لوح مريم

حضرة بهاء الله
مترجم من الفارسية

لوح مريم، حضرة بهاءالله، الايام المباركة البهائية، الصفحة 129

(معرّب عن الفارسية)

لوح مريم

هو المحزون في حزني

يا مريم! لقد منحت مظلوميّتي مظلوميّة اسمي الأوّل من لوح الإمكان، وهطلت في كلّ حين أمطارُ البلآء من سحاب القضآء على هذا الجمال المبين. لم يكن من سبب لإخراجي عن وطني سوى المحبوب، ولم يكن من علّة لبُعدي عن دياري إلّا رضآء المقصود. لقد كنتُ مضيئًا ومنيرًا كالشّمعة عند نزول القضآء الإلهيّ، وثابتًا كالجبل عند وقوع البلايا الرّبّانيّة. في الظّهورات الفضليّة كنتُ سحابًا مدرارًا، وفي أخذ أعدآء سلطان الأحديّة شعلةً ملتهبة.
لقد صارت شئوناتُ قدرتي سببًا لحسد الأعدآء، وبروزاتُ حكمتي علّةً لغِلّ أولي البغضآء. لم أسترح في مقعد أمن في أي ليلة، ولم أرفع رأسي عن الفراش مرتاحًا في أي صباح. قسمًا بجمال الحقّ! لقد بكى الحسين لمظلوميّتي، وألقى الخليل بنفسه في النّار لِأَلَمِي. لو أَمْعَنْتِ النّظر لَتُشاهدي أنّ عيون العظمة تبكي خلف سُرادق العصمة، وأنفس العزّة تنوح في مكمن الرّفعة، ويشهد بذلك لسان صدق منيع.
يا مريم! بعد ابتلآء لا يُحصىورد من أرض الطآء إلى عراق العرب بأمر ظالم العجم، وابتُلينا بغِلّ الأحبّآء بعد غُلّ الأعدآء، وبعدُ الله يعلم ما ورد عليّ، إلى أنْ تخلّيتُ عن البيت وما كان فيه وعن النّفس وما يتعلّق بها، واخترتُ الهجرة فردًا واحدًا، و استسلمتُ لصحارى التّسليم. لقد سافرتُ على شأنٍ بكى الجميع في غُربتي، وأهرقتْ جميعُ الأشيآء دمَ الفؤاد لكربتي. لقد آنستُ طيور الصّحرآء، وجالستُ وحوش العرآء، ومضيتُ عن الدّنيا الفانية كالبرق الرّوحانيّ، وجانبتُ ما سوى الله لسنتين أو أقلّ، وأحجمتُ عن النّظر إلى غيره لعلّ تسكن نار البغضآء وتخمد حرارة الحسد.
يا مريم! لا ينبغي إظهار الأسرار الإلهيّة، وليس محبوبًا الجهرُ بالرّموز الرّبّانيّة، والمقصود من الأسرار الكنوزُ المستورة في نفسي لا غير. تالله حملتُ ما لا يحمله الأبحار ولا الأمواج ولا الأثمار ولا ما كان ولا ما يكون.
وفي مدّة الهجرة هذه لم يستفسر عن هذا الأمر أحدٌ من الإخوان وغيرهم، بل لم يكن لديهم رغبة في إدراكه مع أنّ هذا الأمر كان أعظم من خلق السّموات والأرض. فوالله نَفَسي في سفري لَيكون خيرًا من عبادة الثّقلين، مع أنّ تلك الهجرة كانت حجّة عظمى وبرهانًا أتمّ وأقوم. نعم! يجب أن يكون ثمّة صاحبُ بصر حتّى ينظر إلى المنظر الأكبر، وفاقد البصر محروم عن حُسن جمال نفسه فكيف جمال القدس المعنويّ. ما يدرك الظّل عن المُظلّ، وماذا تفهم قبضةُ طين عن لطيفة الفؤاد.
إلى أنْ ذكّر القضآء الإلهيّ بعضًا من العباد الرّوحانيّين بهذا الغلام الكنعانيّ. فبدأوا، ومعهم رزمة من المكاتيب، بالتّحرّي عنه في كلّ مكان ومن كلّ شخص إلى أن وجدوا في كهف جبل أثرًا لهذا الّذي لا أثر له، وإنّه لهادي كلّ شيء إلى صراط مستقيم. قسمًا بشمس الحقيقة الصّمدانيّة! لقد بُهت وتحيّر هذا المهجورُ المسكين من حضور القادمين بحيث يعجز هذا القلم ويقصر عن ذكر ذلك. عسى أن يَطلع قلمٌ حديدٌ عن خلف عالم القِدم ويخرق الأستار ويُظهر الأسرار بصدق مبين وحقّ يقين، أو أن يلهج لسانٌ بالبيان ويُخرج اللّآلئ الرّحمانيّة من صدف الصّمت وليس هذا على الله بعزيز. خلاصة الأمر، لقد فتحتْ يدُ المختار ختمَ الأسرار ولكن لا يعقل إلّا العاقلون بل المنقطعون.
إلى أن رجع نيّر الآفاق إلى العراق، فشوهدت نفوسٌ معدودة مجرّدة عن الرّوح وخاملة بل ضائعة وميتة. لم يكن ثمّة كلامٌ عن أمر الله مذكورًا، ولم يكن قلبٌ مشهودًا. لهذا، قام هذا العبد الفاني على رعاية أمر الله وارتفاعه وكأنّ القيامة قد قامت مجدّدًا بحيث صار ارتفاع الأمر ظاهرًا في كلّ مدينة ومشهودًا في كلّ بلد على شأن حدا بجميع الملوك إلى التّصرّف بالمداراة والسّلوك الحسّن.
يا مريم! قد تسبّبب قيامُ هذا العبد في مواجهة الأعدآء من جميع الفِرَق والقبائل في ازدياد حسد الأعدآء على شأن ليس من الممكن ذكره أو تصوّره. كذلك قُدِّرَ من لدن عزيز قدير.
يا مريم! يتفضّل القلم الأعلى بقوله إنّ من أعظم الأمور تطهيرَ القلب من كلّ ما سوى الله. إذَن قدّسي قلبك عمّا سوى الحبيب حتّى تصيري لائقةً لبساط الأنس.
يا مريم! تحرّري من قيد التّقليد وادخلي فضاء التّجريد الطّيّب. جرّدي القلبَ عن الدّنيا وما فيها حتّى تفوزي بسلطان الدِّين ولا تُحرَمي من الحَرَم الرّحمانيّ، واخرقي حجاب الوهم بقوّة الانقطاع، وادخلي مكمنَ قدس اليقين.
يا مريم! يُرى في الشّجرة الواحدة مائة ألف ورقة ومائة ألف ثمرة، ولكن بهبوبٍ من أرياح الخريف والشّتآء تنعدم وتزول جميع هذه الأوراق والأثمار. إذن لا تصرفي النّظرَ عن أصل الشّجرة الرّبّانيّة وغصن سدرة عزّ الوحدانيّة. لاحظي البحر، كيف هو ساكن ومستريح في مكانه بسلطان الوقار والسّكون، ولكن بهبوب نسيم إرادة المحبوب الأزليّ يظهر على سطحه أمثالٌ وأشكالٌ لا تُحصى، وتُشاهد جميعُ هذه الأمواج متغايرة ومختلفة، والآن فإنّ جميع النّاس منشغل بالأمواج فيما هم محجوبون عن اقتدار بحر البحار الّذي تظهر من كلّ حركة من حركاته آياتُ المختار.
يا مريم! آنسي بنفس الرّحمن، وَبِمَنْأَى عن مجالسة الشّيطان ومجانسته اتّخذي لنفسكِ مقرًّا في كنف عصمة المنّان، لعلّ تجذبكِ يدُ الألطاف الإلهيّة من المسالك النّفسانيّة إلى فضآء العزّ الأبهآئيّ.
يا مريم! ارجعي من الأظلال الفانية إلى شمس العزّ الباقية. إنّ وجود جميع الأظلال منوطٌ بوجود الشّمس ومتحرّكٌ بها، بحيث لو تمنع عنايتها آنًا يرجع جميعها إلى خيمة العدم. فواحسرةً ويا ندمًا على نفسٍ تنشغل بالمظاهر الفانية وتظلّ ممنوعة عن مطلع القدس الباقي.
يا مريم! اعرفي قدر هذه الأيّام إذا قريبًا لن تري الغلام الرّوحانيّ في السّرادق الإمكاني، وستلاحظين آثار الحزن في جميع الأشيآء. فسوف تضعنّ أنامل الحسرة بين أنيابكم ولن تجدوا الغلام ولو تحسّسوا في أقطار السّموات والأرض وكذلك نزّل الأمر من ملكوت عزٍّ عليًّا. نعم! سرعان ما سترين أنامل الوجود بين الأنياب حسرةً على الغلام، ويتفحّص في السّموات والأرضين بأكملها ولا يفوز بلقآء الغلام.
مجمل القول هو أنّ الأمر قد انتهى إلى مقامٍ جعل هذا العبد يبغي الخروج من ما بين اليأجوج وحيدًا عن الكلّ ما عدا النّسوة اللّواتي لا بدّ من أن يبقين مع العبد، حتّى إنّني لن اصطحب خدَمة الحرم معي إلى أن يقضي الله ما يشآء. يرحل الغلام فيما معيني قطرات دموعي، ومصاحبي زفرات القلب، وأنيسي قلمي، ومؤنسي جمالي، وجُندي توكّلي، وحزني اعتمادي. كذلك ألقينا عليك من أسرار الأمر لتكوننّ من العارفين.
يا مريم! قد جرت كلّ مياه العالم وأنهاره الجارية من عين الغلام، فظهرت على هيئة الغمام وبكت على مضلوميّة نفسه. مجمل القول هو أنّنا في أزل الآزال قد وهبنا هذه النّفس وهذا الرّأس في سبيل المحبوب، ونرضى بكلّ ما يقع ونشكره. مرّةً كان هذا الرّأس على رأس السّنان، وأخرى في قبضة الشّمر، ووقتًا ألقوا بي في النّار، وفي حين علّقوني في الهوآء، وكذلك فعلوا بنا المشركون.
في الخاتمة، يا مريم! لقد سمّينا هذا اللّوح بالأنين البديع والبكآء الرّبيعيّ، وبعثناه إليكِ حتّآ تنوحي مرتاحةً، وتكوني في الحزن شريكة مع جمال القِدم.

المصادر
المحتوى