توطئة

الجامعة البهائية العالمية
مترجم

بهاء الله

أُعدّت هذه المقدمة أصلاً باللغة الإنجليزية بمعرفة مكتب الإعلام التّابع للجامعة البهائيّة العالمية – الأمم المتحدة – نيويورك 1991

Printed in England by Aurora Press Ltd. London – 1992

توطئة

يصادف اليوم التّاسع والعشرون من شهر أيّار (مايو) 1992 ذكرى مرور مائة عام على صعود بهاء الله صاحب تلك الرّؤيا التي اعتبرت الإنسانيّة شعباً واحداً والأرضَ وطناً مشتركاً لجميع البشر. وكان قادة العالم أوّل من أَعلن بهاء الله عليهم أخبار رؤياه تلك داعياً إيّاهم إلى الوحدة والاتّحاد قبل أكثر من مائة عام. لكنّ قادة العالم آنذاك تجاهلوا دعوته وانصرفوا عنها. أمّا اليوم فها هي آمال البشر قد تعلّقت بهذه الرّؤيا، ونحوها اتّجهت أنظار عالَمٍ يشهد انهياراً لا مفرّ منه في نظامَيْه الاجتماعيّ والخلقيّ، هذا الانهيار الذي نبّهنا إليه بهاء الله في إعلانه ذلك ووضّح أخطاره توضيحاً يبعث على الحذر والرّهبة.

وشجّعتنا هذه المناسبة لكي ننشر مقدّمة مختصرة عن سيرة بهاء الله وآثاره الكتابيّة المقدّسة. وقد تمَّ إعداد هذه الوثيقة بتوجيه كريم من بيت العدل الأعظم، الأُمناء المسؤولين عن تنفيذ تلك المهمّة العالميّة النّطاق، التي دفعتها إلى الوجود رؤيا بهاء الله والأحداثُ التي عاصرتها في مدّة القرن الماضي. وما هذه المقدّمة سوى منظور نلمس من خلاله مشاعر الثّقة والاطمئنان التي تملأ العالم البهائيّ كلّه في نظرته إلى مستقبل الكوكب الذي نعيش عليه، والجنس البشريّ الذي ننتمي إليه.

1

عَلى أعْتَابِ عَصْرٍ جَديدٍ

يجد الجنس البشريّ نفسه، وهو على أعتاب حقبة تاريخيّة جديدة تسجّلُ نهاية ألف عام وبداية ألف عام أخرى، في أَمسّ الحاجة إلى العثور على رؤيا تقوده إلى جوهر الوحدة إنساناً ومجتمعاً. وطوال القرن الماضي قامت الإنسانيّة، في سعيها إلى تلبية دافع الحاجة هذه، بمحاولات أسفرت عن اضطرابات عقائديّة هزّت العالم، وهي اضطرابات يبدو أنّها تلاشت الآن واضمحلّت. ورغم النّتائج المخيّبة للآمال فإنَّ حدّة المشاعر التي غذَّت كفاحَ الإنسانيّة في هذا السّبيل لَدليلٌ على عمق هذه الحاجة الملحّة. فإنّه دون أن يملأ النّفوس إيمان مشترك برؤيا موحّدة تصوّر لنا التّاريخ في مجرى أحداثه ونهاية أهدافه، يصبحُ من غير المعقول وضع أسس مجتمع عالميّ موحّد تقرّر جماهير البشر الالتزام به.

تنبسط مثل هذه الرّؤيا واضحة المعالم في آثار بهاء الله الذي ظهر في القرن التّاسع عشر الميلاديّ كصاحب رسالة تمثّل في نشأتها

ونفوذها المتعاظم أروع تطوّر في التّاريخ الدّينيّ المعاصر.

ولد بهاء الله في بلاد فارس في الثّاني عشر من شهر تشرين الثّاني (نوفمير) عام 1817. وفي سنّ السّابعة والعشرين أخذ على عاتقه أمراً ما لبث أن مَلَكَ نفوس الملايين من البشر من كلّ عرق وثقافة وطبقة وأمّة على وجه الأرض، فأخصب خيالهم وفاز بولائهم. وليس لهذه الظّاهرة ما يفسّرها في عالمنا المعاصر ولكنها بالأحرى مرتبطة بتحوّلات خطيرة في مسار الجنس البشريّ عبر ماضيه المشترك. لقد أَعلن بهاء الله أنَّه ليس إلاّ رسولاً من الله بُعِثَ لِيلبّي احتياجات عصر بلغت فيه الإنسانيّة مرحلة النّضج، وأنّه صاحبُ ظهورٍ إلهيّ حقّق الوعود كلّها التي جاءت بها الأديان السّابقة، وأنَّ ظهوره سوف يُحيي الرّوح فيقوّي عضدَها ويُمتّن عصبَها ليتوحّد أَهل الأرض.

إنَّ بهاء الله في حياته وتعاليمه تركَ أثراً يكفي وحده، لا لشيء آخر سواه، أنْ يثير اهتماماً جدّيّاً عند كل مَنْ يؤمن بأنَّ طبيعة الإنسان روحيّة في أساسها، وأنَّ أيّ تنظيم لحياة هذا الكوكب الذي نعيش فيه، لا بدَّ وأنْ يكون ضمن مفهوم هذه الحقيقة. فالوثائق المثبتة مفتوحة أمامنا لكلّ من يبغي التّأكّد من صحّتها. إنَّه لأوّل مرّة في التّاريخ تجد الإنسانيّة في متناول يدها سجلاًّ مفصّلاً يمكن التّحقّق من صحّته، يؤرّخ مولدَ نظامٍ دينيّ مستقلّ ويشرح سيرةَ مؤسّسه.

ويَسْهُلُ بالمثل أيضاً الاطّلاع على سجلّ آخر يتعلّق بمدى نجاح هذه الدّعوة الجديدة واستجابة النّاس لها، هذا النّجاح الماثل في بروز جامعة عالميّة يمكن لها أنْ تدّعي بحقّ أنَّها تمثّل أنموذجاً مُصغَّراً لعالَمٍ توحّدت فيه جموع البشر.

بقي هذا الدّين في تطوره ونموّه محدود الانتشار نسبيّاً في العقود الأولى من هذا القرن. فآثار بهاء الله تُحرّم نشر الدّعوة الإِلهيّة بطريق العنف والإِكراه، كما كان الحال بالنّسبة للانتشار الواسع لعديد من الرّسالات الدّينيّة السّابقة. يضاف إلى ذلك أنَّ الجامعة البهائيّة وضعت في سُلَّمِ الأولويّات تأسيس مجموعات صغيرة على نطاق محليّ انتشرت في العالم. وبالتّالي حدّت، منذ البداية، من بروز تجمّعات ضخمة من المؤمنين في أي بلدٍ من البلدان، كما منعت هدر الطّاقات والمصادر الحيويّة لخدمة أغراض الدّعاية والإعلام، وقد أشار المؤرخ المشهور آرنولد توينبي في الخمسينات من هذا القرن – وكان قد أثار اهتمامه ظاهرة بروز دين عالميّ جديد – أنَّ الدّين البهائيّ آنذاك كان معروفاً لدى المثقّفين العاديّين من أهل الغرب بنفس النّسبة التي عُرِفَت بها المسيحيّة في قرنها الثّاني لدى الأوساط المثقّفة في الإِمبراطوريّة الرّومانيّة.

ثمَّ شهدت السّنوات القريبة الماضية تغيّراً مثيراً في هذا الوضع. إذ ازداد عدد الجامعات البهائيّة ازدياداً مطّرداً في العديد من البلدان، بحيث لا تخلو بالفعل الآن أيّة منطقة في العالم من جذور ممتدّة لنمط

الحياة التي دعا إليها بهاء الله. وإنَّ الاحترام الذي بدأت الجامعة البهائيّة تكتسبه لدى الأوساط الحكوميّة والعلميّة وأوساط الأمم المتّحدة، لمشاريعها في مجالات التّنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، يؤكّد مجدّداً ضرورة إجراء دراسة موضوعيّة جديدة للدّافع الذي يكمن خلف سياق التّحوّل والتّغيير في المجتمع الإنسانيّ، وهو التّحوّل الذي يبدو في نواحيه الخطيرة والهامّة فريداً من نوعه في العالم.

ولا مجال هناك لريبٍ حول جوهر هذا الدّافع الباعث على الحياة. إنَّ آثار بهاء الله تعالج مواضيع شتّى تتّسع في مداها فتشمل قضايا اجتماعيّة مختلفة كقضايا التّفرقة العنصريّة، والمساواة بين الرّجال والنّساء، ونزع السّلاح، ومسائل أخرى تمسّ لبَّ الحياة الرّوحيّة للإِنسان. وقد تمّت المحافظة بكلّ دقّة وعناية على النّصوص الأصليّة لتلك الآثار التي أنزلها بهاء الله والتي خطّ العديد منها بيده، وأملى غيرها على كاتب وحيه مُوثِّقاً إيّاها بنفسه أثراً من آثاره. وَنُفِّذَ برنامج منتظم للتّرجمة والنّشر امتدّ عدّة عقود من الزّمان سَهَّل على النّاس في كلّ مكان الاطّلاع على منتخبات من تلك الآثار مترجَمةً إلى ما يزيد على ثمانمائة لغة من اللّغات التي يتحدّث بها البشر.

2

مَوْلِدُ الظّهُورِ الجَدِيد

استهلَّ بهاء الله مهامّ بعثته في سجن تَحت الأرض في طهران في شهر آب (أغسطس) عام 1852. وكان قد رفضَ الوظائف الوزاريّة المتاحة له، وهو سليل أسرة نبيلة تحدّرت من الأسر المالكة الفارسيّة العريقة، واختار عوضاً عن جاه الوزارة أن يصرف جلَّ وقته في أعمال الخير والإحسان. وبحلول عام 1840 ذاع صيته الخيّر واشتهر بين النّاس فَلُقِّبَ "بأبي الفقراء". وبدأت الامتيازات الاجتماعيّة التي كان يتمتّع بها بالانحسار بعد عام 1844، عندما أصبح أحد المناصرين الرّئيسيّين لحركة كان لها أن تُحَوِّل مجرى التّاريخ في بلاده.

ساد معظم البلدان في السّنوات الأولى للقرن التّاسع عشر الميلاديّ شعورٌ عميق من التّرقّب والانتظار بعودة السّيّد المسيح. وتوجّه المؤمنون المخلصون من خلفيّات دينيّة مختلفة إلى كتبهم الدّينيّة المقدّسة يستقرئونها تفسيراً لما لمسوه من تحوّلاتٍ متلاحقة سريعة في الشّؤون الإنسانيّة، وقد أقلقهم إلى حدٍّ كبير إدراكُهم للنّتائج المترتّبة على الثّورة

الصّناعية والأبحاث العلميّة الجارية. فقامت مجموعات في أوروبا وأمريكا مثل "الهيكليّون" و"الميلاريّون" اعتقدت أنها وجدت في الآثار المقدّسة المسيحيّة دليلاً يثبت صحّة اعتقادها بأنّ التّاريخ قد انتهى، وأنَّ المجيء الثّاني للسيّد المسيح بات وشيك الحدوث. وقامت ضجّة مشابهة في الشّرق الأوسط حول النّبوءات المختلفة الواردة في القرآن الكريم والأحاديث النّبويّة الشّريفة مشيرةً إلى أنّها هي أيضاً وشيكة التّحقّق.

وكانت أكثر الحركات المتعلّقة بالمجيء الثّاني للسيّد المسيح وعودة عيسى ابن مريم إثارةً وأهميّة، تلك الحركة التي ظهرت في بلاد فارس وكان محورها شخصيّة تاجر شاب من شيراز، والتّعاليم التي جاء بها. وعَرَفَ التّاريخ ذلك التّاجر الشّاب باسم "الباب". بشّر الباب بأنّ يوم الله قريب وأنّه هو الموعود في القرآن والحديث. فأثارت دعوته هذه، ولمدّة تسع سنوات من عام 1844 إلى عام 1853، عاصفةً من الأمل والانفعال أحاطت بالأمّة الفارسيّة على اختلاف طبقاتها. وأعلنَ البابُ أيضاً أنَّ الإِنسانيّة تقفُ على عتبة عصر جديد سيشهد إعادة بناء الحياة من كلّ ناحية من نواحيها، وأنَّ ميادين للعلم ستُكتشف ولا يمكن إدراكها الآن، ستمكّن أطفال العصر الجديد من التّفوّق على أعلم العلماء من معاصريه. وأنَّ الله قد دعا الجنس البشري ليتبنّى هذه التّغيّرات والتّحوّلات فيأخذ النّاس على عواتقهم مسؤوليّة تغيير حياتهم الرّوحيّة والخلقيّة. وأعلن الباب أنّ لبعثته هدفاً هو إعداد

الجنس البشريّ وتهيئته لاستقبال ذلك الحدث الذي يكمن في لُبّ هذه التّطوّرات، ألا وهو ظهور ذلك الرّسول الذي سوف يبعثه الله إلى العالم بأسره، أي مَنْ "سوف يُظهره الله" ومَنْ ينتظر مجيئه أتباعُ الأديان السّماويّة كلّها.

أثارت الدّعوةُ هذه علماءَ المسلمين، فقاموا يحاربونها بعنف وشراسة، مدّعين بأنّ الرّسالة الإلهيّة انتهت بمحمّد، وأنّ أيّ إقرار مخالف لذلك يمثّلُ ارتداداً عن الدّين عقابه القتل. وسرعان ما انضمّت السّلطات الفارسيّة إلى العلماء تساندهم في حملة تشهيرهم بالباب. وقُضيَ على الآلاف من أتباع الدّين الجديد فسقطوا ضحايا سلسلة من المذابح المروّعة في كلّ أنحاء البلاد، وأُعدم الباب علناً في التّاسع من تموز (يوليو) عام 1850. وأثارت هذه الأحداث اهتماماً وشعوراً بالتّعاطف مع الضّحايا في الأوساط الأوروبيّة ذات النّفوذ. فحياة الباب الطّاهرة الشّريفة، وتعاليمه السّامية النّبيلة، وبطولة أتباعه وبسالتهم، ونور الأمل الذي أشعله هؤلاء في أرضٍ خيّم عليها الظّلام بما اقترحوه من إصلاحات وتغييرات جذريّة – كلّ هذا كان له تأثير عميق في نفوس عدد من الشّخصيّات العالميّة المرموقة، أمثال ارنست رينان، وليو تولستوي، وسارة برنار، والكونت دي غابينو.

وكان أن اشتهر بهاء الله كأبرز المدافعين عن أمر الباب، فألقي القبض عليه وأحضر إلى طهران سيراً على الأقدام مكبّلاً بالسّلاسل والأغلال.

ولم يصدر حكم بإعدام بهاء الله، كما كان يطالب بذلك بعض الشّخصيّات ذات النّفوذ في البلاط الإمبراطوريّ. ولعلّ ذلك كان إلى حدٍّ ما بسبب ما كان يتحلّى به بهاء الله من سمعة مرموقة، وما كان لأسرته من مكانة اجتماعيّة، بالإِضافة إلى موجة الاستنكار التي عمّت السّفارات الغربيّة احتجاجاً على المذابح ضدّ البابيّين. فكان السّجن بديل الإعدام، وأُلقِيَ ببهاء الله في سجن "سياه چال"، المشؤوم والمعروف "بالقَعر المُظلِم"، وهو سجن في باطن الأرض تملأ أرجاءه الحشرات والفئران والجرذان، وكان أصلاً خزّاناً للمياه حُوِّل إلى سجن للمجرمين. ولم توجّه إلى بهاء الله تهمة معيّنة، وأُبقِيَ هو وثلاثون من أصحابه رهن الاعتقال دون أن يكون لهم حقّ المراجعة، وسُجنوا في تلك الحفرة المظلمة النّتنة يحيط بهم عتاة المجرمين ممّن صدرت بحقّهم أحكام الإِعدام. وَصُفِّد عنق بهاء الله بقيد غليظ يثقل حمله، كان من وطأته على حامليه أنَّهم أَعطَوْه اسماً خاصّاً به هو "قره كهر". ولم يهلك بهاء الله في السّجن بسرعة كما توقّع أعداؤه. فكان أن دُسّ له السّمّ في طعامه، ولكنّه نجا من هذه المحاولة وعاش حاملاً أثر ذلك القيد البغيض مطبوعاً على عنقه مدى الحياة.

تُركّز آثار بهاء الله الكتابيّة على عرض مسهب للمسائل الكبرى التي شغلت علماء الدّين والفقهاء عبر القرون. فهي تتناول بالشّرح والتّفسير المواضيع التّالية: عظمة الله سبحانه وتعالى، دور الظّهور الإِلهيّ في التّاريخ الإنسانيّ، علاقة النّظم الدّينيّة في العالم بعضها ببعض، معنى

الإيمان، القواعد الخلقيّة كأساس لأيّ سلطة مسؤولة عن تنظيم المجتمع الإنسانيّ. وتحتوي هذه النّصوص المقدّسة مقاطع يتحدّث فيها بهاء الله بصراحة وحرارة عن اختباراته الرّوحيّة الخاصّة، ويصف لنا كيف لبّى النّداء الإلهيّ الذي وُجِّهَ إليه، ويشير إلى الحوار الذي جرى بينه وبين "الرّوح الأعظم"، وهو الحوار الذي يحدّد جوهر بعثته. ولأوّل مرّة في تاريخ أيّ دين من أديان البشر تسنح للباحث المدقّق فرصة يقف فيها وجهاً لوجه ليدرس بوضوح كامل ظاهرة "الظّهور الإِلهيّ".

وفي مغرب حياته كتب بهاء الله يستعيد ذكرى اختباراته الأولى فأورد وصفاً مختصراً للظّروف والأحوال التي مرّت به في سجن "سياه چال" بطهران:

"... وَعُيِّنَ لَنا مَقَرٌّ لِمُدّةِ أربَعَةِ أشْهُرٍ لا شَبيهَ لَهُ ولا مَثيل... وَبَعْدَ أنْ وَرَدْنا السِّجْنَ قادونا إلى دِهْليزٍ مُظْلِمٍ ثُمَّ هَبَطْنا ثَلاثَ دَرَكاتٍ وَبَلَغْنا الْمَقَرَّ الّذي عَيَّنوهُ. أمّا المكانُ فكانَ مُظْلِماً يَعيشُ فيهِ ما يَقْرُبُ مِنَ المائةِ والخَمْسينَ مِنَ اللُّصوصِ وَالقَتَلَةِ وَقُطّاعِ الطُّرُقِ. وَبِالرَّغْمِ مِنْ وُجودِ هذا الْجَمْعِ الْغَفيرِ فإنَّ الْمَكانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ مَنْفَذٍ سِوى الطَّريق الذي وَرَدْنا مِنْهُ. إنّ الأقْلامَ لَتَعْجِزُ عَنْ وَصْفِهِ، وَالبَيانَ يَكِلُّ عَنْ بَيانِ رَوائِحهِ الْمُنْتِنَةِ. وَكانَ مُعْظَمُ هذا الْجَمْعِ بِلا لِباسٍ وَلا فِراشٍ. اللهُ يَعْلَمُ ما وَرَدَ عَلَيْنا في ذاكَ الْمُقامِ الأنْتَنِ الأظْلَمِ."

(مترجم عن الفارسية)

وفي كلّ يومٍ من تلك الأيّام، كان الحرّاس ينزلون إلى قعْر السّجن عبر دركاتِه الثّلاث فيقبضون على واحدٍ أو أكثر من السّجناء ويسحبونهم سحباً إلى خارج السّجن لينفِّذوا فيهم حكم الإعدام. وروّع المراقبين الأجانبَ ما رأوه في شوارع طهران من مشاهد العنف التي ذهب ضحيّتها الشّهداء البابيّون. فتارةً كانوا يشاهدون هؤلاء الضّحايا وقد تناثرت أشلاؤهم بعد ربطهم إلى فُوَّهات المدافع، وتارة رأوهم وقد قُطِّعوا إرْباً إربْاً بالفؤوس والسّيوف، أو أُوقِدت الشّموعُ لتثبّت في أغوار جراحهم وهم يُساقون إلى أماكن إعدامهم. وفي خِضمّ هذه الأحداث والظّروف، ووسط توقّعات بهاء الله صدور حكمٍ بإعدامه، نزل عليه الوحي معلناً تباشير بعثته وبوادر التّجلّي الإِلهيّ على روحه:

"وَفي ذاتِ لَيْلَةٍ أَصْغَيْتُ إلى هذِهِ الكَلِمَةِ العُلْيا في عالَمِ الرُّؤْيا مِنْ جَميعِ الْجِهاتِ: إنَّا نَنْصُرُكَ بِكَ وَبِقَلَمِكَ. لا تَحْزَنْ عَمّا وَرَدَ عَلَيْكَ. وَلا تَخَفْ إنَّكَ مِنَ الآمِنينَ. سَوْفَ يَبْعَثُ اللهُ كُنوزَ الأرْضِ، وَهُمْ رِجالٌ يَنْصُرونَكَ بِكَ وَبِاسْمِكَ الّذي بِهِ أحيا اللهُ أفْئِدَةَ العارِفينَ."

(الجملة الأولى فقط مترجمة عن الفارسية)

وهكذا يصفُ بهاء الله موضِّحاً تأثير القوّة المتدفّقة للنّداء الإلهيّ عليه، تجربةً تذكِّرنا بمواقف أخرى لبوذا وموسى والمسيح ومحمّد، لم يصلنا منها إلاّ المقتضبُ اليسير، ومن مصادر ثانويّة فقط، فيما بقي لدينا من سِيَر هؤلاء الرُّسُل. ويسترسل بهاء الله في وصف تلك التّجربة فيقول:

"وَبِالرًّغْمِ مِنْ أنَّ النَّوْمَ كانَ عزيزَ المَنالِ مِنْ وَطْأةِ السَّلاسِل وَالرَّوائِحِ المُنْتِنَةِ حينَ كُنْتُ رَهينَ سِجْنِ أرْضِ الطّاء [طهران] إلاّ أَنّني كُنْتُ في هَجَعاتي اليَسيرَةِ أُحسُّ كَأنَّ شَيْئاً يَتَدَفَّقُ مِنْ أعْلى رَأسي وَيَنْحَدِرُ على صَدْري كَأَنَّهُ النَّهْرُ العَظيمُ يَنْحَدِرُ مِنْ قُلَّةِ جَبَلٍ باذِخٍ رَفيعٍ إلى الأرضِ فَتَلْتَهِبُ جَميعُ الأعْضاءِ لذلِكَ. في ذلِكَ الحينِ كانَ اللِّسانُ يُرتِّلُ ما لا يَقْوى عَلى الإِصْغاءِ إلَيْهِ أحَدٌ."

(مترجم عن الفارسية)

3

النّفْي والإبْعَاد

أُطْلِقَ سَراحُ بهاء الله في آخر الأمر دون محاكمة أو مراجعة، ونُفِيَ على الفور مبعَداً عن وطنه. وصادرت السّلطات اعتباطاً ثروته وممتلكاته. فما كان من الممثّل الدّبلوماسيّ للحكومة الرّوسيّة الذي كان على معرفة شخصيّة ببهاء الله وتابعَ بأسىً متزايد الاضطهادات التي تعرّض لها أتباع الباب، ما كان منه إلاّ أنْ عرض حماية بهاء الله ووجّه الدّعوة إليه ليلجأ إلى المناطق الواقعة تحت نُفوذ حكومته. ولم يقبل بهاء الله هذا العرض في تلك الظّروف السّياسيّة لئلاّ يُفَسَّر الأمر تفسيراً خاطئاً ويُعْطى صبغة سياسيّة. واختار راضياً النّفي للأراضي المجاورة في العراق والتي كانت تابعة آنذاك للحكومة العثمانيّة. وبدأ بهاء الله بهذا الإِبعاد فترة من النّفي والسّجن والاضطهاد المرير استغرقت أربعين عاماً.

خصَّص بهاء الله أولى اهتماماته في الأعوام التي تلت مباشرة رحيله منفيّاً عن أرض فارس، ليلبّي احتياجات الجامعة البابيّة المجتمعة في بغداد. ووقعت هذه المسؤوليّة على عاتقه لأنّه كان الوحيد الذي سَلمَ

من المذابح من بين زعماء البابيّين ذوي النّفوذ. ففي آن معاً استُشْهِد البابُ وفُقِدَ معظَمُ الدّاعين للدّين الجديد والهادين إليه. ونتج عن ذلك تَفَرُّق جماهير المؤمنين وإضعاف معنويّاتهم. ولمّا شعر بهاء الله بأنّ مساعيه لجمع شمل أَتباع الباب الذين لجأوا إلى العراق قد أَثار الحسد والاختلاف، هجر بغداد وتركها قاصداً البرّيّة واعتكف في جبال كردستان العراق. وبخروجه إلى البرّيّة واعتزاله النّاس سَلَك بهاء الله الدّرب نفسه الذي سار عليه كلّ من سبقه من الرّسل والأنبياء. وكما أخبرنا هو في وقت لاحق: "قَسَماً بِاللهِ لَمْ يَكُنْ عِنْدي نِيَّةُ الرُّجوعِ مِنْ هذِهِ المُهاجَرَةِ وَلا أمَلٌ في العَوْدَةِ مِنْ هذا السَّفَرِ." كان هدفه فقط كما قال: "أنْ لا أكونَ عِلَّةَ اخْتِلافِ الأحْبابِ، وَلا مَصْدَرَ انْقِلابِ الأصْحابِ". ورغم أنَّ فترة العامَيْن التي قضاها بهاء الله في البرّيّة كانت فترة قاسية اتّسمت بالعَوزَ والحرمان والمتاعب الجسديّة، فقد وصفها بأنّها كانت مليئة بالسّعادة الحقيقيّة، تمكّن فيها من التّأمُّل في عمق الرّسالة التي عُهِدَت إليه: "كنتُ مَشْغولاً [بِمُناجاةِ الرّوحِ] نابِذاً وَرائي العالَمَ وَما فيه".

وبعد تردّد طويل، وإيماناً منه بأنّ عليه واجباً يؤدّيه تجاه أمر الباب، وافق بهاء الله أخيراً أن يعود إلى بغداد، استجابة للرّسائل الملحّة التي وردت إليه من جموع المنفيّين اليائسين في بغداد، مِمَّن توسّلوا إليه بعد أن اكتشفوا مكان وجوده ليعود إليهم ويأخذ بزمام قيادتهم.

من أهمّ الآثار التي أنزلها بهاء الله في هذه الفترة الأولى من فترات النّفي في حياته، وقبيل الإِعلان عن بعثته في عام 1863، كتابان. الأوّل كتابٌ قصير أسماه "الكلمات المكنونة"، وهو بمثابة أمثلة من الحِكَمِ والأقوال المأثورة ذات الطّابع الخُلُقيّ، تمثّل في مجملها لُبَّ التّعاليم الخلقيّة التي نزلت في رسالته. وفي آيات ينعتها بهاء الله بأنّها جوهر الهداية الرّوحيّة التي جاءت بها كلّ المظاهر الإِلهيّة السّابقة، نَسمَعُ فيها النّداء الإِلهيّ وهو يخاطب مباشرة بتلك الكلمات روح الإِنسان:

"يا ابْنَ الرّوحِ ـ أحَبُّ الأشْياء عِنْدي الإِنْصافُ، لا تَرْغَبْ عَنْهُ إنْ تَكُنْ إليَّ راغباً، وَلا تَغْفَلْ مِنْهُ لِتَكونَ لي أميناً، وَأنْتَ تُوَفَّقُ بِذلِكَ أنْ تُشاهِدَ الأشْياءَ بِعَيْنِكَ لا بِعَيْنِ العِبادِ، وَتَعْرِفَها بِمَعْرِفَتِكَ لا بِمَعْرِفَةِ أحَدٍ في البِلادِ. فَكِّرْ في ذلِكَ كَيْفَ يَنْبَغي أنْ تَكونَ، ذلِكَ مِنْ عَطِيَّتي عَلَيْكَ وَعِنَايَتي لَكَ، فَاجْعَلْهُ أمام عَيْنَيْكَ.

يا ابْنَ الوُجودِ ـ أَحْبِبْني لأُحِبَّكَ. إنْ لَمْ تُحِبَّني لَنْ أُحِبَّكَ أبَداً، فَاعْرِفْ يا عَبْدُ.

يا ابْنَ الإِنْسانِ ـ لا تَحْزَنْ إلاّ في بُعْدِكَ عَنّا، ولا تَفْرَحْ إلاّ في قُربِكَ بِنا وَالرُّجوعِ إلَيْنا.

يا ابْنَ الوُجودِ ـ صَنَعْتُكَ بأيادِيَ القُوَّةِ، وَخَلَقْتُكَ بِأنامِلِ القُدْرَةِ، وَأوْدَعْتُ فيكَ جَوْهَرَ نوري، فاسْتَغْنِ بِهِ عَنْ كُلِّ

شَيءٍ، لأنَّ صُنْعِيَ كامِلٌ، وَحُكْمِيَ نافِذٌ، لا تَشُكَّ فيهِ وَلا تَكُنْ فيهِ مُريباً."

أمّا الكتاب الثّاني من هذَيْن الأثرين المهمّين من آثار بهاء الله الكتابيّة إبّان هذه الفترة فهو "كتابُ الإِيقان". يقدّم الكتاب عرضاً مسهباً لجوهر الدّين والأهداف التي يأتي من أجلها. وتستشهد فقراته ليس فقط بآياتٍ من القرآن الكريم، بل أيضاً بآيات من الكتاب المقدّس بعهدَيْه الجديد والقديم. وفي كلا الحالين نجد سلاسة التّعبير وعمق الإِدراك. ويصوّر لنا الكتاب الرُّسُلَ والأنبياء على أنّهم جميعاً واسطة واحدة لتنفيذ تدبير إلهيّ مستمرّ لا انقطاع له، غرضه إيقاظ الجنس البشريّ ليدرك إمكاناته الرّوحيّة والخلقيّة زمناً بعد زمن. ويبيّن أنَّ الإنسانيّة، وقد بلغت سنّ الرّشد، لَمْ تعد بحاجة إلى لغة الأمثال والقصص والحكايات، وأنَّ الإِيمان بالله لم يعد مسألة إيمان أعمى، بل هو عرفان واعٍ وإحساس صادق. وأنّنا لم نعد بحاجة بعد الآن لنخبة من رجال الدّين يَصْطفون أنفسَهم لإِرشاد النّاس وهدايتهم، فنعمة العقل تسبغ على كلّ فرد في هذا العصر الجديد من التّنوّر والعلم القدرةَ على قبول الهداية الإلهيّة. أمّا المحكّ الذي به يُعرف الإِيمان فهو الإِخلاص وصِدْقُ النّيّة:

"البابُ المَذْكورُ في بَيانِ أنَّ العِبادَ لَنْ يَصِلوا إلى شاطئ بَحْرِ العِرْفانِ إلاّ بالانْقِطاعِ الصِّرْفِ عَنْ ُكلِّ مَنْ في السَّمواتِ

والأرْضِ... جَوْهَرُ هَذا البابِ هُوَ أنَّهُ يَجِبُ على السّالِكينَ سَبيلَ الإِيْمانِ والطّالِبين كُؤوسَ الإِيْقانِ أنْ يُطَهِّروا أنْفُسَهُمْ وَيُقَدِّسُوها عَنْ جَميعِ الشُّؤوناتِ العَرَضِيَّةِ ـ يَعْني يُنَزِّهونَ السَّمْعَ عَنِ اسْتِماعِ الأقْوال، وَالقَلْبَ عَنِ الظُّنوناتِ المُتَعَلِّقَة بِسُبُحاتِ الجَلالِ، وَالرّوحَ عَنِ التَّعَلُّقِ بالأسْبابِ الدُّنْيَويَّةِ، وَالعَيْنَ عَنْ مُلاحَظَةِ الكَلِماتِ الفانِيَةِ، وَيَسْلُكونَ في هذا السَّبيلِ مُتَوَكِّلينَ عَلى اللهِ، وَمُتَوَسِّلينَ إلَيْهِ حَتّى يُصْبحَنّ قابِلينَ لِتَجَلِّيات إشْراقاتِ شُموسِ العِلْمِ وَالعرْفانِ الإِلهيِّ، وَمَحَلاًّ لظُهوراتِ فُيوضاتِ غَيْبٍ لا يَتَناهى. لأنَّ العَبْدَ لَوْ أرادَ أنْ يَجْعَلَ أَقْوالَ العِبادِ مِنْ عالِمٍ وَجاهِلٍ وَأعْمالَهُمْ وَأفْعَالَهُمْ ميزاناً لِمَعْرفَةِ الحَقِّ وَأوْلِيائِهِ فَإنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ أبَداً رِضْوانَ مَعْرفةِ رَبِّ العِزَّةِ، وَلَنْ يَفوزَ بِعُيونِ عِلْمِ سُلْطانِ الأحَدِيَّةِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَنْ يَرِدَ مَنْزِلَ البَقاءِ وَلَنْ يَذوقَ كَأسَ القُرْبِ وَالرِّضا.

انْظُروا إلى الأيّامِ السّالِفَةِ. كَمْ مِنَ العِبادِ مِنْ شَريفٍ ووَضيعٍ كانوا دائِماً يَنْتَظِرونَ ظُهوراتِ الأحَدِيّةِ في الهياكِلِ القُدْسِيَّةِ، عَلى شَأنٍ كانوا في جَميعِ الأوْقاتِ والأزْمِنَةِ يَتَرَصَّدونَ وَيَنْتَظِرونَ، يَدْعونَ وَيَتَضَرّعونَ، لَعَلَّ يَهُبُّ نَسيمُ الرَّحْمَةِ الإِلهيَّةِ، وَيَطْلُعُ جَمالُ المَوْعودِ مِنْ خَلْفِ سُرادِقِ الغَيْبِ إلى عَرْصَةِ الظُّهورِ. وَعِنْدَما كانَتْ تَنْفَتِحُ أبْوابُ العِنايَة، وَيَرْتَفِعُ غَمامُ المَكْرُمَةِ، وَتَظْهَرُ شَمْسُ الغَيْبِ عَنْ أُفُقِ القُدْرَةِ، يَقومُ

الجَميعُ عَلى تَكْذيبها وَإنْكارِها وَيَحْتَرِزونَ عَنْ لِقائِها الّذي هُوَ عَيْنُ لِقاءِ الله، كَما هُوَ مَذْكورٌ وَمَسْطورٌ تَفْصيلُهُ في جَميعِ الكُتُبِ السَّماوِيَّةِ...

وَإذا ما أُوْقِدَ في القَلْبِ سِراجُ الطَّلَبِ وَالمُجاهَدَةِ، والذَّوْقِ وَالشَّوْقِ، والعِشْقِ والولَهِ، وَالجَذْبِ وَالحُبِّ، وَهَبَّ نَسيمُ المَحَبَّةِ مِنْ شَطْرِ الأحَدِيَّة، تَزولُ ظُلْمَةُ ضَلالَةِ الشَّكِ وَالرَّيْبِ، وتُحيطُ أنْوارُ العِلْمِ وَاليَقينِ بكُلِّ أرْكانِ الوُجودِ. فَفي ذلِكَ الحينِ يَطْلُعُ البَشيرُ المَعْنَويُّ كَالصُّبْحِ الصّادِقِ، مِنَ المَدينَةِ الإِلهيّة بالبشارَةِ الرّوحَانِيَّةِ، وَيَسْتَيْقِظُ القَلْبُ وَالنَّفْسُ وَالرّوحُ مِنْ نَوْمِ الغَفْلَةِ بِصُوَرِ المَعْرِفَةِ، وَيُمْنَحُ حَياةً جَديدَةً بديعَةً بتأييداتٍ وَعِناياتٍ من روحِ القُدْسِ الصَّمَدانيّ، بِحَيْثُ يَرى نَفْسَهُ صَاحِبَ بَصَرٍ جَديدٍ، وَسَمْعٍ بَديعٍ، وَقَلْبٍ وَفُؤادٍ جَديدٍ. وَيَرى الآياتِ الواضحَةَ في الآفاق، وَالحَقائِقَ المَسْتورَةَ في الأنْفُسِ. وَيُشاهِدُ بِعَيْنِ اللهِ البَديعَةِ في كُلِّ ذَرَّةٍ باباً مَفْتوحاً لِلوصولِ إلى مَراتِبِ عَيْنِ اليَقينِ، وَحَقِّ اليَقينِ وَنورِ اليَقينِ. وَيُلاحِظُ في جَميعِ الأشْياءِ أَسْرارَ تَجَلّي الوِحْدانِيَّة، وَآثارَ الظُّهورِ الصَّمَدانِيَّةِ...

وَإذا ما تَطَهَّرَ مَشامُ الرّوحِ مِنْ زُكامِ الكَوْنِ وَالإِمْكانِ، لَوَجَدَ السّالِكُ حَتْماً رائِحَةَ المَحْبوبِ مِنْ مَنازِلَ بَعيدَةٍ،

وَلَوَرَدَ مِنْ أثَرِ تِلْكَ الرّائِحةِ إلى مِصْرِ الإِيْقانِ لِحَضْرةِ المَنّانِ وَلَشَاهَدَ بَدائِعَ حِكْمَةِ الحَضْرَةِ السُّبْحانِيَّةِ، في تِلْكَ المَدينَةِ الرّوحانِيَّةِ...

أَما تِلْكَ المَدينَةُ فَهيَ الكُتُبُ الإِلهيَّةُ في كُلِّ عَهْدٍ. فَمَثَلاً في عَهْدِ موسى كانَتِ التَّوْراةُ، وَفي زَمَنِ عيسى كانَ الإِنْجيلُ، وَفي عَهْدِ مُحَمَّدٍ رَسولِ اللهِ كانَ الفُرْقانُ. وَفي هذا العَصْرِ البَيانُ. وَفي عَهْدِ مَنْ يَبْعَثُهُ اللهُ كِتابُهُ الذي هُوَ مَرْجِعُ كُلِّ الكُتُبِ والمُهَيمنُ عَلى جَميعِها. وَفي هذِهِ المَدائِنِ أرْزاقٌ مُقَدَّرَةٌ، وَنِعَمٌ باقِيَةٌ مُقَرَّرَةٌ، تَهَبُ الغِذاءَ الرّوحانِيَّ، وَتُطْعِمُ النِّعْمَةَ القِدَميَّةَ، وَتَمْنَحُ نِعْمَةَ التَّوْحيدِ لأهْلِ التَّجْريدِ، وَتَجودُ عَلى مَنْ لا نَصيبَ لَهُمْ بِنَصيبٍ. وَتَبْذُلُ كَأْسَ العِلْمِ لِلهائِمينَ في صَحْراءِ الجَهْل. وَفي هذِهِ المَدائِنِ مَخْزونُ وَمَكْنونُ الهِدايَةِ وَالعِنايَةِ، وَالعِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ، وَالإِيْمانِ والإِيْقانِ لكُلِّ مَنْ في السَّمواتِ وَالأرْضِ."

(مترجم عن الفارسية)

يخلو "كتاب الإيقان" من أيّة إشارة علنيّة إلى بعثة بهاء الله نفسه، فهو لم يكن قد أعلن عنها بعد. وجدير بالقول إنّ مادّة الكتاب تتناول بعثة الباب الشّهيد بالشّرح والبيان في عرض مفصّل يتّسم بالقوّة والحجّة. كان للكتاب أبلغ التّأثير في أوساط الجامعة البابيّة التي كان

ضمن أفرادها عددٌ من العلماء ونفرٌ من الذين أمّوا المعاهد الفقهيّة سابقاً. ولعلّ من الأسباب التي لا يستهان بها للتّأثير القويّ الذي أحدثه الكتاب في هذه الأوساط بالذّات، ما ظهر من امتلاك مؤلّفه لناصية العلوم المتّصلة بالفكر الإسلاميّ والتّعاليم الإِسلاميّة. وخاصّة في مجال شرحه لدعوة الباب وما حقّقته من النّبوءات التي جاء بها الإِسلام. ومن ثمّة حثّ بهاء الله أتباع الباب أن يكونوا أهلاً للثّقة التي وضعها فيهم الباب نفسه، جديرين بالسّير على درب العديد من الشّهداء الأبطال الذين قُتِلوا في سبيله، ووضع نصب أعينهم تحدّياً لم يقتصر فقط على مطالبته إيّاهم بأنْ يصوغوا نمط حياتهم على نسقٍ يتوافق مع التّعاليم الإِلهيّة، بل أهاب بهم أيضاً أن يجعلوا من جامعتهم أنموذجاً مثاليَّاً تحذو حَذْوَه العناصر المتباينة من السّكان في بغداد، العاصمة الإقليميّة للعراق.

حرّكت هذه الرّؤيا مشاعر البابيّين وشحذت قواهم، رغم ما كانوا يقاسونه من شظف العيش في ظروف ماديّة ضيّقة. ووصف أحدهم المعروف باسم النّبيل، الحياة الرّوحيّة العارمة لتلك الأيّام، وترك لنا فيما بعد تاريخاً مفصَّلاً لولايتيّ الباب وبهاء الله. كتب النّبيل واصفاً تلك الأيّام فقال:

"كَمْ مِنْ لَيْلَةٍ لَمْ يَزِدْ فيها طَعامُ العَشَرَةِ مِنْهُمْ عَنْ حُفْنَةٍ مِنَ التَّمْرِ تُشْتَرى بِفِلْسٍ. وَلَمْ يَكُنْ أحَدُهُمْ يَدْري عَلى وَجْهِ

التَّحْقِيق شَيْئاً عَمّا يَجِدُهُ في بَيْتِهِ مِنَ الأحْذِيَةِ وَالعَباءاتِ وَالمَلابِسِ أهيَ مِلْكُهُ هُوَ أمْ مِلْكُ غَيْرِهِ. وَلكِنَّ كُلَّ مَنْ ذَهَبَ إلى السّوقِ ادَّعى أنَّ الحِذاءَ الذي يَنْتَعِلُهُ حِذاؤهُ، وَكُلَّ مَنْ يَحْظى بِمَحْضَرِ حَضْرَةِ بهاء الله يُؤَكِّدُ أنَّ الثَّوْبَ الذي يَلْبَسهُ هُوَ ثَوْبُهُ. أمّا أسْماؤهُمْ فَقَدْ نَسَوْها، أمّا قُلوبُهُمْ فَقَدْ فَرَغَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إلاّ ذِكْرِ مَحْبوبِهِمْ وَتَقْديسِهِ. فَآهٍ آهٍ لِهاتيكَ الأيّامِ الغَوالي وَلِحَلاوَةِ تِلْكَ السُّوَيْعاتِ العَجيبَةِ."

(مترجم عن الفارسية)

تمكّنت جامعة المنفيّين من أتباع الباب من أن تصبح تدريجيّاً عنصراً مؤثِّراً في العاصمة الإِقليميّة والمدن المجاورة لها، وتمتّع أفرادها باحترام النّاس وتقديرهم. فهال ذلك السّلطات القنصليّة الفارسيّة وأزعجها بعد أن كانت قد اقتنعت بأنَّ "القصّة البابيّة" قد شارفت نهايتها. أضِف إلى ذلك أنّ المنطقة التي سكنها البابيّون احتوت عدداً من أهمّ الأضرحة المقدّسة لدى المسلمين الشّيعة. وكان الحجّاج الفارسيّون الزّائرون لتلك الأضرحة عرضة لكي يتأثّروا بالنّهضة البابيّة الجديدة في ظروف جدّ مؤاتية. وكان من بين علّيّة القوم الذين زاروا تلك الدّيار، وقاموا أيضاً بزيارة بهاء الله في المنزل البسيط الذي كان يسكنه في بغداد، أمراء من البيت المالك الفارسيّ. وقد أُخِذَ أحد هؤلاء بما أحسّ به من مشاعر في الغرفة التي استقبله فيها بهاء الله، فجال في خاطره أمرٌ اتّسم بالسّذاجة إذ فكّر في تشييد غرفة مماثلة لتلك الغرفة

في حديقة قصره علّه يتمكّن من أنْ يخلق عنده جوّ الطّهارة الرّوحيّة والانقطاع اللّذين عرفهما لبرهة وجيزة في محضر بهاء الله. وأميرٌ آخر بلغ به التّأثّر، إثر زيارته لبهاء الله، مبلغاً عظيماً، فقال يصفُ مشاعرهُ لأحد أصدقائه: "لا أدْري كَيْفَ أصِفُها لَكَ، وَلكِنْ إذا جَثَمَتْ كُلُّ الأحْزانِ على صَدْري شَعَرْتُ بِأنَّها تَبَدَّدَتْ في مَحْضَرِ حَضْرَةِ بهاء الله. فَكَأنَّما دَخَلْتُ الجَنَّةَ."

(مترجم عن الفارسية)

4

إعْلان حَدِيقَة الرّضْوَان

وبحلول عام 1863 قرّر بهاء الله أنّ الوقت قد حان لكي يبدأ بإعلام من حوله نبأ الرّسالة التي عهدت إليه أثناء وجوده في غياهب ظلام سجن "سياه چال".

وقد كان هذا القرار الذي اتّخذه بهاء الله بإعلان أمر دعوته قد صادف بدء مرحلة جديدة من حملة المعارضة لنشاطه، وهي الحملة التي شنّها دون هوادة رجال الدّين من الشّيعة وممثّلون عن الحكومة الفارسيّة. وإزاء مظاهر التّرحيب والتّأييد التي بدأ يحظى بها بهاء الله في أوساط الزّوّار الفُرس من ذوي النّفوذ القادمين إلى العراق، شعرت حكومة الشّاه بالقلق وتوقّعت أن يُلهب ذلك مشاعر الحماسة الشّعبيّة مرّة أخرى تجاه الدّين الجديد في بلاد فارس. وقامت حكومة الشّاه تضغط لدى السّلطات العثمانيّة طالبةً نقل بهاء الله إلى داخل الإِمبراطورية العثمانيّة بعيداً عن حدود المملكة الفارسيّة. ورضخت الحكومة العثمانيّة أخيراً للضّغوط الفارسيّة، فوجّهت الدّعوة إلى بهاء

الله، وهو السّجين المنفيّ، ليحلّ ضيفاً عليها ويتّخذ من عاصمتها الآستانة مقرّاً لسكناه. ورغم اللهجة المؤدّبة التي وجّهت بها رسالة الدّعوة، فقد كان واضحاً أنّ الهدف من ذلك لم يكن إلاّ فرض القبول للأمر الصّادر والامتثال له.

وكان رجال تلك الفئة القليلة من المنفيّين المخلصين، بحلول تلك الآونة، يركّزون جلّ اهتمامهم على شخص بهاء الله وعلى بياناته الكريمة التي شرح فيها رسالة الباب وتعاليمه. وساور عدداً متزايداً منهم الاعتقاد بأنّ بهاء الله ما كان يتحدّث كمدافعٍ عن أمر الباب فحسب، بل إنّه كان يتحدّث نيابة عن ذلك الأمر الأخطر شأناً الذي أعلن عنه الباب ووعد بأنّه وشيك الظّهور. وتأكَّد هذا الاعتقاد نهائيّاً ليصبح حقيقة واقعة في أواخر شهر نيسان (إبريل) عام 1863 حين دعا بهاء الله نفراً من صحابته إلى حديقةٍ سُمّيت فيما بعد "بحديقة الرّضوان" وأَسرَّ إليهم كُنهَ رسالته. وكان ذلك عشيّة رحيله عن بغداد إلى الآستانة. وبالرّغم من أنّ الأمر لم يكن يستدعي حينئذٍ إعلاناً مفتوحاً، فقد قام في غضون السّنوات الأربع التّالية أولئك الذين أنْصتوا إلى بهاء الله يعلن دعوته، بإشراك أحبّائهم المخلصين بما علموا من أنّ وعود الباب قد تحقَّقت، وأنَّ "يوم الله" قد انبلج فجُره.

أمّا الظّروف والملابسات الصّحيحة لهذا الإعلان الخاصّ فقد غرقت، حسب ما ذكره أحد الثّقاة البهائيّين الأكثر إحاطةً بسجلّ احداث تلك الفترة، "... في غموض سوف يجد مؤرّخو المستقبل أنّه ليس

من السّهل عليهم اختراقُ غياهبه." غير أنّه قد يمكن لنا أنْ نستخلص ماهيّة ذلك الإعلان وندرك مدى أهميّته من فحوى الإِشارات المختلفة إلى بعثته والتي أوردها بهاء الله فيما نزل من قلمه في وقت لاحق:

"إنًّ غايَةَ خَلْقِ الوُجودِ ظُهورُ هذا اليَوْمِ الأمْنَعِ الأقْدَسِ، الذي جاءَ ذِكْرُهُ في صُحُفِ اللهِ وَكُتُبِهِ وَزُبُرِهِ وَلُقِّبَ بِيَوْمِ اللهِ، وَهُوَ يَوْمٌ طَلَبَ لِقاءَهُ كُلُّ الأنْبِياءِ وَالأولِياءِ وَالأصْفِياء..."

(مترجم عن الفارسية)

"هذا يَوْمُ المُشاهَدَةِ وَالإِصْغاءِ، لَقَد ارْتَفَعَ النِّداءُ، وَلاحَتْ أنْوارُ الوَجْهِ مِنْ أفُقِ مشْرِقِ الظُّهورِ، وَعَلى الكُلِّ أنْ يَمْحوا ما سُمِعَ مِنْ قَبْلُ، وَأنْ يَنْظُروا بِالعَدْلِ وَالإنصافِ في آياتِهِ وَبَيَاناتِهِ وَظُهوراتِهِ..."

(مترجم عن الفارسية)

وكما يؤكّد لنا بهاء الله مراراً في بياناته التي يشرح فيها بعثة الباب، أنّ الغاية الأساسيّة لله في إظهار مشيئته هي تغيير نفوس البشر، فينمّي في أولئك الذين يستجيبون لدعوته ويُقبلون عليه تلك الصّفات والمزايا الرّوحيّة والخلقيّة الكامنة في جوهر الإِنسان:

"قُلْ يا قَوْمُ زَيِّنوا لِسانَكُمْ بِالصِّدْقِ وَنُفوسَكُمْ بِالأمانَةِ. إيّاكُمْ يا قَوْمُ، لا تخانوا في شَيْءٍ. وَكونوا أُمناءَ اللهِ بَيْنَ بَرِيَّتِهِ، وَكونوا مِنَ المُحْسِنينَ."

"أنْ أنيروا قُلوبَكُمْ وَطَهِّروها مِنْ أشْواكِ الضَّغينَةِ وَالبَغْضاءِ، إنَّكُمْ أهْلُ عالَمٍ واحِدٍ، وَخُلِقْتُمْ بِكَلِمَةٍ واحِدَةٍ، فِطوبى لِنَفْسٍ تُعاشِرُ كُلَّ الأنامِ بِتَمامِ المَحَبَّةِ وَالوِئامِ..."

(مترجم عن الفارسية)

ويُعلن بهاء الله أنَّ مظاهر العنف والإكراه التي اتّسمت بها الجهود المبذولة لنشر الأديان في سالف العصور والأزمان، باتت الآن لا تليق "بيوم الله". فواجب كلّ مَنْ آمن بالظّهور الإلهيّ أن يُبلّغ أولئك الذين يعتقد بأنّهم يبحثون عن سبل العرفان، على أن يترك لهم كامل الخيار فيما يتّخذونه من قرار:

"أنْ اسْلُكوا بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ بِالمَحَبَّةِ وَالرِّفْقِ وَالمُداراة، فَإذا عَجِزَتْ نَفْسٌ عَنْ إدْراكِ بَعْضِ مَراتِبِ الحَقيقَةِ، أوْ قَصَّرَتْ في الوُصولِ إلَيْها، عَلَيْكُمُ التَّكَلُّمُ مَعَها بِتَمامِ اللُّطْفِ وَالشَّفَقَةِ..."

(مترجم عن الفارسية)

"إنَّ الأصْلَ في هذا اليَوْمِ هُوَ الاغْتِرافُ مِنْ بَحْرِ فُيوضاتِهِ، وَلَيْسَ النَّظَرَ إلى مِقْدارِ ما يَصِلُنا مِنْ فَيْضٍ قَليلاً كانَ أمْ كَثيراً..."

(مترجم عن الفارسية)

وإزاء خلفيّة الأحداث الدّمويّة التي جرت في بلاد فارس خاطب بهاء الله أتباعه آمراً إيّاهم ليس فقط بقوله: "أنْ تُقْتَلوا خيرٌ لَكُمْ مِنْ أنْ تَقتُلوا"، بل حثّهم أيضاً على أن يكونوا مضرب المثل في إطاعة السّلطات المدنيّة، إذ قال ما ترجمته "إنَّ هذا الحِزْبَ إذا أقام في نِطاقِ أيَّةِ دَوْلَةٍ مِنَ الدُّوَلِ عَلَيْهِ أَنْ يَسْلُكَ مَعَ تِلْكَ الدَّوْلَةِ مَسْلَكَ الأمانَةِ وَالصِّدقِ وَالصَّفاءِ."

برهنت الظّروف التي أحاطت برحيل بهاء الله عن بغداد على صدق هذه التّعاليم وأكّدت نفوذها بصورة مثيرة. ففي غضون سنواتٍ قليلة تحوّلت تلك الزّمرة من المنفيّين الغرباء، الذين استقبلهم جيرانهم لدى وصولهم إلى المدينة بالرّيبة والامتعاض، لتصبح أكثر القطاعات الشّعبيّة احتراماً ونفوذاً. فقاموا بأود أنفسهم بما كان لهم من تجارة رابحة، ونالوا كطائفة إعجاب النّاس لما تحلّوا به من كرمٍ وجود، وما أظهروه من أمانة في معاملاتهم ومسلكهم. ولم يعد الرّأي العام ليتأثّر بعد ذلك بالادّعاءات والمزاعم الشّنيعة من التّعصّب والعنف، يروّجها دون كلل موظفو السّلك القنصليّ الفارسيّ ورجال الدّين من الشّيعة. وكان

بهاء الله قد غدا، بحلول الثّالث من أيار (مايو) عام 1863، وهو اليوم الذي غادر فيه بغداد إلى الآستانة على صهوة جواده ـ تصحبه عائلته ومن تمّ اختيارهم من أصحابه وخدمه ـ كان قد غدا شخصيّة أحبّها النّاس وأجلّوها، واكتسبت عندهم شعبيّة جارفة. وشهدت الأيّام التي سبقت الرّحيل والوداع مباشرةً سيلاً من الوجهاء الزّوّار بما فيهم الوالي نفسه، جاءوا إلى "حديقة الرّضوان" التي كان بهاء الله قد اختارها مقرّاً مؤقّتاً لإقامته، ليقدّموا له فروض الاحترام. وقد قطع الكثير منهم مسافات شاسعة لوداعه. وصوّر شهود عيان ذلك الرّحيل بكلمات تثير المشاعر، فوصفوا ما لَقِيَهُ بهاء الله من تكريم وتهليل، وما ذرفه الحاضرون من دموع، وما ساور السّلطات العثمانيّة والموظّفين المدنيّين من حرصٍ في إظهار كامل الاحترام والتّبجيل لزائرهم العظيم.

5

"هذا دينُ اللهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ..."

بدأ بهاء الله بعد إعلان دعوته عام 1863 بشرح موضوعٍ سَبَقَ أنْ ذكره في "كتاب الإيقان"، تناول فيه المشيئة الإِلهيّة وعلاقتها بسياق النّموّ والتّطوّر الذي تظهر فيه القدرات الرّوحيّة والخلقيّة الكامنة في جوهر الإِنسان. ويحتلّ عرض هذه المسألة مكاناً رئيسيّاً في آثاره الكتابيّة لمدّة السّنوات الثّلاثين التّالية من حياته. ففي إطار هذا العرض يؤكّد لنا بهاء الله أنَّ الحقيقة الإِلهيّة مستورة وستبقى مستورة عن العقول والأذهان. وأنّه مهما حاول العقل الإنسانيّ من الإِتْيان بوصفٍ للحقيقة الأزليّة المنزّهة عن الإدراك، فكلّ وصفٍ قاصر وليس سوى محاولة إنسانيّة، نابعة من الوجود الإِنسانيّ، ولا تصف إلاّ تجربة إنسانيّة صرفاً:

"فَسُبْحانَكَ سُبْحانَكَ مِنْ أنْ تُذْكَرَ بِذِكْرٍ أوْ تُوْصَفَ بِوَصْفٍ أوْ تُثْنى بِثَناءٍ. وَكُلَّ ما أمَرْتَ بِهِ عبادَكَ مِنْ بَدايعِ ذِكْرِكَ وَجَواهِرِ ثَنائِكَ هذا مِنْ فَضْلِكَ عَلَيْهمْ لِيَصْعَدُنَّ بِذلِكَ إلى

مَقَرِّ الّذي خَلَقَ في كَيْنونيَّاتِهمْ مِنْ عِرْفانِ أنْفُسِهِمْ، وَأَنَّكَ لّمْ تَزَلْ كُنْتَ مُقَدَّساً عَنْ وَصْفِ ما دونكَ وَذِكْرِ ما سِواكَ، وَتَكونُ بِمِثْلِ ما كُنْتَ في أزَلِ الآزال، لا إله إلاّ أنْتَ المُتَعالي المُقْتَدِرُ المُقَدَّسُ العَليمُ".

"مِنَ الواضِح لَدى أولي العِلْمِ وَالأفْئِدَةِ المُنيرَةِ، أنَّ غَيْبَ الهُوِيَّةِ وَذاتَ الأحَدِيَّةِ كانَ مُقَدَّساً عَنِ البُروزِ وَالظُّهورِ، وَالصُّعودِ وَالنُّزولِ وَالدُّخولِ وَالخُروجِ، وَمُتَعالِياً عَنْ وَصْفِ كُلِّ واصِفٍ وَإدراكِ كُلِّ مُدْرِكٍ، وَلَمْ يَزَلْ كانَ غَنِيّاً في ذاتِهِ وَلا يَزالُ يَكونُ مَسْتوراً عَنِ الأبْصارِ وَالأنْظارِ..."

(مترجم عن الفارسية)

فالبَشَر في حالة توجّههم لخالق الوجود كلّه إنّما يمرّون بتجربة تقودهم إلى اكتشاف الأسماء والصّفات المرتبطة بالمظاهر الإِلهيّة التي تترى وتتتابع:

"وَلَمّا أنْ كانَتْ أبْوابُ عِرْفانِ الأزَلِ مَسْدودَةً عَلى وَجْهِ المُمْكِناتِ لِهذا باِقْتِضاء رَحْمَتهِ الواسِعَةِ في قَوْلِهِ ’سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ وَوَسِعَتْ رَحْمَتي كُلَّ شَيْءٍ‘ قَدْ أظْهَرَ بَيْنَ الخَلْقِ جَواهِرَ قُدْسٍ نورانِيَّةٍ، مِنْ عَوالِمِ الرّوحِ الرّوحانِيِّ عَلى هَياكِلِ العِزِّ الإِنْسانِيِّ، كَيْ تَحْكِيَ عَنْ ذاتِ الأزَلِيَّةِ وَسَاذَجِ القِدَمِيَّةِ..."

(مترجم عن الفارسية)

"وَهذِهِ المَرايا القُدْسِيَّةُ وَمَطالِعُ الهُوِيَّةِ تَحْكي بِتَمامِها عَنْ شَمسِ الوُجودِ وَجَوْهَرِ المَقْصودِ، فَمَثَلاً عِلْمُهُمْ مِنْ عِلْمِهِ، وَقُدْرَتُهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ، وسَلْطَنَتُهُمْ مِنْ سَلْطَنَتِهِ، وَجَمالُهُمْ مِنْ جَمالِهِ، وَظُهورُهُمْ مِنْ ظُهورِهِ..."

(مترجم من الفارسية)

لا تختلف المظاهر الإِلهيّة فيما بينها ولا تفترق من حيث جوهرها، رغم أنَّ كلّ مظهر قد ينفرد في كيفيّة استجابته لمقتضيات البشر تلبيةً لاحتياجاتهم حسب العصر والزّمان:

"إنَّ هذِهِ الصّفاتِ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِبَعْضٍ دونَ بَعْضٍ وَلَمْ تَكُنْ كَذلِكَ فيما مَضى، بَلْ إنَّ جَميعَ الأنْبِياءِ المُقَرَّبينَ وَالأَصْفِياءِ المُقَدَّسينَ مَوْصوفونَ بِهذِهِ الصِّفاتِ وَمَوْسومونَ بِتِلْكَ الأسْماء. نِهايَةُ الأمْرِ أنًّ بَعْضَهُمْ يَظْهَرُ في بَعْض المراتِبِ أشَدَّ ظُهوراً، وَأعْظَمَ نوراً..."

(مترجم عن الفارسية)

وفي هذا المجال ينبّه بهاء الله الدّارسين للدّين والباحثين فيه إلى عدم السّماح للعقائد الفقهيّة واللاّهوتيّة أن تؤثّر مسبقاً على أحكامهم فيفرّقوا ويميّزوا بينَ مَن اختارهم الله ليكونوا مصابيح هدايته:

"إيّاكُمْ يا مَلأَ التَّوْحيدِ، لا تُفَرِّقوا في مَظاهِرِ أمْرِ اللهِ وَلا فيما نَزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الآياتِ، وهذا حَقُّ التَّوحيدِ إنْ أنْتُمْ لَمِنَ الموْقِنينَ. وَكَذلِكَ في أفعالِهِمْ وَأعْمالِهِمْ وَكُلَّ ما ظَهَرَ مِنْ عِنْدِهمْ وَيَظْهَرُ مِنْ لَدُنْهِمْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَكُلٌّ بِأَمْرِهِ عامِلينَ. وَمَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كَلِماتِهِمْ وَما نَزَلَ عَلَيْهِمْ أو في أحْوالِهِمْ وَأفْعالِهِمْ في أقَلّ ما يُحْصى لَقَدْ أشْرَكَ بِاللهِ وَبِآياتِهِ وَبِرُسُلِهِ وَكانَ مِنَ المُشْرِكينَ."

ويقارن بهاء الله بين تعاقُبِ المظاهر الإِلهيّة وبين فصول الرّبيع تذهب لتعود. ويشير إلى أنَّ رسل الله ليسوا فقط مربّين للبشر، وإن كان ذلك وظيفة من وظائفهم الرّئيسيّة، بل إنّ الكلمة التي يأتون بها، بالإِضافة إلى الحياة المثاليّة التي يحيونها، لديها القدرة على شحذ الهمم من جذورها وإحداث تغييراتٍ أساسيّة دائمة. وهكذا تفتح هذه المظاهر الإِلهيّة بقوّة نفوذها آفاقاً جديدة أمام البشر تتوسّع فيها المدارك وتتحقّق فيها الإنجازات العظيمة:

"وَحَيْثُ أنَّهُ لا رابِطَ إطْلاقاً بَيْنَ الخَلْقِ وَالحَقِّ، وَالحادِثِ وَالقَديمِ وَالواجِبِ وَالمُمْكِنِ، وَلا مَجالَ لِلمُشابَهَةِ أو المُطابَقَةِ أو المُناسَبَةِ، يَبْعَثُ اللهُ في كُلِّ عَهْدٍ وَعَصْرٍ نَفْساً طاهِرَةً لِتَظْهَرَ في عالَمِ المُلْكِ وَالمَلَكوتِ... وَما هذِهِ النُّفُوسُ المُجَرَّدَةُ وَالحقائِقُ النَّيِّرَةُ إلاّ وَسائِطَ الفَيْضِ الكُلِّيِّ

في ظِلِّ الهِدايَةِ الكُبْرى وَالرُّبوبِيَّةِ العُظْمى لِتَسْتَنيرَ وَتَتَطَهَّرَ بِها قُلوبُ المُشتاقينَ وَسَرائرُ الأصْفِياءِ بِتَأثيرِ الإِلْهاماتِ الغَيْبِيَّةِ وَالفُيوضاتِ الحَقيقيَّةِ وَالنَّسائِمِ القُدْسِيَّةِ. وَبِهذا تُصْقَلُ أفْئِدَةُ المُقَرَّبينَ وَتُجْلى مِنَ الصَّدَأ لِتُشِعَّ الوَديعَةُ الإِلهيَّةُ المَسْتورَةُ في الحقائق كَنُورِ الشَّمْسِ المُشْرِقَةِ مِنَ الفَجْر الإِلهيِّ، فَيَنْكَشِفُ السِّتارُ وَيُرْفَعُ الحِجابُ، وَيَرْتَفِعُ عَلَمُ الظُّهورِ عَلى رَبَواتِ الأفْئِدَةِ وَالقُلوبِ..."

(مترجم عن الفارسية)

وبدون هذا النّفوذ الإِلهيّ والتّأثير الرّبّانيِّ في حياة البشر، تبقى الطّبيعة البشريّة أسيرةَ الغرائز، وفريسةً لافتراضات لا واعية وأنماطٍ من السّلوك تحدّدها البيئة الثّقافيّة للإِنسان دون غيرها:

"فَبَعْدَ أنْ خَلَقَ اللهُ كُلَّ المُمْكِناتِ وَبَعَثَ المَوْجوداتِ وَتَجَلّى بِاسْمِهِ المُخْتارِ، خَصَّ الإِنْسانَ مِنْ بَيْنِ المَخْلوقاتِ جَميعِها لِمَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَكانَ أنْ خَلَقَ الكائِناتِ كُلِّها لأَجْلِ هذِهِ الغايَةِ... وَتَجَلَّى في كَيْنونةِ الأشْياءِ جَميعِهَا باسْمٍ مِنْ أسْمائِهِ وَصِفَةٍ مِنْ صِفاتِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ الإِنْسانَ مَظْهَرَ كُلِّ أسْمائِهِ وَصِفاتِهِ لِيَكونَ مِرآةً لٍذاتِهِ مُخْتَصّاً إيّاهُ بِعَظيمِ فَضْلِهِ وَقديمِ رَحْمَتِهِ. وَلكِنَّ تَجَلِّياتِ أنْوارِ صُبْحِ الهِدايَةِ وَإشْراقاتِ شَمْسِ العِنايَةِ مَسْتورَةٌ في حَقيقَةِ الإِنْسانِ كَشُعْلَةِ النّورِ مَسْتُورَةٌ في حَقيقَةِ الشَّمْعِ وَالسِّراجِ. وَقَدْ يَخْتَفي

إشْعاعُ الشَّمْسِ المُشْرِقَةِ فَلا تَنْعَكِسُ نوراً في المَرايا التي كَسَتْها غُبارُ الشّؤونِ الدُّنْيَوِيَّةِ ولا في المَجالي التي عَلاها الصَّدأ. فَمِنَ الواضِحِ إذاً أنَّ هُناكَ حاجَةً لِمَنْ يُشْعِلُ هذا السِّراجَ وَمَنْ يَصْقُلُ صَفْحَةَ هذه المَرايا وَالمَجالي، فَبدونِ النّارِ لَنْ يُشْعَلَ السِّراج، وإنْ لَمْ تُصْقَلِ المِرْآةُ صافِيَةً مِنَ الغُبارِ فَلَنْ يَنْعَكِسَ فيها إشْراقُ الشَّمْسِ وَنورُها."

(مترجم عن الفارسية)

أعلن بهاء الله أنّه قد جاء الوقت الذي أصبحت فيه الإنسانيّة تمتلك القدرة، وأمامها الفرصة، لكي تبصر المشاهد الكاملة لنموّها الرّوحيّ في إطار نَسَقٍ موحَّد: "هذا يَوْمٌ لا شَبيهَ لَهُ، فَهُوَ كَالعَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِما مَضى مِنَ القُرونِ وَالعُصورِ، وَكالنّورِ بِالنِّسْبَةِ لِظَلامِ الحِقَبِ وَالأَزْمانِ." ومن هذا المنظور يتحتّم على أتباع الأديان المختلفة بذل الجهد ليدركوا معنى ما وصفه بهاء الله بقوله: "هذا دينُ اللهِ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ"، وأن يميّزوا بين الغاية الإِلهيّة لظهور دين من الأديان وبين الشّرائع والمفاهيم المتغيّرة والتي تنزل تلبيةً لمتطلّباتٍ آنيّةٍ لمجتمع إنسانيّ دائم التّطوّر والنّموّ:

"إنَّ الرُّسُلَ وَالأنْبِياءَ هُمْ بِمَثابَةِ الأطِبّاءِ يَقومونَ بِمُعالَجَةِ العالَمِ وَأهْلِهِ فَيَصِفونَ دَواءَ الوَحْدَةِ وَالاتِّحادِ لِشِفاءِ أمْراضِ الفُرْقَةِ وَالاخْتِلافِ... وَلا عَجَبَ إذا وَجَدْنا أنَّ الطَّبيبَ

يَصِفُ عِلاجاً لِهذا اليَوْمِ يَخْتَلِفُ عَمّا وُصِفَ في الماضي. وَكَيْفَ لا يَكونُ ذلِكَ، فَلِكُلِّ يَوْمٍ عِلاجٌ يُناسِبُ أمْراضَهُ. وَبِالمِثْلِ فَإنَّ رُسُلَ اللهِ وَأنبِياءَهُ كُلَّما أناروا العالَمَ بِإشْراقِ شَمْسِ المَعْرِفَةِ الإِلهيَّةِ دَعَوا النّاسَ إلى الاسْتِفاضَةِ مِنْ نورِ اللهِ بِالوَسائلِ المُناسِبَةِ لمُقْتَضَياتِ العَصْر".

(مترجم عن الفارسية)

وليس من المفروض أنْ يقوم القلب وحده بتكريس نفسه لاكتشاف هذا النّسق من التّحوّل والتّطوّر، بل على العقل أيضاً أن يفعل ذلك. ويؤكّد لنا بهاء الله أنّ العقل نعمة من أعظم النّعم أسبغها الله على الإنسان، فهو "النَّفْسُ النّاطِقَةُ" و"آيةُ تَجلّي سُلْطانِ الأحَدِيّةِ." فإذا تحرّر العقل من ربقة العقائد والتّقاليد الموروثة، دينيّة كانت أم دنيويّة، عندئذٍ فقط يمكنه أن يباشر تحرّيه للعلاقة القائمة بين كلمة الله وبين ما تتركه من أثرٍ ونفوذ في حياة بني البشر. ولعلّ العقبة الرّئيسيّة في مثل هذا البحث والتّحرّي هو التّعصّب: "ذَكِّرْ يا سَلْمانُ أحِبّاءَ الحَقِّ بِأَلاَّ يَعْتَرِضوا عَلى كَلِماتِ أحَدٍ... بَلْ عَلَيْهِمُ النَّظَرُ إلى هؤلاءِ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ."

6

المظْهَرُ الإلهِيّ

يشترك كلّ الذين يؤمنون بواحدٍ أو آخر من النّظم الدّينيّة في العالم في الاعتقاد بأنَّ الواسطة بين عوالم الله وروح الإنسان هي المظاهر الإِلهيّة. وأنّ هذه العلاقة بالذّات هي التي تُعطي الحياة معنىً حقيقيّاً. إنّ من أهمّ الفقرات شأناً في آثار بهاء الله الكتابيّة تلك التي يعالج فيها بإسهاب طبيعة ودور أولئك الذين يختارهم الله واسطة الظّهور الإِلهيّ، أي "الرّسل والأنبياء" أو "المظاهر الإِلهيّة". ويعطينا بهاء الله الأمثلة واحداً بعد آخر قياساً، فيشبّه المظاهر الإلهيّة بالشّموس. وضرب المثل بأنّ الشّمس تشارك غيرها من السّيّارات التي تدور في مدارها بعض الخواصّ إلاّ أنَّها تختلف عن تلك السّيّارات كلّها لأنَّها المصدر الذي ينبعث منه النّور. فالأقمار والكواكب عاكسةٌ لنور الشّمس، بينما الشّمس وحدها تبعث النّور وتنشره كخاصّة لا تنفصل عن طبيعتها. فالنّظام الشّمسيّ كلّه محوره الشّمس ذاتها ويدور كلّه حولها، وكلّ عنصر من عناصر هذا النّظام يتأثّر بالشّمس ليس من حيث تكوينه الخاص بل أيضاً يتأثّر من حيث علاقته بالشّمس، مصدر الضّوء وباعث النّور في النّظام كلّه.

وعلى هذا القياس نفسه يؤكّد لنا بهاء الله أنَّ الشّخصيّة الإِنسانيّة التي يتمتّع بها المظهر الإِلهيّ مشاركاً فيها باقي البشر، تختلف عن غيرها بصورة تجعلها مؤهّلةً لتكون واسطة الظُّهور الإِلهيّ. ويبدو أنَّ من الأسباب العديدة للبلبلة والانشقاق الدّينيّ عبر التّاريخ تلك الإِشارات التي تحمل تناقضاً ظاهريّاً بالنّسبة لهذه الثُّنائيّة في المقام، والمنسوبة مثلاً إلى السّيّد المسيح. يعلّق بهاء الله على هذا الموضوع فيقول:

"إنَّ ما في السَّمواتِ وما في الأرْضِ مَهابِطُ لِظُهورِ أسْماءِ الله وَصِفاتِهِ... وَيَنْطَبِقُ هذا عَلى الإِنسانِ بِصُورَةٍ خَاصَّةٍ، فَقَد اخْتَصَّهُ اللهُ دونَ غَيْرِهِ مِنَ المَوْجوداتِ فَشَرَّفَهُ وَمَيَّزَهُ... وَتَجَلَّتْ في الإِنْسانِ صِفاتُ اللهِ وأسْمَاؤهُ عَلى نَحْوٍ أشْرَفَ وَأكْمَلَ مِنْ غَيْرِهِ... وأكْمَلُ النّاس وأفْضَلُهُمْ وألْطَفُهُمْ هُمْ مَظَاهرُ شَمْسِ الحَقيقَةِ، لا بَلْ كلُّ مَنْ سِواهُمْ مَوْجودُونَ بإرادَتِهِمْ وَيَحْيَوْنَ وَيَتَحَرَّكُونَ بِفَيْضِهِمْ..."

(مترجم عن الفارسية)

إنَّ قناعة المؤمنين في أيّ دين من الأديان بأنّ مؤسّس دينهم يتمتّع بمقام متميّز عن غيره من مؤسّسي الأديان الأخرى، ولّد عبر التّاريخ الكثير من الحدس والتّخمين حول طبيعة المظهر الإِلهيّ وجوهره. وفي كلّ حالة من الحالات نجد أنّ هذا الحدس والتّخمين قد حدّته حدود صارمة، فهو مبنيّ على إشارات مجازيّة مجزّأة ومتفرّقة وردت في الأقوال القليلة الموثّقة لمؤسّس الدّين نفسه. ولم تسفر محاولات بلورة

هذه الآراء المبنيّة على الحدس والتّخمين في شكل عقائد دينيّة إلاّ عن الفرقة والشّقاق بدلاً من الوحدة والوفاق. وفي الحقيقة فإنّه رغم ما بُذل من طاقات هائلة في الدّراسات الفقهيّة والأبحاث اللاّهوتيّة -أو لعلّه بسببها- نجد أنّ هناك اليوم خلافات عميقة قائمة بين المسلمين أنفسهم حول المقام الحقيقيّ للنّبيّ الكريم. كذلك الحال بالنّسبة لمقام كلٍّ من السّيّد المسيح بين المسيحيّين، وموسى عليه السّلام بين اليهود، ومقام مؤسّس الدّين البوذيّ بين أتباعه والمؤمنين به. وكما هو واضح كلّ الوضوح فإنَّ الجدل النّاتج عن مثل هذه الخلافات وغيرها ضمن محيط الدّين الواحد، برهن على الأقلّ أنّها خلافات لا تقلّ حدّةً عن تلك التي تفصل الدّين الواحد نفسه عن غيره من الأديان الشّقيقة الأخرى.

لذلك، ولكي نفهم تعاليم بهاء الله حول موضوع وحدة الأديان، يُصبح من الأهميّة بمكان الاطّلاع بصورة خاصّة على بياناته بالنّسبة لمقام المظاهر الإِلهيّة المتتابعة والوظائف التي قاموا بتنفيذها عبر التّاريخ الرّوحي للبشر:

"لِكُلِّ مَظْهَرٍ مِنْ مَظاهِرِ الحَقِّ مَقامانِ: مَقامُ التَّجَرُّدِ الصِّرْفِ والتَّفَرُّدِ البَحْتِ. فَإذا نَظَرْتَ إلى هذا المَقامِ وَوَصَفْتَ الكُلَّ بِاسْمٍ واحِدٍ وَنَعْتٍ واحِدٍ فَلا خَطَأ وَلا حَرَج...

أمّا المَقامُ الآخَرُ فَهُوَ مَقامُ التَّفْصيلِ المُتَعَلِّق بِعالَمِ الخَلْقِ وَمَحْدودِيّاتِ البَشَر. فَإذا نَظَرتَ إلى هذا المَقامِ لَوَجَدْتَ أنَّ

لِكُلِّ مَظْهرٍ هَيكَلاً مُعَيَّناً، وَأمْراً مُقَرَّراً، وَظُهوراً مُقَدَّراً، وَمَحْدودِيَّةً مُخَصَّصَةً. وَلِكُلٍّ اسْمٌ يَخْتَلِفُ عن الآخَرِ، وَوَصْفٌ يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَلِكُلٍّ أمْرٌ بَديعٌ يُنَفِّذُهُ وَشَرْعٌ جَديدٌ يُجْريهِ... وَفي هذا المَقامِ الثّاني تَجِدُهُمْ جَميعاً مَظاهِرَ العُبودِيَّةِ الصِّرْفِ، وَالفَقْرِ الخَالِصِ، والفَناءِ التّامِّ وَلسانُ حالِ كُلٍّ مِنْهُمْ يَقولُ: إنّي عَبْدُ اللهِ وَما أنا إلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ... وَمِنْ جِهَةٍ أخْرى إذا صَرَّحَ أحَدُ هذِهِ المَظاهِرِ الجامِعَةِ قائلاً: إنّي أنا اللهُ، فإنَّ قَوْلَهُ الحَقُّ وَلا رَيْبَ فيهِ. فَبِواسِطَةِ ظُهوراتِهِمْ وَأسْمائِهِمْ وَصِفاتِهِمْ يَظْهَرُ اللهُ بِأسْمائِهِ وَصِفاتِهِ في الأرْضِ... وَبِالمِثْلِ إذا قالَ أحَدُهُمْ إنّي رَسولُ اللهِ فَإنَّ قَوْلَهُ الحَقُّ وَلا رَيْبَ فيهِ... وَفي هذا هُمْ جَميعاً رُسُلٌ بَعَثَ بِهْمْ سُلْطانُ الحَقِّ وَكَيْنونَةُ الأزَلِ... فإِذا قالوا نَحْنُ عِبادُ اللهِ فَقَوْلُهُمُ الحَقُّ وَلا شَكَّ فيما يَقولونَ، لأنَّهُمْ ظَهَروا في أدْنَى مَراتِبِ العُبوديَّةِ عَلى نَحْوٍ لا مَثيلَ لَهُ في الإِمْكانِ وَلا يُجاريهمِ فيهِ إنسانٌ..."

(مترجم عن الفارسية)

"فَكُلُّ ما يَنْطِقونَ بِهِ وَيَذْكُرونَهُ مِنَ الألوهِيَّةِ وَالرُّبوبيَّةِ وَالنُّبُوَّةِ وَالرِّسالَةِ وَالوِلايَةِ وَالإِمامَةِ وَالعُبودِيَّةِ حَقٌّ لا رَيْبَ فيهِ... لِذَلِكَ يَجبُ التّأمُّلُ في ما ذُكِرَ مِنَ البَياناتِ حَتّى لا تَضْطَرِبَ النُّفوسُ وَتَتَزَلْزَلَ إذا وَجَدَتِ اخْتِلافاً في أقْوالِ المَظاهِرِ الغَيْبِيَّةِ وَالمَطالِعِ القُدْسِيَّة..."

(مترجم عن الفارسية)

7

مَدَنِيّة دَائِمَة النّموِّ وَالتّطور

تحمل هذه المقتطفات في مضمونها منظوراً فكريّاً يمثّل أكثر الجوانب إثارة للتّحدّي في هذا العرض الذي يبسطه أمامنا بهاء الله شارحاً وظيفة المظهر الإِلهيّ ومهمّته. فالظّهور الإِلهيّ كما يقول بهاء الله هو القوّة الباعثة للحضارة الإِنسانيّة. فمع كلّ ظهور إلهيّ جديد تُحدِث قوّته النّافذة تغييراً في الذين يستجيبون له يُصيب نفوسهم وعقولهم. ويتردّد صدى هذه القوّة أيضاً في المجتمع الجديد الذي يبدأ تدريجيّاً بتكوين نفسه على أساس خبرات تلك النّفوس وتجاربها. ومن ثمّة يبرز إلى الوجود قطب جديدٌ للولاء يستطيع أن يفوز بالتزام شعوبٍ وأمم متباعدة الثّقافات بأهدافه. وتتّسع الموسيقى والفنون والآداب آفاقاً لتتّخذ رموزاً لها تستدرّ إلهاماً أكثر وفرةً ونضجاً. ويعاد النّظر في تعريف مفاهيم الخير والشّرّ من الأساس تعريفاً جديداً يجعل في الإِمكان صياغة قواعد جديدة تنظّم السّلوك العامّ وتساعد على سَنّ القوانين المدنيّة. وأخيراً تنشأ مؤسّسات جديدة لتترجم عمليّاً غاية المسؤوليّة الأخلاقيّة التي تمّ تجاهلها أو كانت غير معروفة في السّابق:

"لَقَدْ كَانَ مَوْجوداً في العاَلمِ، وَبِواسِطَتِهِ خُلِقَ عالَمُ الوُجودِ، وَلكِنَّ العالَمَ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهُ".

وهكذا تنمو الثّقافة الجديدة وتتطوّر لتصبح حضارة إنسانيّة. وتستوعب في طور نموّها هذا حِكْمَةَ الماضي وإنجازات العصور السّابقة لتحيلها إلى العديد من المعادلات الجديدة والتّرتيبات الحديثة. أمّا المعالِمُ المتّصلة بثقافات قديمة لا يمكن استيعابها أو دمجها في الإِطار الجديد، فإمّا أنْ تندثر أو تتبنّاها فئات هامشيّة من النّاس. إنّها كلمة الله تحيي الوعي الفرديّ إمكانياتٍ جديدة، وتصوّر العلاقات الإِنسانيّة فتغنيها أسباباً مبتكرة:

"كُلُّ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ إنَّهُ لَمُحْيي الأبْدانِ لَوْ أنْتُمْ مِنَ العارِفينَ. كُلّ ما أنْتُمْ تَشْهَدونَ في الأرْضِ إنَّهُ قَدْ ظَهَرَ بأمْرِهِ العالي المُتَعالي المُحْكَمِ البَديعِ، إذا اسْتَشْرَقَ عَنْ أُفُقِ فَمِهِ شَمْسُ اسْمِهِ الصّانِعِ بها تَظْهَرُ الصّنايعُ في كُلّ الأعْصارِ، وَإنَّ هذا لحَقٌّ يَقينٌ. وَيَسْتَشْرِقُ هذا الاسْمُ عَلى كُلِّ ما يَكونُ، وَتَظْهَرُ مِنْهُ الصّنايعُ بأسْبابِ المُلْكِ، لَوْ أنْتُمْ مِنَ الموْقِنينَ. كُلَّ ما تَشْهَدونَ ظُهورات الصُّنْعِيَّةِ البَديعةِ، كُلُّها ظَهَرَ مِنْ هذا الاسْمِ وَسَيَظْهَرُ مِنْ بَعْدُ ما لا سَمِعْتُموهُ مِنْ قَبْلُ، كَذلِكَ قُدِّرَ في الألْواحِ وَلا يَعْرِفُها إلاّ كُلُّ ذي بَصَرٍ حَديدٍ. وَكَذلِكَ حينَ الذي تَسْتَشْرِقُ عَنْ أفُقِ البَيانِ شَمْسُ اسْميَ العَلاّمِ،

يَحْمِلُ كُلُّ شَيءٍ مِنْ هذا الاسْمِ بَدايِعَ العُلومِ عَلى حَدِّهِ وَمِقْدارِهِ، وَيَظْهَرُ مِنْهُ في هذِهِ الأيّامِ بأمْرٍ مِنْ لَدُنْ مُقْتَدِرٍ عَليمٍ. وَكَذلِكَ فَانظُرْ في كُلِّ الأسْماءِ وَكُنْ عَلى يَقينٍ مَنيعٍ. قُلْ إنَّ كُلَّ حَرْفٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ الله إنَّها لأُمُّ الحُروفَات، وَكَذلِكَ كُلُّ كَلِمَةٍ تَظْهَرُ مِنْ مَعْدِنِ الأمْر إنّها لأُمُّ الكَلِماتِ، وإنَّ لَوْحَهُ لأُمُّ الألْواحِ فَطوبى للعارِفينَ..."

ويؤكّد الباب بأنّ التّتابع المتعاقب للمظاهر الإِلهيّة "سياقٌ لا بدايَةَ لَهُ ولا نِهايَة" وأنَّ رسالة كلّ مظهر إلهيّ محدودة من حيث دورتها الزّمنيّة، والوظائف المنوطة بها، رغم كونها جزءاً لا يتجزّأ بأيّة حال من المشيئة الإِلهيّة والقوّة الرّبّانيّة في أطوار ازدهارها وتقدّمها المستمرّ:

"فَانْظُرْ بِطَرْفِ البَدْءِ فيما نَظَرْتَ إلى آدَمَ الأولى ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ إلى أنْ يَصِلَ الأمْرُ إلى عَليّ قَبْلَ نَبيلٍ، قُلْ تاللهِ كُلُّهُمْ قَدْ جَاءوا عَنْ مَشْرِقِ الأمْر بِكتابٍ وصَحيفَةٍ ولَوْحٍ عَظيم، وَأُوتوا كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ عَلى مَا قُدِّرَ لَهُم وَهذا مِنْ فَضْلِنا عَلَيْهِمْ إنْ أنْتُمْ مِنَ العارِفين..."

وأخيراً حين تستهلك الحضارة الإنسانيّة الدّائمة التّطوّر قواها الرّوحيّة، تبدأ مرحلة من التّفكّك والتّفسّخ تماماً كما هي الحال في العالم الظّاهريّ. ويعود بهاء الله فيورد لنا قياساً نجده في عالم الطّبيعة، فيشبّه هذه الفترة

التي هي بمثابة انحطاطٍ بين حضارتين ببداية فصل الشّتاء. وفي هذه الفترة نجد حيويّة الخُلُق وقد تضاءلت، وتماسُك المجتمعِ وقد تناقص. ويتحوّل عندئذٍ كلّ تحدٍّ فيصبح عقبة كؤوداً لا يمكن تخطّيها، بعد أنْ كان من الممكن في زمن سابق التّغلّب على مثل هذا التّحدّي أو ترجمته إلى فرص وإمكانات تحقّق اكتشافات وإنجازات. وفي مثل هذه الفترة يفقد الدّين موقعه، وتتبعثر الجهود في مجالات البحث والاختبار تبعثراً متزايداً، وتتفاقم الانقسامات والخلافات الاجتماعيّة عمقاً، وأخيراً يتعاظم الشّكّ ويزداد فقدان الثّقة بمعنى الحياة وقيمتها، فيولّد ذلك القلقَ والحيرة والاضطراب. ويصف بهاء الله هذه الحالة في عصرنا الرّاهن فيقول:

"نُشاهِدُ بوُضوحٍ كَيْفَ أحاطَتْ بالعَالَمِ مِنْ كُلِّ الجِهاتِ البَلايا العَظيمَةُ والرَّزايا العَديدَة. ونَرى العَالَمَ طَريحَ فِراشِ المَرَضِ تُبَرِّحُهُ الآلام، ووَقَفَ أولئِكَ الذينَ أسْكَرَهُمْ غُرورُ النَّفْسِ والهَوَى حائِلاً بَيْنَ هذا المَريضِ وَذلِكَ الطّبيبِ الحاذِقِ. فَانْظُروا كَيْفَ أوْقَع هؤلاءِ النّاسَ جَميعاً، بِما فيهم أنفُسَهُمْ، في حَبائِلِ مكائِدِهِمِ. فَهُمْ عاجِزونَ عَنِ اكْتِشافِ عِلَّةِ المَرَضِ، لا يَعْلَمونَ كَيْفَ يَصِفونَ الدَّواءَ، يَنْظُرونَ إلى ما اسْتَقامَ مِنَ الأمورِ فَيَرَوْنَهُ مُعْوَجّاً، وَيَتَراءى لَهُمُ الصَّديقُ فَيَحْسَبونَهُ عَدُوّاً..."

(مترجم عن الفارسية)

وعندما تتحقّق كلّ واحدة من هذه البواعث الإِلهيّة يتكرّر هذا السّياق، فيظهر ظهور إلهيّ جديد مدعوم بقسطٍ كامل من الوحي والإِلهام لمواجهة المرحلة التّالية من مراحل إيقاظ الجنس البشريّ وتربيته ليخلق حضارة جديدة:

"لاحِظوا أنَّهُ حينَ ظُهورِ المَظْهَرِ الكُلِّيِّ وَقَبْلَ أنْ يَكْشِفَ ذاتُ القِدَمِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَنْطِقَ بِالكَلِمَةِ الآمرَةِ، كانَ اللهُ عَليماً بِكُلِّ شَيءٍ وَلا مَنْ يَعْلَمُ، وَكانَ اللهُ خالِقُ الوُجودِ كُلِّهِ دونَ أنْ يَكونَ هُناكَ مِنْ مَخْلوقٍ... إنَّهُ اليَوْمُ الذي نَزَلَتْ فيهِ الآيَةُ ’لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ؟‘ دونَ أنْ يَكونَ هُناكَ مِنْ مُجيبٍ..."

(مترجم عن الفارسية)

وإلى حين أنْ يبدأ قسم من البشر بالاستجابة لدعوة الظّهور الجديد، ويبدأ النّموذج الرّوحانيّ والاجتماعيّ الجديد باتّخاذ شكله وصورته، يستطيع النّاس سدّ رمقهم الرّوحيّ والخلقيّ معتمدين في ذلك على آخر ما تبقّى من آثار النّعمة التي أغدقت عليهم في الماضي. وسواء أكانت المهامّ اليوميّة للمجتمع منفَّذةً أم غير منفَّذَة، والقوانين تحظى باحترام النّاس أو مخالفتهم لها، والاختبارات الاجتماعيّة والرّوحيّة ناجحة أو فاشلة، تبقى المسألة أنَّ جذور الإِيمان حينئذٍ قد ذَوَت واضمحلّت. وفي مثل هذه الحال لا يمكن لأيّ مجتمع أنْ يدوم بدون

إيمان. فَعِند "نهاية العالم" أو في "آخر الزّمان" أو عند "نهاية كلّ عصر" تحاول النّفوس المستعدّة روحيّاً التّوجّه من جديد نحو المصدر الخلاّق. ومهما كانت هذه المحاولة مشوبة بالفوضى والاضطراب، ومهما كانت الخيارات مشوّشة وتعيسة، فما سعيهم إلاّ استجابة غريزيّة لإحساسهم بحدوث صَدْعٍ رهيب في الحياة المنتظمة للجنس البشريّ. ويشير بهاء الله إلى تأثيرات الظّهور الجديد فيقرّر أنّها تشمل الوجود كلّه، وأنّها ليست محدودة فقط بحياة المظهر الإِلهيّ وتعاليمه. ولكنّ المظهر الإلهيّ يبقى قطب الظّهور كلّه. ورغم أنّه ليس في الإِمكان الإِحاطة بمؤثّرات الظّهور الإِلهيّ فإنّها تنفذ نفوذاً متزايداً إلى قرارة الشّؤون الإِنسانيّة جميعها. فيُكشَفُ النّقاب عن التّناقضات الكامنة في المجتمع وفي الافتراضات التي يتداولها البشر، ويُكَثَّفُ البحث عن سبل التّفاهم والتّراضي.

بالإضافة إلى كلّ هذا يصرّح بهاء الله بأنّ تتابع المظاهر الإِلهيّة يمثّل بُعْداً من الأبعاد التي يتكوّن منها الوجود لا يمكن فصله، وأنّ هذا التّتابع سيستمرّ طوال حياة هذا العالم: "بَعَثَ اللهُ رُسُلاً بَعْدَ موسى وعيسى وسَيُرْسِلُ مِنْ بَعْدُ إلى آخر الذي لا آخِرَ لَهُ بِحَيْثُ لَنْ يَنْقَطِعَ الفَضْلُ عَنْ سَماءِ العِنايَةِ."

8

يَومُ الله

ولنا أنْ نَسأل: ما هو الهدف من نُموّ الوعي الإِنسانيّ وارتقائه في نظر بهاء الله؟ مِنْ منظور العالم الأبَدِيِّ يكون الجواب أنّ الله سبحانه وتعالى إنّما يرغبُ في مشاهدة كمالات ذاته منعكسةً على أوضح صورة في مرآة خلقه، وأنّه حسب ما جاء في كلمات بهاء الله:

"... لِيَشْهَدَ الكُلُّ في نَفْسِهِ بِنَفْسِهِ في مَقامِ تَجَلّي رَبِّهِ بأنَّهُ لا إلهَ إلاّ هُوَ، وَليَصِلَ الكُلُّ بِذلِكَ إلى ذُرْوَةِ الحَقائِقِ حَتّى لا يُشاهِدَ أحَدٌ شَيْئاً إلاّ وَقَدْ يَرى اللهَ فيهِ."

وأمّا من حيث ما يحدث في هذا العالم الفاني، وفي إطار سياق التّاريخ، فإنّ الهدف من تتابع المظاهر المقدّسة هو تهيئة الوعي الإنسانيّ لتحقيق الوحدة والاتّحاد للنّوع البشريّ، ليصبح فعلاً كائناً عضويّاً واحداً باستطاعته تحمّل مسؤوليّته تجاه المستقبل الجماعيّ للإِنسان. يقول بهاء الله: "إنَّ رَبَّكُمُ الرَّحمنَ يُحِبُّ أنْ يَرى مَنْ في الأكْوانِ كَنَفْسٍ

واحدةٍ وَهَيْكَلٍ واحِد." ولن تستطيع الإنسانيّة مواجهة التّحدّيات الرّاهنة، ناهيك عمّا يمكن أن يواجهها في المستقبل، حتّى تعترف بوحدتها العضويّة وتقبل بها قضيّة مسلّمة. ويؤكّد لنا بهاء الله أنّه "لا يُمْكِنُ تَحقيقُ إصْلاحِ العالَمِ واسْتِتْبابِ أمْنِهِ وَاطْمِئْنانِهِ إلاّ بَعْدَ تَرْسيخِ دَعائِمِ الاتِّحادِ وَالاتِّفاق." ولن يجد بنو البشر اطمئناناً حقيقيّاً إلاّ بتأسيس مجتمع عالميّ موحَّد. وهو ما أشار إليه بهاء الله ضمناً في أحد أدعيته إلى الله: "فَسُبْحانَكَ سُبْحانَكَ مِنْ أنْ تُذْكَرَ بِذِكْرٍ أوْ تُوْصَفَ بِوَصْفٍ أو تُثْنى بِثَناءٍ. وَكُلَّ ما أمَرْتَ بِهِ عبادَكَ مِنْ بَدائعِ ذِكْرِكَ وَجَواهِرِ ثَنائِكَ هذا مِنْ فَضْلِكَ عَلَيْهِمْ لِيَصْعَدُنَّ بِذلِكَ إلى مَقَرِّ الذي خَلَقَ في كَيْنونيَّاتِهِمْ مِنْ عِرْفانِ أنْفُسِهِمْ ..." ولعلّه من قبيل المفارقات، أنّه من غير الممكن للإِنسانيّة أنْ تحافظ على التّعدديّة والفرديّة محافظةً سليمة إلاّ بعد أنْ تتحقّق الوحدة الحقيقيّة. وهذا هو الهدف الذي سعت من أجله كلّ رسالات المظاهر الإِلهيّة التي عرفها التّاريخ الإِنسانيّ: إنَّه اليوم الذي يتوحّد فيه العالم وهناك "تَكونُ رَعِيَّةٌ واحِدَةٌ وَراعٍ واحِدٌ." ويبشّرنا بهاء الله بأنّ تحقّق مجيء هذا اليوم هو المرحلة الرّاهنة من مراحل التّطوّر الحضاريّ التي ولجها الجنس البشريّ الآن.

ومن أمثلة القياس المليئة بالإِيحاء، ليس فقط في آثار بهاء الله، ولكن أيضاً في آثار الباب من قبله، المقارنةُ بين نموّ الجنس البشريّ وارتقائه كمجتمع وحياة الإنسان كفرد. فقد مرّت الإنسانيّة بمراحل مختلفة

إبّان تطوّرها الجماعيّ تذكّرنا بالمراحل التي يمرّ الفرد بها في نموّه، كعهود الطّفولة والمراهقة والشّباب حتى الوصول إلى مرحلة النّضج والرّشاد. وها نحن بدأنا ندخل مرحلة نضجنا الجماعيّ وقد أُغدقت علينا نِعَمٌ كثيرة تمثّلت في قدرات وإمكانات جديدة لا يزال إدراكنا لها مبهماً.

وليس من الصّعب، والأمر كذلك، أنْ نفهم الأولويّة التي خصّ بها بهاء الله مبدأ الوحدة والاتّحاد في تعاليمه. فالميزة الرّئيسيّة لهذا العصر الذي بدأنا دخوله هي مبدأ وحدة العالم الإِنسانيّ، وما هذا المبدأ إلاّ ميزانٌ صحيحٌ لتقويم الاقتراحات كلّها المتعلّقة بإصلاح المجتمع الإنسانيّ وتحسين أوضاعه. وجَزَمَ بهاء الله بأنّ الجنس البشريّ جنسٌ واحد لا اختلاف بين أفراده، وأنَّ النّظريّات الموروثة التي تميّز مجموعة عرقيّة أو إثْنيّة من البشر فتعطيهم منزلة أسمى من غيرهم نظريّات باطلة لا أساس لها من الصّحّة. وبالمثل فإنَّ الوحي الذي جاء به كلّ رسول هو جزء لا يتجزّأ من التّراث الجماعيّ للجنس البشريّ ككلّ، وكلُّ فرد في هذا العالم إنما هو وريثٌ شرعيّ لهذا التّراث الرّوحي بأكمله، ذلك أنَّ المظاهر الإِلهيّة كلّها ما جاءت إلاّ لتنفيذ المشيئة الواحدة لله سبحانه وتعالى. فالإِصرار على التّمسّك بالتّعصّبات مهما كانت ألوانها يُلحقُ الضّررَ بمصالح المجتمع الإِنسانيّ، ويُشكّل انتهاكاً لمشيئة الخالق وما قدّره من أهداف لهذا العصر:

"أيَّتُها الأحْزابُ المُخْتَلِفَةُ تَوَجَّهوا نَحْو الاتِّحادِ وَنوِّروا أَنْفُسَكُمْ بِنورِ الاتِّفاقِ، أنِ اجْتَمعوا لِوَجْهِ اللهِ في مَقَرٍّ واحِدٍ وَأزيلوا كُلَّ ما هُوَ سَبَبُ الاخْتِلافِ فيما بَيْنَكُمْ... فَلا رَيْبَ في أنَّ أحْزابَ العالَمِ وَشُعوبَها مُتَوَجِّهَةٌ إلى الأفقِ الأعْلى وَمُنَفِّذَةٌ لأمْرِ الحَقِّ. وَما الاخْتلافُ بَيْنَ الشّرائِعِ وَالأحْكامِ التي تُجْريها إلاّ نَتيجَةَ مُقْتَضَياتِ العَصْرِ وَالزَّمانِ، فَكُلُّها مِنْ عِنْدِ اللهِ أنْزَلَها بِمَشيئَتهِ سِوى بَعْضِ ما خَلَقَهُ العِناد... أَنِ اكْسِروا بِيَدِ الإِيقانِ أصْنامَ الاختلافِ وَالأوْهامِ."

(مترجم عن الفارسية)

فموضوع الوحدة والاتّحاد خيط ذهبيّ يربط كلّ ما أنزله بهاء الله من آثار: "قَدِ ارْتَفَعَتْ خَيْمَةُ الاتِّحادِ، لا يَنْظُرُ بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ كَنَظْرَةِ غَريبٍ إلى غَريبٍ..." و"عاشِروا مع الأدْيان كُلِّها بِالرَّوْحِ وَالرَّيْحانِ..." وأيضاً "كُلُّكُمْ أثْمارُ شَجَرَةٍ واحِدَةٍ وَأوْراقُ غُصْنٍ واحِدٍ."

إنَّ مَسيرة الإِنسانيّة نحو بلوغ سنّ الرّشد وصلت غايتها أثناء تطوّر النّظام الاجتماعيّ في العالم. فابتداءً من وحدة النّظام العائليّ وامتداداته المختلفة، طوَّر الجنس البشريّ بدرجات متفاوتة من النّجاح مجتمعات قامت على أساس النّظام العشائريّ ثمّ القبليّ ثمّ نظام المدينة - الدّولة ومؤخراً نظام الأمّة - الدّولة. وبتوسّع البيئة الاجتماعيّة المطّرد وازدياد

أمورها تعقيداً تُشحَذ الإِمكانات الإِنسانيّة ويتّسع أفق نموّها، وهذا النّموّ يُنْتِج بدوره تعديلات مستحدثة وجديدة في نسيج المجتمع. ولبلوغ الإِنسانيّة سنّ الرّشد يَستلزمُ إذاً حدوث تحوّل شامل في النّظام الاجتماعيّ الرّاهن، بحيث يصبح نظاماً قادراً على استيعاب التّعدّديّة الموجودة في الجنس البشريّ بصورة شاملة، وعلى الاستفادة استفادةً كاملة من المجال الواسع لمختلف المواهب والمعارف التي هذّبتها آلافُ السّنين من الخبرات الثّقافيّة والتّجارب الإِنسانيّة:

"اليَوْمُ يَوْمُ الفَضْلِ الأعْظَمِ وَالفَيْضِ الأكْبَرِ، وَعَلى الجميعِ أنْ يَجِدوا الرّاحَةَ والاطْمِئْنانَ بِتَمامِ الاتِّحادِ وَالاتِّفاقِ في ظِلِّ سِدْرَةِ العِنايَةِ الإِلهيَّةِ... فَلَسَوْفَ يُرفَعُ بِساطُ هذا العالَمِ لِيَحُلَّ مَحَلَّهُ بِساطٌ آخَرُ. إنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الحَقُّ عَلاّمُ الغُيوبِ."

(مترجم عن الفارسية)

أمّا إقامة العدل في الشّؤون الإنسانيّة، كما يؤكّد لنا بهاء الله، فهو الوسيلة الرّئيسيّة لإحداث التّحوّل والتّغيير في المجتمع، وتحقيق وحدة العالم الإِنسانيّ واتّحاده. ويحتلّ هذا الموضوع مكاناً رئيسيّاً في تعاليمه:

"العَدْلُ سِراجُ العِبادِ فَلا تُطفِئوهُ بأرْياحِ الظُّلْمِ وَالاعْتِسافِ المُخالِفَةِ، وَالمَقْصودُ مِنْهُ ظُهورُ الاتِّحادِ بَيْنَ العِبادِ. وَفي هذِه الكَلِمَةِ العُلْيا تَمَوَّجَ بَحْرُ الحِكْمَةِ الإِلهِيَّةِ وَإنَّ دَفاتِرَ العالَمِ لا تَكفي تَفْسيرَها..."

(مترجم عن الفارسية)

يوضّح بهاء الله في آثاره الكتابيّة اللاّحقة النّتائج المترتّبة على تنفيذ هذا المبدأ في عصر بلغت فيه الإِنسانيّة نضجها. فهو يؤكّد لنا بأنّ "النِّساءَ والرِّجالَ كانوا وَسَيَكونونَ أبَداً مُتساوينَ في نَظَرِ اللهِ." وأيضاً بأنّ تقدّم الحضارة يتطلّب من المجتمع تنظيماً لشؤونه بحيث تبرز هذه الحقيقة واضحة إلى الوجود، وأنَّ موارد الأرض ملكٌ للإِنسانيّة جمعاء وليس لشعب من الشّعوب، كما أنَّ الإِسهامات المختلفة التي تفيد الصّالح الاقتصاديّ العامّ جديرة بأن يُعْتَرَف بدورها وتُكافَأ بما يتناسب مع حجمها المختلف، وأخيراً فإنّه يجب إزالة الفوارق الشّاسعة بين الأغنياء والفقراء، وهي ما ابتليت به معظم أمم الأرض، بغضّ النّظر عمّا تعتنقه هذه الأمم من فلسفات اجتماعيّة واقتصاديّة.

9

إعْلان لِملُوك الأرْض

إنّ البيانات الكريمة التي جاء ذكرها في الصّفحات السّابقة نزلت في معظمها على بهاء الله، وهو رهين الاضطهاد المتجدّد والمستمرّ. وصارَ واضحاً إثر وصول السّجين المنفيّ إلى الآستانة أنَّ مظاهر الإعزاز التي أحيطَ بها إبّان رحلته من بغداد، ما كانت إلاّ فترة وجيزة فاصلة مؤقّتة. فقرار السّلطات العثمانيّة بنقل "الزّعيم البابيّ" وأصحابه إلى عاصمة الإِمبراطوريّة، بدلاً من نفيه إلى مقاطعة نائية من المقاطعات زاد المخاوف عمقاً لدى ممثّلي الحكومة الفارسيّة. فألحّ السّفير الفارسيّ لدى الباب العالي في ضغوطه لكي يُبْعَدَ المنفيّون إلى إحدى الجهات النّائية من أطراف الإِمبراطورية العثمانيّة، إذ كان يخشى أنْ تتكرّر أحداث بغداد وأن يكسب بهاء الله هذه المرّة ليس فقط عطف الشّخصيّات ذات النّفوذ في الحكومة العثمانيّة بل وأنْ يفوز بولائهم أيضاً. وكانت حجّة السّفير أنّ انتشار الرّسالة الجديدة في العاصمة العثمانيّة قد يكون ذا نتائج سياسيّة ودينيّة غير محمودة.

قاومت الحكومة العثمانيّة في بادئ الأمر المطالب الفارسيّة بشدّة. وعبَّر رئيس الوزراء العثمانيّ عالي باشا للدّبلوماسيّين الغربيّين عن اعتقاده بأنّ بهاء الله "رجلٌ سامي المقام، مثاليّ التّصرّف، بالغ الاعتدال، وشخصيّة تتّسم بغاية الوقار والاحترام". أمّا تعاليمه فقد كانت في نظر رئيس الوزراء "جديرة بالاحترام البالغ" لأنها تسعى إلى محو العداوات المذهبيّة التي كانت تفرّق مواطني الإِمبراطوريّة من اليهود والمسيحيّين والمسلمين.

ولكنّ شيئاً من الشّكّ والاستياء أخذَ بالظّهور تدريجيّاً في الأوساط الحكوميّة. فقد كانت السّلطة السّياسيّة والاقتصاديّة في العاصمة العثمانيّة بيد موظّفي البلاط السّلطانيّ الذين كانوا، باستثناء نفر قليل منهم، عديمي الكفاءة والدّراية. وكانت الرّشوة بمثابة الوقود الذي من غيره لا تدور الآلة الحكوميّة. وكانت العاصمة كمغناطيس، تجتذب إليها حشوداً من النّاس يتقاطرون عليها من كلّ حدب وصوب، من داخل الإِمبراطوريّة وخارجها، طمعاً في كسب الرّعاية والنّفوذ. وكان من المتوقّع عند وصول شخصيّة مرموقة من دولة أخرى، أو من إحدى المقاطعات التّابعة للدّولة العثمانيّة، أنْ تنضمّ فوراً، إثر وصولها إلى الآستانة، إلى تلك الجموع الواقفة عند أبواب الوزراء والباشوات في البلاط العثمانيّ طلباً للرّعاية والنّفوذ. ولعلّ أكثر المتزلّفين سوء سمعة كانت تلك الفئات المتنافسة فيما بينها من السّاسة الفُرسْ المنفيّين والمعروفين بدهائهم وحنكتهم، وبأنّهم لا يقيمون وزناً لأيّ اعتبار في سبيل تحقيق مآربهم الشّخصيّة.

ترفّع بهاء الله عن كلّ ذلك. وحين ألحّ عليه بعض من الأصدقاء أن يستغلّ لمصلحته الأوضاع القائمة حينئذٍ من عداءٍ في الأوساط العثمانيّة تجاه الحكومة الفارسيّة وعطفٍ تجاه بهاء الله نتيجة الآلام التي تحمّلها، خيّب آمالهم موضّحاً للجميع بأنّ لا مطالب لديه يتقدّم بها لأحد. ورغم أنَّ العديد من الوزراء قام بزيارته في المقرّ الذي خصّص لسكناه زياراتٍ شخصيّة، رفض بهاء الله الاستفادة من الفرص المفتوحة أمامه، وعلّق قائلاً بأنَّه في الآستانة ينزل ضيفاً على السّلطان بدعوة من السّلطان نفسه، وأنَّ اهتماماته لا تكمن إلاّ في المسائل الرّوحيّة والخلقيّة.

وبعد مضيّ سنوات عديدة على هذه الأحداث كتب السّفير الفارسيّ ميرزا حسين خان ذكرياته عن تلك الفترة التي كان في أثنائها سفيراً لبلاده في العاصمة العثمانيّة. فأبدى امتعاضه وتذمّره من الضّرر الذي ألحقه بسمعة بلاده في العاصمة العثمانيّة جشع مواطنيه وعدم ائتمانيّتهم. وأدهش الجميع بما أجزله من ثناءٍ صادق على تصرّفات بهاء الله في تلك الفترة معتبراً إيّاها مثلاً يحتذى. أمّا في حينه، فقد كان للسّفير وزملائه موقف آخر. فقد استغلّوا مسلك بهاء الله المثاليّ ذلك ففسّروه على أنَّه أسلوب ذكيّ قَصَدَ به بهاء الله، على حدّ زعمهم، تغطية المؤامرات السّرّيّة ضدّ أمن الدّولةِ ودينها الرّسميّ. وتحت هذه الضّغوط الأخيرة اتّخذت السّلطات العثمانيّة، متأثرةً بهذه المزاعم، قراراً بنقل بهاء الله وأفراد عائلته إلى المدينة الإِقليميّة أدرنة. وتمّ

الانتقالُ بصورة سريعة وفي منتصف فصل شتاءٍ قارس. وهناك أمضى المنفيّون عاماً كاملا في شظف عيش، حيث نزلوا بيوتاً لا تصلح للسّكنى، وهم يفتقدون الملابس المناسبة والمؤن اللازمة. وبات من الواضح أنَّ الدّولة جَعلت منهم وبصورة اعتباطيّة سجناء لها، رغم أنّه لم تُوَجَّه إليهم تهمة، ولم تُعْطَ لهم فرصة للدّفاع عن أنفسهم.

يعطينا النّفي والإِبعاد المتتابع لبهاء الله إلى الآستانة ومنها إلى أدرنة مدلولاً رمزيّاً عميقاً من وجهة نظر التّاريخ الدّينيّ للبشر. فلأوّل مرة يَعْبُرُ مظهر إلهيّ ومؤسّس نظام دينيّ مستقلّ ـ قُدِّرَ له أنْ ينتشر بسرعة ليعمّ هذا الكوكب ـ يَعْبُرُ المضيق البحريّ الذي يفصل القارّة الآسيويّة عن القارة الأوروبيّة، ليطأ بقدميه تراب "العالم الغربيّ". أمّا الأديان الكُبرى الأخرى فقد نشأت في آسيا وأمضى مؤسّسوها فترات ولايتهم ضمن حدود تلك القارّة وحدها. وقد أشار بهاء الله إلى أنَّ الدّورات السّابقة وخاصّة تلك المتعلّقة بإبراهيم والمسيح ومحمّد تركت أبلغ أثر لها في نموّ الحضارة الإِنسانيّة أثناء توسّعها نحو الغرب وانتشارها فيه. وتنبّأ أن تتكرّر هذه التّجربة نفسها في هذا العصر الجديد، ولكن على نطاق أكثر شمولاً واتّساعاً: "قُلْ إنَّهُ قَدْ أشْرَقَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْقِ وَظَهَرَ في الغَرْبِ آثارُهُ، تَفَكَّروا فيهِ يا قَوْمُ..."

ولعلّه ممّا لا يدعو إلى الاستغراب إذاً أن يختار بهاء الله تلك اللحظة من لحظات التّاريخ لكي يعلن عن بعثته إعلاناً عامّاً. فقد بدأت رسالته

تجتذبُ ببطء ولاء أتباع الباب في الشّرق الأوسط كلّه. وكان إعلانه العام هذا في شكل سلسلة من البيانات والتّصريحات التي يمكن اعتبارها من أندر الوثائق على الإِطلاق وأروعها في التّاريخ الدّينيّ للبشر. ففيها يوجّه المظهر الإِلهيّ نداءه إلى ملوك الأرض وحكّامها معلناً انبثاق فجر يوم الله، ملمّحاً إلى التّغييرات الخارقة، والتي لم تكن قد حدثت بعد، ولكنّها بدأت تأخذ شكلها وتستجمع قواها في جميع أنحاء العالم. ودعا بهاء الله هؤلاء الملوك والحكّام بصفتهم أمناء الله بين خلقه والمؤتَمَنين على الرّعيّة من النّاس لكي يقوموا ويسعوا لتحقيق وحدة العالم الإِنسانيّ. وذكّرهم بأنّ ما تكنّه لهم جماهير أتباعهم من تبجيل ومهابة، وما يتمتّعون به من سلطة مطلقة يمارسها معظمهم، يجعل في مقدورهم أن يساعدوا في تحقيق ما أسماه "بالصُّلْحِ الأكْبَرِ" نظاماً عالميّاً يتميّز بالوحدة والاتّحاد ويحيا بالعدل والإِنصاف في ظلّ الشّريعة الإِلهيّة.

لا يستطيع القارئ في يومنا هذا أن يتصوّر العالم الفكريّ والخلقيّ الذي عاش فيه أولئك الملوك والحكّام قبل قرن من الزّمان إلاّ بصعوبة بالغة. ويتّضح جليّاً من سيَرِهِمْ ومراسلاتهم الخاصّة أنّهم كانوا، باستثناء نفر قليل منهم، يتّصفون بالورع شخصيّاً ويقومون بدور رائد في الحياة الرّوحيّة لبلادهم كلٌّ في نطاق مملكته. وغالباً ما كانوا هم رؤساء الدّين في دُوَلِهم، يؤمنون بالحقائق المعصومة للقرآن الكريم أو الكتاب المقدّس من الإِنجيل والتّوراة، كلٌّ حسب معتقده. وأمّا

سلطتهم التي كانوا يزاولونها فقد اعتبروها مستمدّةً مباشرةً من تلك السّلطة الإِلهيّة المذكورة في كتبهم المقدّسة، ولم يتوانوا عن ذكر ذلك بكلّ قوّة واعتزاز، فالمشيئة الإِلهيّة هي التي اختارتهم ليكونوا حكّاماً في الأرض. ولم تكن النّبوءات المتعلّقة "بآخِرِ الأزْمِنَةِ" و"مَلَكوتِ اللهِ" في نظرهم أساطير وخرافات أو قصصاً رمزيّة وحكايات، ولكنْ حقائق ثابتة اعتمد عليها النّظام الخُلُقيّ كلّه، وهو النّظام الذي اعتقد معظمهم بأَنَّهم سوف يُسْألون عنه أمام الله ويُحاسَبون على ما فعلوه من أجله كأمناء لهذا النّظام. تُخاطب رسائل بهاء الله العالم الفكريّ ذلك أسلوباً وموضوعاً، وفيما يلي مقتطفات منها:

"يا مَعْشَرَ المُلوكِ قَدْ أتى المالِكُ وَالمُلْكُ لِلّهِ المُهَيْمِنِ القَيومِ، ألاّ تَعْبُدوا إلاّ اللهَ وَتَوَجَّهوا بِقُلوبٍ نَوْراءَ إلى وَجْهِ رَبِّكُمْ مالِكِ الأسْماءِ، هذا أمْرٌ لا يُعادِلُهُ ما عِنْدَكُمْ لَوْ أنْتُمْ تَعْرِفونَ... إيّاكُمْ أنْ يَمنَعَكُمُ الغُرورُ عَنْ مَشْرِقِ الظُّهورِ أوْ تَحْجُبَكُمُ الدُّنيا عَنْ فاطِر السَّماءِ... تاللهِ لا نُريدُ أَنْ نَتَصَرَّفَ في مَمالِكِكُمْ بَلْ جِئْنا لِتَصرُّفِ القُلوبِ..."

"ثُمَّ اعْلَموا بِأنَّ الفُقَراءَ أماناتُ اللهِ بَيْنَكُمْ، إِيّاكُمْ أنْ لا تخانوا في أماناتِهِ وَلا تَظْلِموهُمْ وَلا تَكونُنَّ مِنَ الخائِنينَ. سَتُسْألونَ عَنْ أمانتهِ في يَوْم الذي يُنْصَبُ فيهِ ميزانُ العَدْلِ ويُعْطى كُلُّ ذي حَقٍّ حَقَّهُ، وَيُوْزَنُ فيه كُلُّ الأعْمالِ مِنْ كُلِّ غَنيٍّ

وَفَقيرٍ... ثُمَّ اسْتَبْصِروا في أمْرنا وَتَبَيَّنوا فيما وَرَدَ عَلَيْنا، ثُمَّ احْكُموا بَيْننا وَبَيْنَ أعْدائِنا بِالعَدْلِ وَكونوا مِنَ العادِلينَ، وَإنْ لَنْ تَمْنَعوا الظّالِمَ عَنْ ظُلْمِهِ وَلَنْ تَأخُذوا حَقَّ المَظْلومِ، فَبِأيِّ شَيءٍ تَفْتَخِرونَ بَيْنَ العِبادِ وَتَكونُنَّ من المُفْتَخِرينَ..."

"وَإنْ لَنْ تَسْتَنْصِحوا بِما أنْصَحنَاكُم في هذا الكِتابِ بِلسانِ بِدْعٍ مُبينٍ، يَأخُذْكُمُ العَذابُ مِنْ كُلِّ الجِهاتِ، ويَأتيكم اللهُ بعَدْلِهِ. إذاً لا تَقْدِرونَ أنْ تَقوموا مَعَهُ وَتكونُنَّ مِنَ العاجِزينَ..."

لم تجد رؤيا "الصُّلْحِ الأكْبَرِ" أيّ صدىً في نفوس حكّام القرن التّاسع عشر. وكانت الاتّجاهات المتمثّلة في تعظيم الشّعور الوطنيّ وترسيخه والنّزعات التّوسعيّة للإِمبراطوريّات القائمة قد فازت بتأييد الملوك أنفسهم، وتأييد أعضاء المجالس النّيابيّة، والهيئات العلميّة والتّربوية، وأهل الفنّ ورجال الصّحافة والمؤسّسات الدّينيّة الكبرى، فأصبح كلّ طرف من هؤلاء داعيةً حماسيّاً لمبدأ سيادة الغرب وسيطرته العالميّة. وسرعان ما سقطت كافّة الاقتراحات المتعلّقة بالإِصلاحات الاجتماعيّة بغضِّ النّظر عن مثاليّتها وخلوص نواياها. ووقعت كلّها فريسةً لمجموعة من الفلسفات العقائديّة الحديثة التي ألقى بها المدّ المتصاعد للمذاهب الماديّة العنيدة في الغرب. أمّا في الشّرق، فقد أَصاب العالم الإِسلاميّ حالةٌ من الجمود والذّهول نتيجة ما ادّعاه لنفسه بأنّه يمثّل أقصى ما

يمكن للإِنسانيّة الوصول إليه في معرفة الله والحقيقة في يومه ذلك أو في أيّ وقت أو زمان في المستقبل البعيد. فاستمرّ ينزلق باطّراد في هوّة سحيقة من الجهل واللاّمبالاة ومن عداء عنيد ناصَبَ به الجنس البشريّ الذي رفض أنْ يعترف له بمركز الأولويّة الرّوحيّة بين الأديان التي يؤمن بها النّاس.

10

الوُصُول إلى الأراضِي المقَدَّسَة

قد يبدو من المحيّر، إذا ما أخذنا في اعتبارنا أحداث بغداد، أنْ يفوت السّلطات العثمانيّة توقّع النّتائج التي سوف تترتّب على استقرار بهاء الله في عاصمة إقليميّة أخرى. ففي غضون عام واحد من وصول سجينها إلى أدرنة، اجتذب وجوده الجليل في بادئ الأمر اهتمام الشّخصيّات المرموقة في الحياة الفكريّة والإِداريّة في تلك المنطقة، ومن ثمَّ حاز على تقديرهم وإعجابهم الحار. وكان من أخلص المعجبين ببهاء الله اثنان هما خورشيد باشا، والي المقاطعة، وشيخ الإِسلام، أبرز الوجهاء من رجال الدّين السّنّة. فأفزع ذلك ممثّلي القنصليّة الفارسيّة هناك. كما أفزعهم أنَّ عامّة الشّعب وأولئك القائمين على استضافة بهاء الله بدأوا ينظرون إليه على أنَّه وليّ من الأولياء، وحكيم من حكماء الدّين. ويرون أنَّ حقيقة تعاليمه تنعكس ليس فقط في ما تمثّله حياته الطّاهرة، ولكن أيضاً في التّأثير العميق الذي أحدثته تلك التّعاليم فغيّرت نفوس ذلك السّيل من أهل فارس الذين احتشدوا في هذه البقعة النّائية من الإِمبراطورية العثمانيّة قاصدين زيارته.

وأقنعت هذه التّطوّرات غير المتوقّعة السّفير الفارسيّ وزملاءه أنَّ المسألة باتت مسألة وقت قبل أن تقوم الدّعوة البهائيّة، التي كان انتشارها مستمرّاً في بلاد فارس، بتوطيد أركان نفوذها في الإِمبراطوريّة المتاخمة للإِمبراطوريّة الفارسيّة والمنافسة لها. وكانت الإِمبراطورية العثمانيّة المتداعية الأركان تقاوم، في هذه الفترة من تاريخها، غزوات روسيا القيصريّة بالإِضافة إلى الثّورات المتفاقمة بين الشّعوب التّابعة لها. ثمّ كانت هناك المحاولات المتواصلة من قبل الحكومتين البريطانيّة والنّمساويّة، اللّتين كانتا تظهران العطف، وتضمران فصل عدد من الأقاليم العثمانيّة لتوسّع كلّ واحدة منهما إمبراطوريّتها. وأدّت هذه الأحوال السّياسيّة غير المستقرّة في الأقاليم العثمانيّة الواقعة في القارّة الأوروبيّة إلى إقامة حجج ملحّة جديدة دعَّم بها السّفير الفارسيّ التماساته بإبعاد المنفيّين إلى مقاطعة نائية بحيث تنقطع سبل الاتّصال بعد ذلك بين بهاء الله والأوساط ذات النّفوذ، عثمانيّةً كانت أم غربيّة.

وعندما عاد وزير الخارجيّة العثمانيّ فؤاد باشا من زيارة تفقّدية أجراها في منطقة أدرنة كتب تقريراً عبّر فيه عن دهشته البالغة لما أصبح يتمتّع به بهاء الله من سمعة عالية في جميع أرجاء الإِقليم، فعزّز ذلك من مخاوف السّفارة الفارسيّة والاقتراحات التي قدّمتها إلى الحكومة العثمانيّة. وفي هذا الجوّ من تضارب الآراء قرّرت الحكومة العثمانيّة، وبصورة مفاجئة، أنْ تفرض على ضيفها السّجين قيوداً صارمة. ففي

باكورة يوم، ودون أيّ إنذار سابق، طوّق الجند منزل بهاء الله في أدرنة وأُمِرَ أصحابُه المنفيّون بإعداد العدّة للسّفر إلى جهة مجهولة.

كان المكان الكالح الذي تمّ اختياره كآخر منفىً لبهاء الله مدينة عكّا المسوّرة الواقعة على ساحل الأراضي المقدّسة. وقد عُرِفَتْ عكّا في جميع أرجاء الإِمبراطوريّة العثمانيّة بفساد مناخها، وبتفشِّي الأمراض العديدة فيها. وكانت الدّولة العثمانيّة تستخدمها كمستعمرة للقصاص، فتسجن فيها المجرمين الخطرين أملاً في ألاّ يطول بقاؤهم هناك على قيد الحياة بسبب رداءة المناخ وفساد الهواء.

وصل بهاء الله إلى عكّا في شهر آب (أغسطس) من عام 1868 يصحبه أفراد عائلته ومجموعة من أتباعه الذين نفوا معه. فقاسى هؤلاء الآلام وتحمّلوا الإِساءة والاعتساف طوال عامين داخل أسوار المدينة ذاتها. وفُرِضَ عليهم بعد ذلك الإِقامة القسريّة داخل بناءٍ يملكه أحد التّجّار المحلّيّين. ولفترة طويلة من الزّمن تحاشاهم أهل المدينة الذين سيطرت عليهم الخرافات، وهم الذين تمّ إنذارهم مِنْ على المنابر ضدّ "ربّ العجم" فصوّر الوُعّاظ بهاء الله على أنّه عدوٌّ للنّظام العامّ ومروّجٌ لأفكار الإِلحاد والفسق والفجور. وقضى عدد من أفراد ذلك النّفر القليل من المنفيّين نتيجةً لما تعرّضوا له من حرمان ولِظروفٍ أخرى قاسَوْها.

يبدو لنا الآن، ونحن نستعيد أحداث الماضي ونتأمّلها، كم كانت سخرية القدر قاسية حقّاً بالنّسبة لأعداء بهاء الله من أصحاب السّلطة الدّينيّة والمدنيّة الذين كانوا يهدفون للقضاء على نُفوذِه الرّوحيّ والدّينيّ، فأفْضَتْ كافّة محاولاتهم وضغوطهم إلى أن تكون الأرض المقدّسة دون غيرها المكان المختار لِتُفْرض فيه على بهاء الله الإِقامة الجبريّة. فقد كانت فلسطين التي تقدّسها الأديان التّوحيديّة الثّلاثة وتعتبرها ملتقى عوالم الله وعالم الإِنسان، تُعتَبر آنذاك، كما كان الحال منذ آلاف السّنين، مكاناً متميّزاً تعلّقت به آمال البشر. وقد اتّفق أنّه، قبل مجيء بهاء الله إلى الأراضي المقدّسة بأسابيع قليلة، أبحر الرّعيل الأول من زعماء الحركة البروتستانتيّة المعروفة بفرسان الهيكل الألمان من أوروبا ليُقيموا عند سفح جبل الكرمل المطلّ على حيفا مستعمرةً لهم استعداداً لاستقبال السّيّد المسيح، اعتقاداً منهم بأنّ عودته باتت وشيكة. وإلى يومنا هذا يمكن للنّاظر مشاهدة كلمات مثل "إنَّ الرّبَّ لَقَريبٌ" باللّغة الألمانيّة محفورة في أسْكفات العديد من مداخل البيوت التي شيّدوها والتي كان سجن بهاء الله، عبر الخليج، مواجهاً لها.

استكمل بهاء الله ما بدأه في أدرنة فأملى سلسلة من الرّسائل وجّهها إلى بعض الملوك والحكّام بصورة فرديّة. وتتضمّن العديد من هذه الرّسائل إنذاراته بيوم الحساب حين يُسأل هؤلاء عن ظلمهم للرّعيّة وإهمالهم لشؤونها، وهي الإنذارات التي تمّ تحقّقها بصورة مثيرة وأدّت

إلى قيام نقاش ومداولات عامّة بشأنها في كل أنحاء الشّرق الأدنى. فبعد مضي أقلّ من شهرين على وصول المنفيّين إلى مدينة السّجن، مثلاً، طُرِدَ فؤاد باشا وزير الخارجيّة العثمانيّ من منصبه بصورة مفاجئة ثم أصابته نوبة قلبيّة أودت بحياته وهو خارج وطنه في فرنسا. وكان فؤاد باشا هو صاحب ذلك التّقرير المليء بالاتّهامات الباطلة والذي نتج عنه النّفي والإِبعاد الأخير. وصدر بيان من قلم بهاء الله بهذه المناسبة توقّع فيه إقالة زميل فؤاد باشا، وهو رئيس الوزراء عالي باشا. كما أشار إلى ما سيكون من سقوط السّلطان وموته، وفقدان الأقاليم الخاضعة للحكم العثماني في أوروبا، وهي سلسلة من الكوارث التي لحقت بعد ذلك بالكيان العثمانيّ الواحدة بعد الأخرى.

أمّا رسالة بهاء الله إلى الإِمبراطور نابليون الثّالث فقد حَمَلَتْ إليه، بسبب نفاقه وظلمه، هذا الوعيد:

"بِما فَعَلْتَ تَخْتَلِفُ الأُمورُ في مَمْلَكَتِكَ، وَيَخْرُجُ المُلْكُ مِنْ كَفِّكَ جَزاءَ عَمَلِكَ... أغرَّكَ عِزُّكَ لَعَمْري إنّهُ لا يَدومُ..."

أمّا الكوارث النّاجمة عن الحرب الفرنسيّة البروسيّة وما نتج عنها من سقوط نابليون الثّالث فقد حدثت كلّها في أقلّ من عام واحد إثر صدور هذا البيان. وكتب أليستر هورْن الباحث المعاصر في التّاريخ السّياسيّ الفرنسيّ للقرن التّاسع عشر تحليلاً لهذه الأحداث فقال:

"ولعلّ أبلغ مثل في التّاريخ الحديث على ما أسماه الاغريق peripateia، ومعناها السّقوط الشّنيع من أعلى ذُرا الرّفعة والاعتزاز، هو ما حدث لفرنسا. فلقد انهار ذلك البلد انهياراً سريعاً وتعرّض لأسوأ أنواع الإِذلال والانكسار، على الرّغم مما كان يرفل فيه من الفخامة الظّاهريّة وما حقّقه من إنجازات مادّيّة وافرة..."

يضاف إلى ذلك أنّه، وقبل أشهر قليلة من سلسلة الأحداث غير المتوقّعة في أوروبا والتي قامت في أثنائها قوّات المملكة الإِيطاليّة الجديدة بغزو المقاطعات البابويّة والاستيلاء على روما، وهي العاصمة البابويّة، أنزل بهاء الله بياناً وجّهه للبابا بيوس التّاسع فحثّ الحَبْرَ البابويّ على ما يلي:

"دَعِ المُلْكَ لِلمُلوكِ وَاطْلُعْ مِنْ أُفُقِ البَيْتِ مُقْبِلاً إلى المَلَكوتِ... كُنْ كما كانَ مَوْلاكَ... إنَّهُ قَدْ أتى يَوْمُ الحَصادِ وَفُصِلَ بَيْنَ الأشْياءِ. خَزَنَ ما اخْتارَ في أواعي العَدْلِ وألقَى في النّارِ ما يَنْبَغي لها..."

ووجّه بهاء الله في الكتاب الأقدس تحذيراً إلى ويلهلم الأوّل، الملك البروسيّ الذي أحرزت قوّاته انتصاراً ساحقاً في الحرب البروسيّة الفرنسيّة، دعاه فيه إلى أن يتّعظ ويعيَ الدّرس الذي تَمثَّل في سقوط نابليون الثّالث وغيره من الحكّام الذين زال حكمهم رغم ما حقّقوه

من فوز ونصر في حروب سابقة. ونصحه بأن لا يسمح لكبريائه أن تحول بينه وبين الاعتراف بصحة هذه الرّسالة الإِلهيّة. إلاّ أنّ بهاء الله رأى بثاقب البصيرة أنّ الإمبراطور البروسيّ (الألمانيّ) سوف يتجاهل الاستجابة لذلك التّحذير، وهو ما يبدو جليّاً في الفقرة التّالية، وهي الفقرة التي تهدّد بعظيم الأمور والواردة في ما تَلِيَ من الآيات في نفس ذلك الكتاب:

"يا شَواطئَ نَهْرَ الرَّيْنِ، قَدْ رَأيْناكِ مُغَطَّاةً بِالدِّماءِ بِما سُلَّ عَلَيْكِ سُيوفُ الجَزاءِ، وَلَكِ مَرّةً أخْرى ونَسْمَعُ حَنينَ البَرْلين وَلَوْ أنَّها اليَوْمَ عَلى عِزٍّ مُبينٍ."

ومن جملة هذه البيانات الرّئيسيّة يتميّز بيانان بلهجة تختلف عمّا سبق بصورة تلفت النّظر: البيان الأوّل هو الموجّه إلى "الملكة فكتوريا" والآخر الموجّه إلى "مُلوكِ أمْريقا [أمريكا] وَرُؤساءِ الجُمْهور فيها". فيثني بهاء الله في البيان الأوّل على الإِنجاز الرّائد الذي تمثّل في إلغاء الرّقّ في كلّ أنحاء الإِمبراطوريّة البريطانيّة، ويُزكّي مبدأ الحكم التّمثيليّ. أمّا البيان الثّاني فيفتتحه بالإِعلان عن مجيء يوم الله ويختتمه بدعوةٍ منه هي في الحقيقة تكليف لا مثيل له في أيٍّ من البيانات السّابقة:

"أجْبروا الكَسيرَ بأيادِيَ العَدْلِ، وَكَسِّروا الصَّحيحَ الظّالِمَ بِسياطِ أوامِرِ رَبِّكُمْ الآمِرِ الحَكيمِ..."

11

الدِّينُ نورٌ وظَلام

أدانَ بهاء الله بشدّة الحواجز التي أقامتها الأنظمة الدّينيّة حائلاً بين المظهر الإِلهيّ وبني البشر. فالاعتقادات المستوحاة من الأوهام والخرافات الشّائعة والتي أُهدرَ في صقلها جهودٌ ذهنيّة وعقليّة، كانت باستمرار تُعَطِّلُ التّدبير الإِلهيّ الذي كان هدفه دائماً روحيّاً وخُلقيّاً. فالأحكام المتعلّقة بالتّفاعل الاجتماعيّ والتي نزلت بغرض تدعيم حياة الجامعة الإِنسانيّة، تحوّلت إلى قواعد لأنظمةٍ من المذاهب والشّعائر المبهمة، وبدل أن تقوم على خدمة مصالح جماهير البشر، أصبحت، على مرّ السّنين، عبئاً ثقيلاً عليهم. وحتّى العقل، وهو الوسيلة الأولى التي يملكها الجنس البشريّ لاكتشاف حقائق الأمور، هذا العقل عُطِّلَ إسهامه عمداً مما سبّب انهياراً للحوار بين العِلمِ والدّين، وهو أمرٌ يعتمد عليه قيام الحياة الحضاريّة.

ونتج عن هذا السّجلّ المؤسف من الأحوال والظّروف تشويهٌ لسمعةِ الدّين على نطاق عالميّ واسع. والأسوأ من ذلك، فإنَّ الأنظمة الدّينيّة

ذاتها أصبحت علّة من أخبث العلل في إثارة الكراهية والحروب بين الشّعوب. لقد أنذرنا بهاءُ الله قبل ما يزيد على قرن من الزّمان، فقال:

"إنَّ الضّغينَةَ وَالبَغْضَاءَ بَيْنَ المَذاهِبِ نارٌ تُحْرِقُ العالَمَ. وَإطْفاؤها أمرٌ جِدُّ عَسيرٍ ما لَمْ تُخَلِّصْ يَدُ القُدْرَةِ الإِلهيّةِ النّاسَ مِنْ هذا البلاءِ العَقيم..."

(مترجم عن الفارسية)

أمّا الذين سوف يحاسبهم الله على قيام هذه المأساة، يقول بهاء الله، فهم قادة الدّين الذين تجرَّأوا على التّحدّث نيابة عن الله عبر التّاريخ. إنَّ محاولاتهم ليجعلوا كلمة الله حكراً لهم، ومن تفسيرها وسيلةً ينالون بها لأنفسهم التّبجيل والتّعظيم، كانت أخطرَ عقبة فرديّة كافحت ضدّها الإِنسانيّة في مسيرة تقدّمها. ولم يتورّع الكثيرون من هؤلاء في مهاجمة رسل الله أنفسهم تحقيقاً لأغراضهم ومآربهم الشّخصيّة:

"إنَّ عُلَماءَ العَصْرِ في كُلّ الأزْمانِ كانوا سَبَباً لِصَدِّ العِبادِ وَمَنْعِهِمْ عَنْ شاطئِ بَحْرِ الأحَدِيَّةِ، لأنَّ زِمامَ هؤلاءِ العِبادِ كانَ في قَبْضةِ قُدْرَتِهِمْ. فَكانَ بَعضُهُمْ يَمْنَعُ النّاسَ حُبّاً لِلرِّياسَةِ، وَالبَعْضُ الآخَرُ يَمْنَعهُمْ لِعَدَمِ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ. كَما أنَّهُ بِإذْنِ عُلَماءِ العَصْرِ وَفَتاويهِمْ قَدْ شَرِبَ جَميعُ الأنْبِياءِ سَلْسَبيلَ الشَّهادَةِ..."

(مترجم عن الفارسية)

وفي بيان وجّهه بهاء الله إلى رجال الدّين في كلّ مذهب ينذرهم ويلفت أنظارهم إلى تلك المسؤوليّة التي تهاونوا تهاوناً خطيراً في تحمّلها على مرّ السّنين:

"مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ عَيْنٍ إذا تَغَيَّرَتْ تَغَيَّرَتِ الأنْهارُ المُنْشَعِبَةُ مِنْها. اتّقوا الله وَكونوا مِنَ المُتَّقينَ. كَذلك الإِنْسانُ إذا فَسَدَ قَلْبُهُ تَفْسُدُ أرْكانُهُ. وَكَذلِكَ الشَّجَرُ إنْ فَسَدَ أصْلُها تَفْسُدُ أغْصانُها وَأفْنانُها وأوراقُها وَأثمارُها."

نزلت هذه البيانات من يراع بهاء الله في وقت كانت فيه حركات المحافظة على الدّين تمثّل قوّة من أهمّ القوى في العالم، فصرّح بهاء الله في هذه البيانات بالذّات بأنّ هذه القوّة قد انتهت فعلاً، وأنَّ طبقة علماء الدّين لم يعد لها بعد اليوم من دور اجتماعيّ تقوم به في التّاريخ الإِنسانيّ.

"يا مَعْشَرَ العُلَماءِ لَنْ تَجِدُنَّ أنْفُسَكُمْ بَعْدَ اليَوْمِ أصْحابَ القُدْرَةِ وَالقُوَّةِ..."

(مترجم عن الفارسية)

وخاطب بهاء الله عَالِماً من علماء المسلمين، وكان من أشدّ الحاقدين من معارضيه، قائلاً:

"يا غافِلْ لا تَطْمَئِنَّ بِعِزِّكَ وَاقْتدارِكَ، مَثَلُكَ كَمَثَلِ بَقِيَّةِ أثَرِ الشَّمسِ عَلى رؤوسِ الجِبالِ سَوْفَ يُدرِكُها الزَّوالُ مِنْ لَدَى اللهِ الغَنِيِّ المُتَعالِ. قَدْ أُخِذَ عِزُّكَ وَعِزُّ أمْثالِكَ..."

وليس تنظيم النّشاطات الدّينيّة هو المقصود في هذه البيانات، إنّما المقصود هو استغلال المصادر الدّينيّة وسوء استخدامها. ويُجزلُ بهاء الله الثّناءَ في آثاره ليس فقط على الإِسهام الذي حقّقته النّظم الدّينيّة في نموّ الحضارات الإِنسانيّة، بل أيضاً على الفوائد الجمّة التي جناها العالم من محبّة للبشر وتضحية للنّفس ميّزت رجال الدّين والرّهبانيّات المنتمية إلى كلّ المذاهب والأديان:

"أمّا هؤلاءِ العُلَماءُ الذينَ تَزَيَّنوا حَقيقَةً بِطِرازِ العِلْمِ وَالأخْلاق، فَهُمْ بِمَثابَةِ الرَّأسِ لِهَيْكَلِ العالَمِ وَالبَصَرِ لأهْلِ الأُمَمِ..."

(مترجم عن الفارسية)

وممّا لا ريب فيه أنّ التّحدّي الذي يواجه البشر جميعاً، مؤمنين كانوا أم غير مؤمنين، رجال دين كانوا أم أفراداً عاديّين، هو إدراك النّتائج الوخيمة التي ألمّت بالعالم بسبب فساد الدّافع الدّينيّ فساداً شاملاً. ففي هذا الوقت الذي بعدت فيه الإِنسانيَّة عن الله طوال قرن من الزّمان، انهارت العلاقة التي تقوم عليها بِنْيَة الحياة الرّوحيّة والأخلاقيّة.

وأهملت بصورة شاملة القُدرات الطّبيعيّة الخاضعة للنّفس النّاطقة، وهي القُدرات الضّروريّة لنموّ القيم الإِنسانيَّة والمحافظة عليها:

"لَقَدْ ضَعُفَتْ قُوَّةُ الإِيمانِ وَبِنْيَتُهُ في أقْطارِ العالَمِ، فَهُوَ يَحْتاجُ لِلدِّرْياقِ الأعْظَمِ... وَلَقَدْ باتَتِ الأممُ كَالنُّحاسِ أصابَهُ الاسْوِدادُ تَحْتاجُ للإِكسيرِ الأعْظَمِ... وَلَنْ يَكونَ إلاّ في مَقْدورِ الكَلِمَةِ الإِلهيَّةِ تَغْييرُ هذِهِ الأوْضاعِ."

(مترجم عن الفارسية)

12

السَّلام العَالميّ

إنّ إنذارات بهاء الله ومناشداته الواردة في آثاره إبّان هذه الفترة، تكتسب خطورةً وصرامةً رهيبة في ضوء ما تلاها من أحداث:

"يا أصْحابَ المَجْلِسِ في هُناكَ وَدِيارٍ أخْرى تَدَبَّروا وَتَكَلَّموا فيما يَصْلُحُ بِهِ العالَمُ وحالُهُ لَوْ أنْتُمْ مِنَ المُتَوَسِّمينَ. فانْظُروا العالَمَ كَهَيْكَلِ إنْسانٍ، إنَّهُ خُلِقَ صَحيحاً كامِلاً فَاعْتَرَتْهُ الأمْراضُ بالأسْبابِ المُخْتَلِفَةِ المُتَغايِرَةِ وَما طابَت نَفْسُهُ في يَوْمٍ بل اشْتَدَّ مَرَضُهُ بما وَقَعَ تَحْتَ تَصَرُّفِ أطبّاء غَيْرِ حاذِقَةٍ الذينَ رَكبوا مَطيَّةَ الهَوى وَكانوا مِنَ الهائِمينَ. وَاليَوْمَ نَراهُ تَحْتَ أيْدي الذينَ أخَذَهُمْ سُكْرُ خَمْرِ الغُرورِ عَلى شَأنٍ لا يَعرِفونَ خَيْرَ أنْفُسِهِمْ، فَكيْفَ هذا الأمْرُ الأوْعَرُ الخَطيرُ..."

"هذا يَوْمٌ فيهِ تُحَدِّثُ الأرْضُ بما فيها، وَالمُجْرِمونَ أثْقالُها لَوْ كُنْتُمْ مِنَ العارِفينَ..."

"لَقَدْ خُلِقَ الجَميعُ مِنْ أجْلِ إصلاحِ العالَمِ، ولَعَمْرُ الله لَيْس مِنْ شِيَمِ الإِنْسانِ السُّلوكُ مَسْلَكَ وُحوشِ الغابِ وَلا يَليقُ ذَلِكَ بِمَقامِهِ... فَشَأْنُ الإِنْسانِ الرَّحْمَةُ وَالمَحَبَّةُ وَالشَّفَقَةُ وَالوِئامُ مَعَ جَميعِ أهْلِ العالَمِ."

(مترجم عن الفارسية)

"إنَّ جَميعَ أهْلِ الأرْضِ في هذا العَصْرِ في حَرَكَةٍ وَتَقَدُّمٍ وَلَمْ يَتَمَكَّنَ أحدٌ مِنَ النّاس مِنْ اكتِشافِ سَبَبِ هذِهِ الحَرَكَةِ وَغَايَتِها... فَشاهِدوا كَيْفَ شَطَّ أَهْلُ الغَرْبِ فَتَمَسَّكوا بالأُمورِ التَّافِهَةِ عَديمَةِ الفائِدَةِ وَفي سَبيلِها ضَحّوا بِالآلافِ المؤَلَّفةِ مِنَ النُّفوسِ."

(مترجم عن الفارسية)

"حَقاً أقولُ إنَّ المَحْبوبَ في كُلّ أمرٍ مِنَ الأمورِ هُوَ الاعْتِدالُ. ومَتَى تَجاوَزَ صارَ سَبَبَ الإِضْرارِ... إنَّ في الأرْضِ أسْباباً عَجيبَةً غَريبَةً، وَلَكِنَّها مَسْتورَةٌ عَنِ الأفْئِدَةِ وَالعُقولِ. وَتِلْكَ الأسْبابُ قادِرَةٌ على تَبْديلِ هَواءِ الأرْض كُلِّها وَسُمِّيَّتُها سَبَبٌ للهَلاكِ."

(مترجم عن الفارسية)

حثَّ بهاء الله في آثاره اللاّحقة، بما في ذلك تلك التي وجّهها إلى أهل العالم جماعةً، على اتّخاذ الخطوات اللاّزمة لتحقيق ما أسماه

"بالصُّلْحِ الأكْبَرِ". وقال إنّ مثل هذا التّحرّك سيخفّف من وطأة الآلام وحدّة الاضطرابات والانحلال التي رآها تعترض طريق البشر، وإنّ ذلك لن يحدث حتى يعتنق أهل الأرض الأمرَ الإِلهيّ، وعن طريقه يتمّ تحقيق السّلام الأعظم أو "الصُّلْحِ الأكْبَرِ":

"لا بُدَّ أنْ تُشَكَّلَ في الأرْضِ هَيْئَةٌ عُظْمى. يَتَفاوَضُ المُلوكُ وَالسّلاطينُ في تِلْكَ الهَيْئَةِ بِشأنِ الصُّلْحِ الأكْبَرِ، وَذَلِكَ بِأنْ تَتَشَبَّثَ الدُّوَلُ العُظْمى بِصُلْحٍ مُحْكَمٍ لِراحَةِ العالَمِ. وَإذا قامَ مَلِكٌ عَلى مَلِكٍ قامَ الجَميعُ مُتَّفِقينَ عَلى مَنْعِهِ. وَبِهذِهِ الحالةِ لا يَحْتاجُ العالَمُ قَطُّ إلى المُهمّاتِ الحَرْبيَّةِ وَالصُّفوفِ العَسْكَرِيَّةِ إلاّ عَلى قَدْرٍ يَحْفَظونَ بِهِ مَمالِكَهُمْ وَبُلْدانَهُمْ... سَيَتَزيَّنُ جَميعُ أهْلِ العالَمِ قَريباً بِلِسانٍ واحِدٍ وَخَطٍّ واحِدٍ وَفي هذِهِ الحالَةِ إذا اتَّجَهَ أيُّ شَخْصٍ إلى بَلَدٍ فَكَأنَّهُ وَرَدَ إلى بَيْتِه... فَالإِنْسانُ اليَوْمَ، هُوَ الذي قامَ عَلى خِدْمَة جَميعِ مَنْ عَلى الأرْضِ... لَيْسَ الفَخْرُ لِمَنْ يُحِبُّ الوَطَنَ بَلْ لِمَنْ يُحِبُّ العالَمَ. يُعْتَبَرُ العالَمُ في الحَقيقَةِ وَطَناً واحِداً وَمَنْ عَلى الأرْضِ أهْلَهُ."

(مترجم عن الفارسية)

13

"وَلِعَمْري انّي مَا أظهرتُ نَفْسِي بَلْ اللهُ أظْهَرَنِي كَيفَ أرَاد"

وفي رسالةٍ إلى ناصر الدّين شاه الذي كان يحكم بلاد فارس في ذلك الوقت، تغاضى بهاء الله عن توجيه اللّوم إليه أو ذكر ما أصابه بأمر الشّاه من سجن في "سياه چال" ومظالم أخرى تحمّلها. فكتب إليه عن الخطّة الإِلهيّة ودوره الشّخصيّ فيها قائلاً:

"يا سُلْطانُ، إنّي كُنْتُ كَأحَدٍ مِنَ العِبادِ وَراقِداً عَلى المِهادِ مَرَّتْ عَلَيّ نَسائِمُ السُّبْحانِ وَعَلَّمَني عِلْمَ ما كانَ. لَيْسَ هذا مِنْ عِنْدي بَلْ مِنْ لَدُنْ عَزيزٍ عَليمٍ. وأمَرَني بِالنِّداءِ بَيْنَ الأرْضِ وَالسَّماءِ بذلِكَ وَرَدَ عَلَيَّ ما ذُرِفَتْ بِهِ دُموعُ العارِفينَ. ما قَرَأتُ ما عِنْدَ النّاسِ مِنَ العُلومِ وَما دَخَلْتُ المَدارِسَ، فَاسْألِ المَدينَةَ التي كُنْتُ فيها لِتُوْقِنَ بأنّي لَسْتُ مِنَ الكاذبينَ."

فالرّسالة التي عُهِدَتْ إليه لم تكن من عنده وكان قوله "لَعَمْري إنّي ما أظْهَرتُ نَفْسِي بَلِ اللهُ أظْهَرنِي كَيْفَ أرادَ". إنّها الرّسالة التي وهبها

حياته، وفقد في سبيلها ابنه الأصغر الحبيب، وضحّى من أجلها بكلّ ما يمتلك من متاع الدّنيا، واعتلّت بسببها صحّته، وجلبت له السّجن والنّفي والاعتساف.

"يا قَوْمُ هَلْ تَظُنّونَ بِأنَّ الأمْرَ بِيَدي لا فونَفْس الله المُقْتَدِرِ المُتَعالي العَليمِ الحَكيمِ. فَوَاللهِ لَوْ كانَ الأمْرُ بِيَدي ما أظْهَرتُ نَفْسي عَلَيْكُمْ في أقَلّ مِنْ آنٍ وَما تَكَلَّمْتُ بِكَلِمَةٍ وَكانَ اللهُ عَلى ذلكَ شَهيدٌ وعَليمٌ..."

وبما أنّه سلّم أمره إلى الله بكلّ إخلاص ولبّى النّداء، فقد كان بالمثل مطمئنّاً للدّور الذي أنيط به في سياق التّاريخ الإِنسانيّ. فهو مظهر الله في زمن تحقّقت فيه الوعود، وهو الذي وعدت به كلّ الكتب السّابقة: إِنَّه "مُشْتَهى كُلِّ الأمَمِ" و"مَلِكُ المَجْدِ". وهو "رَبُّ الجُنودِ" بالنّسبة لبني إسرائيل، وعودة "السّيد المسيح في مجد أبيه" بالنّسبة للعالم المسيحيّ، وهو "النّبأ العظيم" بالنّسبة للمسلمين، وهو "ميترا بوذا" بالنّسبة للبوذيّين، وتَجَسُّد "كريشنا الجديد" بالنّسبة للهندوسيّين، ومجيء "شاه بهرام" بالنّسبة للزردشتيّين.

وتماماً كما كان الحال مع المظاهر الإِلهيّة السّابقة، فإنّ بهاءَ الله اليوم كلمة الله وواسطتُه مع البشر:

"يا إلهي إذا أنْظُرُ إلى نِسْبَتي إلَيْكَ أُحِبُّ بأنْ أقولَ في كلِّ شَيءٍ بِأنّي أنا اللهُ، وإذا أنظُرُ إلى نَفْسي أشاهِدُها أحْقَرَ مِنَ الطّينِ."

وفي موقع آخر يصرّح قائلاً:

"وَمِنْكُمْ مَنْ قالَ إنَّ هذا هُوَ الذي ادّعى في نَفْسِهِ ما ادّعى، فَوَاللهِ هذا لَبُهْتانٌ عَظيمٌ، وَما أنا إلاّ عَبْدٌ آمنْتُ باللهِ وآياتِهِ وَرُسُلِهِ وَمَلائِكَتِهِ وَيَشْهَدُ حينَئِذٍ لِساني وَقَلْبي وَظاهِري وَباطِني بأنَّهُ هُوَ اللهُ لا إله إلاّ هُوَ وَما سِواهُ مَخلوقٌ بِأمْرِهِ ومُنْجَعِلٌ بإرادَتِهِ لا إلهَ إلاّ هُوَ الخالِقُ الباعِثُ المُحْيي المُميت. وَلكِنْ إنّي حَدَّثْتُ نِعْمَةَ التي أنعمني الله بِجُودِهِ وَإِنْ كانَ هذا جُرْمِي فَأَنَا أَوَّلُ المُجْرِمينَ."

وتركّز هذه الآثار الكتابيّة في أسلوبها البيانيّ على جملة من الاستعارات اللّفظيّة بقصد التّعبير عن ذلك التّناقض الظّاهريّ القائم في قلب الظّاهرة التي تسمّى "بالظّهور الإِلهيّ":

"أنا صَقْرُ ساعِدِ اللهِ الغَنِيِّ أحَرِّرُ ذَوي الأجْنِحَةِ المَغْلولَةِ وأعلِّمُهُمُ الطَّيَرانَ."

(مترجم عن الفارسية)

"هذِهِ وَرَقَةٌ حَرَّكَتْها أرْيَاحُ مَشيئَةِ رَبِّكَ العَزيزِ الحَميدِ، هَلْ لَها اسْتِقْرارٌ عِنْدَ هُبوبِ أرْياحٍ عاصِفاتٍ لا وَمالِكِ الأَسْماءِ وَالصِّفاتِ بَلْ تُحَرِّكُها كَيْفَ تُريدُ..."

14

ميثاقُ اللهِ مَعَ بَني البَشَر

خرج بهاء الله من الإقامة الجبريّة أخيراً في شهر حزيران (يونية) 1877 وغادر مدينة السّجن عكّا يصحبه أفراد عائلته وتوجّه إلى "المزرعة" وهي ضاحية على بعد أميال قليلة شمال المدينة. وكما تنبّأ بهاء الله فقد سقط السّلطان عبد العزيز ولقي حتفه في انقلاب في القصر السّلطانيّ، وبدأت تكتسح العالم أرياح التّغييرات السّياسيّة لتغزو حتى التّخوم المغلقة للنّظام الإمبراطوريّ العثمانيّ. وبعد أن أمضى بهاء الله فترة قصيرة امتدّت لمدّة عامين في "المزرعة" انتقل إلى "البهجة" وهو قصر فسيح تحيط به الحدائق ويقع أيضاً في ضواحي مدينة عكّا. وكان عبد البهاء قد استأجره لوالده الجليل وأفراد عائلته الواسعة. وهكذا قضى بهاء الله سنوات حياته الاثنتي عشرة الباقية في كتابه آثاره في مجالات واسعة من القضايا الرّوحيّة والاجتماعيّة، وفي استقبال أفواج البهائيّين الزّوّار الذين سعوا للقائه قادمين من بلاد فارس ومن غيرها من البلدان متجشّمين في ذلك مصاعب جمّة.

وبدأت تبرز إلى الوجود في أنحاء الشّرقين الأدنى والأوسط نواةُ جامعة يعيش ضمن نطاقها أولئك الذين آمنوا برسالته. فأنزل بهاء الله هدايةً لهم نظاماً بيّنه أحكاماً ومؤسّساتٍ هدفه التّنفيذ العمليّ للمبادئ والتّعاليم التي جاءت بها آثاره. وخُوّلت السّلطة التّنفيذيّة إلى مجالس تنتخب ديمقراطيّاً انتخاباً يَشترك فيه كل فردٍ من أفراد الجامعة. كما اتّخذ كافّة الاحتياطات لمنع أيّ احتمال قد يسمح بقيام صفوة كهنوتيّة تستأثر بالسّلطة، بالإضافة إلى سنّ قواعد وقوانين تنظّم المشورة وتساعد على اتّخاذ القرارات الجماعيّة.

واحتلّ قلبَ هذا النّظام ما أسماه بهاء الله "بالميثاق الجديد" بين الله والبشر. فالملامح المميّزة لمرحلة بلوغ الإنسانيّة سنّ الرّشد تتمثّل في اشتراك الجنس البشريّ بأسره، ولأوّل مرّة في التّاريخ، اشتراكاً واعياً ـ وإنْ كان ضئيلاًـ في الشّعور بمعاني وحدته واتّحاده وأنّ الأرض وطن واحد للجميع. وهكذا تمهّد هذه اليقظة السّبيل لخلق صلة جديدة بين الله والبشر. وقد قال بهاء الله إنّه إذا ما آمَنَتْ شعوبُ العالَم بالسّلطة الرّوحيّة الكامنة في الهداية النّابعة من المظهر الإلهيّ لهذا العصر، فستجد في أنفسها القدرة المعنويّة على العمل والتّنفيذ، وهو الأمر الذي لا تستطيع الجهود الإنسانيّة وحدها بعثه في النّفوس. ونتيجة لهذه الصّلة الجديدة يبعث الله "خَلْقاً جديداً" ويُشرَع في العمل على تشييد حضارةٍ تحتضن الكرة الأرضيّة بأسرها. أمّا رسالة الجامعة البهائيّة فليست إلاّ شاهدةً على فعاليّة هذا الميثاق ونفوذه في

شفاء العلل والأمراض التي تزرع الفرقة والاختلاف بين بني الإنسان.

صعد بهاء الله في "البهجة" في اليوم التّاسع والعشرين من أيّار (مايو) عام 1892 وهو في سنّ الخامسة والسّبعين. وكان الأمر الذي ائتُمن عليه قبل أربعين عاماً في غياهب ذلك القعر المظلم في طهران يَهمُّ، عندما حدث صعوده، بالانطلاق حرّاً فيتخطّى الحدود التي قيّدته في البلاد الإسلاميّة التي شهدت تكوّنه ونموّه، وتترسّخ أركانه عبر القارّة الأمريكيّة في بادئ الأمر، ثمّ ينتقل إلى أوروبا، ومن هناك ينتشر في كلّ أنحاء العالم. وبهذا الإنجاز يُصبح هذا الأمر في ذاته محقِّقاً للوعد الذي جاء به الميثاق الجديد بين الله والبشر، ومبرِّراً لقيامه. والدّين البهائيّ هو الوحيد من بين الأديان العالميّة المستقلّة كلّها الذي تمكّن هو وجَامعة المؤمنين من أتباعه اجتياز السّنوات المائة الأولى الدّقيقة من حياته محافظاً على وحدته دون أن تُمَسّ، وبقي سليماً معافى من آفة الفرقة والانقسام. وتبرهن لنا الاختبارات التي مرّ بها هذا الدّين وجامعته بصورة قاطعة على صدق التّأكيدات التي صدرت عن بهاء الله بأنَّ أفراد الجنس البشريّ على اختلاف أنواعهم وتعدّدهم باستطاعتهم أن يتعلّموا كيف يعيشون سويّاً ويعملون جنباً إلى جنب كشعب واحد في وطنٍ عالميّ مشترك.

وقبل صعوده بعامين، استقبل بهاء الله في "البهجة" أحد الزّوّار الغربيّين القلائل ممّن تشرّفوا بلقائه، وهو الوحيد الذي ترك لنا سجلاًّ مكتوباً

عن تلك الخبرة الشّخصيّة والمشاعر الذّاتيّة التي كان يثيرها لقاء بهاء الله. كان اسم ذلك الزّائر ادوارد غرانفيل براون، وهو شابٌّ من جامعة كمبريدج، كان نجمه كمستشرق آخذاً بالصّعود، وقد اهتمّ أصلاً بالتّاريخ المثير للباب ومجموعة أتباعه الأبطال. وفيما يلي ما سجَّله براون تخليداً لذكرى تشرّفه بلقاء بهاء الله فكتب يقول:

"وإنّي وإنْ كنتُ متصوِّراً تصوُّراً مُبْهماً المكان الذي أنا ذاهبٌ إليه ومن أنا قَادِمٌ لرؤيته، إذ لم تُعْطَ لي إيماءة واضحة حول ذلك، إلاّ أنّه قد مرّت ثانية أو ثانيتان من الزّمن، وأخذتني الرّهبة والذّهول، قبل أن أعرف معرفة تامّة بوجود من في الغرفة. وحانت منّي التفاتة إلى الرّكن، وحيث تلتقي الأريكة بالجدار، كان يجلس هيكل عظيم تعلوه المهابة والوقار... إنّ الوجه الذي رأيته، لا أنساه ولا يمكنني وصفه، مع تلك العيون البرّاقة النّافذة التي تقرأ روح الشّخص. وتعلو جبينه الوضّاح العريض القدرة والجلال... فلم أكُ إذ ذاك في حاجة للسّؤال عن الشّخص الذي امتثلت في حضوره ووجدت نفسي منحنياً أمام مَنْ هو محطّ الولاء والمحبّة التي يَحسدُهُ عليها الملوك، ويتحسّر لنوالها عبثاً الأباطرة. وسمعت صوتاً هادئاً جليلاً يأمرني بالجلوس ثمّ استمرّ يقول: ’الحَمْدُ للهِ إِذْ وَصَلْتَ... جِئْتَ لِتَرَى مَسْجونَاً وَمَنْفِيَّاً... نَحْنُ لا نُريدُ إِلاّ إِصْلاحَ العَالَمِ وَسَعَادَةَ الأُمَمِ، وهُمْ، مَعَ ذلِكَ،

يَعْتَبِرونَنا مُثيرينَ لِلفِتْنَةِ وَالعِصْيانِ، وَمُسْتَحِقّينَ لِلْحَبْسِ وَالنَّفْي... فأَيُّ ضَرَرٍ في أَنْ يَتَّحِدَ العَالَمُ عَلى دينٍ واحدٍ وَأنْ يَكونَ الجَميعُ إخْوانَاً، وَأنْ تَسْتَحْكِمَ رَوابِطُ المَحَبَّةِ والاتِّحادِ بَيْنَ بَني البَشَرِ، وَأنْ تزولَ الاخْتلافاتُ الدِّينيَّةُ وَتُمْحى الاخْتِلافاتُ العِرْقيَّةُ؟... وَلا بُدَّ مِنْ حُصولِ هذا كُلِّهِ، فَسَتنْقَضي هذِهِ الحُروبُ المُدَمِّرَةُ وَالمُشاحَناتُ العَقيمَةُ وَسَيَأتي الصُّلْحُ الأعْظَمُ.‘"

(مترجم عن الإنجليزية)

ملاحظات المترجم

نزلت آثار بهاء الله باللّغتين العربيّة والفارسيّة، ستّون في المائة منها نزّلت باللّغة العربيّة وأربعون في المائة بالفارسيّة. وقد حاولت قدر المستطاع اقتباس الآثار العربيّة أصلاً من مصادرها الرّئيسيّة، أمّا الآثار الفارسيّة فقد رجعت إلى أصولها الفارسيّة وقمت بترجمة ما لم يترجم قبل الآن إلى العربيّة مباشرةً عن الأصل الفارسيّ، واقتبست ما كان مترجماً من تلك الأصول وما وجدته منشوراً في الكتب البهائيّة العربيّة. وحيث أنّه من الأهميّة بمكان أن يميّز القارئ العربيّ بين ما هو مُنزل وما هو مترجم فقد ألحقت المقتطفات التي ترجمت عن الأصل الفارسيّ إلى العربيّة، أكانت التّرجمة لي أو لغيري، بعبارة "مترجم عن الفارسيّة". ويتّضح للقارئ أنّه حيث لا تذكر هذه العبارة يكون النّصّ الوارد عربيّ الأصل نزل من يراع بهاء الله باللّغة الفصحى.

مراعاةً للدّقّة التّاريخيّة استخدمت لفظة "بلاد فارس" و"فارسيّ" بدلاً من "إيران" و"إيرانيّ" فقد كانت إيران اليوم معروفة باسم المملكة الفارسيّة حتّى عام 1935 حين غيّر اسم البلاد رضا شاه بهلوي مؤسّس دولة إيران الحديثة. كذلك استخدمت كلمة "الإمبراطوريّة العثمانيّة" و"عثمانيّ" بدلاً من "تركيّا" و"تركيّ" فمن النّاحية التّاريخيّة لم تولد تركيّا الحديثة إلاّ عام 1923 حين أنشأ مصطفى كمال أتاتورك الجمهوريّة التّركيّة.

قد يجد القارئ أحياناً وفي مواضيع معدودة بعض المقتطفات في النّصّ العربيّ تحمل جملاً أو كلمات اسْتُغني عنها عمداً، بقصد الاختصار، في النّصّ الإنجليزيّ، وأشير إليها بثلاث نقط. ولم ألجأ إلى مثل هذا إلاّ حيث اقتضت الحاجة توضيح العلاقة بين المقتطفات المقتبسة والنّصّ العربيّ.

الحواشي

  1. 1 اسم بهاء الله هو حسين علي. المرجع الرّئيسيّ والمستند الموثوق به عن بعثتَي الباب وبهاء الله هو الكتاب المكتوب أصلاً باللّغة الإنجليزيّة بقلم شوقي أفندي

    Shoghi Effendi, God Passes By (Wilmette, Bahá’í Publishing Trust, 1987)

    وقد ترجمه إلى العربيّة السّيّد محمّد العزّاوي بعنوان "كتاب القرن البديع: من آثار قلم حضرة وليّ أمر الله شوقي ربّاني" (من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل، 1986). ومن كتب السّيرة كتاب حسن بليوزي بالإنجليزيّة

    Ḥasan Balyuzi, Bahá’u’lláh; The King of Glory (Oxford, George Ronald, 1980)

    ويقدّم أديب طاهر زاده عرضاً مسهباً لآثار بهاء الله الكتابيّة في كتابه الإنجليزيّ

    Adib Taherzadeh, The Revelation of Bahá’u’lláh (Oxford, George Ronald, 1975) وهو كتاب في أربعة أجزاء.

  2. 2 العدد السّنويّ للموسوعة المعروفة "ببريتانيكا" (Britannica Year Book, 1988) لعام 1988 يشير إلى أنَّه رغم أنّ عدد أفراد الجامعة البهائيّة في العالم حوالي خمسة ملايين نسمة، فإنّ الدّين البهائيّ قد أصبح الآن أوسع الأديان انتشاراً في العالم بعد الدّين المسيحيّ. وللبهائيّين اليوم 155 محفلاً روحانيّاً مركزيّاً في البلدان المستقلّة والمناطق المهمّة المنتشرة في جميع أنحاء المعمورة. بالإضافة إلى 17000 من المحافل المنتخبة في المناطق المحليّة. ومن المقدّر أنّ الجامعة البهائيّة تضمّ ممثّلين عن حوالي 2112 دولة وقبيلة.

  3. 3 كتاب آرنولد توينبي "دراسة في التّاريخ" ج8، ص117 Arnold Toynbee, A Study of History (London, Oxford University Press, 1954). Vol VIII, p117.

  4. 4 اسم الباب هو السّيّد علي محمّد، ولد في مدينة شيراز في اليوم العشرين من شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1819.

  5. 5 المقاطع الواردة في آثار الباب والتي تشير إلى "مَنْ يُظْهِرُهُ الله" تحتوي على إشارات خفيّة "لسنة التّسع" وأيضاً "للسّنة التّسع عشرة" (أي تقريباً عام 1852 وعام 1863 حسب التّقويم القمريّ بالنّسبة لبداية بعثة الباب في عام 1844). وفي عدّة مناسبات يشير الباب أيضاً إلى بعض أتباعه الذين سوف يؤمنون "بِمَنْ يُظْهِرُهُ الله" ويقومون على خدمته.

  6. 6 تمّ الإعلان عن دعوة الباب في المساجد والأماكن العامّة من قبل مجموعات متحمّسة من الشّبّان الذين كانوا يؤمّون المعاهد الدّينيّة. وكان ردّ فعل رجال الدّين المسلمين تحريض عامّة الشّعب على استخدام العنف ضدّ هؤلاء. ولسوء الحظّ صادفت هذه الأحداث أزمات سياسيّة نجمت عن وفاة محمد شاه والصّراع الذي تلا ذلك حول من يخلفه في الملك. وقد قام زعماء الحزب السّياسيّ المنتصر في الصّراع، وهو الحزب الذي ساند الملك الصّبيّ ناصر الدّين شاه، بتوجيه الجيش الملكي ليحارب أتباع الباب المتحمّسين لدعوته. وقد اعتقد أتباع الباب، وهم الذين نشأوا وترعرعوا في بيئة إسلاميّة، أنّ لهم حقّاً مشروعاً في الدّفاع عن أنفسهم. فقام هؤلاء بتحصين أنفسهم في معاقل مؤقّتة وقاوموا صامدين لمدّة طويلة من الزّمن الحصار والهجوم الدّمويّ. وعندما تمّ التّغلّب عليهم وذبحهم بالإضافة إلى استشهاد الباب، أقدم شابّان مَهووسَان من الذين انضمّوا إلى صفوف أتباع الباب على اعتراض ركب الشّاه في أحد الطّرق العامّة وأطلقوا عليه رصاص الخُرْدُق الذي تُصطاد به العصافير. وكانت هذه محاولة طائشة لاغتيال الشّاه، وقد اتّخذت ذريعةً لأسوأ المذابح التي تعرّض لها البابيّون، وهي مذابح أثارت احتجاج السّفارات الغربيّة في طهران. وللاطّلاع على سجلّ لهذه الأحداث راجع الكتاب الإنجليزيّ

    W. Hatcher and D. Martin, The Bahá’í Faith: The Emerging Global Religion

    (San Francisco, Harper and Row, 1985) ص6-32.

  7. 7 للاطّلاع على هذه الأحداث مفصّلةً راجع "كتاب القرن البديع" الفصول 1-4. أمّا الاهتمام بأمر الباب في الأوساط العلميّة والفكريّة في الغرب فقد بدأ على وجه الخصوص عام 1856 عندما نشر الكونت دي غابينو كتابه الفرنسي "الأديان والفلسفة في آسيا الوسطى" Joseph Arthur Comte de Gobineau, Les religions et les philosophies dans l’Asie centrale (Paris, Didier, 1865).

  8. 8 بهاء الله "لوح مبارك خطاب به: شيخ محمّد تقي مجتهد اصفهاني معروف بنجفي" (لانكنهاين – ألمانيا، لجنه نشر آثار أمري بلسان عربي وفارسي، 1982) وهو الخطاب المعروف "بلوح ابن الذّئب" الذي أنزله بهاء الله باللّغتين الفارسيّة والعربيّة، ص15. يشار إلى هذا المصدر فيما بعد "بلوح الشّيخ".

  9. 9 سجّل عدد من المراقبين الغربيّين في طهران من الدّبلوماسيّين والملحقين العسكريّين هذه الأحداث الفظيعة التي كانوا شهود عيان لها. وقد تقدّم بعض من هؤلاء باحتجاجات رسميّة لدى السّلطات في طهران. راجع الكتاب الإنجليزي.

    Moojan Momen, The Bábí and Bahá’í Religions, 1844-1944 (Oxford, George Ronald, 1981).

  10. 10 "لوح الشّيخ" ص15 و16.

  11. 11 المصدر السّابق أعلاه، ص16.

  12. 12 من المفهوم أنّه كانت لدى السّلطات الفارسيّة شكوك كبرى حول أهداف الحكومتين البريطانيّة والرّوسيّة. فقد دأبت هاتان الحكومتان منذ زمن على التّدخّل في الشّؤون الفارسيّة.

  13. 13 كان أساس هذه المشكلات هو الميرزا يحيى، وهو أخو بهاء الله من أبيه ويصغره سنّاً. وقد عيّن الباب الميرزا يحيى وهو لا يزال في سنّ يافعة وتحت رعاية بهاء الله ليكون زعيماً رمزيّاً للجامعة البابيّة حتى مجيء من يظهره الله القريب الحدوث. وحدث أن وقع الميرزا يحيى تحت سيطرة أحد فقهاء المسلمين سابقاً والمعروف بالسّيد محمّد أصفهاني، فأثّر عليه الفقيه وبدأ الميرزا يحيى بمجافاة أخيه. وبدل أن تكون هذه المجافاة علنيّة فضّل الميرزا يحيى أن يعبّر عنها بالنّشاط الخفيّ السّرّيّ لإثارة القلاقل والاضطراب. فكان لذلك تأثيرات هدّامة بالنّسبة للمعنويّات المتدنّية لدى مجموعة المنفيّين. وأخيراً رفض الميرزا يحيى الاعتراف بإعلان بهاء الله عن رسالته ولم يكن له أيّ إسهام في نموّ الدّين البهائيّ الذي كانت بدايته ذلك الإعلان.

  14. 14 بهاء الله، "كتاب الإيقان" (ريو دي جانيرو، من منشورات دار النّشر البهائيّة في البرازيل، [1978]، الطّبعة الثّالثة المعرّبة عن الفارسيّة)، ص201.

  15. 15 بهاء الله، "كلمات مكنونة" (طهران، مؤسّسه مليّ مطبوعات أمري، 128ب)، قسمت عربي. "الكلمات المكنونة" تنقسم إلى قسمين فارسيّ وعربيّ، المقتطفات من القسم العربيّ تحت الأرقام 2، 5، 35 و12.

  16. 16 "كتاب الإيقان" ص2، 3، 156، 157 و159.

  17. 17 "كتاب القرن البديع" ص169.

  18. 18 المصدر السّابق أعلاه، ص166.

  19. 19 انظر الحاشية 67 أدناه.

  20. 20 "كتاب القرن البديع" ص187، بعد عام 1863، زاد انتشار استعمال كلمة "بهائيّ" بدلاً من كلمة "بابيّ" لتمييز أتباع الدّين الجديد، وقد كان ذلك إثباتاً لحقيقة أنّ ديناً جديداً مستقلاً قد بزغ نوره.

  21. 21 مقتطف من الأصل الفارسيّ ورد في ترجمة كتاب شوقي أفندي إلى الفارسيّة

    Shoghi Effendi, The Advent of Divine Justice (Wilmette, Bahá’í Publishing Trust, (1983, بعنوان "ظهور عدل الهي". (ويلمت، لجنة أمور احبّاي إيراني، 1985) ترجمة نصر الله مودّت، ص160.

  22. 22 بهاء الله، "منتخباتي از آثار حضرت بهاء الله" (لانكنهاين، ألمانيا، لجنة نشر آثار أمري 1984) ص15. يحتوي الكتاب على مجموعة من المقتطفات العربيّة والفارسيّة. يشار إلى هذا المصدر فيما بعد بكلمة "منتخباتي".

  23. 23 المصدر السّابق أعلاه، ص190.

  24. 24 المصدر السّابق أعلاه، ص214.

  25. 25 المصدر السّابق أعلاه، ص13.

  26. 26 المصدر السّابق أعلاه، ص14.

  27. 27 البيانان وردا على لسان عبد البهاء، مقتطف من "منتخبات من كتاب بهاء الله والعصر الجديد: مقدّمة لدراسة الدّين البهائيّ"، تأليف الدّكتور جون اسلمنت (بيروت، طبع مؤسّسة دار الرّيحاني، 1972) ص187. وأيضاً من كتاب "مجموعة من ألواح حضرة بهاء الله: نزلت بعد كتاب الأقدس" (بروكسل، من منشورات دار النّشر البهائيّة في بلجيكا، 1980) ص39. يشار إلى المصدر الأوّل بالعنوان المختصر "بهاء الله والعصر الجديد" وإلى المصدر الثّاني بالعنوان المختصر "مجموعة من ألواح بهاء الله".

  28. 28 للاطّلاع على عرض مفصَّل لهذه الأحداث راجع "كتاب القرن البديع" ص157-192.

  29. 29 "منتخباتي"، ص11.

  30. 30 "كتاب الإيقان"، ص75-76.

  31. 31 المصدر السّابق أعلاه، ص76-77.

  32. 32 المصدر السّابق أعلاه، ص77.

  33. 33 المصدر السّابق أعلاه، ص79-80.

  34. 34 "منتخباتي"، ص46.

  35. 35 المصدر السّابق أعلاه، ص51.

  36. 36 المصدر السّابق أعلاه، ص50-51.

  37. 37 الأصل الفارسيّ، ورد في "ظهور عدل إلهي"، ص163.

  38. 38 "منتخباتي"، ص93.

  39. 39 المصدر السّابق أعلاه، ص58-59.

  40. 40 المصدر السّابق أعلاه، ص110.

  41. 41 المصدر السّابق أعلاه، ص212.

  42. 42 لعرض مسهب حول هذا الموضوع راجع كتاب "من مفاوضات عبد البهاء: محادثات على المائدة" (من منشورات دار النّشر البهائيّة في بلجيكا، 1980) ص145-163.

  43. 43 راجع مثلاً كلمات السّيّد المسيح: "فَقالَ لَهُ لماذا تَدْعوني صالِحاً. لَيْسَ أحَدٌ صالِحاً إلاّ واحِدٌ هُوَ الله" (إنجيل متّى إصحاح 19 آية 17) وأيضاً "أنَا والآبُ واحِدٌ" (إنجيل يوحنّا إصحاح 10 الآية 30).

  44. 44 "منتخباتي"، ص117-118.

  45. 45 المصدر السّابق نفسه، ص41-43.

  46. 46 المصدر السّابق نفسه، ص44.

  47. 47 العهد الجديد، إنجيل يوحنّا، الإصحاح 1 الآية 10.

  48. 48 "منتخباتي" ص96-97.

  49. 49 الأصل الفارسيّ ورد في ترجمة كتاب شوقي أفندي

    Shoghi Effendi, The World Order of Bahá’u’lláh: Selected Letters (Wilmette, Bahá’í Publishing Trust, 1982) المترجم إلى الفارسية بعنوان "دور بهائي" (لانكنهاين، لجنه نشر آثار أمري، 1988) من قبل لجنة ترجمة نشر الآثار باللغة الفارسيّة، ص38.

  50. 50 "منتخباتي"، ص55-56. في الآثار البهائيّة تحمل كلمة "آدم" في استعمالها الرّمزيّ معنيين: الأوّل يتعلّق بالخليقة ونشأة الجنس البشريّ، أمّا المعنى الثّاني فيرمز إلى أوّل المظاهر الإلهيّة.

  51. 51 المصدر السّابق أعلاه، ص138-139.

  52. 52 المصدر السّابق أعلاه، ص102.

  53. 53 راجع "الأوْدِيَة السَّبْعَة" و"الأوْدِيَة الأرْبَعَة" لبهاء الله وكلاهما بالفارسيّة. المقتطف التّالي مأخوذ من "الأودية السّبعة" المنشور بالفارسيّة بعنوان "هفت وادي" ضمن المجلد الثّالث من كتاب "آثار قلم أعلى" (طهران: مؤسسه ملي مطبوعات امري، 1964) ص98: "إذا كان البحث عن ربّ الأرباب في ذرّات التّراب بالنّسبة للعاقل أمراً مذموماً فإنّ ذلك ليس إلاّ دليلاً على خالص الجهد وصدق الطّلب".

  54. 54 ورد في "دور بهائي" ص37.

  55. 55 "هفت وادي" في "آثار قلم أعلى" ج3، ص92 وص93.

  56. 56 "منتخباتي" ص139.

  57. 57 المصدر السّابق أعلاه، ص183.

  58. 58 المصدر السّابق أعلاه، ص11.

  59. 59 العهد الجديد، إنجيل يوحنّا إصحاح 10 الآية 16.

  60. 60 للاطّلاع على تعليق مسهب حول تعاليم بهاء الله وأثرها في تنمية قدرات الجنس البشريّ للوصول إلى مرحلة النّضج، راجع كتاب حضرة ولي أمر الله بالإنجليزية والمذكور أعلاه بعنوان The World Order of Bahá’u’lláh ص162-163، 202.

  61. 61 "منتخباتي" ص141-142.

  62. 62 "مجموعة من ألواح بهاء الله" ص144.

  63. 63 "منتخباتي" ص68.

  64. 64 "مجموعة من ألواح بهاء الله"، ص144.

  65. 65 "منتخباتي"، ص12-13.

  66. 66 "مجموعة من ألواح بهاء الله"، ص85.

  67. 67 الأصل الفارسيّ ورد في كتاب أحمد يزداني بالفارسيّة بعنوان "مقام وحقوق زن در ديانت بهائي" (طهران، لجنه ملي نشر آثار أمري، 1949) ج1، ص76.

  68. 68 تضافرت مجموعة من الأحداث والظّروف لكي تجعل السّلطات العثمانيّة في الآستانة تظهر العطف بصورة ملموسة تجاه بهاء الله، وتقاوم ضغوط الحكومة الفارسيّة. فقد كتب نامق باشا والي بغداد إلى العاصمة بحماس فأثنى على سجينه المنفيّ الجليل وذكر كريم خصاله ونفوذه الخيّر. أمّا السّلطان عبد العزيز فقد وجد التّقارير المرفوعة إليه محيّرة لأنّه، رغم كونه خليفة المسلمين السّنّة، كان يعتبر نفسه من سالكي طريق العرفان وله اهتمامات صوفيّة. ومن الأهميّة بمكان أيضاً، وبصورة مختلفة، كان موقف رئيس الوزراء عالي باشا. فقد وجد عالي باشا وهو الضّليع في الآثار الفارسيّة أدباً ولغة، في بهاء الله شخصيّة محبّبة تعاطف تجاهها، لا سيّما وأنّه أحد الذين أدخلوا الإصلاح فيما بعد إلى الإدارة العثمانيّة. ومما لا شكّ فيه أنّ هذا المزيج من التّعاطف والاهتمام حدا بالحكومة العثمانيّة إلى دعوة بهاء الله لينزل ضيفاً عليها في العاصمة بدل إبعاده إلى منطقة نائية أو تسليمه إلى السّلطات الفارسيّة التي كانت تحثّ الحكومة العثمانيّة على فعل ذلك.

  69. 69 للاطّلاع على نصّ التّقرير الكامل للسّفير النّمساويّ الكونت فون بروكيش أوستين في رسالة موجّهة إلى الكونت دي غابينو بتاريخ 10 يناير 1886، راجع الكتاب الإنجليزي المذكور أعلاه بعنوان The Bábí and Bahá’í Religions. ص186-187.

  70. 70 راجع كتاب أديب طاهر زاده المذكور أعلاه بعنوان The Revelation of Bahá’u’lláh ، ج2، ص399.

  71. 71 مقتطف من "مجموعه اي از الواح جمال اقدس أبهى كه بعد از كتاب أقدس نازل شدة" (لانكنهاين: لجنة نشر آثار أمري، 1980)، ص6.

  72. 72 "منتخباتي"، ص137-138.

  73. 73 المصدر السّابق أعلاه، ص161.

  74. 74 المصدر السّابق أعلاه، ص161.

  75. 75 للاطّلاع على هذه الأحداث، راجع كتاب أديب طاهر زاده المذكور أعلاه بعنوان The Revelation of Bahá’u’lláh ، ج3، وخاصّة ص296 و331.

  76. 76 في وصف هذه الظّروف الصّعبة راجع "كتاب القرن البديع" ص219-231.

  77. 77 في الخمسينات من القرن التّاسع عشر قام اثنان من قادة الدّين في ألمانيا، هما كريستوفر هوفمان وجورج دافيد هارديغ، بالتّعاون فيما بينهما فأسّسا "جمعيّة الهيكليّين" هدفها بناء مستعمرة أو مستعمرات في الأراضي المقدّسة تمهيداً لظهور السّيّد المسيح في مجيئه الثّاني. وتركت المجموعة الثّانية التي بدأت بإنشاء هذه المستعمرات ألمانيا في اليوم السّادس من آب (أغسطس) عام 1868 فوصلت حيفا في اليوم الخامس من تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 1868، وذلك بعد وصول بهاء الله إلى هناك بشهرين.

  78. 78 للاطّلاع على الكوارث التي حاقت بالأراضي الأوروبيّة التّابعة للإمبراطوريّة العثمانيّة في الحرب الرّوسيّة التّركيّة في 1877-1878 راجع الفصل الإضافي الثّالث في كتاب حسن بليوزي المذكور أعلاه بعنوان Bahá’u’lláh: The King of Glory ص460-462.

  79. 79 "لوح الشّيخ"، ص36.

  80. 80 كتاب أليستر هورْن بالإنجليزيّة بعنوان "سقوط باريس"، ص34.

    Alistair Horne, The Fall of Paris (London, Macmillan, 1965)

  81. 81 مقتبس من ترجمة كتاب شوقي أفندي إلى الفارسيّة (Shoghi Effendi,

    The Promised Day is Come (Wilmette, Bahá’í Publishing Trust, 1980) بعنوان "قد ظهر يوم الميعاد" (طهران، لجنه ملي نشر آثار أمري، 1947) ص46-47.

  82. 82 المصدر السّابق أعلاه، ص51.

  83. 83 المصدر السّابق أعلاه، ص48.

  84. 84 الآية وردت في "الكتاب الأقدس" الذي نزل كلّه باللغة العربية (راجع الحاشية رقم 108 أدناه) واقتبست في النّص الأصليّ لهذه الوثيقة من كتاب شوقي أفندي

    Shoghi Effendi, Citadel of Faith: Messages to America 1947-1957,

    (Wilmette, Bahá’í Publishing Trust, 1980) pp18-19

  85. 85 "لوح الشّيخ"، ص10.

  86. 86 "كتاب الإيقان"، ص13.

  87. 87 الأصل ورد في "قد ظهر يوم الميعاد"، ص130.

  88. 88 المصدر السّابق أعلاه، ص126.

  89. 89 "لوح الشّيخ"، ص66.

  90. 90 الأصل الفارسيّ ورد في "قد ظهر يوم الميعاد"، ص175.

  91. 91 "منتخباتي"، ص131.

  92. 92 المصدر السّابق أعلاه، ص164.

  93. 93 المصدر السّابق أعلاه، ص34.

  94. 94 المصدر السّابق أعلاه، ص140.

  95. 95 المصدر السّابق أعلاه، ص128-129.

  96. 96 "مجموعة من ألواح بهاء الله"، ص87-88.

  97. 97 المصدر السّابق أعلاه، ص145-147.

  98. 98 "لوح الشّيخ"، ص8. (عبارة "ولعمري إنّي ما أظهرت نفسي..." وردت في الفقرة السّابقة لتلك المشار إليها هنا).

  99. 99 راجع "كتاب القرن البديع" ص229: "وإلى الشّدائد الجسام أضيفت مأساة مباغتة مريرة، ألا وهي الموت المبكّر لميرزا مهدي التّقي النّبيل، وهو في الثّانية والعشرين من عمره، وهو "الغصن الأطهر" أخو حضرة عبد البهاء الأصغر، وأحد كتّاب وحي حضرة بهاء الله ورفيقه في منفاه منذ أن جيء به طفلاً من طهران إلى بغداد ليرافق والده بعد عودته من السّليمانية. وبيان ذلك أنّه كان يتمشّى على سطح الثّكنات ذات مساء غريقاً في مناجاته المعتادة فسقط في عتمة الضّوء على قفص خشبيّ كان على الأرض. فاخترق أضلاعه، وأفضى به إلى الموت بعد اثنتين وعشرين ساعة أخرى. وكان ذلك في اليوم الثّالث والعشرين من ربيع الأوّل سنة 1287ﻫ (الموافق لليوم الثّالث والعشرين من حزيران سنة 1870 ميلاديّة)."

  100. 100 "منتخباتي"، ص65.

  101. 101 "كتاب القرن البديع"، ص120-121.

  102. 102 الأصل الفارسيّ ورد في "دور بهائي"، ص30.

  103. 103 "منتخباتي"، ص147-148.

  104. 104 "مجموعة من ألواح بهاء الله"، ص150.

  105. 105 "لوح الشّيخ"، ص8-9.

  106. 106 رغم أنّ أمر النّفي والإبعاد إلى مدينة السّجن عكّا الذي أصدره السّلطان عبدالعزيز لم يتمّ إلغاؤه أبداً، فإنّ السّلطات المسؤولة اعتبرته أمراً ملغيّاً باطل المفعول. وبناءً عليه أشار هؤلاء بأنّ لبهاء الله الحقّ في إيجاد مكانٍ للسّكنى خارج أسوار مدينة السّجن، إذا شاء ذلك.

  107. 107 كان القصر قد بناه تاجر من العرب المسيحيّين في عكّا، وتركه خالياً عندما تفشّى الطّاعون في المنطقة. وفي بادئ الأمر استُخدم القصر لقاء إيجار مدفوع. وبعد صعود بهاء الله قامت الجامعة البهائيّة بشراء البناء. أمّا مثوى بهاء الله فضريح تمّ بناؤه في الحدائق المحيطة "بالبهجة"، وقد أصبح اليوم قبلة المؤمنين من الزّوار يفدونه من كل حدب وصوب في العالم البهائيّ.

  108. 108 للاطّلاع على ملخّص لمجموعة هذه التّعاليم راجع كتابي شوقي أفندي: الأوّل المذكور سابقاً بعنوان The World Order of Bahá’u’lláh، ص143-157 والثّاني Shoghi Effendi,

    Principles of the Bahá’í Administration (London, Bahá’í Publishing Trust, 1973).

    أمّا الوثيقة الرّئيسيّة في مجموعة تعاليم بهاء الله فهو "الكتاب الأقدس" الذي أنزله بهاء الله كلّه باللّغة العربيّة. وسوف ينشر هذا الكتاب مع تعليق مفصّل من الحواشي في عام 1992 بمناسبة الذّكرى المئوية لصعود بهاء الله.

  109. 109 الأصل الفارسيّ ورد في "ظهور عدل إلهي"، ص36، وفيما يلي نصّه: "بعث خلق بديع ونفخ روح جديد".

  110. 110 مقتبس من كتاب براون بالإنجليزية Edward G. Brown, A Traveller’s Narrative

    (New York, Bahá’í Publishing Trust Committee, 1930), p.XXXIX-XI

    الصّفحات الأولى 39-40، التّرجمة مأخوذة من كتاب "بهاء الله والعصر الجديد"، ص44-45.

المصادر
المحتوى