المؤكّد أنّ لتكديس الثّروات في أيدي الأغنياء مخاطر ونكسات لا يستهان بهما. ففي تفشّي الفقر المدقع إلى جوار الغنى الفاحش مضار محقّقة تهدّد السّكينة الّتى ينشدها الجميع، وإجحاف يدعو إلى إعادة التّنظيم والتّنسيق حتّى يحصل كلّ على نصيب من ضرورات الحياة الكريمة. وإن كان تفاوت الثّروات أمرًا لا مفرّ منه، فإنّ في الاعتدال والتّوازن ما يحقّق كثيرًا من القيم والمنافع، ويتيح لكلّ فرد حظًّا من نعم الحياة. لقد أرسى بهاء الله، جلّ ذكره، هذا المبدأ على أساس دينيّ ووجدانيّ، كما أوصى بوضع تشريع يكفل المواساة والمؤازرة بين بني الإنسان، كحقّ للفقراء، بقدر ما هما واجب على الأغنياء.

ومن مبادئ الدّين البهائيّ المساواة في الحقوق والواجبات بين الرّجال والنّساء. لا تفترق ملكات المرأة الرّوحانيّة وقدراتها الفكريّة والعقليّة، وهما جوهر الإنسان، عمّا أوتي الرّجل منهما. فالمرأة والرّجل سواء في كثير من الصّفات الإنسانيّة، وقد كان خَلْقُ البشر على صورة ومثال الخالق، لا فرق في ذلك بين امرأة ورجل. وليس التّماثل الكامل بين الجنسين في وظائفهما العضويّة شرطًا لتكافئهما، طالما أنّ علّة المساواة هي اشتراكهما في الخصائص الجوهريّة، لا الصّفات العرضيّة. إنّ تقديم الرّجل على المرأة في السّابق كان لأسباب اجتماعيّة وظروق بيئيّة لم يعد لهما وجود في الحياة الحاضرة. ولا دليل على أنّ الله يفرّق بين الرّجل والمرأة من حيث الإخلاص في عبوديّته والامتثال

لأوامره؛ فإذا كانا متساويين في ثواب وعقاب الآخرة، فَلِمَ لا يتساويان في الحقوق والواجبات إزاء أمور الدّنيا؟

المساواة بين الجنسين هي قانون عام من قوانين الوجود، حيث لا يوجد امتياز جوهريّ لجنس على آخر، لا على مستوى الحيوان، ولا على مستوى النّبات. والظّنّ قديمًا بعدم كفاءة المرأة ليس إلاّ شبهة مرجعها الجهل وتفوّق الرّجل في قواه العضليّة.

عدم اشتراك المرأة في الماضي اشتراكًا متكافئًا مع الرّجل في شئون الحياة، لم يكن أمرًا أملته طبيعتها بقدر ما برّره نقص تعليمها وقلّة مرانها، وأعباء عائلتها، وعزوفها عن النّزال والقتال. أمّا وقد فُتحت اليوم أبواب التّعليم أمام المرأة، وأتيح لها مجال الخبرة بمساواة مع الرّجل، وتهيّأت الوسائل لإعانتها في رعاية أسرتها، وأضحى السّلام بين الدّول والشّعوب ضرورة تقتضيها المحافظة على المصالح الحيويّة للجنس البشريّ، لم يعد هناك لزوم لإبقاء امتياز الرّجل بعد زوال علّته وانقضاء دواعيه. إنّ تحقيق المساواة بين عضوي المجتمع البشريّ يتيح الاستفادة التّامة من خصائصهما المتكاملة، ويسرع بالتّقدم الاجتماعيّ والسّياسيّ، ويضاعف فرص الجنس البشريّ لبلوغ السّعادة والرّفاهيّة.

ومن مبادئ الدّين البهائيّ إيجاد نظام يحقق الشّروط الضّروريّة لاتّحاد البشر. وبناء هذا الاتّحاد يقتضي دعامة سندها العدل لا القوّة، وتقوم على التّعاون لا التّنافس، وغايتها تحقيق المصالح الجوهريّة لعموم البشر، ويكون نتاجها عصرًا يجمع بين الرّخاء والنّبوغ على نحو لم تعرفه البشريّة إلى يومنا هذا. وقد فصّل بهاء الله أُسس هذا النّظم البديع في رسائله إلى ملوك ورؤساء دول العالم في عصره، أمثال ناﭘﻠﻴﻮن الثّالث، والملكة ﭭكتوريا، وناصر الدّين شاه، ونيقولا الأوّل، وبسمارك، وقداسة

البابا بيوس التّاسع، والسّلطان عبد الحميد، فدعاهم للعمل متعاضدين على تخليص البشريّة من لعنة الحروب وتجنيبها نكبات المنافسات العقيمة. قوبل هذا النّظم العالمي آنذاك بالاستنكار لمخالفته لكلّ ما كان متعارفًا عليه في العلاقات بين الدّول. لكن أصبحت المبادئ الّتي أعلنها مألوفة، يراها الخبراء والمفكّرون اليوم من مسلّمات أيّ نظام عالميّ جاد في إعادة تنظيم العلاقات بين المجموعات البشريّة على نمط يحقّق ما أسلفنا ذكره من الغايات. ومن أركان هذا النّظم:

  • نبذ الحروب كوسيلة لحلّ المشاكل والمنازعات بين الأمم، بما يستلزمه ذلك من تكوين محكمة دوليّة للنّظر فيما يطرأ من منازعات، وإعانة أطرافها للتّوصّل إلى حلول سلميّة عادلة.
  • تأسيس مجلس تشريعيّ لحماية المصالح الحيويّة للبشر وسنّ قوانين لصون السّلام في العالم.
  • تنظيم إشراف يمنع تكديس السّلاح بما يزيد عن حاجة الدّول لحفظ النّظام داخل حدودها.
  • إنشاء قوّة دوليّة دائمة لفرض احترام القانون وردع أي أمّة عن استعمال القوّة لتنفيذ مآربها.
  • إيجاد أو اختيار لغة عالميّة ثانويّة تأخذ مكانها إلى جانب اللّغات القوميّة تسهيلاً لتبادل الآراء، ونشرًا للثّقافة والمعرفة، وزيادة للتّفاهم والتّقارب بين الشّعوب.

مِن تَاريخ الدّين البَهَائيّ

بدأ التّاريخ البهائيّ بإعلان الدّعوة البابيّة في عام 1844، وهي ذاتها تهيئة لقدوم دعوة أُخرى، تتحقّق بظهورها نبوءات الأنبياء والرّسل السّابقين، ألا وهي الدّعوة البهائيّة. وقد مهّدت الفرقة الشّيخيّة قبل البابيّة لهذا الحدث الجلل، بفضل عالمين جليلين من أئمة الشّيعة الإثني عشريّة. مرّت أحداث التّاريخ البهائيّ بمراحل عدّة لكلّ منها خصائص مميّزة، وإن كانت متّصلة بلا انفصام، بحيث لا يبين مدلولها الكامل إلاّ برؤيتها كوحدة متكاملة. ولكن رغبة في إيضاح وإبراز مغزى أحداث هذا التّاريخ الحافل، يمكن تقسيمه إلى دورتين: دورة البشير أو البابيّة، ودورة الظّهور أو البهائيّة، تسبقهما مرحلة إعداديّة تتمثّل في تعاليم الفرقة الشّيخيّة. هذا التّقسيم، وما ينضوي تحته من تقسيم أكثر تفصيلا، لا يحمل معنى خاصًّا، ولا يعدو عن كونه ترتيبًا منهجيًّا لدراسة التّاريخ وسهولة استيعابه.

مرحلة الإعداد أو الشّيخيّة

ساد في أوائل القرن التّاسع عشر بين أتباع الدّيانات المختلفة شعور باقتراب تحقّق نبوءات آخر الزّمان، المؤكّدة لرجوع المسيح، أو ظهور الإمام الغائب، أو مجيء المهدي المنتظر، وأنكر آخرون احتمال ذلك. وسط هذه التّكهّنات، ظهرت فرقة الشّيخيّة الّتي أسّسها الشّيخ أحمد بن زين الدّين بن إبراهيم الإحسائيّ، المولود بشبه الجزيرة العربيّة عام 1743.

اهتمّ الإحسائي بإصلاح معتقدات الشّيعة: فقال بأنّ الإمام الموعود لن يخرج من الخفاء، وإنّما سيولد في صورة شخص من أشخاص هذا العالم، وإنّ المعاد يكون بالجوهر لا بالعنصر الترابيّ، فالجسد يبلى بعد الموت، أمّا الحشر والنّشر فيكون بالرّوح وهو من الجواهر. توفّي الشّيخ سنة 1826 ودفن بالبقيع، بالمدينة المنوّرة.(1)

تابع أبحاث الإحسائي من بعده تلميذه الشّيخ كاظم الرّشتي، وواصل رؤى شيخه في ظهور "الموعود" وعدّد لتلاميذه أوصافه وعلاماته، وأعلن في أواخر أيّامه أنّ تعاليم الشّيخيّة قد استوفت غرضها في التّهيئة لمجيئة، وأوصى تلاميذه بالتّشتّت بحثًا عنه. فما أن توفّاه الله حتى هاموا في أرجاء إيران بحثًا عن الموعود. (2)

رسالة البشير أو البابيّة

كانت دروة البشير أو المبشّر قصيرة المدى، لم تتعدَّ ثماني سنوات، ولكنها حفلت بآيات البطولة، وتجلّت فيها روح الفداء بالنّفس والنّفيس في سبيل الله. ويمكن، لإبراز مغزى أحداث هذه الدّورة، تقسيمها إلى ثلاث مراحل: مرحلة الكشف، ومرحلة الإعلان، ومرحلة الاستقلال.

مرحلة الكشف

جرت معظم أحداثها في مدينة شيراز، وأهمّها كشف النّقاب عن أمر الباب، وإنّ بقي أمره طوال هذه المرحلة، منحصرًا في عدد محدود من أتباعه، بينما كرّس حضرته جهده لتلقينهم تعاليم دعوته، وإعدادهم للمهام الجسيمة الّتي تنتظرهم، وتنتهي هذه

المرحلة باجتماع الباب بتلاميذه الثّمانية عشر، وإبلاغهم مهام كلّ منهم، وأمرهم بالتّشتّت في أنحاء البلاد.

تفصيلاً لهذا الإجمال، نعود بالأحداث إلى تلاميذه السّيّد كاظم الرّشتي. في غضون عام من انتشارهم بحثًا عن "القائم"، التقى أحد أئمتّهم، الملاّ حسين بشروئي، بالسّيّد علي محمد، أحد تجّار وأعيان مدينة شيراز، الّذي دعاه إلى منزله. وسرعان ما انبهر الملاّ حسين بشخص مضيفه، إذ وجده فذًّا في رقّته ووقار شخصيّته، فريدًا في وداعته وصفاء سريرته، جذّابًا في حديثه، قويًّا في منطقه، يأسر مستمعيه بسحر بيانه. وفي الهزيع الأوّل من تلك اللّيلة الخامسة من جمادى الأولى 1260ﻫ - الموافقة لليلة 22 مايو (أيّار) 1844م – كشف السّيد علي محمّد لضيفه النّقاب عن حقيقة كينونته: إنّه هو الباب - وهو لقب يبيّن أنّه مقدّمة لمجيء "من يظهره الله" – ذات "الظهور" الّذي بشّر بقرب مجيئه الشّيخان، أحمد الإحسائي وكاظم الرّشتي، وجاء ذكره في الدّيانات السّابقة بأسماء وأوصاف متباينة في ظاهرها، متوافقة في جوهرها وحقيقتها.

في أوّل الأمر، ساور الشّكّ قلب الملاّ حسين، وهو أخصّ تلامذة السّيد كاظم، الملمّ بكلّ أقواله عن الموعود وأوصافه وعلاماته، وهو الفقيه الّذي أعدّ نفسه للتّعرّف على "الموعود"، فطلب الدّليل تلو الدّليل، حتّى نزلت في حضوره سورة "قيّوم الأسماء". رأى الملاّ حسين في الهيمنة، والاقتدار، والإلهام، المتجلّي أمام ناظريه، اليقين القاطع، والبرهان السّاطع على نزول الوحي، فأذعن إلى نداء الله، وكان أوّل من صدّق بالباب الّذي لُقّب أيضًا بالنّقطة الأولى، وحضرة الأعلى.

ولمّا بلغ عدد المصدّقين بالدّعوة الجديدة ثمانية عشر، معظمهم من تلامذة السّيد كاظم، اجتمع بهم حضرة الباب، وأمرهم بالانتشار في الأرض، مذكّرًا إيّاهم بأنّهم حملة لواء الله في هذا اليوم العظيم، وأمرهم أن يتحلّوا بصفات الله وأسمائه الحسنى، ويكونوا في أقوالهم وأعمالهم مصداقًا لتقوى الله وقدرته وجلاله. وأن يشهد حلّهم وترحالهم على نبل مقصدهم، وكمال فضائلهم، وصدق إيمانهم، وخلوص عبوديّتهم.

خرج حضرة الأعلى بعد ذلك حاجًّا، وبعد أن أعلن دعوته إلى شريف مكّة المكرّمة، عاد إلى مدينته، شيراز، ليواجه معارضة علمائها المستكبرين، وشرّ حاكمها العاتي.

مرحلة الإعلان

بدأ خطاب الباب إلى تلاميذه المرحلة الثّانية في تاريخ دعوته، مرحلة الإعلان، الّتي امتدّت فترتها حتى سجنه في قلعة ماه كوه. تميّزت هذه المرحلة باعتناق عدد من خاصة علماء الشّيعة الدّعوة البابيّة، وانتشار أمر حضرة الأعلى في أنحاء بلاد إيران، ولكن فشلت مع ذلك مساعيه للقيام شخصيًّا بإبلاغ الدّعوة للملك محمد شاه. كما شاهد ختام هذه المرحلة انضمام السّلطة المدنيّة إلى رجال الدّين في مقاومة هذه الدّعوة الجديدة، وصدور أمرها بسجن الباب.

تفصيلاً لأحداث هذه المرحلة الدّقيقة نعود إلى سفر حضرة الأعلى إلى بيت الله الحرام. أتاح غياب حضرته الفرصة للمغرضين لينشروا الأكاذيب عنه، وليثيروا الفتنة ضدّه في مدينة شيراز، فلمّا عاد من حجّه عمل على تهدئة خواطر النّاس فيها،

وعندما اجتمع علماء المدينة لحواره، وواجهوه بكثير من الاتّهامات الكاذبة، رأى حضرته الاكتفاء بإنكار الأباطيل المنسوبة إليه، دون الدّخول في شرح بعثته، فأشاع مناوئوه أنّه رجع عن دعوته، بينما الواضح من كلامه أنّه تبرّأ من مفترياتهم، دون أن يتطرّق إلى إنكار أو إثبات صدق دعوته.

حمل الاهتمام المتزايد بأمر الباب شاه إيران على إرسال أوثق علمائه لتحرّي الحقيقة، فبعث بالسّيد يحيى الدّارابي، الّذي باحث حضرة الأعلى عدّة مرّات، انتهى بعدها إلى التّصديق بدعوته، فاتّهمه العلماء بالجنون، مع أنّهم كانوا يعتبرونه حتى إعلان إيمانه بدعوة الباب أرسخهم علمًا، وأجدرهم بمحاجاة الباب ودحض دعوته. بعث بعد ذلك، الملاّ محمد علي الزّنجاني، من كبار مجتهدي الشّيعة في زمانه، أحد خاصّته لبحث أمر الباب، وما أن عاد رسوله حتّى أنهى الملاّ محمّد مجلس تدريسه معلنًا عبارته الشّهيرة: "طلب العلم بعد الوصول إلى المعلوم مذموم".

قرّر علماء شيراز في أعقاب ذلك التّخلّص من الباب، ولكن في ذات اللّيلة الّتي قبض فيها عليه، فتك الوباء فجأة بمدينة شيراز وأثار الذّعر بين أهلها، فأمر حاكمها بإطلاق سراحه، وطلب منه مغادرتها. قصد حضرة الأعلى مدينة إصفهان، ولكن أفتى علماؤها بكفره. ولمّا دعاهم حاكمها ليباحثوا الباب في أمره، رفضوا متعلّلين بأنّ المناظرة تجوز فيما أشكل، أمّا خروج الباب على الشّرع فواضح كالشّمس في رائعة النّهار. وواصل علماء إصفهان الشّكوى إلى ساحة الملك، فصدر الأمر بإقصاء الباب إلى قلعة ماه كوه ثم قلعة ﭽﻬﺭيق بإقليم آذربيجان.

مرحلة الاستقلال

بدخول الباب إلى السّجن بلغت دعوته مرحلة الاستقلال. إذ أتاح السّجن له الوقت لشرح دعوته وبيان أهدافها، كما سهّل على المؤمنين الاتّصال به بعيدًا عن مكائد الأعداء، فتجلّى استقلال الدّعوة الجديدة، واجتمع أقطابها ببدشت لتأكيد هذا الاستقلال. انتهت هذه المرحلة الثّالثة بتآمر السّلطتين المدنيّة والدّينيّة على قتل الباب، ونجاحهما في تنفيذ مأربهما الشّنيع علنًا.

تفصيل أحداث هذه المرحلة يبدأ بأسباب سجن حضرة الأعلى في إقليم آذربيجان بالذّات. فقد كان اختيار الوزير أقاسي قلعة ماه كوه ثم قلعة ﭽﻬﺭيق مكانًا لسجن الباب، وكلاهما بأرض نائية في آذربيجان، على مظنّة عدم مبالاة سكّانها بهذه الدّعوة، لأنّهم من الأكراد السّنة. ولكن ما أن حضر إليها حضرة الأعلى حتى بهر أهلها بدماثة أخلاقه، ورقّة طباعه، وقوّة أيمانه، وخوارق أعماله؛ فالتفّوا حوله، ورحّبوا بكلّ من قصده، وأضحى سجنه مكانًا تأمّه الحجّاج، بعيدًا عن مكائد علماء الشّيعة؛ فزادت البابيّة انتشارًا، وزاد بذلك قلق العلماء.

وافت المنيّة في هذه الأثناء محمّد شاه، وخلفه على العرش الأمير ناصر الدّين ولمّا يتجاوز السّادسة عشر من عمره، كما تولّى ميرزا تقي خان الوزارة متصوّرًا أن إرهاب البابيّين سيوقف انتشار دعوتهم، ويكسبه تأييد العلماء. فأقحم الوزير تقي خان السّلطة المدنيّة مع السّلطة الدّينية في محاربة البابيّة. لذلك لم تُحرّك هذه السّلطة ساكنًا عندما أغار الغوغاء على البابيّين بتحريض من العلماء؛ فاغتصبوا أموالهم، وأراقوا دماءهم، ونكّلوا بذويهم، وحيثما حاول المُعْتَدَى عليهم دفع الشّرّ عن أنفسهم، اتُّهموا بإثارة الفتن والاضطرابات.

جمع الباب آنذاك أوراقه وأرسلها مع قلمه وخاتمه إلى حضرة بهاء الله في طهران إشارة إلى وشك انتهاء مهمّته. نُقل بعدها بقليل، مع أربعة من أتباعه إلى تبريز، حيث أعدّت العدّة لقتله. وفي اليوم التّالي لوصوله، أصدر علماء تبريز فتياهم بإعدام الباب بدون مواجهته، وتولّى سام خان، رئيس فرقة من الجنود الأرمن، تنفيذ الإعدام: رُبط الباب ورفيق له في مواجهة ثلّة جنود اصطفّوا في ثلاث صفوف على مرأى ومسمع الجموع المتفرّجة. ثم صدر الأمر بإطلاق البارود؛ فعلا دخّان كثيف تعذرت معه الرّؤية. وبعد انقشاع سحب الدّخان، انصعقت الجماهير لرؤية رفيق الباب قائمًا بمفرده، وقد تمزّقت الحبال الّتي قُيّد بها، دون أن يصاب هو بإذى، ولا أثر للباب نفسه.

كان الباب جالسًا داخل الغرفة الّتي اقتيد منها، يتابع في هدوء إبلاغ آخر وصاياه لأتباعه. بعد انتهائه، أبلغ حارسه المشدوه أنّ وقت شهادته قد حان، ولكن رفض الحارس، وكذلك سام خان، الاشتراك في قتله، وقرّر سام خان وجنوده الانسحاب.

لم يكن بدٌّ من إتمام المؤامرة خوفًا من زيادة انتشار الدّين الجديد. فأحضرت فرقة أخرى من الجنود، واقتيد الباب إلى ذات المكان، وأطلق الرّصاص؛ فتحقّقت بشهادته نبوءة خطّها يراعه في مستهلّ دعوته:

﴿يا سيّدي الأكبر  ما أنا بشيء إلاّ وقد أقامتني قدرتك على الأمر  ما اتّكلت في شيء إلاّ عليك  وما اعتصمت في أمر إلاّ إليك  يا بقيّة الله قد فديت بكلّي لك ورضيت السبّ في سبيلك وما تمنّيت إلاّ القتل في محبّتك  وكفى بالله العليّ معتصمًا قديمًا وكفى بالله شاهدًا ووكيلاً﴾.(3)

أثّرت الوقائع المذهلة لاستشهاد الباب على القوى العقليّة لأحد الّذين قاموا على خدمته وتعلقّوا بشخصه، فتصوّر أنّ الوفاء يفرض الانتقام له، فعزم على قتل الشّاه. من دلائل ضعف عقله، أنّه استخدم أداة لا تميت؛ فأصاب الشّاه بجروح طفيفة. لكن وجد أعداء البابيّة الفرصة من جديد للفتك بالبابيّين، وبدون تحقيق أو محاكمة اتُّهم البابيّون جميعًا بالتآمر على حياة الشّاه؛ فامتلأت السّجون بمن بقي منهم على قيد الحياة واقتيدوا أفواجًا إلى مقرّ الشّهادة.

قضت موجة الفتك والسّلب على آلاف الأبرياء، ولكن مضت دعوتهم قدمًا وامتدّ نفوذها الى شرق الأرض وغربها، وتُرجمت كتبها إلى لغات مختلفة، وأضحى مرقد الباب محجًّا تؤمّه الملايين، بينما خوت قصور الملوك والوزراء الّذين حاربوه واندكّت عروشهم كأنّها هشيم تذروه الرّياح.

طَلْعَةُ الظّهور أو البَهَائيّة

البهائيّة هي الإشراق الّذي هيّأت له الدّورة السّابقة. وأحداث الدّورتين مرتبطة، يتعذّر تحديد خطّ فاصل بينهما، إلاّ أنّ بهاء الله بيّن أنّ بعثته بدأت أيّام سجنه في سياه ﭼﺎل بطهران. ولكن لا يمكن تقيسم تاريخ هذه الدّورة بالبساطة الّتي اتّبعناها في الدّورة البابيّة، لأنّ أحداثها لا تقتصر على ما وقع منها في حياة بهاء الله فحسب، بل يشمل أيضًا ما أنجزه ابنه ومركز عهده عبد البهاء، ومن بعده شوقي ربّاني حفيد عبد البهاء ووليّ الأمر. وينبغي قبل تفصيل هذه المراحل أن نقدّم بكلمة عن صاحب هذه الدّورة.

بهاء الله هو الّلقب الّذي عُرف به ميرزا حسين علي النّوري، وهو سليل مجد وشرف، إذ كان أبوه ميرزا عبّاس المعروف بميرزا بزرﮒ، أحد النّبلاء المقرّبين إلى بلاط الملك فتح علي شاه، وحاكمًا على منطقة بروجرد ولُرستان. اتّصف بهاء الله منذ طفولته بحميد الخلال، وجميل الخصال، وتميّز بحدّة الذّكاء، ورجاحة العقل، والشّجاعة والإقدام، وأبدى منذ بكرة صباه كفاءة ومهارة فائقتين في حلّ أعقد المشاكل، وأظهر معرفة وعلمًا لَدُنيًّا أدهشا مَن حوله من كبار رجال الدّولة. ورغم كثرة ما عُرض عليه من مناصب الدّولة، انصرف كلّية إلى أعمال البِرّ، ورعاية المساكين، منفقًا ماله الخاص على الفقراء والمعوزين.

في بغداد

بعد محاولة الاعتداء على حياة الشّاه، قضى حضرة بهاء الله أربعة شهور سجينًا في طهران، ينتظر دوره للإعدام بصفته

أحد أقطاب البابيّة، ولكن نجح بعض أصدقائه القدامى في إقناع الملك بالتّحقيق في هذا الحادث، فثبتت براءته، وأطلق سراحه، ولكن أمرت السّلطات بإبعاده، وصادرت أمواله، فقصد العراق.

بعد إقامة قصيرة في بغداد قرّر بهاء الله الاعتزال في جبال السّليمانيّة حيث انقطع متعبّدًا في خلوة دامت عامين، لم يكن أحد يعلم خلالها مكانه. وعندما عُرف مكانه إنهالت عليه التّوسّلات للعودة لجمع شملهم، وتنظيم صفوفهم من جديد.

اهتمّ بهاء الله بشرح وبيان تعاليم الباب على نحو لا يمكن أن يكون إلاّ إلهامًا إلهيًّا. ومن بين مآثر هذه الفترة رسالتين على جانب عظيم من الأهميّة، ولا زالتا آيتين من آيات الإعجاز: هما الكلمات المكنونة، وكتاب الإيقان. تتعدّى الرّسالة الأولى حدود جمال التّصوير وبلاغة اللّفظ ورقّة التّعبير، إلى عمق المعنى وسموّ الفكرة، مع شدّة الاختصار وسحر البيان، وهي موجز للفضائل والإلهيّات الّتي جاءت بها الأديان سابقًا، أو كما قدّم لها بهاء الله:

﴿هذا ما نُزّل من جبروت العِزّة بلسان القُدرة والقوّة على النبيّين من قبل، وإنّا أخذنا جواهره وأقمصناه قميص الاختصار فضلاً على الأحبار، ليوفوا بعهد الله ويؤدّوا أماناته في أنفسهم، وليكونّن بجوهر التُّقى في أرض الرّوح من الفائزين﴾

وفي الرّسالة الثّانية يفيض بيانه الأحلى بتفسير آيات الكتب المقدّسة السّابقة على نحو يُبرز وحدة معانيها ومقاصدها، ويُلفت الأنظار إلى أبديّة الأديان، وعدم محدوديّة رسالاتها رغم محدوديّة أحكامها في حيّز زمانيّ. وخلت الرّسالتان من أيّ إشارة

إلى أمره الجديد، ولكن فتح كتاب الإيقان آفاقًا فسيحة أمام الفكر الدّينيّ لكلّ المهتمّين بالرّوحانيات، مهيّئًا لإعلان ظهوره المبارك. بقي بهاء الله في بغداد قرابة عشر سنوات، علت أثناءها شكوى البلاط الفارسيّ من ازدياد نفوذه في منطقة يحجّ إليها الشّيعة من إيران، وينتهز كثير منهم الفرصة ليستطلع حقائق البابيّة. وزادت مخاوف البلاط الإيرانيّ بعد زيارة عدد من أفراده – من بينهم الأمراء – لبهاء الله في منزله المتواضع. فأمر السّلطان عبد الحميد بحضوره إلى إستنبول. وبينما كان يتأهبّ ركبه للرّحيل في ربيع عام 1863، أعلن بهاء الله لأصحابه بأنّه الموعود الّذي بشّر به الباب، والّذي بظهوره تتحقق نبوءات ووعود الأديان السّابقة.

في أدرنة

تمتدّ المرحلة الثّانية من وقت هذا الإعلان الخاص إلى حين إبحار بهاء الله من تركيا، في طريقه إلى عكّا، وتتميّز بتطوّر المبادئ الّتي أعلنها الباب إلى أصول وأحكام مفصّلة، وإعلان دعوة بهاء الله إعلانًا عامًا على التّدريج، وإعداد رسائله الموجّهة الى ملوك ورؤساء الدّول، لإبلاغهم مبادئ العصر الجديد ونظامه العالمي، ودعوتهم للكفّ عن الحروب، والحدّ من التّسلّح، والاتّحاد والتّعاون لخير الشّعوب.

جرت أكثر أحداث هذه المرحلة في مدينة أدرنة على أرض القارّة الأوربيّة. فبعد وصول بهاء الله وصحبه إلى مدينة إستنبول في منتصف أغسطس (آب) 1863، من رحلة دامت ثلاثة شهور ونصف على ظهور الدّواب، خلال جبال وعرة، نما إلى علمهم قرار ترحيلهم إلى أدرنة، الّتي وصلوها يوم 12 ديسمبر (كانون أول) من نفس السّنة. واصل بهاء الله أثناء إقامته في هذه المدينة، وطيلة السّنوات الخمس التّالية، تفصيل أصول دعوته،

وشرح النبوءات والوعود الإلهيّة الخاصة بمجيئه، وتهذيب وتقويم أخلاق أصحابه وأتباعه، وبيان نظامه لحفظ الأمن في العالم، وإقامة السّلام على قواعد العدل والتّآزر، وضمّن ذلك رسائله إلى الملوك الّذين أنذرهم جمعًا وفرادى مغبّة رفض دعوته. وحاق بكلّ منهم ما أنذره مسبقا من خسران مادّي ومعنوّي – نتيجة لاستكبارهم وعدم مبالاتهم بهذه الرّسالة السّماويّة ورفضهم الانصياع لأمر الله – رغم ما كانوا عليه من عزّ مبين.

هنالك ملأ الحسد قلب أخيه لأب، ميرزا يحيى، وانتهز المناوئون الفرصة لتقّسيم الأصحاب، وشجّعوه على المضيّ في غيّه، حتى إذا ما اشتدّت حدّة الخلاف بين الأتباع، طالبوا السّلطان بإبعادهم؛ فصدر الأمر بترحيل ميرزا يحيى ومشايعيه إلى قبرص، وسجن بهاء الله وصحبه في عكّا.

في عكّا

تمتدّ المرحلة الثّالثة، من وقت وصول بهاء الله إلى سجن عكّا حتى وفاته بقربها. شهدت السّنوات الأربع والعشرون الّتي قضاها بهاء الله في عكّا ومَرجِها، إبلاغ رسائله إلى الرؤساء والملوك، ونزول الكتاب الأقدس متضمّنًا حدود وأحكام الشّريعة البهائيّة، وتفصيل نظامه العالمي، وانتشار دعوته من إيران والعراق، إلى تركيا، وروسيا، ومصر، والشّام، والهند.

أعاد سجن بهاء الله بعكّا إلى الأذهان الأحاديث المرويّة حول منزلتها. ومع ذلك لمّا ورد بهاء الله إليها يوم 31 أغسطس 1868 لم يخرج أهلها مرحّبين بمن صبغ على مدينتهم هذه القداسة، ولكن اجتمعوا ليسخروا بمن وصفه فرمان 5 ربيع الآخر 1285ﻫ بمدّعي الألوهيّة، وقضى بدون محاكمة بالسّجن مدى الحياة

على كلّ من صاحب الظّهور وأفراد عائلته، كما أنذر الأهالي مغبّة الاختلاط بهؤلاء الأشرار أو معاشرتهم. واقع الأمر أن العزلة الّتي فُرضت على بهاء الله في سجن عكّا كانت خير دعامة لهذا الظّهور المبارك، وبدأت فترة غنيّة بالتّنزيل، إذ واصل حضرته من السّجن إبلاغ دعوته إلى ملوك ورؤساء العالم، وفصّل في مئات من رسائله معالم النّظم العالمي الّذي أبدعه، وأنزل في كتاب الأقدس التّشريع الجديد، وأجاب على أسئلة المستفسرين، وحرّر كتاب عهده وميثاقه، وحدّد الهيئات والقيادات المستقبلة لإدارة أمر دينه، وبيّن وظيفة وسلطة كلّ منها، وعيّن ابنه الأرشد ليتولّى إدارة شؤون أمره وتفسير تعاليمه من بعده. وبقي في مَرْجِ عكّا حتّى صعدت روحه إلى الرّفيق الأعلى في فجر 29 مايو (أيار) 1892.

دخل بهاء الله مدينة عكّا سجينًا، وبقي فيها سجينًا زهاء ربع قرن – في قبضة طاغ لقبه السّلطان الأحمر لكثرة ما أراق من دماء – واتُّهم بالكفر، وتقويض أركان الدّين، وادّعاء الألوهيّة، وتضليل النّاس؛ فحذرته أهالي عكّا أوّل الأمر، ثم تتبّع النّاس حركاته، وتحرّوا أمره، واطّلعوا على دعوته، وتفحّصوا أقواله وأفعاله قرابة ربع قرن قضاها بينهم، فتبيّنوا كذب كلّ ما أشيع عنه. بذلك شهدت كلماتهم وعباراتهم حين تشييعهم جنازته وتأبينه(4)، وبدا من كلماتهم النّدم والأسى. كانت كلماتهم بسيطة على الفطرة، فعكّا مدينة صغيرة لم تشتهر بعلم أو أدب، ولكنّها أعربت عن مشاعر فاضت بها قلوب صادقة، رغم ما كان يمكن أن يلحق بهم من أذى لمخالفتهم الإرادة السّنيّة. كتب الأستاذ جاد عيد من أهالي عكّا راثيًا بهاء الله: "... فلا محاسن فضله تدرك، ولا مآثر عدله تعدّ، ولا فيوض مراحمه توصف، ولا غزارة مكارمه تحصر، ولا كرم أعراقه ككرم أعراق النّاس. فإنّ كلّ هذه الصّفات الّتي كان فيها آية الله في خلقه لم تكن

لتفي بوصف بعثته الشّريفة، فهو الإمام المنفرد بصفاته، والحبر المتناهي بحسناته ومبرّاته، بل هو فوق ما يصف الواصفون وينعت النّاعتون..."

ومن رثاء نظمه الشّيخ عبد الملك الشّعبي:

لقد كان ربّ الفضل والعلم والتّقى وبحر النّدى والجود والحلم والمجد

ومصباح جود في الدّجى يهتدي به بلى غاية الرّاجي واكرم من يسدي

ومن رثاء نظمه المعلّم أمين فارس من كفر يسيف:

قد كان كهفًا للبرايـا كـلّ مـن وافاه كان ينال ما يستنظر

قد كان شمس هدى وبدر فضائل ومفاخر ومآثـر لا تنكـر

ومن رثاء رشيد افندي الصّفدي من عكّا:

إمام قد حوى علمًا وفضلاً ورشدًا منه قد ظهر البهاء

بتحقيق اليقين على صلاح وزهد لا يشوبهمـا ريـاء

ومن رثاء أمين زيدان:

يا إمام الهدى ونور البهـاء إيّ لفظ يفيك حقّ العزاء

ليت شعري من لي بلفظ نبيّ فيه أرثي علامة الأنبياء

كما كذّب المؤرخ الإسّلامي، الأمير شكيب أرسلان، المفتريات الموجّهة إلى بهاء الله، فقال: "وممّا لا جدال فيه أن البهاء وأولاده بمقامهم هذه المدّة الطّويلة بعكّا أصبحوا بأشخاصهم معروفين لدى أهالي بلادنا المعرفة التّامة، بحيث صفا جوهرهم عن أن تعتوره الجهالة، وامتنعت حقيقتهم عن أن تتلاعب بها حصائد الألسنة. أمّا البهاء فقد أجمع أهل عكّا على أنّه كان يقضي وقته معتزلاً معتكفًا، وأنّه ما اطّلع له أحد على سوء، ولا مظنّة نقد، ولا مدعاة شبهة في أحواله الشّخصيّة كلّها..."(5)

وكتب محمود خير الدّين الحلبي، صاحب جريدتي وفاء العرب والشّورى الدّمشقيّتين: "...وانتقل حضرة بهاء الله إلى (البهجة) وواصل جهاده حتى أصبح كعبة الورّاد من جميع الجهات. وبدأت الهبات ترد عليه بكثرة من الأتباع والمريدين. ومع ذلك فما كان يتجاوز حدود البساطة وكان ينفق على الفقراء والمساكين، ويقضي معظم أوقاته بالصّلاة والعبادة..."(6)

مَرْكَزُ العَهْدِ

إنّ النّظم الإداريّ للدّين البهائيّ يقوم أساسًا على هيئات منتخبة بالاقتراع العام، على المستويين المحلّي والعالميّ، ولكن حين وفاة بهاء الله، لم يكن تعداد البهائيّين، ولا درجة امتزاج شرقيّهم وغربيّهم، ولا ما بين أيديهم من تفاصيل النّظم الإداريّ الجديد، يسمح بتنفيذ وحسن سير هذا النّظم؛ فعيّن بهاء الله ابنه الأرشد عبّاس أفندي، ليواصل بناء الجامعة البهائيّة العالميّة، ويرسي قواعد نظامها على نفس النّمط الرّوحاني الّذي أبدعه، ويحمي الدّين البهائيّ من التّشيّع والانشقاق، سواء بسبب خلافته أو بسبب تفسير تعاليمه وأحكامه؛ فنصّ بهاء الله على هذا التّعيين في وصيّة مكتوبة بخطّ يده، واعتبرها عهدًا وثيقًا بينه وبين المؤمنين، حتّى لا تتصدّع صفوفهم. وقام عبّاس أفندي على الأمر من بعد والده بوصفه مركز عهده، واختار لنفسه اسم عبد البهاء.

ولد عبد البهاء في عام 1844 في نفس اللّيلة الّتي أعلن فيها الباب دعوته، وأدرك عبد البهاء منزلة أبيه وهو صبيّ في التّاسعة من عمره، قبل أن يعلن دعوته بعشر سنوات، ولازمه في منفاه بالعراق وتركيا ثمّ في سجن عكّا ساهرًا على تهيئة ما يعينه على تحقيق أهداف رسالته، وقام على خدمته ومناصرته كمؤمن أسير في محبته، متفاني في طاعته، حريص على رضاه حتى اللّحظة الأخيرة من حياته.

لم تسمح ظروف النّفي والسّجن المستمرّين ليتلقّى عبد البهاء العلم في المدارس، فعلّمه والده. وأبدى منذ حداثة سنّه من مظاهر النّباهة والفطنة والنّبوغ وحدّة الذّكاء قدرًا غير مألوف

تشهد الأحاديث، والكتب، والرّسائل الّتي تركها برسوخ قدمه في العلم، وقدرته الفذّة على حسن البيان، ودقّة التّعبير، وعمق الفهم، ومعرفة دقيقة بأسرار هذا الكون. وما نُشر له حتى الآن يربو على ألف وسبعمائة رسالة، تقع في سبع مجلدات، تحوي تراثًا خالدًا للأجيال القادمة.

لم ينتهِ سجن عبد البهاء، إلاّ بعد عزل السّلطان عبد الحميد عام 1909، والإفراج عن الأبرياء المسجونين في الدّولة العثمانية. ورغم أنّه نال الحرّيّة شيخًا ناهز الخامسة والسّتين من عمره، ورغم أنّ طول سجنه قد هدّ قواه وأنهك صحّته، إلاّ أنّه بدأ أسفاره لبلاد الغرب، بعد التّوقف قليلاً في مصر، واعتلى المنابر، وتصدّر المحافل والمجالس العلميّة، وحاضر في الجامعات، وخطب في المصلّين، وناظر العلماء، وباحث المفكّرين، وناقش الأدباء، وحرّر ما لا حصر له من الرّسائل ردًّا على المستفسرين، وأبلى في ذلك كلّه بلاء لا حدّ له ولا نظير. لم يسافر ساعيًا لكسب أو شهرة، وإنما قيامًا بواجب نصح به أصحابه: ألاّ يلوذوا بالسّكون، أو يخلدوا إلى الرّاحة، وأن يطهّروا أنفسهم من التّعلّق بملذّات الحياة الفانية، ويشتروا بمتاع الدّنيا كنوزًا لا تفنى ومقرًّا في قرب الله، وأن يغتنموا الفرصة لنشر نفحات الله وسطوع نوره بين العالمين.

تناول عبد البهاء في كتبه وأحاديثه الخاصّة والعامّة موضوعات كثيرة التّنوّع عبّر فيها عن فكر بهائيّ روحًا ومعنى. بيّن أنّ وحدة العالم في طريقها إلى التّحقيق على التّدريج ولها سبع عناصر: اتّحاد في السّياسة، واتّحاد في الفكر، واتّحاد في الحرّية، واتّحاد في الدّين، واتّحاد في القوميّة، واتّحاد بين الأجناس، واتّحاد في اللّغة. وبنى حلوله لمشاكل العالم على أساس قِيَمٍ إنسانيّة، مؤكدًا أنّ التّقدّم سواء في ميادين الاقتصاد أو

الاجتماع أو العلوم والآداب والفنون، إنّما يتوقّف على مدى ما وصل إليه أفراد المجتمع في تمسّكهم بالعدل، وتقويمهم للأخلاق، وحرصهم على المصلحة العامّة قبل المصالح الخاصّة، ورغبتهم في التّعاون على البرّ والخير، وأنّ هذه وغيرها من مقوّمات الرّقي تتحقّق بالتّهذيب الدّينيّ، لا بالسّياسة ولا بالعلم ولا بالثّروة. وردّ على رسالة لمؤتمر السّلام المنعقد بلاهاي في 1899، فأوضح أنّ السّلام العالميّ بعيد المنال ما لم توضع المبادئ الرّوحانيّة والتّعاليم الّتي أعلنها بهاء الله موضع التّنفيذ. وحذّر أثناء أسفاره من وشوك اندلاع حرب عالميّة، ومن خطر الأوضاع السّائدة في بلاد البلقان. وكرّس جهودًا مضنية لإزالة الفواصل الّتي ما زالت تفرّق بين النّاس سواء كان مرجعها التّعصّب الدّيني أو التّعصّب العنصريّ أو التّعصّب القوميّ. وعلّم أنّ الأديان هي مراق للسّمو الإنسانيّ فلا يجوز أن نحوّلها إلى حواجز تفصل بين البشر.

ومن نصحه لنفر من أصحابه: "... فيجب عليكم أن تتضرّعوا وتبتهلوا آناء اللّيل وأطراف النّهار، وتسألوا الله أن يوفّقكم إلى الأعمال لا الأقوال. توجّهوا إلى الله، وصلّوا له، وناجوه، واسعوا عسى أن توفّقوا إلى عمل الخير، وأن تكونوا سببًا لغنى الفقير، وعونًا لكلّ بائس، وسرورًا لكلّ محزون، وسببًا لصحّة كلّ مريض، وسببًا لأمن كلّ خائف، ووسيلة لكلّ من لا وسيلة له، وملجأ وملاذًا لكلّ غريب، ومنزلاً ومأوى لكلّ من لا مأوى له ولا وطن. تلك هي صفة البهائيّ."

وفي 12نوفمبر (تشرين الثاني) 1911 أبان لزائريه أنّ الدّين منقسم إلى قسمين، أحدهما يتعلّق بالرّوحانيّات، وهو الأصل، والثّاني يتعلّق بالماديّات، أي المعاملات. "أمّا القسم المتعلّق بالرّوحانيّات والإلهيّات فإنّه لم يتغيّر، ولم يتبدّل، وعليه بُعث

جميع الأنبياء الّذين أسّسوا فضائل الإنسان... أمّا القسم الثّاني من الدّين، فإنّه يتغيّر ويتبدّل بمقتضى الزّمان والمكان... أساس دين الله، هو الأخلاق، وإشراق نور المعرفة، والفضائل الإنسانيّة ..."

ومن كلمة ألقاها يوم 27 أغسطس (آب)1911 بتونون لوبان بسويسرا –نقلاً عن الأهرام–: "... ولنترك الجور والطغيان، ولنلتئم التئام ذوي القربى بالعدل والإحسان، ولنمتزج امتزاج الماء بالرّاح، ولنتّحد اتّحاد الأرواح، ولا نكاد أن نؤسّس سياسة أعظم من سياسة الله، ولا نقدر أن نجد شيئًا يوافق عالم الإنسان أعظم من فيوضات الله، ولكم أسوة حسنة في الرّبّ الجليل، فلا تبدّلوا نعمة الله، وهي الألفة التّامّة في هذا السّبيل. عليكم، يا عباد الله، بترك الاختلاف، وتأسيس الائتلاف والحبّ والإنصاف والعدل وعدم الاعتساف ...".

أمّ مجالس عبد البهاء، وراسله صناديد الرّجال في العالم أمثال: الكاتب الرّوسي ليو تولستوي، والعالم السّويسري بروفسور أوجست فورل، والمستشرق أرمينيوس ﭭﺎمبري (هرمن) الأستاذ بجامعة بودابست، والأمير محمّد علي، والصّدر الأعظم مدحت باشا زعيم الإصلاح السّياسي في تركيا، والإمام محمد عبده، والأديب جبران خليل جبران، والمؤرخ والأديب السّياسي الأمير شكيب أرسلان، ورائد الصّحافة المصريّة الشّيخ علي يوسف، ومفتي الدّيار المصريّة الشّيخ محمد بخيت.

وفي ليلة 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 1921 صعد عبد البهاء إلى النشأة الأخرى، عن سبعة وسبعين عامًا. وتناقلت الصّحف الخبر بصورة تعبّر عن شعورها بفداحة الخسارة. فنشرت جريدة النّفير الصّادرة في حيفا على طول صفحتها الأولى، تحت عنوان: "خطب جلل، انتقال رجل الإنسانيّة عبد البهاء عباس." ثم استرسلت

بقولها: " رزئت الإنسانيّة بانتقال أعظم ركن من أركانها، وأشهر محسن إليها، ملأ الخافقين ذكره وشداه، العالم الكبير، والحكيم الشّهير، السّيد عباس البهائيّ".

كتبت جريدة المقطّم في 30 نوفمبر 1921: "كان رحمه الله محترمًا من جميع الّذين عاشروه، مهيبًا كريم النّفس، متّصفًا بالأخلاق السّامية، وله أتباع ومريدون معظمهم في بلدان الغرب والولايات المتّحدة...زار الفقيد القطر المصريّ قبل الحرب وأقام بضاحية الزّيتون، وعرف كبار المصريّين وفضلاءهم، وزار بعض بلدان أوربّا وأمريكا فقوبل فيها بالتّكريم، وخطب في المحافل والمعاهد والكنائس داعيًا إلى السّلام والوئام والإخاء بين البشر، والكفّ عن الحروب، والرّجوع إلى تعاليم الأنبياء والمرسلين...".

وقدمت النّفير في 6 كانون الأول (ديسمبر) وصفًا لتشييع جنازته نقتطف منه فقرات موجزة لما يلقيه هذا السّجل التاريخيّ من ضوء على منزلة عبد البهاء في قلوب معاصريه ومعاشريه: "طوّق النّعش فخامة المندوب [السّامي] وحاشيته، وحاكم المقاطعة، ومصاف العلماء الأعلام من علمانيّين ورؤساء روحانيّين، ولما وصلت مؤخّرة الموكب، كان الاجتماع مهيبًا لم ترَ حيفا نظيره، ولما ساد السّكون وقف حضرة الأديب يوسف أفندي الخطيب وارتجل خطابًا مؤثّرًا نذكر منه فيما يلي ما أمكنّا التقاطه: ... فابكوا على الفضل والأدب، اندبوا العلم والكرم، ابكوا لأجل أنفسكم لأنّكم أنتم الفاقدون، وما فقيدكم إلاّ راحل كريم من عالمكم الفاني إلى دار الأبد والأزل، ابكوا ساعة لأجل من بكى لأجلكم ثمانين عامًا...".

وعقبه إبراهيم أفندي نصّار فقال: "... أيّها الرّاقد العظيم الكريم أنت أحسنت إلينا وأرشدتنا وعلّمتنا، عشت بيننا عظيمًا بكلّ

ما تعنيه كلمة العظمة، وقد تفاخرنا بأعمالك وأقوالك، أنت رفعت منزلة الشّرق إلى أعالي ذروة المجد، قد أصلحت وهذّبت، أتممت السّعي فنلت إكليل المجد...".

وتلاه حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ محمد مراد، مفتي حيفا قائلاً: "... لا أودّ أن أبالغ في تأبين هذا الرّجل العظيم، فإنّ أياديه البيضاء في سبيل خدمة الإنسانيّة، ومآثره الغرّاء في عمل البرّ والإحسان لا ينكرها إلاّ من طمس الله على قلبه. كان عبد البهاء عظيمًا في جميع أدوار حياته، كان عصاميًّا أبيّ النّفس، شريف العواطف، سامي المبادئ، كان رضيّ الأخلاق، حسن السّيرة، اشتهر ذكره في مشارق الأرض ومغاربها. وهو لم يحرز هذه المرتبة العالية إلاّ بجدّه واجتهاده، ولم ينل في القلوب تلك المنزلة العالية وذلك المكان الرّفيع، إلاّ بمساعدته للبائس، وبإغاثته للملهوف، وبتسليته للمصاب. كان رحمه الله واقفًا على دقائق الشّريعة الإسلامية. كان عالمًا كبيرًا وأستاذًا نحريرًا...".

تلاه الأستاذ عبد الله مخلص: "إنّ شمس العلم قد غربت، وبدر التّقى قد أفل، ونجم المكارم قد هوى، وعرش الفضيلة قد ثلّ، وطود الإحسان قد دكّ، ومعالم الهدى قد تغيّرت بانتقال هذا الرّاحل الكريم من الدّار الفانية إلى الدّار الباقية".

ونختم هذه المقتطفات ببيتين من قصيدة ارتجلها حضرة فضيلة الشّيخ يونس الخطيب:

حكم الإله بموت عباس البها ربّ التّقى والفضل والعرفان

كلّ الأنام بكت وطال نحيبها لفراق من هو عين كلّ زمان

ولايَةُ أَمْرِ الله

عند صعود عبد البهاء، لم تكن الجامعة البهائيّة قد بلغت من الانتشار نحوًا يسمح بانتخاب الهيئة العليا لنظمها الإداريّ، بحيث يشترك في انتخابها ممثلون عن مختلف الشّعوب والأجناس والثّقافات في العالم؛ فأوصى عبد البهاء بولاية الأمر من بعده إلى حفيده الأرشد شوقي ربّاني، ليتمّم الخطّة الّتي وضعها، وباشر في تنفيذها، من أجل استكمال النّظم الّذي وضع أصوله بهاء الله.

ولد شوقي ربّاني بمدينة عكّا في أوّل أيار (مارس) 1897. بدأ تعليمه في مدارس حيفا، ثم انتقل إلى بيروت لمواصلة دراسته الّتي انتهت في جامعة أكسفورد. وتولّى عبد البهاء تربيته وتوجيهه بنفسه منذ طفولته، ووصفه بأنّه "أبدع جوهرة فريدة عصماء". كان شوقي ربّاني رجلاً مثاليًّا عديم النّظير، لا يحيد عن المبادئ، ولا تأخذه في الحقّ لومة لائم، ذا نظر ثاقب، ورأي صائب، ورؤية جليّة، ومنطق سليم، وتحليل عميق. جمع إلى ذلك رفاهة الحسّ، ورقّة المشاعر، وكثرة المهابة، وشدّة التّواضع. وهو مع ذلك طلق اللّسان، قويّ البيان، سلس الأسلوب، فصيح العبارة، بعيد المغزى.

تولّى الأمر وهو في عنفوان الشّباب، وكرّس حياته لرعاية المسؤليّة الّتي تركها له عبد البهاء، وعمل على تنمية إمكانات العالم البهائيّ، وإرساخ جذور هيكله الإداريّ، ليقوم بتدبير شؤون جامعة عالميّة من بعده، ويحافظ على وحدتها. وبانتهاء ولايته اجتاز الدّين البهائيّ طور الرّئاسة المتمثّلة في شخص واحد إلى رئاسة تتمثّل في هيئات منتخبة على ثلاثة مستويات: المحافل

الرّوحانية المحلّية على مستوى المدينة والقرية، والمحافل الرّوحانيّة المركزيّة على مستوى المملكة أو الجمهوريّة، وبيت العدل الأعظم على مستوى العالم.

لم تمهل المنيّة شوقي ربّاني ليشهد انتخاب بيت العدل الأعظم في ربيع 1963، إذ وافاه الأجل المحتوم ليلة 4 نوفمبر (تشرين الثاني) 1957، خمس سنوات قبل تأسيس أوّل رئاسة دينيّة جماعيّة، وهيئة تشريعيّة منتخبة بالاقتراع العام على مستوى عالميّ، اشترك في انتخابها أكثر شعوب العالم، وأجناسه، وثقافاته.

شهادة المنصفين

رغم ما واجهه الدّين البهائيّ من مقاومة واتّهامات، كما هي الحال عند ظهور كلّ دين، لم يعدم بعض العلماء والمفكّرين الشّجاعة ليصرّحوا بالحقائق الّتي عرفوها عنه وعن المنادين به، نذكر هنا بعضًا منها على سبيل المثال. نشرت الأهرام يوم 18 يونيو 1896 مقالاً يرجّح أنّ كاتبه الشّيخ محمد عبده جاء فيه: "... على أن المعروف من أحوال البهاء وبنيه الشّخصيّة، والمأثور عنهم من خلال التّرف ومزايا الكرم والتّحقّق بصفات التّهذيب والأدب، هو غير متنازع فيه، ولا ينكره إلاّ كل مكابر. وحضرة ولده الأكبر عبّاس أفندي أشهر من أن يعرّف بفضله، ويُنبّه عن نبله، وهو المعروف عند أعيان البلاد وأولياء الأمور، وقد عرفناه رجلاً ظاهر النّجابة، بادي السّراوة، فصيح اللّهجة، مهيب الطّلعة، كثير الوقار والحشمة، ذا أدب في غاية الغضاضة، وخُلق على جانب عظيم من الرّياضة ..."

سجّل الأديب والمؤرّخ الأمير شكيب أرسلان في كتابه "حاضر العالم الإسلامي" علاقته مع عبد البهاء قائلاً: "وكانت له مع هذا العاجز مراسلات متّصلة باتّصال حبل المودّة. وعمران جانب الصّداقة، ومرارًا قصدت عكّا ولا غرض لي فيها سوى الاستمتاع بأدبه الغضّ، والاغتراف من علمه الجمّ.(7)

ثمّ نوّه في نفس الكتاب بحضرة عبد البهاء:

"... كان آية من آيات الله بما جمع الله فيه معاني النّبالة، ومنازع الأصالة، والمناقب العديدة الّتي قلّ أن ينال منها أحد مناله، أو يبلغ فيها كماله، من كرم عريض، وخلق سجيج، وشغف بالخير، وولوع بإسداء المعروف، وإغاثة الملهوف، وتعاهد المساكين بالرّفد بدون ملل، وقضاء حاجات القاصدين بدون برم، هذا مع علوّ النّفس، وشغوف الطّبع، ومضاء الهمّة، ونفاذ العزيمة، وسرعة الخاطر، وسداد المنطق، وسعة العلم، ووفور الحكمة، وبلاغة العبارة، حتّى كأن فصاحته صوب الصّواب، وأقواله فصل الخطاب، وكتاباته الدّيباج المحبّر، وفصوله الوشي المنمنم، يفيض بيانه جوامع كلم، وتسيل عارضته سيل عارض منسجم، ويودّ اللّبيب لو أقام العمر بمجلسه يجني من زهر أدبه البارع، ويرد من منهل حكمته الطّيبة المشارع، استولى من المعقول على الأمد الأقصى، وأصبح في الإلهيّات المثل الأعلى، وبلغ من قوّة الحجّة، وأصالة الرّأي، وبعد النّظر، الغاية الّتي تفنى دونها المنى، حتى لو قال الإنسان أنّه كان أعجوبة عصره، ونادرة دهره، لما كان مبالغًا، ولو حكم بأنّه من الأفذاذ الّذين قلّما يلدهم الدّهر إلاّ في الحقب الطّوال، لكان قوله سائغًا..." (8)

وكتب الأديب الرّوسي ليو تولستوي: "أعطف من أعماق قلبي على الحركة البابيّة، إنّها تلقّن النّاس مبادئ الأخوّة والمساواة

والتّضحية بالحياة المادّيّة في خدمة الله. إنّ التّعاليم البابيّة الّتي جاءتنا منبعثة من الإسلام، قد تطوّرت تدريجيًّا من أثر تعاليم بهاء الله، وهي تقدّم لنا الآن أسمى صورة من التّعاليم الدّينيّة.(9)

وكتب الشّيخ الآلوسي مفتي بغداد في كتابه "نهج السّلامة في مباحث الإمامة"، مكذّبًا الاتّهامات الموجّهة إلى قرّة العين فقال: "... وهي ممّن قلّد الباب بعد موت الرّشتي، ثم خالفته في عدّة أشياء منها التّكاليف، فقيل أنّها كانت تقول بحلّ الفروج ورفع التّكاليف بالكلّية، وأنا لم أحسّ منها بشيء من ذلك، مع أنها حبست في بيتي نحو شهرين، وكم من بحث جرى بيني وبينها رُفعت فيه التّقيّة من البين..."(10)

وكتب الأستاذ علي الوردي أستاذ التاريخ بجامعة بغداد: إنّي أعتقد على أيّ حال، أنّ قرّة العين امرأةٌ لا تخلو من العبقريّة، وهي قد ظهرت في غير زمانها، أو هي سبقت زمانها بمائة سنة على أقلّ تقدير، فهي لو كانت قد نشأت في عصرنا هذا، أو في مجتمع متقدّم حضاريًّا، لكان لها شأن آخر، وربما كانت أعظم امرأة في القرن العشرين."(11)

وكتب المؤرّخ العالميّ أرنولد توينبي: "في رأيي أن البهائيّة بدون شكّ دين، ودين مستقلّ على قدم المساواة مع الإسلام والمسيحيّة أو غيرهما من الأديان المعترف بها في العالم، فالبهائيّة ليست مذهبًا تابعًا لدين آخر، بل هي دين منفرد بذاته، ولها نفس المكانة الّتي للأديان الأخرى".(12)

مِن آثار حَضرة بَهَاء الله

ختامًا لهذا العرض السّريع لبعض جوانب الدّين البهائيّ، نقتطف في السّطور التّالية كلمات لحضرة بهاء الله، حتى تتاح الفرصة للقارئ أن يتبيّن بنفسه حقيقة هذا الأمر المبارك، إيمانًا منّا بأنّ الله قد أودع في كلّ نفس مميّزة ما يعينها على التّعرّف على الحقّ من آياته وبيّناته:

"... ثم اعلم بأنّ هذا الغلام كلّما يكون ناظرًا إلى نفسه يجدها أحقر الوجود، وكلّما يرتدّ البصر إلى التّجلّيات الّتي ظهرت منها يجدها سلطان الغيب والشّهود، فسبحان الّذي بعث مظهر نفسه بالحقّ، وأرسله على كلّ شاهد ومشهود..."(13)

"... قل إنّ الحريّة في اتّباع أوامري لو أنتم من العارفين، لو اتّبع النّاس ما أنزلناه لهم من سماء الوحي ليجدنّ أنفسهم في حريّة بحتة، طوبى لمن عرف مراد الله فيما نزل من سماء مشيئته المهيمنة على العالمين. قل الحريّة الّتي تنفعكم إنّها في العبوديّة لله الحقّ، والّذي وجد حلاوتها لا يبدّلها بملكوت السّموات والأرضين."

"... قد حرّم عليكم الزّنا واللّواط والخيانة، أن اجتنبوا يا معشر المغلّين. تالله قد خلقتم لتطهير العالم عن رجس الهوى هذا ما يأمركم به مولى الورى إن أنتم من العارفين. ومن ينسب نفسه إلى الرّحمن ويرتكب ما عمل به الشّيطان، إنّه ليس منّي، يشهد بذلك كلّ النّواة والحصاة وكلّ الأشجار والأثمار وعن ورائها هذا اللّسان النّاطق الصّادق الأمين."(14)

"... إنّا أمرنا الكلّ بالمعروف ونهيناهم عن المنكر، طوبى لمن

أخذ أمر الله ونبذ ما سواه إنّه من أهل الحقّ في كتاب مبين."(15)

"... إيّاكم يا ملأ التّوحيد، لا تفرّقوا في مظاهر أمر الله ولا فيما نزّل عليهم من الآيات وهذا حقّ التّوحيد إن أنتم من الموقنين وكذلك في أفعالهم وأعمالهم وكلّ ما ظهر من عندهم ويطهر من لدنهم كلّ من عند الله وكلّ بأمره عاملين..."(16)

"... يا قوم هل تظنّون بأنّ الأمر بيدي؟ لا فونفس الله المقتدر المتعالي العليم الحكيم، فوالله لو كان الأمر بيدي ما أظهرت نفسي عليكم في أقلّ من آن وما تكلّمت بكلمة وكان الله على ذلك شهيد وعليم..."(17)

"... إنّي أنفقت روحي وجسدي لله ربّ العالمين ومن عرف الله لن يعرف دونه، ومن خاف الله لن يخاف سواه ولو يجتمع عليه كل من في الأرض أجمعين، وما نقول إلاّ بما أمرت وما نتبع إلاّ الحقّ بحول الله وقوّته وإنّه يجزي الصّادقين..."

" قل يا قوم دعوا الرّذائل وخذوا الفضائل، كونوا قدوة حسنة بين النّاس وصحيفة يتذكّر بها الأناس، من قام لخدمة الأمر له أن يصدع بالحكمة ويسعى في إزالة الجهل عن بين البريّة، قل أن اتّحدوا في كلمتكم واتّفقوا في رأيكم واجعلوا إشراقكم أفضل من عشيّكم، وغدكم أحسن من أمسكم. فضل الإنسان في الخدمة والكمال لا في الزّينة والثّروة والمال، اجعلوا أقوالكم مقدّسة عن الزّيغ والهوى وأعمالكم منزّهة عن الرّيب والرّياء. قل لا تصرفوا نقود أعماركم النّفيسة في المشتهيات النّفسيّة ولا تقتصروا الأمور على منافعكم الشّخصيّة، أنفقوا إذا وجدتم واصبروا إذا فقدتم إن بعد كلّ شدّة رخاء ومع كلّ كدر صفاء، اجتنبوا التّكاهل والتّكاسل وتمسّكوا بما ينتفع به العالم من الصّغير والكبير والشّيوخ والأرامل، قل إيّاكم أن تزرعوا زؤان الخصومة بين البريّة وشوك الشكوك في القلوب الصّافية المنيرة".

قل يا أحبّاء الله لا تعملوا ما يتكدّر به صافي سلسبيل المحبّة وينقطع به عرف المودّة، لعمري قد خلقتم للوداد لا للضّغينة والعناد، ليس الفخر لحبّكم أنفسكم بل لحبّ أبناء جنسكم، وليس الفضل لمن يحبّ الوطن بل لمن يحبّ العالم. كونوا في الطّرف عفيفًا، وفي اليد أمينًا، وفي اللسان صادقًا، وفي القلب متذكّرًا، لا تسقطوا منزلة العلماء في البهاء ولا تصغّروا قدر من يعدل بينكم من الأمراء، اجعلوا جندكم العدل وسلاحكم العقل وشيمكم العفو والفضل وما تفرح به أفئدة المقرّبين."(18)

"يا ابن الإنسان لو تكون ناظرًا إلى الفضل ضع ما ينفعك وخذ ما ينتفع به العباد، وإن تكن ناظرًا إلى العدل اختر لدونك ما تختاره لنفسك. إنّ الإنسان مرّة يرفعه الخضوع إلى سماء العزّة والاقتدار، وأخرى ينزله الغرور إلى أسفل مقام الذّلة والانكسار."(19)

"قد وجب على كلّ واحد منكم الاشتغال بأمر من الأمور من الصّنائع والاقتراف وأمثالها، وجعلنا اشتغالكم بها نفس العبادة لله الحقّ ... لا تضيّعوا أوقاتكم بالبطالة والكسالة، واشتغلوا بما ينتفع به أنفسكم وأنفس غيركم، كذلك قضي الأمر في هذا اللّوح الّذي لاحت من أفقه شمس الحكمة والبيان. أبغض النّاس عند الله من يقعد ويطلب، تمسّكوا بحبل الأسباب متوكّلين على الله مسبّب الأسباب."(20)

"... إنّ ربّكم الرّحمن يحبّ أن يرى من في الأكوان كنفس واحدة وهيكل واحد، أن اغتنموا فضل الله ورحمته في تلك الأيّام الّتي ما رأت عين الإبداع شبهها طوبى لمن نبذ ما عنده ابتغاء لما عند الله نشهد أنّه من الفائزين ..."(21)

"... قل يا قوم، زيّنوا لسانكم بالصّدق، ونفوسكم بالأمانة، إيّاكم يا قوم، لا تخونوا في شيء وكونوا أمناء الله بين بريّته، وكونوا من المحسنين، إنّ الّذين يرتكبون البغي والفحشاء أولئك ضلّ سعيهم وكانوا من الخاسرين ..."(22)

"... لا تخونوا في أموال النّاس، كونوا أمناء بينهم، لا تحرموا الفقراء عمّا أتاكم الله من فضله، وإنّه يجزي المنفقين ضعف ما أنفقوا، إنّه ما من إله إلاّ هو له الخلق والأمر، يعطي من يشاء ويمنع عمّن يشاء، وإنّه لهو المعطي الباذل العزيز الكريم ..."(23)

"... كن في النّعمة منفقًا، وفي فقدها شاكرًا، وفي الحقوق أمينًا، وفي الوجه طلقًا، وللفقراء كنزًا، وللأغنياء ناصحًا، وللمنادي مجيبًا، وفي الوعد وفيًّا، وفي الأمور منصفًا، وفي الجمع صامتًا، وفي القضاء عادلاً، وللإنسان خاضعًا، وفي الظّلمة سراجًا، وللمهموم فرجًا، وللظمآن بحرًا، وللمكروب ملجًا، وللمظلوم ناصرًا وعضدًا وظهرًا، وفي الأعمال متّقيًا، وللغريب وطنًا، وللمريض شفاءً، وللمستجير حصنًا، وللضّرير بصرًا، ولمن ضلّ صراطًا، ولوجه الصّدق جمالاً، ولهيكل الأمانة طرازًا، ولبيت الأخلاق عرشًا، ولجسد العالم روحًا، ولجنود العدل رايةً، ولأفق الخير نورًا، وللأرض الطّيبة رذاذًا، ولبحر العلم فلكًا، ولسماء الكرم نجمًا، ولرأس الحكمة إكليلاً ..."(24)

"رأس الإيمان هو التّقلّل في القول والتّكثّر في العمل، ومن كان أقواله أزيد من أعماله فاعلموا أنّ عدمه خير من وجوده، وفناءه أحسن من بقائه."(25)

"أصل الحكمة هو الخشية عن الله عزّ ذكره والمخافة من سطوته وسياطه، والوجل من مظاهر عدله وقضائه."(26)

بعض المصادر

  1. أحمد عطية، القاموس الإسلامي، الجزء 4، ص 207، مكتبة النهضة، القاهرة 1976.
  2. المرجع السابق، الجزء الأول، ص 31.
  3. نسائم الرحمن، الطبعة 2، ص5، المحفل الروحاني بشمال غرب أفريقيا.
  4. ملا محمد علي زرندي، مثنوي، المطبعة العربية بمصر، 1924.
  5. الأمير شكيب أرسلان، حاضر العالم الإسلامي، المجلد 2، الجزء 3 ص358.
  6. محمود خير الدّين الحلبي، عشر سنوات حول العالم، الجزء 1، ص41، مطبعة ابن زيدون، دمشق، 1937.
  7. مكاتيب عبد البهاء، مجلد 1، ص 117-118، مطبعة كردستان، مصر، 1910.
  8. الأمير شكيب أرسلان، المرجع السابق، ص359.
  9. الأمير شكيب أرسلان، المرجع السابق، ص358.

10- الإمام الآلوسي، نهج السلامة في مباحث الإمامة، أورده شهاب زهرائي، في فقراتي از يـﮑ نامه، ص7.

11- دكتور علي الوردي، لمحات اجتماعيّة من تاريخ العراق، الجزء 2، ص190.

12- آرنولد توينبي، The Bahá’í Faith, Information Folder, Bahá’í Publications Australia.

13- منتخباتي آز آثار حضرة بهاء الله، الطبعة 1، ص73، لجنة نشر آثار أمري بلسان فارسي وعربي، لاﻨﮔنهاين، 1984.

14- العفّة والتقديس، ص22، دار النشر البهائيّة في البرازيل،1990.

15- لئالئ الحكمة، مجلد 1، ص173، دار النشر البهائية في البرازيل، 1986.

16- منتخباتي آز آثار حضرة بهاء الله، الطبعة 1، ص46، لجنة آثار أمري بلسان فارسي وعربي، لاﻨﮔنهاين، 1984.

17- المرجع السابق، ص65.

18- مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، ص117-119، دار النشر البهائية، بلجيكا، 1980.

19- المرجع السابق، ص82.

20- المرجع السابق، ص 42.

21- منتخباتي آز آثار حضرة بهاء الله، طبعة 1، ص139، لجنة نشر آثار أمري بلسان فارسي وعربي، لاﻨﮔنهاين، 1984.

22- المرجع السابق، ص190.

23- المرجع السابق، ص178.

24- المرجع السابق، ص182.

25- مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله، ص135، دار النشر البهائية في بلجيكا، 1980.

26- المرجع السّابق ص133.

  1. ارجع إلى عكّا. في الجزء المتعلّق بالتاريخ الوارد فيها ص24.
المصادر
المحتوى