جواهر الأسرار في معارِجِ الأسفار لمن أراد أن يتقرّب إلى الله المقتدر الغفّار فهنيئًا للأبرار الّذين يشربون من هذه الأنهار
١ يا أيّها السّالك في سُبل العدل والنّاظر إلى طلعة الفضل، قد بلغ كتابك وعرفتُ سؤالك وسمعتُ لحناتِ قلبك فِي سرادق فؤادك، إِذًا قد رُفعتْ سحاب الإرادة لتمطرَ عليك من أمطار الحكمة، لتأخذ عنك كلَّ ما أخذت من قبلُ، وتقلّبك عن جهات الضّدّية إِلى مكمن الأحديّة، وتصلك إلى شريعة القدسيّة، لتشرب عنها وتستريح نفسك فيها ويسكن عطشك ويبرد فؤادك، وتكون من الّذينهم كانوا اليوم بنور الله لمهتدين.
٢ ولو أنّي في تلك الأيّام الّتي أحاطتني كلابُ الأرض وَسَبُعُ البلاد خفيتُ في وَكْرِ سرّي، وأكون ممنوعًا عن إظهار ما أعطاني الله من بدائعِ علمه وجواهر حكمته وشئونات قدرته، ولكن مع كلّ ذلك ما أحبُّ أنْ أخيّبَ من قام لدى حرم الكبرياء ويُريد أنْ يَدْخُلَ في رَفْرَفِ البقاء، ويحبُّ أن يطير في سماء هذا البَداء في فجر القضاء. لذا أذكرُ لك بعضَ ما أكرمني الله عمّا تطيقُه النّفوس وتحمله العقول، لئلاّ يُرْفَعَ ضوضاءُ المبغضين وأعلامُ المنافقين. وأسئَلُ اللهَ بأن يؤيّدني بذلك، إذ هو أرحم الرّاحمين ومُعطي السّائلين.
٣ فاعْلمْ بأنّ لجنابك ينبغي بأن تفكّر في أوّل الأمر بأنّ أمم المختلفة الّذينهم كانوا اليوم في الأرض لِمَ ما آمنوا بُرسُل الله الّذين أرسلهم الله بقدرته وأقامهم على أمره وجعلهم سراج أزليّته في مشكواة أحديّته، وبِمَ أعرضوا عنهم واختلفوا فيهم وخالفوا بهم ونازعوا معهم وحاربوا بهم، وبأيّ جهةٍ ما أقرّوا برسالتهم ولا بولايتهم، بل كفّروهم و سبّوهم حتّى قتلوهم وأخرجوهم.
٤ وإنّك يا أيّها الماشي في بَيداء المعرفة والسّاكنُ في سفينة الحكمة، لولا تعرف سرّ ما ذكرناه لك ما تصل إلى مراتب الإِيمان، ولستَ بموقنٍ في أمر الله ومظاهر أمره ومطالع حُكْمِهِ ومخازن وَحيه ومعادن علمه، وتكون من الّذين ما جاهدوا في أمر الله وما وجدوا رائحة الإِيمان من قُمُص الإيقان، وما بلغوا إلى معارج التّوحيد وما وصلوا إلى مدارج التّفريد في هياكل التّحميد وجواهر التّجريد.
٥ فاجهدْ يا أخي في معرفة هذا المقامِ لِيُكْشَفَ الغِطاءُ عن وجه قلبك وتكون من الّذين جَعَلَ الله بصرَهم حديدًا، لتشهدَ جراثيم الجبروت وتَطَّلِعَ بأسرار الملكوت ورموزات الهويّة في أراضي النّاسوت، وتَصِلَ إلى مقام الّذي ما ترى في خَلْق الرّحمن من تفاوتٍ، ولا في خَلْق السّموات والأرض من فُطُوْرٍ.
٦ فلمّا بلغ الأمر إلى هذا المقام الأَوْعَرِ الأعلى و هذا الرّمز الخَشِن الأسنى، فاعرفْ بأنّ هؤلاء الأمم من اليهود والنّصارى لمّا ما عرفوا لحن القول، وما بلغوا إلى ما وعدهم الله في كتابه، أنكروا أمر الله وأعرضوا عن رُسُلِ الله وأنكروا حُجَجَ الله، وإنّهم لو كانوا ناظرين إلى الحجّة بنفسها وما اتّبعوا كلّ هَمَجٍ رُعاعٍ من علمائهم ورؤسائهم، لبلغوا إلى مخزن الهدى ومكمن التُّقى، وشربوا من ماء الحيّ الحَيَوان في مدينة الرّحمن وحديقة السّبحان وحقيقة الرّضوان. وإنّهم لمّا ما شهدوا الحُجّة بعيونهم الّتي خَلَقَ الله لهم بهم، وأرادوا بغير ما أراد الله لهم من فضله بَعُدوا عن رَفْرَفِ القرب ومُنِعوا عن كوثر الوصل ومنبع الفضل، وكانوا في حجبات أنفسهم ميّتين.
٧ وإنّي بِحَوْلِ الله وقوّته حينئذٍ أَذكُرُ بعض ما ذكره الله في كتب القبل، وعلائمَ ظهورات الأحديّة في هياكل الأنزعيّة، لتعرف مقام الفجر في هذا الصّبح الأزليّة، وتشاهد هذه النّار المشتعلة في سِدرةٍ لا شرقيّة ولا غربيّة وتفتحَ عيناك في وصولك إلى مولاك، ويَمْذُقَ قلبُك من نَعْماء المكنونة في هذه الأوعية المخزونة، وتشكر الله ربّك فيما اختصّك بذلك، وجعلك من الّذينهم كانوا بلقاء ربّهم موقنون.
٨ هذا صورة ما نُزّل من قبلُ في إنجيل المتّى في سِفْرِ الأوّل؛ فيه يَذْكُرُ علائمَ ظهور الّذي يأتي بعده ويقول: ﴿الويل للحَبالى والمرضعات في تلك الأيّام﴾، إلى أنْ تَغَنَّ الورقاء في قطب البقاء وَيَدْلَعَ ديكُ العرش في شجرة القُصوى وسدرة المنتهى ويقول: ﴿وللوقت من بعد ضيق تلك الأيّام تُظلِم الشَّمسُ والقمرُ لا يُعطي ضوئَه، والكواكبُ تتساقط من السّماء، وقُوّاةُ الأرض تَرْتَجُّ. حينئذٍ يظهر علامةُ ابن الإنسان في السّماء، وينوح حينئذٍ كلّ قبائل الأرض، ويَرَوْنَ ابنَ الإنسان آتياً على سحاب السّماء مع قوّاةٍ ومجدٍ كبير، ويُرسل ملائكته مع صوت السّافور العظيم﴾ انتهى.
٩ وفي سِفْرِ الثّاني في إِنجيل المُرْقُس، فيما يتكلَّمُ حمامة القدس، فيقول بأنَّ ﴿في تلك الأيّام ضيق لم يَكُنْ مثله من البَدْوِ الَّذي خلق الله إلى الآن ولا يكون﴾ انتهى. وبعدُ تَرِنّ بمثل ما رنَّت من قبلُ من دون تغيير ولا تبديل، وكان الله على ما أقول وكيل.
١٠ وفي سِفْرِ الثّالث في إنجيل اللّوقا يقول: ﴿علاماتٌ في الشَّمس والقمر والنّجوم، وتحدث على الأرض ضيق الأمم من هول صوت البحر والزّلازل وقواةُ السّماء، ويضطرب، وينظرون ابن الإنسان آتِيًا في السّحاب مع قوّاةٍ ومجدٍ عظيم. وإذا رأيتم هذا كلَّهُ كائنًا اعلموا أنَّ ملكوت الله قد اقتربت﴾ انتهى.
١١ وفي سِفْرِ الرّابع في إنجيل اليوحنَّا يقول: ﴿إذا جاء المُعزّي الّذي أرسله إليكم روحُ الحقّ الآتي من الحقّ، فهو يشهد لي وأنتم تشهدون﴾. وفي مقامٍ آخر يقول: ﴿وإذا جاء روحُ القدس المُعزّي الّذي يُرسله ربّي باسمي، فهو يُعلّمكم كلّ شيء ويذكّركم كلَّما قلت لكم. والآن فإنّي مُنطلِقٌ إلى مَن أرسلني، وليس أحدٌ منكم يسئلني إلى أين أذهب لأنّي قلتُ لكم هذا﴾. وفي مقامٍ آخر يقول: ﴿إنّي أقول لكم الحقَّ؛ إنَّه خيرٌ لكم أن أنطلق لأنّي إنْ لم أنطلقْ لَمْ يَأتِكُمُ المُعزّي. فإذا انطلقتُ أرسلتُه إليكم﴾، ﴿فإذا جاء روح الحقّ ذاك فهو يرشدكم إلى جميع الحقّ لأنّه ليس ينطق من عنده بل يتكلّم بما يسمع ويخبركم بما يأتي﴾.
١٢ هذا صورة ما نُزّل من قبلُ، وإنّي فوالله الّذي لا إله إلاّ هو لاختصرتُ، ولو أريد أن أذكر كلمات الأنبياء فيما نُزّل من جبروت العظمة وملكوت السّلطنة لَتُملأ الأوراق والألواح من قبل أن أصل إلى آخرها. وفي كلّ الزّبرات والمزامير والصّحائف لَموجود ومذكور بمثل ما ذكرتُ لك وألقيتُ عليك، بل أعلى وأعظم عن كلّ ما ذكرتُ وفصّلتُ. وإنّي لو أريد أن أذكر كلّما نُزّل من قبلُ لأقدر بما أعطاني الله من بدائع علمه وقدرته، ولكن اكتفيتُ بما بيّنتُ لك لئلاّ تكسِل في سَفَرك ولا تنقلب على عَقِبَيْكَ، ولئلاّ يأخذك من حزنٍ ولا كدورةٍ ولا من نَصَبٍ ولا من ذلٍّ ولا من لُغُوْبٍ.
١٣ إِذًا فأنصفْ ثمّ فكّر في تلك العبارات المتعاليات، ثمّ اسئل عن الَّذين يَدَّعُوْنَ العلم من دون بيّنةٍ من عند الله ولا حُجّة من لَدُنْهُ، وغفلوا عن تلك الأيّام الّتي أشرقَت شمسُ العلم والحكمة عن أفق الألوهيّة، وتُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقّه وكلَّ ذي قَدْرٍ مقداره ومقامه. ما يقولون في هذه الإشارات الّتي ذُهِلَتِ العقولُ عن إدراكها وحارت النّفوسُ المقدّسة عن عرفان ما سُتِرَ فيها من حكمة الله البالغة وعلم الله المودعة؟
١٤ إنْ يقولون هذه الكلمات من عند الله ولم يكن لها من تأويلٍ وتكون على ظاهر القول في ظاهر الظّاهر، فكيف يعترضون على هؤلآء الكفرة من أهل الكتاب؟ لأنَّهم لمّا شهدوا في كتابهم ما ذكرناه لك، وفسّروا لهم علمائُهم على ظاهر القول، لذا ما أقرّوا بالله في مظاهر التَّوحيد ومطالع التَّفريد وهياكل التَّجريد، وما آمنوا بهم وما أطاعوهم، لأنّهم ما شهدوا بأن تظلمَ الشَّمس وتساقطَ الكواكب من السّماء على وجه الأرض، وتنزلنّ الملائكة على ظاهر الهيكل على الأرض، لذا اعترضوا على النّبيّين والمرسَلين. بل لمّا وجدوهم مخالفًا لدينهم وشرائعهم وردوا عليهم ما أستحيي أن أذكر لك من الكذب والجنون والكفر والضّلال. فأرجع البصرَ في القرآن لتجد كلَّ ذلك وتكون فيه من العارفين. ومن يومئذٍ إلى حينئذٍ ينتظرون هذه الفئةُ ظهورات ما عرفوا من علمائهم وأيقنوا من فقهائهم، ويقولون: متى تظهر هذه العلامات إنّا حينئذ لآمنون. ولو كان الأمر كذلك، كيف أنتم تَدْحَضُوْنَ حُجّتهم وتُبطلون برهانَهم وتحتجّون بهم في أمر دينهم وما عرفوا من كتبهم وسمعوا من صناديدهم؟
١٥ وإن يقولون هذه الأسفار الّتي تكون بين يديْ هذه الفئة ويسمّونها بالإنجيل وينسبونها بعيسى بن مريم ما نَزَلَتْ من عند الله ومظاهر نفسه، يلزمُ تعطيلُ الفيض عن مبدء الفيّاض، ولم تكن الحجّة من عند الله بالغةً على عباده، ولم تكن النّعمة كاملةً ولا العناية مشرقةً ولا الرّحمة واسعةً، لأنَّه لمّا رُفِع عيسى إلى السّماء ورُفعَ كتابه، فبأيّ شيءٍ يَحْتَجُّ اللهُ بهم يوم القيمة ويعذّبهم، كما هو المكتوب من أئمّة الدّين والمنصوص من علماء الرّاشدين.
١٦ إِذًا فكّر في نفسك؛ لمّا تشهدُ الأمر كذلك، ونشهدُ كذلك، من أين تفرُّ وإلى مَن تركضُ وإلى من تتوجّه وبأيّ أرض تسكن وبأيّ فراش تجلس وبأيّ صراط تستقيم وبأيّ ساعة تنوم وبأيّ أمر تنتهي أمرك وبأيّ شيء تشدّ عروةَ دينك وحبلَ طاعتك؟ لا فوالّذي تجلّى بالوحدانيّة وَتَشَهَّدَ لنفسه بالفردانيّة، لو يحدث في قلبك قَبَسًا من نار محبّة الله، ما تنومُ وما تسكن وما تضحك وما تستريح، بل تَفِرُّ إلى قُلَل الجبال في ساحة القرب والقدس والجمال، وتنوح كَنَوْحِ الفاقدين وتبكي كَبُكاء المشتاقين، ولا ترجع إلى بيتك ومحلّك إلاّ بأن يكشف الله لك أمره.
١٧ وإنَّك أنت يا أيّها المتعارج إلى جبروت الهدى والمتصاعد إلى ملكوت التُّقى، لو تُريد أن تعرفَ هذه الإشارات القدسيّة وتشهدَ أسرار العلميّة وَتَطَّلِعَ على كلمة الجامعة، لا بدّ لجنابك أن تسأل كلَّ ذلك وكلّما يَرِدُ عليك في أمر مبدئك ومَعادك عن الَّذين جعلهم الله منبع علمه وسماء حكمته وسفينة سرّه، لأنّ من دون هذه الأنوار المشرقة عن أفق الهويّة ما يعرفون النّاسُ يمينَهم عن شمائلهم، وكيف يقدرنّ أن يتعارجنّ إلى أفق الحقايق أو يصلنّ إلى مخزن الدّقائق! إِذًا نسأل الله بأن يُدخِلنا في هذه البحور المتموّجة ويشرّفنا إلى هذه الأرواح المرشّحة ويُنزِلنا في هذه المعارج الإلهيّة، لننزعَ عن هياكلنا كلّما أخذنا من عند أنفسنا، ونخلعَ عن أجسادنا كلّ الأثواب العارية الّتي سرقنا عن أمثالنا، ليُلبسَنا الله من قُمُص عنايته وأثواب هدايته،
١٨ ويدخلَنا في مدينة العلم الّذي من دخل فيها لَيَعْرِفُ كلّ العلوم قبل أن يلتفت إلى أسرارها، ويعرف كلّ العلم والحكمة من أسرار الرّبوبيّة المودعة في كنائز الخليقه من أوراقها الّتي تورّقت من أشجارها. فسبحان الله موجدها ومُبدعها عمّا خُلِق فيها وقُدّر لها. وإنّي، فوالله المهيمن المقتدر القيّوم، لو أُرِيَنَّكَ أبواب هذه المدينة الّتي خُلقت عن يمين القدرة والقوّة لَتَرى ما لا رأى أحدٌ من قبلك، وتشهد ما لا شهدت نفسٌ دونك، وتعرف غوامض الدّلالات وَمُعْضِلات الإشارات، وتُبَرْهَنُ لك أسرار البَدْئيّة في نقطة الخَتْمِيّة، وتسهل عليك الأمورُ وتُجعل النّارُ لك نورًا وعلمًا ورحمةً، وتكونَ في بساط القدس لَمِن المستريحين.
١٩ ومن دون ذلك، كلّ ما ألقيناك من جواهر أسرار الحكمة في غياهب هذه الكلمات المباركة الرّوحيّة، ما تقدر أن تعرفَ رشحًا من طَمطام أبحُر العلم وقَمقام أَنْهُرِ العزّ، وتكونَ من إصبع الهويّة على قلم الأحديّة في أمّ الكتاب بالجهل مكتوبًا، ولن تحلّ لك حرفاً من الكتاب ولا كلمات آل الله في أسرار المَبْدَءِ والمآب.
٢٠ إِذًا فأنصفْ يا أيّها العبد الّذي ما رأيناك في الظّاهر ولكن وجدنا حبّك في الباطن، ثمّ اجعلْ محضرك بين يديّ الّذي إنَّك إنْ لن تراه إنّه هو يراك، وإنَّك إنْ لن تعرفه إنَّه هو يعرفك. هل يقدر أحدٌ أن يفسّر تلك الكلمات بدلائل متقَنةٍ وبراهين واضحة وإشارات لائحة على قَدْر الّذي يستريح قلبُ السّائل وَيَسْكُنُ فؤادُ المخاطِب؟ لا فَوَالّذي نفسي بيده، لن يقدر أحدٌ أن يشرب رشحًا منها إلاّ مَنْ يدخل في ظلّ هذه المدينة الّتي بُنيَت أركانُها على جبال الياقوت المُحْمَرَّةِ وجدارُها من زبرجد الأحديّة وأبوابُها من ألماس الصّمديّة وترابُها من طِيْبِ المكرُمة.
٢١ ولمّا ذكرنا وألقينا عليك من بعض الأسرار مع الحُجُبِ والأستار، نرجع إلى ما كنّا فيه في ما عرفنا من كتب القَبْل لئلاّ يَزَلَّ قدمُك في شيء وتكون موقنًا في كلّ ما رَشَحْنا عليك من تموّجات أَبْحُرِ الحياة في لاهوت الأسماء والصّفات.
٢٢ وهو مكتوبٌ في جميع أسفار الإنجيل، وهو هذا حين الّذي تكلّمت الرّوحُ بالنّور، وقال لتلاميذه: ﴿فاعلموا بأنّ السّموات والأرض يُمكن أن تزولان ولكنّ كلامي لن يزول أبدًا﴾. وكان معلوم عند جنابكم بأنّ المعنى في هذا الكلام على ظاهر العبارة لن يَدُلّ إلاّ بأنّ هذه الأسفار من الإنجيل تكون باقيةً بين العباد إلى أبد الدّهر ولا تَنْفَدُ أحكامُها ولا يبيد برهانُها. وكلُّما شُرِّع فيها وحُدّد لها وقُدّر بها يبقى ولا يفنى أبدًا.
٢٣ إِذًا يا أخي، طهّرْ قلبك ونوّرْ فؤادك وَحَدِّ بصرَك لتعرف ألحان طيور الهويّة ونغمات حمامات القدسيّة في ملكوت البقائيّة لتعرف تأويل الكلمات وأسرارَها. وإلاّ لو تفسّر على ظاهر العبارة لن تقدر أن تُثبت أمْرَ من جاء بعد عيسى، ولا تستطيع أن تُلزم الخصم وتفوق على المعاندين من هؤلآء المشركين، لأنّ بهذه الآية تستدلّون علماءُ الإنجيل بأنّ الإنجيل ما يُنسَخ أبدًا. ولو تظهر تلك العلامات الّتي كانت مكتوبًا في كتبنا ويَظهر هيكلُ المعهودُ لا بُدّ له بأن يحكم بين العباد بأحكام الإنجيل، ولو تظهر كلُّ العلامات المكتوبة في الكتب ويحكم بغير ما حكم به عيسى ما نُقِرّ بِهِ وما نتّبعه، لأنّ هذا المطلب من مسلَّمات مطالبهم.
٢٤ بمثل ما أنتم تشهدون اليوم من علماء القوم وجُهلائهم فيما يعترضون ويقولون بأنّ الشّمس ما أشرقت من المغرب، وما صاح الصّائح بين السّماء والأرض، وما غَرِقَ بعضُ البلاد، وما ظهر الدّجالُ، وما قام السُّفياني، وما ظهر الهيكل في الشّمس. وإنّي بسمعي سمعتُ عن واحدٍ من علمائهم يقول: لو يَظْهَرُ كلُّ تلك العلامات وَيَظْهَرُ قائمُ المأمولُ ويحكم بغير ما نُزّل في القرآن فيما يكون بين أيدينا من الفروع لنكذّبه ونقتله وما نُقِرّ به أبدًا، وأمثال ذلك عمّا يقولون هؤلآء المكذِّبون بعد الّذي قام القيمة ونُفِخ في الصّور وحُشر كلُّ مَن في السّموات والأرض، والميزان نُصِبت والصّراط وُضِعت والآيات نُزِّلت والشَّمس أشرقت والنّجوم طُمِست والنّفوس بُعِثت والرّوح نُفِخت والملائكة صُفَّت والجنّة أُزلفت والنّار سُعِّرت، وقُضي كلّ ذلك وإلى حينئذٍ ما عرف أحدٌ منهم، كأنّهم في غَشَواتهم ميّتون إلاّ الّذينهم آمنوا ورجعوا إلى الله وكانوا اليوم في رضوان القدس يُحْبَرُوْنَ وفي رضى الله يَسْلُكُوْن.
٢٥ وكلّ النّاس لمّا احتجبوا بغَشَوات أنفسهم ما عرفوا ألحان القدس وما شمّوا روائح الفضل وما سَئَلوا عن أهل الذّكر بعد الّذي أَمَرَهُمُ اللهُ بذلك؛ قال وقوله الحقّ: ﴿فاسئلوا أهلَ الذِّكْرِ إن كنتم لا تعلمون﴾. بل أعرَضوا عن أهل الذّكر واتّبعوا السّامريّ بأهوائهم، وبذلك بَعُدُوا عن رحمة الله وما فازوا بجماله يوم لقائه بعد الّذي كلٌّ انتظروا يوم ظهوره وَدَعُوا الله في اللّيالي والأنهار بأن يحشرهم بين يديه ليُسْتَشْهَدُوا في سبيله وَيَسْتَهْدُوا بهدايته وَيَسْتَنْوِرُوا بنوره. فلمّا جائهم بآيةٍ من عند الله وحجّةٍ من لدنه كفّروه وسبّوه وفعلوا به ما فعلوا على مقامٍ لا أنا أقدر أن أذكر ولا أنت تقدر أن تسمع، والقلمُ حينئذٍ يَضِجُّ والمداد يبكي ويصرخ. وإنّك لو تتوجّهْ بسمع الفطرة فوالله لَتسمعْ ضجيج أهل السّموات، ولو تكشف الحجابَ عن عينيك لتشهدْ بأنّ الحوريّات مَغْشِيّاتٌ والأرواحَ منصعقاتٌ وَيَضْرِبْنَ على وجوههنّ وَجَلسْنَ على وجه التّراب.
٢٦ فآهٍ آهٍ عمّا ورد على مظهر نفس الله وما فعلوا به وبأحبّائه، بحيث ما فعل أحد على أحدٍ ولا نفسٌ إلى نفسٍ ولا كافرٌ إلى مؤمنٍ ولا مؤمنٌ إلى كافرٍ. فآهٍ آهٍ قد جلس هيكل البقاء في التّراب السّوداء، وناحت روح القدس في رفارف الأعلى، وتهدّمت أركان العرش في لاهوت الأسنى، وتبدّلت عيشُ الوجود في أرض الحمراء، وخرست لسان الورقاء في جبروت الصّفراء. أُفٍّ لهم وبما اكتسبت أيديهم وعن كلّ ما هم كانوا أن يعملون.
٢٧ فاستمعْ ما غنّت الورقاء في شأنهم بأحسن نغماتٍ بديعٍ واكمل تغرّداتٍ منيعٍ ليكون حسرةً عليهم من يومئذٍ إلى يوم الّذي يقوم النّاس لربّ العالمين. وكانوا من قبلُ يستفتحون علی الّذين كفروا، فلمّا جائهم ما عرفوا كفروا به، فلعنةُ الله علی الكافرين. هذا شأنهم وَمَبْلَغُهُمْ في حيوة الباطلة، وسيُرَدُّون إلی عذاب السّعير ولن يجدوا لأنفسهم لا من وليٍّ ولا من نصير.
٢٨ ولا يحجبك كلُّ ما نُزِّلَ في الفرقان وما سمعت عن آثار شموس العصمة وبدور العظمة في تحريف الغالين وتبديل المتحرّفين؛ ما كان مقصودُهم في تلك الكلمات إلّا في بعض الموارد المخصوصة المنصوصة، وانّي مع عجزي وفقري لو أريد أن أذكر لجنابك ما هو المذكور لأقدر، ولكن يغرُب عنّا المقصود ونبعُد عن هذا الصّراط الممدود ونغرق في إشارات المحدود ونخرج عمّا هو المحبوب في ساحة المحمود.
۲۹ وإنّك أنت يا أيّها المذكور في هذا الرّقّ المنشور، والمُسْتَنْوِرُ في هذه الظُّلُمات الدَّيجور فيما تجلىّ عليك من أنوار الطّور في سيناء الظّهور، نَزِّهْ نفسَك عن كلّ ما عرفت من قبلُ من إشارات السُّوئيّة والدّلالات الشّركيّة لتجد رائحة البقاء عن يُوسُف الوفاء وتكون داخلاً في مصر العَماء وتجد روائح طِيْبِ السّناء عن هذا اللّوح الدّرّيّ البيضاء فيما رَقَّمَ فيه القلمُ من أسرار القِدَم في أسماء ربّه العليّ الأعلى لتكون من الموقنين في ألواح القدس مكتوبًا.
٣٠ ثمّ اعلمْ يا أيّها الحاضر بين يديّ العبد حين غفلتك عن ذلك، لا بدّ لمن يُريد أن يقطع الأسفار في معارج الأسرار بأن يجاهد في الدّين على قَدْرِ طاقته وقدرته ليَظهر له السّبيلُ في مناهج الدّليل. وإنْ يَجِدْ نفسًا يدّعي أمرًا من الله، وكان في يده حجّةٌ من مولاه الّتي تعجز عنها العالمين لا مفرّ له إلاّ بأن يتّبعه في كلّ ما يأمر ويقول ويحكم، ولو يُجري على السّماء حكم الأرض أو على الأرض حكم السّماء أو فوق ذلك أو تحت ذلك، ولو يحكم بالتّغيير أو بالتّبديل، لانّه اطَّلَعَ بأسرار الهويّة ورموزات الغيبيّة وأحكام الإلهيّة.
٣١ ولو أنّ كلّ العباد من أمم المختلفة يعملون بما ذكرنا، حينئذٍ لَيَسْهُلُ عليهم أمرُهم، وما يمنعهم تلك العبارات والإشارات عن الورود في غمرات الأسماء والصّفات. ولو عرفوا ذلك ما كفروا بأنعُم الله وما حاربوا مع النّبيّين وما جاحدوهم وما أنكروهم، وبمثل تلك العبارات تجدون في القرآن لو أنتم فيه تتفكّرون.
٣٢ ثم أعلم بأنّ بمثل تلك الكلمات يُمَحِّصُ اللهُ عبادَهُ ويغربلنّهم، يَفْصُلُ بين المؤمن والكافر والمنقطع والمتمسّك والمحسن والمجرم والتّقيّ والشّقيّ وأمثال ذلك كما نطق بذلك ورقاء الهويّة: ﴿الم، أَحَسِبَ النّاس أن يتركوا أن يقولوا آمنّا وهم لا يفتنون﴾.
٣٣ لا بدّ للمسافر إلی الله والمهاجر في سبيله بأن ينقطع عن كلّ من في السّموات والأرض وَيَكُفَّ نفسه عن كلّ ما سواه ليُفتَح علی وجهه أبواب العناية وَتَهُبَّ عليه نسمات العطوفة، وإذا كتب على نفسه ما ألقيناه من جواهر المعاني والبيان لَيعرف كلّ الإشارات من تلك الدّلالات، ويُنزِلُ الله على قلبه سَكينةً من عنده ويجعلُه من السّاكنين. وبمثل هذه الكلمات المتشابهات المُنزَلة فاعرفْ ما سئلتَ عن هذا العبد الّذي جلس علی نقطة الذّلّة وما يمشي في الأرض إلاّ كمثل غريب الّذي لن يجد لنفسه لا من معين ولا من مونس ولا من حبيب ولا من نصيرا، ويكون متوكّلاً علی الله، ويقول في كلّ حين: ﴿إنّا لله وإنّا إليه راجعون﴾.
٣٤ وإنّ ما ذكرنا الكلمات بالمتشابهات، هذا لم يكن إلاّ عند الّذين لن يتعارجوا إلی أفق الهداية، وما وصلوا إلی مراتب العرفان في مكامن العناية، وإلاّ عند الّذين هم عرفوا مواقع الأمر وشهدوا أسرار الولاية فيما ألقى الله على أنفسهم كلُّ الآيات مُحْكَماتٌ عندهم وكلُّ الإشارات مُتْقَناتٌ لديهم، وإنّهم يعرفون أسرار المودعةَ في قُمُص الكلمات بمثل ما أنتم تعرفون من الشّمس الحرارة ومن الماء الرّطوبة بل أظهر من ذلك، فتعالى الله عمّا كنّا في ذكر أحبّائه، فتعالى عمّا هم يذكرون.
٣٥ إِذًا لمّا وصلنا إلی ذلك المقام الأسنى، وَبَلَغْنا إلى ذِروة الأحلى فيما يجري من هذا القلم من عناية الكبرى من لدى الله العليّ الأعلى، أردنا بأن نذكر لك بعضًا من مقامات سلوك العبد في أسفاره إلی مبدئه، ليكشف على جنابك كلّما أردت وتريد، لتكون الحجّةُ بالغةً والنّعمةُ سابغةً.
٣٦ فاعلمْ ثمّ اعرفْ بأنّ السّالك في أوّل سلوكه إلی الله لا بدّ له بأن يَدْخُلَ في حديقة الطّلب. وفي هذا السّفَر ينبغي للسّالك بأن ينقطع عن كلّ ما سوى الله، ويُغمض عيناه عن كلّ من في السّموات والأرض، ولم يكن في قلبه بُغْضُ أحدٍ من العباد ولا حبُّ أحدٍ على قَدْرِ الّذي يمنعه عن الوصول إلی مَكْمَنِ الجمال، ويقدّسَ نفسَه عن سُبُحات الجلال. وله حَقٌّ بأن لا يفتخر علی أحد في كلّ ما أعطاه الله من زخارف الدّنيا أو من علوم الظّاهرة أو غيرها، ويطلب الحقّ بكمال جِدّه وسعيه ليعلِّمه الله سُبُلَ عنايتهِ ومناهجَ مكرُمته، لأنّه خيرُ معينٍ بعباده وأحسنُ ناصرٍ لأرقّائه؛ قال وقوله الحقّ: ﴿الّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلَنَا﴾، وفي مقام آخر: ﴿اتّقوا الله يُعَلِّمُكُم الله﴾.
٣٧ وفي هذا السّفر يشهد السّالك التّبديلات والتّغييرات والمختلفات والمتقارنات، ويشهد عجائب الرّبوبيّة في أسرار الخليقة، ويطّلع علی سُبُلِ الهداية وَطُرُقِ الإلهيّة. هذا مقام الطّالبين ومعارج القاصدين.
٣٨ وإذا استرقى عن ذلك المقام يَدْخُلُ في مدينة العشق والجَذْب. حينئذٍ تَهُبُّ أرياحُ المحبّة وَتَهِيْجُ نسماتُ الرّوحيّة ويأخذ السّالكَ في هذا المقام جذباتُ الشّوق ونفحاتُ الذَّوق بحيث لن يعرف اليمين عن الشّمال ولا البَرّ من البحر ولا الصَّحارى عن الجبال. وفي كلّ حينٍ يحترق بنار الاشتياق وَيُوْقَدُ من سطوة الفراق في الآفاق ويركض في فاران العشق وَحُوْرِيْبِ الجذب؛ مرّةً يضحك ومرّةً يبكي ومرّةً يَسْكُنُ ومرّةً يضطرب، ولا يُبالي من شيءٍ ولا يمنعه من أمرٍ ولا يَسُدُّهُ من حُكْمٍ، وينتظر أمرَ مولاه في مَبدئِه ومُنتهاه، ويُنفق روحه في كلّ حين، ويَفدي نفسه في كلّ آنْ. ويقابل صدرَه في مقابلة رماح الأعداء، ويرفع رأسه لسيف القضاء، بل يُقَبِّلُ أيدي من يقتله، ويُنفق كلَّ ما له وعليه لِيَفدي روحه ونَفْسَهُ وجسده في سبيل مولاه، ولكنْ بإذنٍ من محبوبه لا بهواء من نفسه. وتجده باردًا في النّار ويابسًا في الماء، وَيَسْكُنُ على كلّ أرضٍ ويمشي في كلّ طريق، ومَن يَمَسُّهُ في تلك الحالة لَيجد حرارة المحبّة منه، وإنّه يمشي في رَفْرَفِ الانقطاع ويركض في وادي الامتناع، ولم يزل كانت عيناه منتظراً لبدائع رحمة الله ومشاهدة أنوار جماله، فهنيئًا للواصلين. وهذا مقام العاشقين وشأن الْمُجْتَذَبِيْنَ.
٣٩ وإذا قطع هذا السّفر واسترقى عن هذا المقام الأكبر يدخل في مدينة التّوحيد وحديقة التّفريد وبساط التّجريد، وفي هذا المقام يُلقي السّالكُ كلَّ الإشارات والدّلالات والحُجُبات والعبارات، ويشهد الأشياء بعين الّتي تجلّى الله له به بنفسه، ويشاهد في هذا السّفر بأنّ المختلِفات كلّها ترجع إلى كلمةٍ واحدةٍ، والإشارات تنتهي إلى نقطةٍ واحدةٍ، كما شهد بذلك قول من ركب علی فُلْكِ النّار ومشى في قطب الأسفار حتّى وصل إلى ذِروة الأعلى في جبروت البقاء بأنّ ﴿العِلْمُ نُقْطَةٌ كَثَّرَهَا الجَاهِلُونَ﴾، وهذا مقام الّذي ذُكر في الحديث بأنّي ﴿أَنَا هُوَ وَهُوَ أَنَا إِلاَّ أَنَّهُ هُوَ هُوَ وَأَنَا أَنَا﴾.
٤٠ في ذلك المقام لو يقول هيكل الخَتْم بأنّي أنا نقطة البدء لَيَصْدُقُ، ولو يقول بأنّي أنا غيرها لحقٌّ، ولو يقول بأنّي صاحب المُلك والملكوت أو مَلِكُ الملوك أو سلطان الجبروت أو محمّد أو عليّ أو أبنائُهم أو غير ذلك لَيكون صادقًا من عند الله وحاكمًا على الممكنات وعلى كلّ ما سوّاه. أما سمعتَ ما ورد من قبلُ بأنّ ﴿أوّلنا محمّد وآخرنا محمّد وأوسطنا محمّد﴾، وفي مقام آخر بأنّ ﴿كلّهم من نور واحد﴾.
٤١ وفي ذلك المقام يَثْبُتُ حكمُ التّوحيد وآياتُ التّجريد، وتجد بأنّ كلّهم رفعوا رؤسهم عن جيب قدرة الله ويدخلون في أكمام رحمة الله من غير أن تشاهد الفرق بين الأكمام والجيب، والتّغيير والتّبديل في هذا المقام شِرْكٌ صرف وكفر محض لأنّ هذا مقام تجلّي الوحدانيّة وتَحكّي الفردانيّة وإشراق أنوار فجر الأزليّة في مرايا الرّفيعة المنطبعة. وإنّي فوالله لو أذكر هذا المقام على قَدْرِ الّذي قَدّر الله فيه لتنقطع الأرواح عن أجسادها وتنزّلت الجوهريّات من أماكنها، وتنصعق كلّ مَن في لُجَجِ الممكنات، وتنعدم كلّ ما يتحرّك في أراضي الإشارات.
٤٢ أما سمعت ﴿لا تبديل لخلق الله﴾؟ وأما قرأتَ ﴿ولن تَجِدَ لِسُنّته من تبديل﴾؟ وأما شهدت ﴿ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت﴾؟ بلى وربّي، من كان من أهل هذه اللُّجّة وركب في هذه السّفينة لم يشهد التّبديل في خلق الله ولا يرى التّفاوت في أرض الله. ولمّا لم يكن التّبديل والتّغيير في خلق الله، فكيف يجري على مظاهر نفس الله؟ فسبحان الله عمّا كنّا في وصف مظاهر أمره، وتعالى عمّا هم يذكرون.
٤٣ ألله اكبر هذا البحر قد ذخرا وهيّج الرّيح موجًا يقذف الدُّررا
فاخلغ ثيابك واغرق فيه ودَعْ عنك السبّاحة وليس السَّبْحُ مفتخَرا
٤٤ وإنّك أنت لو تكون من أهل هذه المدينة في هذه اللُّجّة الأحديّة لَترى كلّ النّبيّين والمرسَلين كهيكلٍ واحد ونفسٍ واحدة ونورٍ واحد وروحٍ واحدة، بحيث يكون أوّلُهم آخرَهم وآخرُهم أوّلَهم، وكلّهم قاموا على أمر الله وشرّعوا شرائع حكمة الله وكانوا مظاهر نفس الله ومعادن قدرة الله ومخازن وحي الله ومشارق شمس الله ومطالع نور الله، وبهم ظهرت آيات التّجريد في حقائق الممكنات وعلامات التّفريد في جوهريّات الموجودات وعناصر التّمجيد في ذاتيّات الأحديّات ومواقع التّحميد في ساذجيّات الصّمديّات، وبهم يبدَء الخَلْقُ وإليهم يُعيد كلّ المذكورات، كما أنّهم في حقائقهم كانوا أنوار واحدة وأسرار واحدة، وكذلك فاشهدْ في ظواهرهم لتعرف كلَّهم على هيكلٍ واحدٍ، بل تجدهم علی لفظ واحد وكلام واحد وبيان واحد.
٤٥ وإنّك في ذلك المقام لو تُطلق أوَّلَهم باسم آخرهم أو بالعكس لحقٌّ، كما نَزَلَ حكمُ ذلك عن مصدر الألوهيّة ومنبع الرّبوبيّة ﴿قل ادعوا الله أو ادعوا الرّحمن أَيَّامَا تدعوا فله الأسماء الحسنى﴾، لأنّهم مظاهر اسم الله ومطالع صفاته ومواقع قدرته ومجامع سلطنته، وإنّه جلّ وعزّ بذاته مقدّس عن كلّ الأسماء ومنزّه عن معارج الصّفات. وكذلك فانظرْ آثار قدرة الله في آفاق أرواحهم وأنفس هياكلهم ليطمئنّ قلبك وتكون من الّذينهم كانوا في آفاق القرب لسائرين.
٤٦ ثمّ أُجَدِّدُ لك الكلام في هذا المقام ليكون لك مُعينًا في عرفانك بارئك؛ فاعلمْ بأنّ الله تبارك وتعالى لن يَظْهَرَ بكينونيّته ولا بذاتيّته، لم يزل كان مكنونًا في قِدَمِ ذاته ومخزونًا في سرمديّة كينونيّته، فلمّا أراد إظهار جماله في جبروت الأسماء وإبراز جلاله في ملكوت الصّفات أظهر الأنبياءُ من الغيب إلى الشّهود ليمتاز اسمُه الظّاهر من اسمه الباطن، ويظهر اسمُه الأوّل عن اسمه الآخِر لِيَكْمُلَ القولُ بأنّه ﴿هو الأوّل والآخِر والظّاهر والباطن وهو بكلّ شيء محيط﴾. وجعل مظاهر تلك الأسماء الكبرى وهذه الكلمات العليا في مظاهر نفسه ومرايا كينونيّته.
٤٧ إِذًا ثَبُتَ بأنّ كلّ الأسماء والصّفات ترجع إلى هذه الأنوار المقدّسة المتعالية وتجد كلّ الأسماء في أسمائهم وكلّ الصّفات في صفاتهم. وفي ذلك المقام لو تدعوهم بكلّ الأسماء لَحَقٌّ بمثل وجودهم. إذاً فاعرفْ ما هو المقصود في هذا البيان، ثم اكتُمْها في سُرادق قلبك لتعرف حكم ما سئلتَ وتصل إليه على قَدْرِ ما قَدَّرَ اللهُ لك، لعلّ تكون من الّذين هم كانوا بمراد الله لَمِنَ الفائزين.
٤٨ وكلُّ ما سمعت في ذكر محمّد بن الحسن روح من في لُجَجِ الأرواح فداه حقٌّ لا ريب فيه، وإنّا كلٌّ به موقنون. ولكن ذكروا أئمّةُ الدّين بأنّه كان في مدينة جابُلقا، ووصفوا هذه المدينة بآثارٍ غريبةٍ وعلامات عجيبة، وإنّك لو تريد أن تفسّر هذه المدينة علی ظاهر الحديث لن تقدر ولن تجدها أبدًا لأنّك لو تفحّص في أقطار العالم وأطراف البلاد لن تجدها بأوصاف التّي وصفوها من قبلُ ولو تسير في الأرض بدوام أزليّة الله وبقاء سلطنته، لأنّ الأرض بتمامها لن تَسَعَها ولن تحملها. وإنّك لو تدلّني إلى هذه المدينة أنا أَدُلُّكَ إلی هذه النّفس القدسّية التّي عرفوه النّاس بما عندهم لا بما عنده. ولمّا أنت لن تقدر على ذلك، لا بدّ لك التّأويل في هذه الأحاديث والأخبار المرويّة عن هؤلآء الأنوار. ولمّا تحتاج إلی التّأويل في هذه الأحاديث المرويّة في ذكر هذه المدينة المذكورة وكذلك تحتاج إلی التّفسير في هذه النّفس القدسيّة، ولمّا عرفت هذا التّأويل لن تحتاج إلی التّبديل ولا غيره.
٤٩ ثمّ اعلمْ بأنّه لمّا كان الأنبياء كلّهم روح ونفس واسم ورسم واحد، وإنّك بهذا العين لَتَرى كلّ الظّهورات اسمهم محمّد وآبائهم حَسَن وظهروا من جابُلقاء قدرةِ الله ويظهروا من جابُلصاء رحمةِ الله. وجابُلقا لم يكن إلاّ خزائن البقاء في جبروت العَماء ومدائن الغيب في لاهوت العلاء، وتشهد بأنّ محمّد بن الحسن كان في جابُلقاء وظهر منها، ومَن يُظهره الله يكون فيها إلی أن يُظهره الله على مقام سلطنته، وإنّا بذلك مُقِرّون وبكلّهم مؤمنون. وإنّا اختصرنا في معاني جابُلقا في هذا المقام، ولكنْ تعرف كلّ المعاني في أسرار هذه الألواح لو تكون من الموقنين.
٥٠ ولكنّ الّذي ظهر في السّتّين لا تحتاج في حقّه لا التّبديل ولا التّأويل لأنّه كان اسمه محمّد وكان من أبناء أئمّة الدّين، إذًا يَصْدُقُ في حقّه بأنّه ابن الحسن، وهذا معلومٌ عند جنابك ومشهودٌ لدى حضرتك، بل إنّه خالق الاسم ومبدعه لنفسه لو أنتم بطَرْف الله تنظرون.
٥١ حينئذٍ أردنا أن نترك ما كنّا في ذكره، وأذكر ما جرى علی نقطة الفرقان ونكون فيه من الذّاكرين، ولتكون علی بصيرةٍ في كلّ الأمور من لدن عزيز جميل.
٥٢ فاعلمْ ثمّ فكّرْ، أيّامَهُ حين الّذي أقامه الله على أمره وأظهرهُ على مقام نفسه كيف هجموا عليه العباد واعترضوا به وحاججوا معه، وكلّما مشى قدّامهم في المعابر والأسواق استهزئوا به، وحرّكوا عليه رؤسهم وسخروا به، وفي كلّ حين أرادوا قتله بحيث ضاقت عليه الأرض بأوسعها وحارت في أمره سكّان مَلأ الأعلى وتبدّلت أركان البقاء بالفناء وبكت عليه عيون أهل العَماء، وأصابه من هؤلآء الكَفَرَة الفَجَرة ما لا يقدر أحدٌ أن يسمعه من أولو الوفاء.
٥٣ ولو أنّ هؤلآء الفَسَقة كانوا أن يفكّروا في أمرهم ويعرفوا نغمات تلك الورقاء على أفنان هذه الشّجرة البيضاء ويرضوا بما نَزّل الله عليهم فيما أنعمهم به ويجدوا أثمار الشّجرة علی أغصانها، لِمَ اعترضوا عليه وأنكروه بعد الّذي كلّهم كانوا أن يرفعوا أعناقهم لبلوغهم إليه، ويسئلوا الله في كلّ حين بأن يشرّفَهم جمالُهُ ويرزقَهم لقائَهُ.
٥٤ بلى لمّا ما عرفوا لحن الأحديّة وأسرار الهويّة وإشارات القدسيّة عمّا ظهر عن لسان الأحمديّة وما تفكّروا في أنفسهم، واتّبعوا علماء الباطل الّذين صدّوا عباد الله عن أدوار القَبْل ويصّدون الناس في أكوار البَعد، لذا احتجبوا عن مُراد الله وما شربوا عن كوثر الهويّة وصاروا محرومين عن لقاء الله ومظهر كينونته ومطلع أزليّته، وبذلك سلكوا في مناهج الضّلالة وسُبُل الغفلة ورجعوا إلى مقرّهم في نار التّي كانت وقودها أنفسهم وكانوا في كتاب القدس من قلم الله بالكفر مكتوبًا، وما وجدوا ولن يجدوا إلى حينئذٍ لأنفسهم لا من حبيب ولا من معينًا.
٥٥ ولو أنّ هؤلآء يتمسّكون بنفس عُروة الله في قميص المحمّديّة، ويُقبِلون إلی الله بتمامهم ويُلقون كلّ ما في أيديهم من علمائهم لَيهديهم الله بفضله ويعرّفهم معاني القدسّية في كلماته الأزليّة، لأنّ الله أجلّ وأعظم من أن يَرُدّ السّائل عن بابه أو يُخيّب الآمِل عن فِنائه أو يَطْرُدَ من استجار في ظلّه أو يحرم من تشبّث بذيل رحمته أو يُبعد فقير الّذي نزل في شريعة غَنائه. فلمّا هؤلآء ما أقبلوا إلی الله بكلّهم و ما تشبّثوا بذيل رحمته المنبسطة في ظهور شمس الأحديّة خرجوا عن ظلّ الهداية ووردوا في مدينة الضّلالة، وبذلك فسدوا وأفسدوا العباد، وضلّوا وأضلّوا كلّ من في البلاد، وكانوا من الظّالمين في كتب السّماء مسطورًا.
٥٦ وحينئذٍ لمّا بلغ هذا الخادم الفاني إلی هذا المقام العالي في بيان رموز المعاني أذكرُ لك علّة إعراض هؤلآء الغِلاظ علی غاية الإيجاز، ليكون دليلاً لأولي الألباب من أولي الأبصار، وليكون موهبةً من هذا العبد علی المؤمنين جميعًا.
٥٧ فاعلمْ بأنّ نقطة الفرقان ونور السّبحان لمّا جاء بآياتٍ محكَمات وبراهين ساطعات من الآيات التّي تَعْجَزُ عنها كلّ من في جبروت الموجودات أَمَرَ الكلَّ على القيام على هذه الصّراط المرتفعة الممدودة في كلّ ما جاء به من عند الله، ومَن أقرّ عليه واعترف بآيات الوحدانيّة في فؤاده وجمال الأزليّة في جماله حُكِم عليه حُكْم البعث والحشر والحيوة والجنّة، لأنّه بعد إيمانه بالله ومظهر جماله بُعِث من مرقد غفلته وحُشِر في أرض فؤاده وَحَيَّ بحيوة الإيمان والإيقان ودخل في جنّة اللّقاء. هل يكن الجنّة أعلى من ذلك أو الحشر أعظم من هذا أو البعث أكبر من هذا البعث؟ لو يطّلع أحدٌ بأسراره لَيعرف ما لا عرف أحدٌ من العالمين.
٥٨ ثمّ اعلمْ بأنّ هذه الجنّة في يوم الله أعظم من كلّ الجنان وألطفُ من حقائق الرّضوان لأنّ الله تبارك وتعالى بعد الّذي ختم مقام النّبوّة في شأن حبيبه وصفيّه وخيرته من خَلقه، كما نُزّل في ملكوت العزّة ﴿ولكنّه رسول الله وخاتم النّبِيّين﴾، وعد العباد بلقائه يومَ القيمة لعظمة ظهور البَعْد، كما ظهر بالحقّ. ولم يَكُنْ جنّةٌ أعظم من ذلك ولا رتبةٌ أكبر من هذا إنْ أنتم في آيات القرآن تتفكّرون. فهنيئًا لمن أيقن بلقائه يوم ظهور جماله.
٥٩ وإنّي لو أذكر لك آيات النّازلة في هذه الرّتبة العالية لَيطول الكلامُ ونَبعُد عن المرام، ولكنْ أذكر هذه الآية ونكتفي بها لِتَقرَّ عيناك وتصل إلی ما كُنِزَ فيها وخُزِنَ بها، وهي هذه: ﴿الله الّذي رفع السّموات بغير عمدٍ ترونها ثمّ استوى على العرش وَسَخَّرَ الشّمسَ وَالقمرَ كلٌّ يجري لأجلٍ مُسمَّى يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لعلّكم بلقاء ربّكم توقنون﴾.
٦٠ إِذًا فالتَفِتْ يا حبيبي في ذكر الإيقان في هذه الآية، كأنّ السَّموات والأرض والعرش والشّمس والقمر كلّهنّ خُلِقْنَ لإيقان العباد لقائَهُ في أيّامه. فوالله يا أخي، فانظرْ عظمة هذا المقام وشأن هؤلآء العباد في هذه الأيّام ﴿كأنّهم حُمُرٌ مستنفرة﴾ فرّت عن طلعة الإلهيّة وجمال الهويّة. لو تفكّر فيما نزّلناك لَتجد ما أردنا في ذكر هذا البيان وتعرف ما أحببنا أن نُعلّمك في هذا الرّضوان، لِتقرّ عيناك عن النّظر فيها وَتَلَذَّ سمعُك عن استماع ما قُرِءَ فيها وتُحَظَّ نفسُك عن إدراكها وينوّر قلبك عن عرفانها وتَسْتَبْشِرَ روحُك عن عِطْرِ الّذي نَفَحَ منها وتصل إلی غاية فيض الله وتكون في رضوان القدس لَمِن الخالدين.
٦١ ومَن أعرض عن الله في حقّه، وأدبر وطغى ثمّ كفر وشقى، حُكِم عليه حُكْمُ الشّرك والكفر والموت والنّار. وأيّ شرك أعظم من إقباله إلى مظاهر الشّيطان واتّباعه علماء النّسيان وأصحاب الطّغيان؟ وأيّ كفر أعلى عن إعراضه عن الله في يوم الّذي يُجَدَّدُ فيه الإيمانُ من الله المقتدر المنّان؟ وأيّ موت أذّل عن فِراره عن منبع الحيّ الحَيَوان؟ وأيّ نار أحرّ عن بُعده عن جمال الهويّة وجلال الأحديّة في يوم التّغابن والإحسان؟
٦٢ وإنّ أعراب جاهليّة بهذه العبارات والكلمات اعترضوا عليه وحكموا عليه ما حكموا، وقالوا هؤلآء الّذين آمنوا بمحمّدٍ هم كانوا معنا وراودونا في كلّ ليل ونهار، متى ماتوا وبأيّ يوم رجعوا؟ فاسمعْ ما نُزّل فيما قالوا: ﴿إن تعجب فعجبٌ قولهم أَئِذَا كنّا تُرابًا وعظامًا أئنّا لمبعوثون﴾، وفي مقام آخر: ﴿ولئن قلت إنّكم مبعوثون من بعد الموت لَيقولنّ الّذين كفروا إن هذا إلاّ سحرٌ مبين﴾. وبذلك استهزؤا به وسخروا عليه لانّهم شهدوا في كتبهم وسمعوا من علمائهم لفظ الموت والحيوة، وفسّروهما بالموت الظّاهريّة والحيوة العنصريّة، فلمّا ما وجدوا ما عرفوا من ظنونهم المُجْتَثَّة و عقولهم الإفكيّة الخبيثة رفعوا أعلام الاختلاف ورايات الفساد واشتعلوا نار الحرب ولو أطفأها الله بقدرته كما تشهد اليوم من هؤلآء المشركين و هؤلآء الفاسقين.
٦٣ وإنّي حينئذٍ لمّا هبّت عليّ رائحةُ الجذب عن مدينة البقاء، وأحاطتني غَلَباتُ الشّوق من شطر الإشراق فيما لاحت شمس الآفاق من ركن العراق، وأسمعتني نغماتُ الحجاز في أسرار الفراق، أريد أن أذكر لجنابك بعض ما غنّت الورقاء في قطب العَماء في معنى الحيوة والموت، ولو أنّ هذا ممتنع؛ لأنّي لو أريد أن أفسّر لك كما هو المكتوب في ألواح المحفوظ لن تحمله الألواح ولن تسعه الأوراق ولن تطيقه الأرواح، ولكن أذكر على ما ينبغى لهذا الزّمان وهذه الأوان ليكون دليلاً لمن أراد أن يدخل في رَفْرَفِ المعاني ويسمع نغمات الرّوحاني من هذا الطّير المعنوي الإلهيّ ويكون من الّذينهم انقطعوا إلی الله وكانوا اليوم بلقاء الله يستبشرون.
٦٤ فاعرف بأنّ للحيوة مقامين؛ مقام يتعلّق بظاهر البشريّة في جسد العنصريّة، وهذا معلومٌ عند جنابك وعند كلّ من علی الأرض بمثل الشّمس في وسط السّماء، وهذه الحيوة تَفْنى من موت الظّاهريّة، وهذا حقّ من عند الله ولا مفرّ لأحد؛ وأمّا الحيوة التّي هي المذكور في كتب الأنبياء والأولياء لم يكن إلاّ الحيوة العرفانيّة، أي عرفان العبد آية تجلّي مجلّيه بما تجلّى له به بنفسه وإيقانه بلقاء الله في مظاهر أمره، وهذه هي الحيوة الطّيّبة الباقية الدّائمة التّي مَن يَحْيَ به لن يموت أبدًا ويكون باقيًا ببقاء ربّه ودائمًا بدوام بارئه.
٦٥ والحيوة الأوّليّة التّي كانت متعلِّقةً بالجسد العنصريّة يَنْفَدُ بما نَزَلَ من عند الله: ﴿كلّ نفس ذائقة الموت﴾. والحيوة الثّانويّة التّي كانت من المعرفة ما تَنْفَدُ كما نَزَلَ من قبلُ: ﴿فلنحيينّه حيوةً طيّبة﴾. وفي مقام أُخرى في ذكر الشّهداء: ﴿بل أحياءٌ عند ربّهم يرزقون﴾. وما ورد في الأخبار: ﴿المؤمن حَيٌّ في الدّارين﴾. وبمثل تلك الكلمات كثير في كتب الله ومظاهر عدله، وإنّا ما أردنا ذكرها للاختصار واكتفينا بذلك فيما أردنا لك.
٦٦ إِذًا يا أخي، فأعرضْ عن هواك ثم أَقْبِلْ إلی مولاك ولا تتّبع الّذين كان إلههم هواهم لتدخل في قطب الحيوة في ظلّ النّجاة من مربّي الأسماء والصّفات، لأنّ الّذينهم اليوم أعرضوا عن ربّهم أموات ولو يمشون على الأرض، وصمّاء ولو يسمعون، وعمياء ولو يشهدون، كما صرّح بذلك مالك يوم الدّين: ﴿ولهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها﴾ إلى آخر القول، بل إنّهم يمشون على شِفا جُرفٍ هارٍ أو في شِفا حفرة من النّار، لم يكن لهم نصيب من هذا البحر المتموّج الزّخّار وكانوا في زخارف أقوالهم يلعبون.
٦٧ وحينئذ نُلقي عليك في هذا المقام في ذكر الحيوة ما نُزّل من قبلُ ليقلّبك عن إشارات النّفس ويخلّصك عن ضِيْقِ القَفْسِ في هذا الجَوار الخَنِس وتكون في ظُلمات الأرض لَمِن المهتدين.
٦٨ قال وقوله الحقّ: ﴿أومن كان مَيْتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في النّاس كمن مَثَلُهُ في الظّلمات ليس بخارج منها﴾. هذه آلاية نزلت في شأن الحمزة وأبو جهل لمّا آمن الأوّل وكفر الثّاني، وبذلك استهزؤا أكثرُ العلماء، ومن علماء الجاهليّة، وتبلبلوا وتهزّلوا وتصاحوا وقالوا: كيف مات الحمزة وكيف رجع إلى حيوة الأولى؟ وبمثل ذلك كثيرٌ في الكتاب لو أنتم في آيات الله تتفرّسون.
٦٩ فيا ليت وجدتُ قلوبًا صافيةً لأُلقي عليهم رشحًا من أبحر العلم الّذي علّمني ربّي لِيطيرنّ في الهواء كما يمشون علی الأرض ويركضنّ على الماء كما يركضون على التّراب ويأخذوا أرواحهم بأيديهم ويفدوها في سبيل بارئهم، ولكنْ جاء الإذن على القضاء في هذا الرّمز العُظمى. ولم يزل كان هذا السّرّ مخزونًا في كنوز القدرة، وهذا الرّمز مكنونًا في خزائن القوّة، لئلاّ يُهلكون العبادُ أنفسَهم رجاءً لهذا المقام الاعظم في ممالك القِدَم، ولن يصله الّذين يمشون في ظلمات الصَّيْلَمِ المظلم.
٧٠ ولقد كرّرنا القول يا أخي في كلّ المقام ليوضح لك بإذن الله كلّ الأمور عمّا سُطر في السّطور، ولِيُغنيك عن الّذينهم يخوضون في أنفس الدّيجور ويمشون في وادي الكِبْر والغرور، ولتكون في فردوس الحيّ الحَيَوان لَمِن السّائرين.
٧١ قل يا أهل الملأ، إنّ شجرة الحيوة قد غُرِست في وسط فردوس الله ويُعطى الحيوة عن كلّ الجهات، كيف أنتم لا تشعرون ولا تعرفون؟ ويؤيّدك في كلّ ما ألقيناك من جواهر أسرار الهوّية من هذه النّفس المطمئنّة تَغَنِّي حمامة القدس في فردوس البقاء، وأذكرُ لك لتلبس قميص الجديد من زُبُر الحديد ليحفظك عن رَمْيِ الشّبهات في تلك الإشارات، وهي هذه: ﴿إنّ من لم يلد من الماء والرّوح لن يقدر أن يدخل في ملكوت الله لأنّ المولود من الجسد جسد هو والمولود من الرّوح فهو الرّوح فلا تتعجّبنّ من قولي إنّه ينبغي لكم بأن تُولدوا مرةً أخرى﴾.
٧٢ إِذًا طير إلی شجرة الإلهي وَخُذْ من ثمراتها ثمّ القَطْ عمّا سقط عنها وكنْ لها حافظًا أمين، وفكّرْ فيما ذَكَرَ واحدٌ من الأنبياء حين الّذي يُبشّر الأرواح بمن يأتي بعده بإشاراتٍ مقنّعةٍ ورموزاتٍ مُغَطَّئَةٍ من دون الجهر من القول، لتوقن بأنْ لا يعرف كلماتهم إلاّ أولو الألباب، إلی أن قال: ﴿كانت عينتاه كلهيب النّار وكانت رجلاه كالنّحاس وكان يخرج من فمه سيف ذا فمين﴾. حينئذٍ كيف يفسّر هذه الكلمات وفي الظّاهر؟ لو يجيء أحدٌ بتلك العلامات لم يكن بإنسان، وكيف يستأنس به أحدٌ؟ بل لمّا يظهر في مدينة تفرّون منه أهل مدينة أخرى، ولا يقربوا به أحد أبدًا؟ مع إنّك لو تُفكّر في هذه العبارات لَتجدها على غاية الفصاحة ونهاية البلاغة بحيث عَرَجَتْ إلى غاية البيان ووصلت إلى منتهى مقام التّبيان، كأنّ شموس البلاغة منها ظهرت وأنجم الفصاحة عنها بزغت ولاحت.
٧٣ إِذًا فاعرفْ هؤلآء الحُمْراء من أمم الماضية والّذين يكونون في تلك الأيّام ينتظرون مجيء تلك الإنسان، ولو لا تجيء هذه النّفس علی هذه الصّورة المذكورة لم يؤمنوا به أبدًا، ولمّا ما يجيء هذه أبدًا إنّهم لن يؤمنوا أبدًا. هذا مبلغ هؤلآء الكفرة من أنفس المشركة. وإنّ الّذين ما يعرفون ما هو أبده البديهيّات وأظهر الظّاهريّات فكيف يعرفون غوامض أصول الإلهيّة وجواهر أسرار حكمة الصّمدانيّة؟
٧٤ وإنّي حينئذٍ أفسّر لك هذا الكلام على سبيل الاختصار لتعرف الأسرار وتكون فيها من العارفين. فاعلم ثمّ أنصِفْ فيما نُلقي اليك لتكون من أهل الإنصاف في هذا المَصاف بين يديّ الله مذكورًا.
٧٥ فاعلمّ بأنّ من تكلّم بهذا المقال في ميادين الجلال أراد أن يذكر أوصاف مَن يأتي بإضمارٍ وألغازٍ لئلاّ يطّلع عليه أهل المجاز. فأمّا قوله: كانت عينتاه كلهيب النّار، ما أراد إلاّ حِدّة بصر مَن يأتي وقوّة بصيرته، بحيث بعينتاه يحرق كلّ الحُجُبات والسّبحات، وبها يعرف أسرار القِدَمِيّة في عوالم المُلْكِيّة، ويميّز الّذين تَرْهَقُ في وجوههم قَتْرَةٌ من الجحيم عن الّذين تَعْرِفُ وجوهُهُم نَضْرَةَ النّعيم. ولو لم يكنْ عينتاه من نار الله الموقَدة، كيف يحرق الحجبات وكلَّ ما كان بين أيدي النّاس، ويلاحظ آيات الله في جبروت الأسماء وملكوت الأشياء، ويشهد الأشياء بعين الله النّاظرة؟ وكذلك جعلنا اليوم بصره حديدًا إنْ أنتم بآيات الله موقنًا. وأيّ نار أحرّ من هذه النّار التّي تجلّى في طور عينتيه وحرق بها كلّ ما احتجبوا به العباد في أراضي الإيجاد؟ فسبحان الله عمّا ظهر في ألواح السّداد من أسرار المبدء والمعاد إلى يوم الّذي فيه ينادِ المُناد، إِذًا إنّا كلٌّ إلی الله لمنقلبون.
٧٦ وقوله: كانت رجلاه كالنّحاس، ما أراد بذلك إلاّ الاستقامة حين الّذي يسمع نداء الله ﴿فاستقم كما أُمرت﴾، ليستقيم على أمر الله ويُقيم على صراط قدرة الله، بحيث لو ينكروه كلّ من في السّموات والأرض ما تَزَلُّ قدماه عن التّبليغ وما يفرّ عمّا أمره الله في التّشريع، ويكون رِجْلاه كالجبال الباذخة والقُلل الشّامخة، ويكون مستحكِمًا في طاعة الله وقيّومًا في إظهار أمره وإبراز كلمته، ولا يَرُدُّهْ مَنْعُ مانعٍ ولا يَصُدُّهُ نَهْيُ مُعْرِضٍ، ولا يُندِمه إنكار كافر. وكلّما يشهد من الإنكار والبغضاء والكفر والفحشاء يزداد في محبّة الله ويزيد الشّوق في قلبه ويكثر الوَلَهُ في فؤاده وينوح العشق في صدره. هل شهدتَ في الأرض نُحاسًا أحكمَ من ذلك، أو حديدًا أشدُّ من ذلك، أو جبل أسكن من هذا؟ لأنّه يقوم برِجْلاه في مُقابلة كلّ من علی الأرض، ولا يخاف من أحدٍ مع ما أنت تعرف فِعْلَ العباد. فسبحان الله مُسْكِنه ومُبْعِثُه، وإنّه هو المقتدر علی ما يشاء، وإنّه هو المهيمن القيّوم.
٧٧ وكان يخرج من فمه سيف ذا فمّين، فاعلمّ بأنّ السّيف لمّا كان آلة القطع والفصل، ومِنْ فَمِ الأنبياء والأولياء يخرج ما يَفْصُلُ بين المؤمن والكافر ويقطع بين المحبّ والمحبوب، لذّا سُمّي بهذا. وإنّه ما اراد بذلك إلاّ القطع والفصل. مثلاً نقطة الأوّليّة والشّمس الأزليّة في حين الّذي يريد أن يحشر الخلائق بإذن الله ويبعثهم من مراقد نفوسهم ويفصل بينهم لينطق بآية من عند الله، وهذه الآية تفصل بين الحقّ والباطل من يومئذٍ إلى يوم القيمة. وأيّ سيف أحدّ من هذا السّيف الأحديّة؟ وأيّ صَمصام أَشْحَذُ من هذا الصَّمصام الصّمدية الّذي يقطع كلّ النّسبة، وبذلك يَفْصُلُ بين المقبل والمعرض وبين الأب والابن والأخ والأخت والعاشق والمعشوق؟ لأنّ مَن آمن بما نُزّل عليه فهو مؤمن، ومن أعرض فهو كافر. ويظهر الفصل بين هذا المؤمن وهذا الكافر بحيث لا يعاشرا ولا يجتمعا في المُلْك أبدًا، وكذلك في الأب والابن. وإنّ الابن لو يؤمن والأب يُنكر يُفْصَلُ بينهما ولا يجانسا أبدًا، بل تشهد بأنّ الابن يقتل الأب وبالعكس، وكذلك فاعرف كلّ ما ذكرنا وبيّنّا وفصّلنا.
٧٨ وإنّك لو تَشهد بعين اليقين لَتَشهد بأنّ هذا السّيف الإلهيّ لَيَفْصُلُ بين الأصلاب لو أنتم تعلمون، وهذه من كلمة الفصل التّي تظهر في يوم الفصل والطّلاق لو كانوا النّاس في أيّام ربّهم يتذكّرون، بل لو تُدِقَّ بصرك وَتُرِقَّ قلبك لَتَشهد بأنّ كلّ السّيوف الظّاهريّة التّي تقتلَ الكفّار وتجاهد مع الفُجّار في كلّ دهر وزمان يَظهر من هذا السّيف الباطنيّة الإلهيّة، إذاً فافتحْ عيناك لِتَجِدَ كلّ ما أريناك وَتَبْلُغَ إلی ما لا يَبْلُغُ إليه أحدٌ من العالمين، وتقول الحمد له إذ هو مالك يوم الدّين.
٧٩ وهؤلاء العباد لمّا ما أخذوا العلم من معدنه ومحلّه وعن بحر العَذْب الفرات السّائغ الّذي يَجري بإذن الله في قلوب الصّافية السّاذجيّة لذا احتجبوا عن مراد الله في كلماته وإشاراته وكانوا في سجن أنفسهم لَساكنين.
٨٠ وإنّا نشكر الله بما آتانا من فضله وجَعلَنا موقنًا بأمره الّذي لا يقوم معه السّموات والأرض، ومُقِرًّا به يوم لقائه وبمن يُظْهِرُهُ الله في قيامة الأخرى، وجَعَلنا من الموقنين به قبل ظهوره لتكون النّعمة من عنده بالغةً علينا وعلی العالمين.
٨١ ولكن أشكو إليك يا أخي عن الّذين ينسبون أنفسهم إلی الله ومظاهر علمه ويرتكبون الفواحش ويأكلون أموال النّاس ويشربون الخمر ويقتلون الأنفس ويسرقون الأموال بينهم وَيَغْتَبُوْنَ بعضهم بعضًا وَيَفْتَرُوْنَ على الله ويكذبون في أكثر أقوالهم، ويُرجع الناسُ كلَّ ذلك إلينا وإنّهم ما استحيون عن الله ويتركون ما أمرهم الله ويرتكبون ما نُهوا عنه بعد الّذي ينبغي لأهل الحقّ بأن يَظْهَرَ آثارُ الخضوع عن وجوههم وأنوارُ القدس من طلعاتهم، ويمشوا في الأرض بمثل من يمشي بين يديّ الله ويكون ممتازًا عن كلّ مَن علی الأرض بجميع الحركات والسّكنات، بحيث يشاهدوا آثار القدرة بعيونهم ويذكروا الله بألسنهم وقلوبهم ويمشوا إلی أوطان القرب بأرجلهم ويأخذوا أحكام الله بأياديهم، ولو يَمْضُوْنَ علی وادي الذّهب ومعادن الفضّة ما يَعْتَنُوْنَ بهما ولا يلتفتون إليهما.
٨٢ وإنّ هؤلآء أعرضوا عن كلّ ذلك وأقبلوا إلی ما تَهوى به هواهم، وإنّهم في وادي الكِبر والغرور لَيهيمون. وأشهدُ حينئذٍ بأنّ الله كان بريء عنهم ونحن بُرَءاء، ونسئل الله بأن لا يجمعنا وإيّاهم لا في الّدنيا ولا في الآخرة، إذْ إنّه هو الحقّ لا إله إلاّ هو، وإنّه كان علی كلّ شيء قدير.
٨٣ إِذًا فاشربْ يا أخي من هذا الماء الّذي أجريناه في أبحر تلك الكلمات، كأنّ بحور العظمة متموّجات فيها وجواهر الاحديّة مشعشَعات لها وبها وعليها. فإنّك فاخلعْ ثيابك عمّا يَحْجُبُكَ عن الدّخول في هذا البحر اللُّجّيّ الحمراء، فَقُلْ بسم الله وبالله، ثمّ ادخل فيها ولا تخفْ من أحد، وتوكّل على الله ربّك، ومَن يتوكّل على الله فهو حَسْبُهُ، فإنّه هو يحفظك وتكون فيه من الآمنين.
٨٤ ثمّ اعلمْ بأنّ في هذه المدينة الألطف الأبهى تجد السّالكَ خاضعًا لكلّ الوجوه وخاشعًا لكلّ الأشياء، لأنّه لا يشهد شيئًا إلاّ وقد يرى الله فيه، ويشهد نوره فيما أحاطت أنوار الظّهور على طور الممكنات. وفي ذلك المقام حقٌّ عليه بأن لا يجلس علی صدور المجالس لافتخار نفسه، ولا يتقدّم علی نفس لاستكبار نفسه، ويشهد نفسَه في كلّ حين بين يديّ مولاه، ولا يرضى لوجهٍ ما لا يرضى لوجهه، ولا يقول لأحدٍ ما لا يقدر أن يسمعه من غيره، ولا يحبّ لأحدٍ ما لا يُحبّه لنفسه ويَحْرُك في الأرض علی خيط الاستوا في ملكوت البَداء.
٨٥ ولكن اعلمْ بأنّ السّالك في أوائل سلوكه، كما ذكرنا من قبلُ، لَيرى التّبديل والتّغيير، وهذا حقٌّ لا ريب فيه كما نُزّل في وصف تلك الأيّام ﴿يوم تُبَدَّلُ الأرض غير الأرض﴾. وهذا من أيّام الّذي ما شهدت العيون بمثلها، فطوبى لمن أدركها وعرف قَدْرها. ﴿ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج القوم من الظّلمات إلی النّور وذكِّرهم بأيّامِ الله﴾، وهذا من أيّام الله لو أنتم تعرفون.
٨٦ وفي هذا المقام كلّ المُتغايرات والمُتَبَدّلات لَموجودٌ بين يديك، ومَن أقرّ بغير ذلك فقد ألحدَ في أمر الله ونازعه في سلطانه وحاربه في حكومته. ومَن يُبدّل الأرضَ ويجعلها غير الأرض لَيقدر أن يبدّل كلّ ما عليها وما يُحَرّك علی ظَهرها، ولا تستعجبْ عن ذلك كما بدّل الظّلمة بالنّور والنّور بالظّلمة والجهل بالعلم والضّلالة بالهداية والموت بالحيوة والحيوة بالموت، وفي ذلك المقام يَثْبُتُ حكمُ التّبديل. إنْ تكون من أهل هذا السّبيل فكّرْ فيه لِيظهر لك ما طلبتَ عن هذا الذّليل من سُرادق هذا الدّليل، لتكون فيه من السّاكنين، لأنّه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا يُسئَلُ عمّا يفعل، وكُلٌّ عن كُلٍّ يُسئَلُون.
٨٧ ولكن يا أخي، لَترى في هذه الرّتبة، أي في أوّل السّلوك كما ذكرنا في مدينة الطّلب، مقاماتٍ مختلفةً وعلاماتٍ متفاوتةً، وكلّها حقٌّ في مواقعها ومقاماتها. وينبغي لجنابك في هذا المقام بأن تشهد كلّ الأشياء في أماكنها من دون أن تُنزل شيئًا عن صعودها وعلوّها، أو ترفع شيئًا من مقامها ودنوّها؛ مثلاً إنّك لو تُحِلّ اللّاهوتَ في النّاسوتِ هذا شِرْك محض، ولو تُصعد النّاسوتَ إلی هواء اللّاهوت هذا كفرٌ صِرف، ولكن لو تَذْكُر اللّاهوتَ في اللّاهوتِ والنّاسوتَ في النّاسوتِ لَحقٌّ لا ريب فيه. أي إنّ جنابك لو تشهد التّبديل في عوالم التّوحيد هذا ذَنْبٌ لم يكن في المُلك أكبر من ذلك، وإنْ تَشهد التّبديلَ في مقامه وتعرفه علی ما ينبغي لا بأس عليك.
٨٨ وإنّي فَوَربّي كلّما ألقيناك من أسرار البيان ومقامات التّبيان في العيان كأنّي ما ذكرت حرفاً من بحر علم الله المكنونة وجوهر حكمة الله المخزونة، وسنذكر في حينها إذا شاء الله وأراد، وإنّه هو ذاكر كلّ شيء في مقامها، وإنّا كلٌّ له ذاكرون.
٨٩ ثمّ اعلمْ بأنّ طير التّي تطير في هواء الجبروت لن تقدر أن تطير في سماء قدس اللاّهوت، ولن تقدر أن تَمْذُقَ فواكه التي خلق الله فيها، ولن تقدر أن تشرب أنهار التّي جرت فيها، ولو تشرب قطرة منها لتموت في الحين، كما تشهد في تلك الأيّام عن الّذين ينسبون أنفسهم إلينا ويفعلون ما يفعلون ويقولون ما يقولون ويدّعون ما يدّعون، وكأنّهم في حجباتهم ميّتون.
٩٠ كذلك فاعرفْ كلّ المقامات والإشارات والدّلالات لتعرف كلّ شيءٍ في مكانه وتجد كلّ أمر في مقامه. ولهذا المقام، أي مقام مدينة الأحديّة، رجالٌ قد ركبوا على فُلْكِ الهداية وسافروا في معارج الأحديّة، وتشهد أنوارَ الجمال عن وجوههم وأسرارَ الجلال من هياكلهم، وتجد روائح المسك من كلماتهم، وتلاحظ آيات السّلطنةِ في مشيهم وحركاتهم وسكونهم، ولا يحجبك أعمال الذين هم ما شربوا من عيون الصّافية وما وصلوا إلی مدائن القدسيّة، ويتّبعون أهواء أنفسهم ويُفسدون في الأرض ويَحْسَبُوْنَ بأنّهم مُهتدون. هم الّذين ورد في شأنهم: ﴿هَمَجٌ رُعاعٌ أتباع كلّ ناعق يميلون بكلّ ريح﴾. ومراتب هذا السّفر وهذا المقام وهذا الوطن معلومٌ عند جنابك ومشهودٌ عند حضرتك، لا يحتاج إلى تطويل الكلام.
٩١ ثمّ اعلمْ بأنّ كلّما شهدتَ وسمعتَ بأنّ شمس الحقيقة والنّقطة الأوّليّة نَسَبَ إلی نفسه من أسماء القَبْل لم يكن ذلك إلاّ من ضعف العباد وهندسة عوالم الإيجاد، وإلاّ كلّ الأسماء والصّفات يطوفُنَّ حول ذاته ويَدُوْرُنَّ في فِناء حَرَمه، بل هو مُربّي الأسماء ومُظهر الصّفات ومُذَوِّتُ الذّوات ومُعْلِنُ الآيات ومُطَرِّزُ العلامات، بل إنّ جنابك لو تشهدْ بعين سرّك لَتجدْ ما دونَه مفقود عنده ومعدوم في ساحته، ﴿كان الله ولم يكن معه من شيء والآن كان بمثل ما قد كان﴾. ولمّا ثَبُتَ بأنّه جلّ وعزّ كان ولم يكن معه من شيءٍ، كيف يَجري حكمُ التّبديل والتّغيير؟ وإنّك إذاً تفكّرْ فيما ألقيناك لِتظهر لك شمس الهداية في هذا الصّبح الأزليّة، وتكون فيه من الزّاهدين.
٩٢ ثمّ اعلمْ بأنّ كلّ ما ذكرنا في ذكر الأسفار لم يكن إلاّ للأحبار من الأخيار، وإنّك لو تركب على بُراق المعنويّ وتسير في حدائق الإلهيّ لَتقطع كلّ الأسفار وتطّلع علی الأسرار من قبل أن ترتدّ إليك الأبصار.
٩٣ إِذًا يا أخي، إنْ تكون من فارس هذا الميدان فاركضْ في ممالك الإيقان لِتخلّص نفسك عن سجن الشّرك في هذا الزّمان وتجد رائحة المسكيّة من نفحات هذه الحديقة. ومن عطر هذه المدينة تفرّقت نسمات العطريّة في أقطار العالم، وإنّك لا تحرمْ نصيبك ولا تكن من الغافلين. فنِعْم ما قال:
٩٤ وَلَو عَبقَت في الشّرقِ أنفاسُ طيبِها وفي الغَرب مَزكومٌ لعَادَ لَه الشَّمُّ
٩٥ وبعد هذا السّفر الإلهي وهذا العروج المعنويّ يَدْخُلُ السّالكُ في حديقة الحَيْرة، وهذا مقام الّذي لو أُلقيْ عليك لَتبكي وتنوح علی هذا العبد الّذي بقي بين يديْ هؤلآء المشركين، وصار مُتَحَيِّرًا في أمره ويكون في هذه اللُّجّة لَمن المتحيّرين، بحيث في كلّ يوم يشاورون في قتلي وفي كلّ ساعة يريدون خروجي عن هذه البلد كما أخرجوني عن البلاد، وهذا العبد أكون حاضراً بين يديهم وأنتظر ما قضى الله علينا وَحَكَمَ بنا وقَدّر لأنفسنا، وما أخاف من أحد، وما أَحْذَرُ من نفس مع ما أحاطتنا من البأساء والضّرّاء من أهل البغي والبغضاء، وأغشت الأحزان في تلك الأزمان:
فَطُوفانُ نوحٍ عند نَوحي كأدْمُعي وإيقادُ نيرانِ الخليلِ كَلوعَتي
وحُزْنيَ ما يعقوبُ بثّ أقلَّه وكلّ بَلاَ أيّوبِ بعض بَليّتي
٩٦ ولو أذكر لجنابك البلايا النّازلة والقضايا الواردة لَتحزن علی شأنٍ ينقطع عنك كلّ الأذكار وتغفل عن وجودك وعن كلّ ما خلق الله في المُلك. وإنّا لمّا ما أردنا لجنابك ذلك لذا غَطَّيْتُ إظهار القضاء في كبد البهاء واحتجبتُهُ عمّا يتحرّك في أرض الإنشاء ليكون مكنونًا في سُرادق الغيب إلى أن يُظهِر الله سرّه إذ ﴿لا يَعْزُبُ عن علمه من شيء لا في السّموات ولا في الأرض وإنّه كان بكلّ شيء رقيب﴾.
٩٧ وإنّا لمّا بَعُدْنا عن ذكر المقصود تركنا الإشارات ورجعنا إلى ما كنّا فيه في ذكر هذه المدينة التّي من دخل فيها نَجَى ومن أعرض عنها هَلك.
٩٨ فاعرفْ يا أيّها المذكور في هذه الألواح بأنّ من دخل في هذا السّفر يكون مُتَحَيِّرًا في آثار قدرة الله وبدائع آيات صنع الله، ويأخذه الحَيرة من كلّ الجهات ومن جميع الأطراف كما شهد بذلك جوهر البقاء في مَلأ الأعلی في قوله: ﴿رَبِّ زِدْنِي فِيْكَ تَحَيُّرًا﴾، فَنِعْم ما قال:
٩٩ وما احترتُ حتّى اخترتُ حبّك مذهبًا فواحيرتي لو لم تكن فيك حيرتي
١٠٠ وفي ذلك الوادي تضلّون السّالكون وتهلكون، ولن تقدروا أن تصلوا إلى مثواهم. الله أكبر من عظمة هذا الوادِ ومن وسعة هذه المدينة في جبروت الإيجاد، كأنّك لن تجد له من أوّلٍ ولا من آخِر، فَبُشْرَى ثمّ بُشْرَى لمن كَمُلَ فيها سَفَرُهُ، وأيّده الله على طيّ هذه الأرض الطّيّبة في هذه المدينة الإلهيّة التّي تتحيّر فيها كلّ المقرّبين والمخلصين، ونقول الحمد لله ربّ العالَمين.
١٠١ ولو يتعارج العبد ويسافر عن هذا الوطن التّرابيّ، ويُريد أن يتعارج إلى وطن الإلهي لَيدخل من هذه المدينة إلی مدينة الفناء لفنائه عن نفسه وبقائه بالله. والسّالك في هذا المقام وهذا الوطن البحت الأعلى وهذا السّفر المَحْو الكبرى لَينسى نفسه وروحه وجسده وذاته وَيَسْبَحُ في قُلْزُم الفَناء ويكون في الأرض كمن لم يكن شيئًا مذكورًا، ولن يشهد أحدٌ منه آثارَ الوجود لاضمحلاله عن ممالك الشّهود ولبلوغه إلی مقامات المحو.
١٠٢ ولو أنّا نذكر أسرار هذه المدينة لَتفنى ممالك الفؤاد لِكثرة شوق أهلها إلی هذا المقام السّداد، لأنّ هذا المقام مقام تجلّي المعشوق للعاشق الصّادق، وظهور إشراق أنوار المحبوب للحبيب الفارغ.
١٠٣ وهل يمكن للعاشق وجودٌ حين تجلّي المعشوقُ أو للظّلّ بقاءٌ عند ظهور الشّمس، أو للحبيب دوامٌ عند وجود المحبوب؟ لا فوالّذي نفسي بيده. بل السّالك في هذا المقام لو تفحّص في شرق الأرض وغربها وبَرّها وبحرها وسهلها وجبلها ما يجد نفسَه ولا نفس غيره لشدّة فنائه في مُوجده ولطافة محوه في بارئه.
١٠٤ فسبحان الله! لولا خوفي من نمرود الظّلم وحفظي لخليل العدل لأُلقي عليك ما يُغنيك عن دونك ولأَقرأ لك ما يقرّبك إلى هذه المدينة حين غَفْلة عن نفسك وهواك، ولكن أصبر حتّى يأتي الله بأمره، وإنّه هو يجزي الصّابرين بغير حساب. إِذًا فأنشِقْ رائحة الرّوحانيّ من قُمُص المعاني، وقلْ يا أهل لُجَّة الفناء، أنْ أسرعوا للّدخول في مدينة البقاء إنْ أنتم إلى معارج البقاء تتعارجون، ونقول: ﴿إنّا للّه وإنّا إليه راجعون﴾.
١٠٥ ومن ذلك المقام الأعلى الأعلى والرّتبة الأعظم الأسنى يدخل في مدينة البقاء على البقاء. وفي ذلك المقام يشهد السّالكُ نفسَه علی عرش الاستغناء وكرسيّ الاستعلاء، إِذًا يَظْهَرُ له حكمُ ما ذُكر من قبلُ: ﴿يوم يغني الله كلاّ من سَعَتِهِ﴾. فهنيئًا لمن وصل إلی هذا المقام، وشرب من هذا الكأس البيضاء في هذا الرّكن الحمراء.
١٠٦ فإنّ السّالك في هذا السّفر لمّا استغرق في أبْحُر البقاء، واستفرغ فؤادَهُ عن كلّ ما سواه، واستبلغ إلی معارج الحيوة لا يرى الفناء لنفسه ولا لغيره أبدًا. ويشرب عن كأس البقاء، ويمشي في أرض البقاء، ويطير في هواء البقاء، ويجالس مع هياكل البقاء، ويأكل من نعمة الباقية الدّائمة من شّجرة الدّائمة الأزليّة، ويكون من أهل البقاء في عُلی البقاء بالبقاء مذكورًا.
١٠٧ وكلّ ما يكون في هذه المدينة لَباقيةٌ دائمةٌ لا يَفنى. وأنت لو تدخل بإذن الله في هذه الحديقة العالية المتعالية لَتجد شمسها في قطب الزّوال بحيث لا تُكْسَفُ ولا تَغْرُبُ أبدًا، وكذلك قمرها وأفلاكها وأنجمها وأشْجُرُها وأبْحُرُها وكلّ ما فيها وبها. وإنّي فوالله الّذي لا إله إلاّ هو لو أذكر لك بدايع أوصاف هذه المدينة من يومئذٍ إلی آخر الّذي لا آخر له ما يَفْرَغُ حُبُّ فؤادي لهذه المدينة الطّيّبة الدّائمة، ولكن أختم القولَ لضيق الوقت وتعجيل الطّالب، ولئلاّ تَظْهَرُ الأسرارُ في الإجهار من دون إذنٍ من الله المقتدر القهّار.
١٠٨ وَسَيَنْظُرُ الموحّدون في قيامة الأخرى بأنّ مَنْ يُظهره الله مع هذه المدينة يَنزِل من سماء الغيب مع ملائكة المقرّبين العالّين، فطوبى لمن يَحْضُرُ بين يديه ويفوز بلقائه، وإنّا كلٌّ بذلك آملون، ونقول الحمد لله إذ هو الحقّ، وإنّا كلٌّ إليه منقلبون.
١٠٩ ثمّ اعرف بأنّ الواصل في هذه المقامات والمسافر في هذه الأسفار لو يناله في السّبيل من كِبْرٍ أو غرور لَيهلك في الحين، ويرجع إلی قَدم الأوّل من دون أن يعرف ذلك. و علامة الواصلين والمشتاقين في هذه الأسفار أن يُخفضوا جناحهم للّذين آمنوا بالله وآياته، ويُنجِعُوا أنفسهم للّذين استقرَبوا إلی الله ومظاهر جماله، ويُخضِعوا ذواتهم للّذين استقرّوا على رَفْرَفِ أمر الله وعظمته.
١١٠ لأنّهم لو يتعارجون إلى غاية القصوى في سلوكهم إلى الله ووصولهم إليه لن يصلوا إلاّ إلى مقرّ الّذي خُلقَت في أفئدتهنّ، فكيف يَقدِرُنّ أن يتعارجُنّ إلی مقامات الّتي ما قُدِّرَتْ لهم وما خُلِقَتْ لشأنهم؟ ولو يسافرون من الأزل إلى الأبد لن يصلوا إلی قطب الوجود ومركز الموجود الّذي جرى عن يمينه بحورُ العظمة وعن يساره شطوطُ القدرة. ولن يقدر أحدٌ أن ينزل بفِنائه، وكيف إلی مقامه؟ وهو كان ساكنًا في فُلْكِ النّار، وَيَسْرِيْ علی بحر النّار في كرة النّار، ويمشي في هواء النّار. فكيف يقدر مَنْ خُلق بالأضداد أن يدخل في النّار أو يَقْرُبَ بها، وإنْ يَقْرُبْها لَيحترق في الحين.
١١١ ثمّ اعلمْ بأنّ هذا القطب الأعظم لو يقطع خيط مَدده عن كلّ مَن في السّموات والأرض لتنعدم كلّهنّ، فسبحان الله! كيف يصل التّراب إلی ربّ الأرباب. فسبحان الله عمّا يظنّون في أنفسهم، وتعالی عمّا هم يذكرون.
١١٢ بَلَى، إنّ السّالك يتعارج إلی مقام الّذي لا غاية له فيما قُدّر له، ويجد في قلبه نار الحبّ بحيث يأخذ زمام الاختيار عن هؤلآء الأخيار. وفي كلّ حين يزداد في حبّه مولاهُ وإقباله إلی بارئه، بحيث لو كان مولاه في مشرق القُربيّة وهو في مغرب البُعديّة، وكان له ملأ السّموات والأرض من اللّؤلؤ الحمراء والذّهب الصّفراء لَينفق ويركض بعينيه لِيصل إلی أرض التّي كان المقصود فيها. ولو تجد السّالك بغير ذلك فاعلمْ بأنّه كذّابٌ مُفتَرٍ. إنّا لِمَنْ يُظهره الله في قيامة الأخرى، وإنّا به لَمُبْعَثُوْنَ.
١١٣ وفي تلك الأيّام لمّا ما كشفنا الغِطاء عن وجه الأمر وما ظهرنا للعباد ثمرات هذه المقامات التّي مُنعنا عن إظهارها، لذا تجدهم في سُكران الغفلة، وإلاّ لو كُشف لكلّ مَن على الأرض أقلّ من سمّ الإبرة من هذا المقام لَتشهد كيف يجتمعون في فِناء رحمة الله ويركضون من كلّ الأطراف للبلوغ إلی ساحة القرب في رَفْرَفِ عزّة الله، ولكن أخفينا لِما ذكرنا من قبلُ، ولِيمتاز المؤمنون عن المنكِرين و المقبلون عن المعرضين، وأقول لا حَوْلَ ولا قوّة إلاّ بالله المهيمن القيّوم.
١١٤ ويسترقي السّالكُ من هذا المقام إلی مدينة التّي لم يكن لها من اسمٍ ولا رسمٍ ولا ذكرٍ ولا صوتٍ، تَجري فيها بحورُ القِدَم وتدور في حول القِدَم وتُشرق فيها شمسُ الغيب عن أفق الغيب. ولها أفلاك من نفسها وأقمار من نورها كلّهنّ يطلِعن من بحر الغيب ويدخلن في بحر الغيب. وإنّي ما أقدر أن أذكر رشحًا عمّا قُدّر فيها ولا يطّلع على أسرارها أحدٌ إلاّ الله ومظاهر نفسه، إذْ هو خالقها ومُبدعها.
١١٥ ثمّ اعلمْ بأنّا حين الّذي أردنا أن نتعرّض بتلك الكلمات وكتبنا بعضها أردنا بأنْ نفسّر لجنابك كلّ ما ذكرنا من قبلُ من كلمات النّبيّين وعبارات المرسَلين بنغمات المقرّبين وَرَبَوَات المقدَّسين، ولكن ما وجدنا الفرصة وما شهدنا المُهلة من هذا المسافر الّذي جاء من عندكم وكان عَجولاً في الأمر وراكضًا في الحُكْم، لذا قد اقتصرنا واكتفينا وما أتممنا ذكر الأسفار بتمامها وما ينبغي لها ويليق بها، بل تركنا ذكر مدائن الكبرى وأسفار العُظمى، وبلغ تعجيل الرّافع إلی مقام الّذي تركنا ذكر السَّفَرين الأَعْلَيَيْنِ في التّسليم والرّضاء.
١١٦ ولو أنّ جنابك لو تُفكّر في هذه الكلمات المختصرات لَتعرف كلَّ العلوم وتصل إلی ذِروة المعلوم، وتقول: يكفي كلَّ الوجود من المشهود والمفقود.
١١٧ ولكن لو تجد في نفسك حرارة المحبّة لتقول: هل مِنْ مَزيد، ونقول: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.