الجامعة البهائية العالمية
مترجم

(ترجمة)

أبريل (نيسان) 2002

السّادة الأفاضل قادة الأديان في العالم،

إنّها تركة دائمة تلك التي خلّفها القرن العشرون عندما أُرغمت شعوب العالم على اعتبار نفسها أعضاء في أسرة إنسانيّة واحدة، واعتبار الأرض وطنًا مشتركًا لهذه الأسرة. إلاّ أنّه رغم الظلام الحالك الّذي ساد الأفق في ظل مظاهر العنف والصّراعات المستمرّة، فلقد بدأت التعصّبات الّتي كانت في وقت من الأوقات و كأنّها متأصّلة في طبيعة الجنس البشري، بدأت بالزّوال والتّلاشي في كلّ مكان. وانهارت مع انهيار هذه التّعصّبات الحواجز والأسباب الّتي طالما شتّتت شمل الأسرة الإنسانيّة لتخلق من ثمّ خليطًا مشوّشًا من الهويّات الثّقافيّة والإثنيّة والقوميّة الأصول. وحدث كلّ ما حدث من المنظور التّاريخي للزّمن ما بين ليلة وضحاها، فكان هذا التحوّل الجوهريّ دليلاً على ما يحمله المستقبل من الإمكانيّات الهائلة المتاحة للعالم الإنسانيّ.

إنّ ما يدعو إلى الأسى هو أنّ الأديان الكبرى القائمة التي كان الغرض الرّئيسيّ من وجودها نشر الأخوّة وإشاعة السّلام بين البشر، غالبًا ما أصبحت هي ذاتها عقبة كأداء في هذا السّبيل. والمثال على ذلك هو الحقيقة المؤلمة أن هذه الأديان القائمة هي التي طالما أقرّت التّعصّبات الدّينيّة وغذّتها. أمّا بالنّسبة لنا نحن المرجع الأعلى لأحد الأديان العالميّة فإنّ شعورنا بالمسؤوليّة يفرض علينا أن نهيب بالجميع أن يضعوا نصب أعينهم ويحملوا محمل الجدّ التّحدّيات التي تواجه القيادات الدّينيّة جرّاء هذا الوضع القائم. ولذا فإنّ قضايا التّطرّف الدّينيّ والظّروف التي تساعد على خلقها تستدعي منّا جميعًا إجراء حوار يتّسم بالصّدق

والصّراحة. وتملؤنا الثّقة بأنّه من منطلق كوننا جميعًا عبادًا لله سوف يكون هذا الرّجاء مقبولاً قبولاً حسنًا مع توفّر النّيّة الخالصة ذاتها التي دفعت بنا إلى مثل هذا القول.

تتّضح معالم القضيّة التي تواجهنا وتتبلور عندما نركّر اهتمامنا ونمعن النّظر في ما تمّ من الإنجازات في مجالات أخرى. ففي الماضي اعتُبرت النّساء، باستثناء بعض الحالات الفرديّة، بأنّهنّ مخلوقات أدنى من مستوى الرّجال، وطغى الظّنّ بأنّهنّ في طبائعنّ أسيرات الأوهام والخرافات، فحُرمن الإفادة من أيّ فرصة تمكّنهنّ من التّعبير عن طاقاتهنّ الرّوحيّة والمعنويّة، وسُخّرن من ثمّ للقيام على خدمة الرجال وتلبية رغباتهم. وليس خافيًا على أحد أنّ هناك مجتمعات عديدة ما زالت هذه الأوضاع مستمرّة فيها، بل والأدهى أنّ في هذه المجتمعات من يدافع دفاعًا عنيدًا عن هذه الأوضاع من موقف التّعصّب والتّزمّت. أما خلاصة ما يدور من حديث ونقاش على المستوى العالمي فهو أنّ المساواة بين الرّجال والنّساء أصبحت في حاصل الأمر قضيّة معترفًا بها لها من القوّة والتّأثير ما لأي مبدأ مقبول قبولاً عامًّا، أكان ذلك في الأوساط الأكاديميّة أو في وسائل الإعلام. غير أن بقاء هذه المسألة مفتوحة للتّنظير وإبداء الرأي هو ما دفع بمناصري مبدأ السّيادة للرّجال إلى البحث عن سنَد يدعم آراءهم على هوامش الرأي المسؤول.

ولا بدّ لجحافل النّعرات القوميّة والوطنيّة التي تهدّدها الأخطار من كلّ جانب أن تلقى هي الأخرى مصيرها بالزّوال. فمع كل أزمة تمرّ بها الشؤون العالميّة يسهل على المواطن أكثر فأكثر أن يميّز بين حبّ الوطن الحقيقي الذي يُغني حياة الفرد وبين الانقياد للبيانات التي تثير العواطف وتلهبها بهدف إشعال نيران الحقد والكراهية تجاه الآخرين وزرع بذور الخوف والرّهبة بينهم. وأصبح معروفًا أنّه حتّى في الظّروف التي تقتضيها المصلحة الخاصّة المشاركة في بعض المناسبات الوطنيّة المألوفة يأتي تجاوب الجماهير في الغالب مشوبًا بالإحراج وعدم الارتياح كما هو الحال تجاه قناعات الماضي الثّابتة وما كان يسود من مظاهر الحماسة والاندفاع الفوري

العفوي. وعزّز النتائج المترتّبة على هذا التّطوّر ما تمّ من اطّراد إعادة بناء صرح النّظام العالمي الرّاهن. ومهما كانت مظاهر الضّعف الّتي تشكو منها المنظومة العالميّة في شكلها الحاضر، ومهما كانت القيود الّتي تثقل حركتها وتحدّ من قدرتها على اتّخاذ الإجراءات العسكريّة المشتركة ضدّ الغزو والعدوان، لا يخطئ أحد في إدراك أنّ هذا الزّيف الّذي يسمّى بالسّيادة الوطنية المُطلقة هو الآخر في طريقه إلى الزّوال.

وبالمثل، واجهت التّعصّبات العرقية والإثنيّة حُكمًا عاجلاً أصدره السّياق التّاريخي الّذي بات بَرمًا إزاء مثل هذه الادّعاءات والأباطيل، وأصبح الماضي، من هذا المنطلق، مرفوضًا رفضًا باتًّا وحاسمًا، خاصّة وأنّ التّعصّب العرقيّ وُسم بوصمة اقترانه بفظائع وأهوال القرن العشرين الّتي بلغت حدًّا اتخذت معه طابع المرض الرّوحيّ. ورغم أنّ التّعصّب العرقي ما زال حيًّا في أجزاء عديدة من العالم ويمثّل سلوكًا اجتماعيًّا فإنّه لا يعدو كونه آفة من آفات الحياة أصابت قطاعًا واسعًا من الجنس البشري، كما أنّه أصبح مذمومًا من حيث المبدأ على النّطاق العالميّ بحيث أنّه بات من العسير على أيّ مجموعة من النّاس أن تقبل على نفسها بعد الآن بأن توصف بأنّها تمارس التّعصّب العرقيّ أو تتبنّاه.

غير أنّ ما حدث لا يشكّل في حدّ ذاته دليلاً على أن ماضيًا مظلمًا قد انمحى وبادت معالمه وأنّ حاضرًا مضيئًا لعالم جديد قد انبثق فجره فجأة. فلا تزال أعداد غفيرة من النّاس ترزح تحت أعباء الآثار الّتي خلّفتها تلك التّعصّبات المتأصّلة من إثنيّة وقوميّة وطبقيّة وجنسيّة بالإضافة إلى تلك التّعصّبات المقترنة بنظام الطّوائف الاجتماعيّة. وما من شكّ في أنّ الدّلائل كلّها تشير إلى أن المظالم المترتّبة على هذا السّلوك سوف تستمرّ لفترة طويلة. فالعالم الإنسانيّ بمؤسّساته ومعاييره يسير بطيء الخطى نحو بناء نظام جديد يعيد صياغة العلاقات الإنسانيّة ويهرع إلى نجدة المظلومين والمضطهدين من أبناء البشريّة. لكن هذا ليس بيت القصيد. فالعبرة متمثّلة في أنّ ما حدث حتّى الآن يعدّ تخطّيًا لكل الحدود والحواجز، وأنّه لم يعد هناك مجال للتّراجع

وعودة الأمور إلى ما كانت عليه في الزّمن الماضي. فقد تحدّدت المبادئ الجوهريّة وتمّ شرحها وبيان تفاصيلها وأعلنت إعلانًا عامًّا تامًّا وأصبحت تتجسّد تدريجيًّا في المؤسّسات والنّظم القادرة على فرضها وتطبيقها على السّلوك العام. وممّا لا شكّ فيه أنّه مهما كان الكفاح في هذا السّبيل شاقًّا ومضنيًا طويل الأمد فلا بدّ سيفضي إلى تغيير شامل من الأساس في العلاقات القائمة بين البشر.

بدا التّعصّب الدّيني في بداية القرن العشرين كأكثر التّعصّبات القائمة عرضة للهزيمة والاندحار أمام تيّار قوى التّغيير والتّحوّل. ففي العالم الغربي شنّ التّقدّم العلمي حملة عنيفة زعزعت بعض العُمد الرّئيسيّة الّتي قامت عليها الادّعاءات الطّائفيّة بالخصوصيّة الاستثنائيّة أو الامتياز والتّفوّق. ثمّ جاءت حركة حوار الأديان في إطار التّحوّلات الجارية بالنّسبة للكيفيّة التي نظر فيها الجنس البشري إلى نوعه الإنساني – جاءت بمثابة أبرز التّطوّرات الدّينيّة الباعثة على الأمل والواعدة بالخير. ففي عام 1893 أُقيم المعرض الكولومبي العالمي في شيكاغو بالولايات المتّحدة احتفاءً بذكرى مرور أربعمائة عام على اكتشاف كريستوفر كولومبس للقارّة الأميركية، ولعلّ ما أدهش أكثر منظّمي هذا المعرض طموحًا هو أنّه تمخّض عن مولد المجلس العالمي للأديان المعروف "ببرلمان الأديان" المشهور. وقد عبّر هذا البرلمان عن رؤية روحيّة ومعنويّة جسّدت ما كان يدور في أخلاد البشر وعقولهم في كلّ قارّة من قارّات العالم. وفاق هذا الحدث كلّ ما احتفل به المعرض وطغى على كلّ ما سواه بما في ذلك المعجزات التي أُنجزت في ميادين العلم والتكنولوجيا والتّجارة.

وظهر لفترة وجيزة وكأنّ الأسوار القديمة قد اندكّت. ونظر المفكّرون والعلماء الدّينيّون إلى ذلك الاجتماع وكأنّه حدث فريد في نوعه "لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم." وذهب المنظّم الرئيسيّ للبرلمان إلى حدّ

التّصريح بالقول "إن هذا البرلمان قد حرّر العالم من ربقة التّعصّب الدّينيّ الأعمى." وعمّت التّكهّنات المليئة بالثّقة بأنّ القادة من أصحاب الرّأي ذوي الرّؤية سوف يغتنمون هذه الفرصة السّانحة كي يوقظوا روح الأخوّة في مجموعات العالم الدّينيّة التي طال الاختلاف فيما بينها، وتُرسى من ثمّ القواعد المعنويّة الدّاعمة لبناء عالم يسوده الرّخاء والرّفاه والتّقدّم. وشجّع هذا كلّه على انتشار حركات حوار الأديان من كلّ نوع، ومهّد لنموّ هذه الحركات وتأصّلها وازدهارها، ولا سيّما انتشار المؤلّفات في العديد من اللّغات انتشارًا واسعًا. فكان ذلك بمثابة أوّل طرح لتعاليم الأديان الرّئيسيّة كلّها يُعرض ويتيسّر لجماهير النّاس الغفيرة من مؤمنين وغير مؤمنين. وبمرو الوقت أدركت هذا الاهتمام بالأديان والتقطته أجهزة الإعلام المسموعة والمرئيّة من راديو وتلفاز علاوة على ما قدّمته الأفلام السّينمائيّة إضافة إلى ما دأبت على بثّه أخيرًا شبكات الإنترنت. وعكفت الجامعات والمعاهد العلميّة العُليا على وضع مناهج دراسيّة للتأهيل للحصول على الدّرجات العلميّة في مجال الدّراسات الدّينيّة المقارنة. وما كاد القرن يصل إلى نهايته حتّى صارت حلقات الدّعاء والمراسم المشتركة بين الأديان مألوفة وشائعة بعد أن كان يستحيل أن يخطر مثل هذا الأمر في بال أحد من النّاس قبل عقود قليلة ماضية من الزّمن.

ولكن، ويا للأسف، بات جليًّا الآن أن هذه المبادرات كان يعوزها التّرابط الفكري وينقصها الالتزام الرّوحي. وعلى عكس ما يحدث من تجاوب مع تيّارات التّوحيد الجارية والّتي تحوّل العلاقات الاجتماعيّة الإنسانيّة الأخرى وتغيّرها، فإنّ المتزمّتين من أصحاب الفكر الدّينيّ رفضوا الرّأي القائل بأنّ الأديان الكبرى جميعها أديان حقّ من حيث جوهرها وأصولها وقاوموا هذا الرّأي مقاومة عنيدة. وأمّا التّقدّم الّذي أحرزته قضيّة إزالة التّمييز العنصري فلم يكن مجرّد فورة عاطفيّة عابرة أو تدابير آنيّة فحسب بل كان نابعًا من الإقرار بأنّ شعوب الأرض كلّها تنتمي أصلاً إلى عنصر واحد ومن الاعتراف بأنّ الاختلافات القائمة فيما بينها لا تمنح بالضّرورة

أيّ فرد أو جماعة من تلك الشّعوب امتيازًا خاصًّا أو تفرض على أيّ فرد أو جماعة منها أيّ قيود أو عوائق. ولم تختلف قضيّة تحرير المرأة عن ذلك. فقد كان لا بدّ من وجود الاستعداد لدى كلّ من المؤسّسات الاجتماعيّة والرأي العام بأنّه لا توجد هناك حجّة اجتماعيّة أو أخلاقيّة مقبولة أو حتّى فسيولوجيّة بحكم الوظائف الجسديّة للمرأة تبرّر رفض منح النّساء حقّهنّ في المساواة الكاملة مع الرّجال، أو رفض إعطاء البنات فرصًا متساوية مع تلك الّتي للبنين في مجالات التّربية والتّعليم. ولا ينبغي أيضًا أن يكون التّقدير الّذي نكنّه لبعض الأمم عرفانًا بإسهامها في رسم معالم حضارة عالميّة متطوّرة سببًا نتّخذه لتعزيز ذلك الوهم المتوارث الّذي يوحي بأنّ الأمم الأخرى عاجزة عن الإسهام في هذا المضمار إلاّ بقدر ضئيل، أو أنّ هذا الإسهام معدوم تمامًا.

ويبدو في أغلب الأحيان أنّ القيادات الدّينيّة عاجزة عن ابتكار توجّهات ذات مستوى يبلغ أو يجاري هذه الدّرجة من التحوّل والتّغيير. لكن شرائح أخرى من المجتمع آمنت بمفاهيم وحدة العالم الإنساني لا كخطوة مستقبليّة حتميّة لا مناص منها وحسب في سبيل تقدّم الحضارة ولكن كضرورة أيضًا بالنّسبة للفئات ذات الهويّات الأقل شأنًا وحظًّا من كل نوع يدعوها جنسنا البشريّ للإسهام في هذه اللّحظة الدّقيقة من تاريخنا الجماعي المشترك.

بيد أن غالبيّة الأديان القائمة تقف إزاء كلّ هذا على أعتاب المستقبل مشلولة عديمة الحراك وهي أسيرة العقائد والدّعاوى الّتي تؤكّد كلّ منها بأنّ الوصول إلى الحقيقة اختُصّت بها هي دون غيرها من العقائد والدّعاوى، فنجم عن ذلك منازعات بالغة الشّراسة شديدة العنف زرعت الخلاف وولّدت الفرقة بين سكّان الأرض.

وأمّا العواقب، فقد اتّضح أنّها كانت جالبة للخراب والدّمار لسلامة العالم الإنسانيّ مقوّضة لجهود صلاح أمره. ومن المؤكّد أنّه لا داعي لعرض سرد مفصّل للأهوال الّتي تعاني منها اليوم جماهير غفيرة من التّاعسين سيّئي الحظّ بسبب اندلاع نيران التّعصّب الأعمى الّذي يشين سمعة الدّين ويحطّ من قدره. وما هذه الظّاهرة بجديدة. فلنسق مثلاً واحدًا من أمثلة عدّة لذلك ألا وهو الحروب الطّائفيّة الّتي دارت رحاها في أوروبا في القرن السّادس عشر الميلادي. كلّفت تلك الحروب القارّة الأوروبّية من الأرواح ما يوزاي ثلاثين في المائة من العدد الإجمالي لسكّانها. ولا بدّ للمرء أن يتساءل عن المحصول بعيد المدى الّذي جنته وستجنيه البشرية في المستقبل من البذور الّتي غرستها في الضّمير العام قوى التعصّب الدّينيّ الأعمى الّتي أثارت مثل هذه المنازعات والصّراعات.

بقي علينا أن نضيف إلى ما أوردنا في هذا السّرد ما قد ارتُكب من خيانة للحياة الفكرية. فهذه الخيانة كانت أكبر العوامل الّتي سلبت الدّين القدرة الكامنة فيه لتأدية دور فاعل وحاسم في رسم معالم الشّؤون العالميّة. فكانت المؤسّسات الدّينيّة في أغلب الأحيان المسؤولة الأولى عن خذل الهمم في البحث عن الحقائق وإحباط أيّ محاولة للاستفادة من القدرات الفكريّة الّتي بها يتميّز البشر. والحال أنّ هذه المؤسّسات استحوذ على كلّ تفكيرها وشغلها عمّا سواه ما وضعته لنفسها من برامج خاصّة بعثرت الطّاقات الإنسانيّة وأضعفتها. فإنّ الاكتفاء بشجب الانغماس في المادّيّات أو إدانة الإرهاب والعنف لن يجديا نفعًا في مجابهة الأزمة الأخلاقيّة والرّوحيّة مجابهة ناجحة ما لم تبدأ هذه المؤسّسات الدّينيّة بالالتفات إلى فشلها في حمل وأداء مسئوليّاتها وتعالجه معالجة تتّسم بالصّراحة والصّدق. فقد كان من جرّاء هذا الفشل أنّ جماهير المؤمنين باتت دون حماية عرضة للأخطار إزاء هذه التّأثيرات.

ليست هذه التّأمّلات، مهما بلغت الآلام الّتي تبعثها، بمثابة اتّهام للأديان القائمة. بل القصد منها التّذكير بما تتمتّع به هذه الأديان من نفوذ عديم النّظير. فالدّين، كما نعلم جميعًا، يغذّي جذور النّوايا الباعثة على الأعمال. وعندما يكون أتباع الدّين صادقين في ولائهم لروح تلك النّفوس السّامية من الرّسل والأنبياء الّذين أعطوا العالم نظمه الدّينيّة ويقتدون بالمثل الّذي ضربه هؤلاء، يتمكّن الّدين عندئذٍ من أن يوقظ في النّاس جميعًا قدراتهم على المحبّة والتّسامح والإبداع ومجابهة أخطر الصّعاب ومحو التّعصّب وتقديم البذل والتّضحية في سبيل الصّالح العام، والعمل بالتّالي على ضبط أهواء الغريزة الحيوانيّة. وممّا لا جدال فيه أنّ القوى الأصيلة الّتي هذّبت الطّبيعة الإنسانيّة ومدّنتها كانت بفضل تتابع المظاهر الإلهيّة في سجل تاريخنا الإنسانيّ.

فهذه القوى ذاتها والّتي كان لها مثل هذه الآثار النّافذة في العصور الماضية لا تزال ماثلة في الوعي الإنسانيّ كإحدى خصائصه البارزة التي لا يمكن محوها. فرغم ضآلة العوامل الّتي تشجّع على الاستفادة من قوى الدّين هذه، ورغم العقبات الّتي تقف في وجهها، نجدها صامدة في دعم كفاح ما لا يُحصى من ملايين النّاس ممّن يناضلون من أجل البقاء والاستمرار. كما نجد هذه القوى أيضًا لا تتوقّف عن بعث الأبطال والأولياء في كلّ البلدان لكي يبرهنوا في حياتهم بصورة مقنعة على صدق المبادئ والمثل الّتي حوتها كتبهم المقدّسة. والحضارة الإنسانيّة في مسارها تقدّم لنا البرهان والدّليل على أنّ الدّين قادر أيضًا على التّأثير في بنية العلاقات الاجتماعيّة تأثيرًا عميقًا. ومن الصّعب حقًّا أن نجد أيّ تقدّم جوهريّ في الحضارة الإنسانيّة إلا وكان نابعًا عن الدّين. فهل في الإمكان لنا أن نتصوّر إذًا بأنّ العبور إلى المرحلة الختاميّة في هذه المسيرة الّتي استغرقت آلاف السّنين لتنظيم الكرة الأرضيّة سيتمّ ويتحقّق في خواءٍ روحيّ؟ وإذا كانت المذاهب العقائديّة الحديثة الّتي انحرفت عن طريق الحقّ في القرن الّذي مرّ وانقضى قد حقّقت أمرًا واحدًا فقط فهو

أنّها قد أتت بالدّليل القاطع على أن احتياجات العالم اليوم لا يمكن سدّها بتلك البدائل الّتي تجود بها قدرة الإنسان على الابتكار والاختراع.

لخّص حضرة بهاء الله النّتائج الّتي سوف يواجهها عصرنا الرّاهن فيما أفاض به يراعه من بيان قبل قرن من الزّمان. وقد انتشرت هذه البيانات منذ صدورها انتشارًا واسعًا وشهدت تعميمها العقود الفاصلة بيننا وبين ذلك الوقت. وجاء فيها:

"إنّ مما لا شكّ فيه أنّ جميع الأديان متوجّهة إلى الأفق الأعلى وتأتمر بأوامر الحقّ. أمّا ما اختلف من أوامرها وأحكامها فقد كان بحسب مقتضيات العصور والأزمان، فالكلّ من عند الله ونزّل بمشيئة الله ما عدا بعضها الّتي كانت نتيجة ضلال البشر وعنادهم. أن انهضوا يعضدكم الإيمان وحطّموا أصنام الأوهام وتمسّكوا بالاتّحاد والاتّفاق."

لا يدعو مثل هذا النّداء إلى التّخلّي عن الإيمان بتلك الحقائق الجوهريّة لأيّ من النّظم الدّينيّة الكبرى. بل إنّ الأمر عكس ذلك، فللإيمان أحكامه الخاصّة كما أنّه له ما يبرّر وجوده بذاته. وإنّ ما يؤمن به الآخرون أو لا يؤمنون به لا يمكن أن يكون الوازع والحكَم في أيّ ضمير جدير بأن يسمّى ضميرًا. وإنّ ما تقدّم إيراده من قول إنّما يؤكّد بكلّ صراحة ووضوح الحثّ على رفض الادّعاءات القائلة بامتياز دين على دين أو اعتبار أي دين دينًا ختاميًّا لا دين بعده. فمثل هذه الادّعاءات الّتي تنبت جذورًا تلتفّ حول الحياة الرّوحيّة لخنقها هي

أخطر عامل انفرد وحده في القضاء على كلّ بواعث الوحدة والاتّحاد وأشعل نيران العنف والعصبيّة والبغضاء.

يسود لدينا الاعتقاد بأنّ قادة الأديان ينبغي عليهم مجابهة هذا التّحدّي التّاريخيّ إذا أرادوا للقيادة الدّينيّة هذه أن يكون لها أيّ معنى في المجتمع العالمي الّذي بدأ يبرز إلى الوجود نتيجة مامرّ به من تجارب التحوّل والتّغيير الّتي أحدثها القرن العشرون. فقد بات من الجليّ أنّ أعدادًا متزايدة من النّاس قد وصلت إلى قناعة بأنّ الحقيقة الكامنة في الأديان السّماويّة كلّها حقيقة واحدة في جوهرها. وما كان لمثل هذه القناعة أن تصدر نتيجة أيّ حلّ لمجادلات فقهية، ولكنّها صادرة عن وعي وجدانيّ أغناه ما توفّر للآخرين من خبرات واسعة ونتيجة تولّد الاعتقاد بوحدة العائلة الإنسانيّة ذاتها. فمن مزيج معتقدات وطقوس دينيّة وأحكام شرعيّة تمّ توارثها من عوالم عفا عليها الزّمان، بدأ يبرز هناك شعور بأنّ الحياة الرّوحيّة، مثلها مثل الوحدة الّتي تجمع مختلف القوميّات والأعراق والثّقافات، تشكّل في حدّ ذاتها حقيقة واحدة مطلقة ميسور لكل إنسان سبيل الوصول إليها. ولكي يتأصّل هذا الشّعور الّذي بدأ يعمّ النّاس ولكنه لا يزال في بداية أمره وليتمكّن من الإسهام إسهامًا فاعلاً في بناء عالم يسوده السّلام، ينبغي عليه أن يحظى بالتّأييد القلبيّ الكامل من قبل أولئك الّذي تتوجّه إليهم جماهير النّاس في كلّ أنحاء العالم طلبًا للهداية والرّشاد حتّى في هذه اللّحظة المتأخّرة.

تختلف الأديان الكبرى عن بعضها اختلافًا عظيمًا بالنّسبة لشرائعها وشعائر عباداتها وصلواتها. ولم يكن من الممكن أن يكون الأمر على عكس ذلك إذا أخذنا في تقديرنا أنّ العالم شهد خلال آلاف السّنين الّتي مرّت عليه دورات متتابعة من الوحي والإلهام الإلهيّ جاءت لتلبّي الحاجات المتغيّرة لحضارة إنسانيّة دائمة التّطوّر والنّموّ. وفي الحقية يبدو أنّ إحدى الخصائص الرّئيسيّة للكتب السّماويّة المقدّسة تصريحها، بشكل ما أو بآخر، بالمبدأ القائل بأنّ الدّين في طبيعته خاضع لسنن النموّ والتّطوّر. ولعلّ ما لا يمكن تبريره من الوجهة

الأخلاقيّة هو الإقدام على تسخير المواريث الثّقافيّة لخلق التّعصّبات وبعث مشاعر الفرقة والنّفور بين النّاس، وهي المواريث التي حُفظت أصلاً من أجل إغناء الخبرات الرّوحيّة وإثرائها. إنّ مهمّة الرّوح الإنسانيّة في المرتبة الأولى ستبقى دائمًا السّعي بحثًا عن الحقيقة، والعيش طبقًا لما تعتنقه من المبادئ والمثل، والنّظر إلى جهود الآخرين بكامل الاحترام لكي يقابلوا ذلك بالمثل.

قد يقوم هناك اعتراض إذا ما تمّ الاعتراف بأنّ الأديان الكبرى كلّها متساوية من حيث أصولها الإلهيّة، لأنّ مثل ذلك الاعتراف سوف يشجّع أعدادًا كبيرة من النّاس، أو يسهّل لهم على الأقل تغيير أديانهم والدّخول في أديان أخرى. وسواء كان هذا الافتراض صحيحًا أو لم يكن فإنّه من المؤكّد أنّ هذا الأمر لا يعدو كونه هامشيّ الأهمّيّة إذا ما قورن بالفرصة التّاريخيّة المتاحة الآن أمام أولئك الّذي يدركون بأنّ هناك عالمًا آخر يتجاوز حدود هذا العالم الأرضيّ، ناهيك عن المسؤوليّة الّتي يفرضها مثل هذا الإدراك والوعي. وما دين إلاّ وهو قادر على أن يورد الحجج ويسوق البراهين الموثوق بها الدّاعية للدّهشة والإعجاب ليدلّل بها على نفوذه في تربية النّفوس وتنمية مكارم الأخلاق. وبالمثل لا يستطيع أحد من النّاس أن يزعم جادًّا بأنّ تعاليم أيّ عقيدة من العقائد كانت أكثر أو أقلّ أثرًا من غيرها في نشر التّعصّبات والأوهام. فمن الطّبيعيّ أن تمرّ أنماط التّعامل والتّجاوب في عالم تتوحّد عناصره بسلسلة من التّحوّلات المستمرّة، ومن المؤكّد أن للنّظم والمؤسّسات، أيًّا كانت، دورًا في التّفكير مليًّا في الكيفيّة الّتي يمكن بها تسيير الأمور وتدبيرها بطريقة تنمّي روح الوحدة والاتّحاد. ولعلّ ما يضمن سلامة النّتائج في نهاية الأمر من النّواحي الرّوحيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة هو الإيمان الرّاسخ لدى الجماهير الغفيرة من سكّان الأرض ممّن لا يُستفتى رأيهم بأنّ الكون لا يخضع لأهواء البشر ونزواتهم بل يرضخ لمشئية العناية الإلهيّة الممتلئة مودّة ورحمة والّتي لا ينضب معينها.

فها هي الحواجز الّتي كانت تفرّق النّاس آيلة للانهيار بينما يشهد عصرنا في آنٍ معًا تفسّخ ذلك الجدار الّذي استحال تجاوزه في سالف الزّمان، ويحدث ذلك رغم ما ذهب إليه أهل الماضي من أنّه سوف يبقى إلى الأبد حائلاً بين الحياة السّماويّة والحياة الأرضيّة. فقد علّمت الكتب السّماويّة المقدّسة المؤمنين على الدّوام أنّ خدمة الآخرين ليست فرضًا أخلاقيًّا فحسب بل إنّها سبيل الرّوح ذاتها للاقتراب من الله. وتكتسب هذه التّعاليم المألوفة في يومنا هذا معانٍ ذات أبعاد جديدة بفضل ما تمّ من إعادة لبناء المجتمع بناءً حديثًا عصريًّا. وبما أنّ الوعد القديم ببناء عالم تحييه مبادئ العدالة قد بدأت معالمه تكتمل تدريجيًّا وبات هدفًا يسهل تحقيقه، أصبح في الإمكان تلبية احتياجات الرّوح واحتياجات المجتمع بصورة متزايدة باعتبارها جوانب متكاملة لحياة روحيّة واحدة تامّة النّضج.

وإذا تيسّر للقيادات الدّينيّة أن ترتفع إلى مستوى المسؤوليّة لمجابهة التّحدّي الّذي تمثّله هذه الأحاسيس والمشاعر الّتي تقدّم ذكرها، فلا بدّ لهذه المجابهة من أن تبدأ بالإقرار بأنّ الدّين والعلم طريقان لتحصيل المعارف والعلوم بصورة منتظمة وأنّ بواسطتهما تنمو القدرات الكامنة في الوعي والإدراك وأنّه من المستحيل الاستغناء عن أيّ منهما. وبما أنّ أيّ تعارض بين الدّين والعلم أمر بعيد الاحتمال، فهذان الطّريقان أساسيّان بالنّسبة لمناهج التّفكير في اكتشافات العقل للحقيقة، وأدّيا إلى أفضل النّتائج في تلك الفترات السّعيدة من فترات التّاريخ حين تعاون الدّين والعلم في العمل معًا وفَهِمَ النّاس طبيعة كلّ منهما فهمًا صحيحًا وعرفوا أنّهما يكمّلان بعضهما البعض. ولا بدّ للمهارات والرّؤى الثّاقبة الّتي تولّدت إثر تقدّم العلوم من أن تسترشد دومًا بما يفرضه عليها الالتزام بالمبادئ الرّوحيّة والأخلاقيّة لضمان استخدام تلك المهارات وتلك الرّؤى استخدامًا صحيحًا وخيِّرًا. كما ينبغي على العقائد الدّينيّة، مهما كانت عزيزة على النّفوس، أن تخضع بكامل الرّضا والامتنان للاختبار اختبارًا علميًّا يتميّز بالتّجرّد والإنصاف.

وها نحن نأتي أخيرًا إلى قضيّة نطرحها بكثير من التّهيّب والتّردّد لأنّها تمسّ الضّمير مباشرة. فمن جملة ما يستهوي الإنسان من مغريات الدّنيا العديدة وشهواتها حبّ التّمتّع بالسّلطة والنّفوذ. وليس غريبًا أن تشغل هذه التّجربة بال قادة الأديان بالنّسبة لما يتمتّعون به من سلطة ونفوذ في ما يتعلّق بقضايا العقيدة والإيمان. ولا يحتاج أيّ فرد صرف الأعوام الطّوال في دراسة الكتب المقدّسة والتّامّل المتجرّد المتمعّن فيها لاستعادة تذكّر ما أكّدته تلك الكتب المقدّسة مرارًا وتكرارًا من حقيقة مسلّم بها بأنّ في تملّك السّلطة والنّفوذ مخاطر كامنة تقود إلى الفساد والإفساد وبأنّ هذه المخاطر تتفاقم ويعظم أمرها كلّما ازدادت تلك السّلطة سطوةً ونفوذًا وأهمّيّة. ولا شكّ في أنّ الانتصارات الخفيّة للرّوح على مغريات السّلطة والنّفوذ من قِبل عدد لا يُحصى من رجال الدّين عبر القرون دليل على ما تتمتّع به الأديان القائمة من قوى خلاّقة وبنّاءة يجب اعتبارها إحدى ميّزاتها السّامية. غير أنّه وبنفس المقياس كان هناك آخرون من رجال الدّين استهوتهم الدّنيا بما وفّرته لهم من سلطان ونفوذ وأغدقته عليهم من المصالح والمنافع، فمهّد هذا كلّه أرضًا خصبة نمت فيها مشاعر الاستخفاف بكلّ الأمور بالإضافة إلى تفشّي الفساد وانتشار اليأس لدى كلّ من شاهد هذا التّكالب على السّلطة والنّفوذ. فإن استطاعت القيادات الدّينيّة القيام على حمل مسؤوليّاتها وأداء واجباتها تجاه المجتمع في هذه اللّحظة الدّقيقة من لحظات التّاريخ، فإنّ مثل هذا الإقدام سيحمل من المعاني والمضامين ما لا حاجة إلى شرحه وتفصيله.

وحيث أنّ الدّين يهدف إلى رفع مستوى الأخلاق إلى أسمى الدّرجات ويسعى إلى خلق التآلف والوئام بين النّاس بما يربطهم من علاقات، ظلّ الدّين عبر التّاريخ هو السّلطة العُليا والمرجع النّهائي للتّعريف بشؤون الحياة وتحديد معانيها. ففي كلّ عصر من العصور دأب الدّين على تأصيل الخير في النّفوس فأمر بصنع المعروف

ونهى عن المنكر، وجسّد أمام أعين أولئك الّذين حرصوا على أن يروا بأبصارهم تلك الرّؤية الّتي رسمت معالم القدرات الدّفينة الّتي لم تنطلق بعد في الإنسان. فبفضل وصايا الدّين وإرشاداته وجدت النّفس العاقلة ما يشجّعها على إزالة الحدود والقيود الّتي يفرضها العالم عليها وما يعينها على تحقيق ذاتها. وتوحي كلمة "الّدين" حين نستعملها بالدّور الّذي يؤدّيه كقوّة رئيسيّة تجمع مختلف الأقوام والشّعوب ليجعل منها مجتمعات أكثر اتّساعًا وتنوّعًا ولتنطلق فيها طاقات الفرد لتعبّر عن ذاتها تعبيرًا كاملاً. إنّ الميزة العظيمة لعصرنا الرّاهن هي المنظور الّذي من خلاله يستطيع الجنس البشري بأسره أن يستشفّ هذا السّياق الحضاري لتتابع الأديان وتعاقب الرّسالات السّماويّة فيراه كظاهرة متّحدة واحدة، وهو السّياق الّذي يمثّل ذلك اللّقاء دائم التّتابع حين يلتقي عالمنا الأرضيّ هذا بعالم الله.

بعثت هذه النّظرة التّاريخيّة على امتدادها الإلهام في الجامعة البهائيّة فعكفت على التّرويج بقوّة وحماسة لنشاطات "حركة حوار الأديان" منذ بداية تأسيسها. وبغضّ النّظر عن العلاقات الوطيدة الّتي تخلقها هذه النّشاطات يرى البهائيّون أنّ كفاح الأديان المختلفة في سبيل تحقيق التّقارب بينها إنّما هو بمثابة الاستجابة للمشيئة الإلهيّة الّتي أرادت ذلك للجنس البشري الدّاخل في طور نضجه الجماعيّ. ولا يألو أعضاء جامعتنا البهائيّة جهدًا في مواصلة دعمهم لهذا المجهود بكلّ وسيلة ممكنة. ومهما يكن من أمر فإنّنا مدينون لشركائنا في هذا المجهود المشترك إذ نعلن عن إيماننا الصّادق بأنّه إذا ما كان لما يجري من حوار بين الأديان أن يسهم إسهامًا ذا دلالة ومعنى في شفاء العلل والأمراض الّتي تشكو منها إنسانيّة ألمّ بها اليأس وفقدان الأمل، لا بدّ لهذا الحوار وأن يشرع في الحديث بصدق وأمانة وبدون أيّ مواربة إزاء ما تمليه علينا تلك الحقيقة العليا الّتي بعثت "حركة حوار الأديان" إلى الوجود – ألا وهي الحقيقة القائلة بأنّ الله هو الواحد الأحد، وبأنّ الأديان كلّها في جوهرها دين واحد رغم تعدّد معالم الثّقافة فيها واختلاف تفسيرات البشر لتعاليمها.

ففي كلّ يوم يمرّ بنا يتفاقم الخطر من أنّ النّيران المتصاعدة للتّعصّبات الدّينيّة سوف يستعر لهيبها ليحرق العالم كلّه مخلّفًا من الآثار المدمّرة ما لا يمكن أن يخطر في بال. ولا سبيل لدرء هذه المخاطر من قبل الحكومات المدنيّة بمفردها دون أيّ معونة. ولا ينبغي أن نخادع النّفس فنعتقد بأنّ مجرّد المناشدة لقيام التّسامح المتبادل باستطاعتها وحدها إطفاء نيران العداوة والبغضاء والقضاء على التّعصّبات الّتي تدّعي أنّها مشمولة بتأييد إلهيّ. وتهيب الأزمة الرّاهنة بالقيادات الدّينيّة لقطع الصّلة بالماضي بالحزم والصّرامة ذاتها التي انتهجها أولئك الّذين مهّدوا السبيل للمجتمع الإنساني لمجابهة تعصّبات ماضية بالنّسبة للعرق والجنس والوطن تتساوى في شراستها المدمّرة مع التّعصّبات القائمة في عالم اليوم. ومهما كان المبرّر لمحاولة التّأثير في قضايا تتعلّق بحرّيّة الضّمير فليس هناك سوى مبرّر واحد هو حثّ الفرد على السّعي في سبيل خير الإنسانيّة وصلاح أمرها. فعلى هذا المفترق الّذي يعدّ أعظم نقطة تحوّل في تاريخ الحضارة الإنسانيّة ليس هناك من حاجة أوضح وأمسّ من حاجة العالم إلى مثل هذه الخدمات. لذلك يستحثّنا حضرة بهاء الله أن ندرك جيّدًا بأنّه "لا يمكن تحقيق إصلاح العالم واستتباب أمنه واطمئنانه إلا بعد ترسيخ دعائم الاتّحاد والاتّفاق."

بيت العدل الأعظم

المصادر
المحتوى
OV