الرسالة الصعودية والنزولية (في كيفية الارتقاء الى حضيرة القدس)

السيد كاظم الرشتي
النسخة العربية الأصلية

الرسالة الصعودية والنزولية

من مصنفات

السيد كاظم بن السيد قاسم الحسيني الرشتي

جواهر الحكم المجلد الحادي عشر

شركة الغدير للطباعة والنشر المحدودة

البصرة – العراق

شهر جمادي الاولى سنة 1432 هجرية

بسم اللٰه الرحمن الرحيم

وبه ثقتي

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا خير خلقه محمد وآله الطاهرين

اما بعد فيقول العبد الفقير الحقير الفاني الجاني كاظم بن قاسم الحسيني الموسوي الرشتي ان بعض الاخوان وخالص الخلان الذي انار الله قلبه بنور التوفيق وسقاه بفضله من رحيق التحقيق وهداه بمنه وجوده الى سواء الطريق قد سئلني عن مسئلة عظيمة جليلة قل من عثر عليها واهتدى اليها وان كانت ألسنة الكل ناطقة بالوصول

وكل يدعي وصلا بليلي وليلى لا تقر لهم بذاكا

اذ انبجست دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكا

اذ كثير منهم قد اخطأوا في معرفتها لدقة مأخذها وصعوبة مسلكها والاكثر حرموا عن الوصول اليها اذ ما كل من عرف شيئا اتصل به وهؤلاء ولعمري القليلون اقل من الكبريت الاحمر وهم المؤمنون الذين امتحن الله قلوبهم للايمان وشرح صدورهم للاسلام وازال عنهم الاغيار وصفاهم عن كل الاكدار وهي كيفية الارتقاء الى حظيرة القدس عن حضيض التعلق والتدنس والصعود الى اعلى مقامات العرفان عن مطمورة الزمان والمكان والوصول الى مقام القرب والاتصال والتخلص عن دركات الجهل والغي والضلال وان ذلك هل يحصل بالخوض في هذه العلوم المتداولة بين الناس او بامر آخر والعلوم ايضا لا تحصل الا بالاكتساب على ما هو المقرر عند الاصحاب او بامر آخر قد انسد علينا ذلك الباب والفقير سوفت في الجواب لما اجد في نفسي من تصادم دواعي الاشتغال وبواعث الاختلال وتبلبل البال وموانع الاستقامة في الاحوال حتى عاد في الالتماس مرة بعد اخرى فكتبت هذه الاوراق على الاستعجال مع كمال عدم الاقبال لكن الميسور لا يسقط بالمعسور والى الله ترجع الامور

فاقول واثقا بالله الملك العلام اعلم وفقك الله لما يحب ويرضى وجعل آخرتك خيرا من الاولى ان الله سبحانه لم ‌يزل فردا واحدا متفردا في الازل والقدم وهو الآن على ما عليه كان كما قال مولينا الرضا عليه السلام لعمران فلما احب ان يعرف واراد ان يعبد لنشر ( نشر خ‌ل ) عوايد عطفه وبسط لطائف منه وبره خلق ما كان كما كان كما قال تعالى وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ولما كان الاضطرار في الايجاد مما يأباه ويقبحه اهل الاعتبار ولان الاختيار والاضطرار كلاهما مقدوران فالاول اولى بالاختيار بل نفى المقدورية عن الاضطرار لم ‌يكن عليه غبار فوجب الاختيار فلما صح ذلك امتنع اجراء الاحكام الالهية الا بالاسباب ليعطى كل ذي حق حقه من ذلك الباب والا ما كان ما ( بما خ‌ل ) كان لما كان كما كان لكنه ما يتذكر الا اولوا الالباب وهو قوله عليه السلام ابى الله ان يجري الاشياء الا بالاسباب ( باسبابها خ‌ل ) وهو قوله تعالى جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ولكن تلك الاسباب ليست مستقلة بحيث تجري على مقتضاها بل هي في كل حال بيد الجبار ذي الجلال لايترتب عليها مقتضاها الا باذن واجل وكتاب ومع ذلك يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده ام الكتاب

فاذا عرفت هذا فاعلم ان الله سبحانه لما خلقك لما خلقك من المعرفة لشهادة الحديث القدسي فاحببت ان اعرف وكان الامر كما وصفت لك من اجراء الاحكام من الوجودية والشرعية على الاسباب اقامك في مقامك في العالم الاول عالم المعرفة والمحبة لتحصيل الغاية وهو اول ذكرك في الكون وكنت في ذلك العالم مستغرقا في بحر المشاهدة والعيان ومتوجها الى الله الملك الديان خائضا في لجة بحر الاحدية وسابحا في طمطام يم الوحدانية لم ‌يكن لك ذكر للسوي ولم ‌تعلم لك غير خالقك مبدء ولا منتهى وهو غاية ايجادك وثمرة احداثك واقرب مقاماتك الى ربك واعلى درجاتك في الوصول والاتصال ولم‌ يكن فوقه مقام ولا اعلى منه مطلب ومرام ولما اراد الله اكمالك وتمام احسانه عليك وجميله لديك اراد ان يعرفك خلقه كما عرفك اولا نفسه بنفسك ليريك ملكه وعظمته وسطوته وسلطانه وقهاريته ازديادا لمعرفتك واكمالا لنعمته عليك ويختبرك ايضا في ضمنه لتعرف نفسك انك هل تبقى على العهد من القطع عن السوي او تقطع عن الحق وتشتغل بها وتظهر دنائة طبعك وخسة نفسك على الملأ حيث اعرضت عن ربك بعد ان عرفته وذقت حلاوة محبته مرة بعد اخرى وكرة غب اولى مع ان بقائك في ذلك المقام ينافي الاختيار المطلوب والمرام فامرك بالسفر عن منزلك وموطنك الذي خلقت له لتشاهد الاسماء والصفات في مظاهر التجليات بشرط المراجعة الى الوطن حب الوطن من الايمان

ولما كنت في مقام اعلى ما تنزل الى الاسفل الا متدرجا من الاشرف الى الاسفل وكانت المراتب حسب اقتضاءات الاسباب مترتبة كثيرة لكنها تجمعها ثلثة ( ثلث خ‌ل ) مراتب وعوالم كان اول نزولك الى عالم الجبروت اول حجاب اللاهوت من الدرة البيضاء الصافية ومكثت في هذا العالم مدة طويلة ولا يبعد ان يقال الف دهر وكل دهر مائة ‌الف ( الف خ‌ل ) سنة وآنست باهل ذلك العالم وعرفت اطوارهم واحوالهم وشاهدت عظمة الحق وجلالته فيهم بحيث قد غشيهم نور الرحمة وجوههم مبيضة قائمون لعبادة معبودهم يسبحون له بالليل والنهار لا يفترون وهو عالم وسيع بعيد المنال لقربه من العالم الاول عالم اللانهاية عالم الانوار وعلومهم الاسرار وكلها ( وكل واحد منها خ‌ل ) باب ينفتح منه الف باب وقد اخذت منهم علوما جمة واسرارا غريبة ومطالب كلية بقدر ما عندك من الاستعداد وما في قلمك من المداد باذن الله رب العباد ( العالمين خ‌ل ) واودعها الله سبحانه في خزانة قلبك وسد بابه وجعل مفتاحه بيد الملائكة العالين الذين هم على ملائكة الحجب وبقي المفتاح عند ميكائيل وعلى كل باب من ابواب بيوت قلبك ملك من جنود ميكائيل ولما كان التكليف علة الايجاد وهو مساوق للانوجاد والداعي في كل العوالم هو رسول الله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله لانه من النذر الاولي وكان علمه ما انزله اليه في القرآن ولقد اوحينا اليك روحا من امرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان بعث الله سبحانه وتعالى رسوله اليك مع اهل ذلك العالم بشيرا ونذيرا فقال لكم عن الله تبارك وتعالى الست بربكم ومحمد صلى الله عليه وآله نبيكم وعلي عليه السلام وليكم والائمة من ولده الاحد عشر ( الاحدي ‌عشر من ولده وفاطمة الصديقة خ‌ل ) اوليائكم وقرء عليكم القرآن وعرفكم ما فيه من الحلال والحرام فاجبتم داعي ربكم بقلوبكم وسرائركم واختلفتم في بواطنكم وبقي ظاهركم على الاجابة كان الناس امة واحدة فعرفتم بواطن القرآن حيث قرء عليكم داعي الرحمن عليه سلام الله الملك ( الملك الديان خ‌ل ) المنان وبقي كغيره مخزونا في قلوبكم مستورا في سرائركم وهي لعمري علوم يقينية لا شك فيها ولا ريب يعتريها

ثم سافرت من ذلك العالم الى الملكوت حجاب الجبروت الزمردة الخضراء وعبرت في طريقك عن عالم الاظلة ورق الآس وعرفت ما فيه من العجايب والغرايب واتيت سايرا الى الحجاب الاخضر ومكثت في هذا العالم مدة طويلة بالمدة الذي ( التي خ‌ل ) ذكرنا الا ان هناك اوسع واعظم وانست باهل ذلك العالم وعرفت احوالهم واطوارهم ( اطوارهم واحوالهم خ‌ل ) ولغتهم وشاهدت عظمة الحق سبحانه فيهم لكنهم لما بعدوا عن العالم الاول تجلي الرب تكاسلوا عن الطاعة وطلبوا الراحة ومضطجعون على القفا كانه ( كأنهم خ‌ل ) ما لهم ميل الى الطاعة والزلفى وعلومهم القشور والظواهر وما يتحملون الاسرار والبواطن حين كانوا في ذلك العالم وكلها امور جزئية تحجب عن مشاهدة العلوم والمطالب الكلية الا انها لطيفة صافية وقد اخذت منهم علومهم حسب مقامك ومقدار حاجتك ومرامك باذن الله تعالى ربك واودعها الله سبحانه في خزانة صدرك وجعل مفتاحه ( مفتاحها خ‌ل ) عند اسرافيل او ( وخ‌ل ) عزرائيل وينزل منهم الى سيمون وزيتون وشمعون وعلى كل باب من ابواب ذلك البيت ملك من جنود هذه الثلثة مفتاحه بيده منتظرا لامر الله ومترقبا لحكمه ولما بعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليهم وقرأ القرآن وقال لهم عن ربهم الست بربكم ومحمد نبيكم وعلي والائمة من ولده الاحد عشر وفاطمة عليه وعليهم وعليها السلام اوليائكم وائمتكم فاقر من اقر وانكر من انكر ولزمتهم الحجة بذلك فخلق من خلق من طينة العليين وخلق من خلق من طينة السجين لكن كلا الفريقين عندهم من العلوم ثلثة ( الثلثة خ‌ل ) انحاء علم ربهم وصانعهم ومعبودهم وعلم العالم الاول هو العلم بكيفية العبادة والقيام بخدمة معبودهم والعمل بخدمته وعلم العالم الثاني هو العلم باحوال الخلق بعضهم مع بعض وكيفية السلوك بينهم ومداراهم ( مدار امورهم خ‌ل ) ومعاشرتهم وما يترتب بذلك فالعلم الاول هو المخزون في فؤادك اعلى مشاعرك وهو مفتاحه عند الله سبحانه لا يطلع عليه غيره وهو علم الحقيقة لاصحاب دليل الحكمة والعلم الثاني هو المخزون في قلبك ومفتاحه عند ميكائيل وجنوده وهو علم الطريقة وهو الفريضة العادلة والعلم الثالث مخزون في صدرك ومفتاحه عند اسرافيل او ( وخ‌ل ) عزرائيل وجنوده ( جنودهما خ‌ل ) الملئكة الثلاثة وجنودهم وهو علم الشريعة وهو السنة القائمة ودليله ( دليل خ‌ل ) المجادلة بالتي هي احسن فلما حصلت العلوم الثلثة التي هي احوال المبدء والمعاد من اول كونه الى نهاية اجله الى نهاية اكواره وادواره واطواره واستقرت في الخزائن المذكورة وتم به ( هذا خ‌ل ) الصوغ الاول انزلك الله سبحانه بلطيف حكمته ومقتضى ما ذكرنا من الاسباب واجرائها على المسببات برحمته وجوده الى عالم الاجسام ومقام النقش والارتسام البحر المواج المتلاطم مظلم ( المظلم خ‌ل ) كالليل الدامس كثيرة ( كثير خ‌ل ) الحيات والحيتان ولكنك في سيرك قد مررت على عشرين مقاما وبقيت عنده الى ما شاء الله وعلمت ما فيها من الآيات والحكم والمصالح الى ان انتهيت الى العناصر وتصادمت فيك الطبايع الاربع واضمحلت بعضها في الآخر ( الاخرى خ‌ل ) وكان هذا آخر منزل من منازل سفرك

ثم نوديت بالرجوع الى ربك فصعدت الى ان استجننت في النبات واجريت في الغذاء الى ان خلصت ( حصلت خ‌ل ) من ثفل الكيلوس وتعفين الكيموس واخرجت الى بطن الام وقدرت نطفتك بالتقدير المعلوم واجريت فيك الرياح الاربعة بامر الملئكة الاربعة الدبور والجنوب والصبا والشمال وقدر فيك القوى الاربعة من الجاذبة والهاضمة والدافعة والماسكة الى ان وصلت الى اول ظهور اجزاء ( آخر خ‌ل ) العوالم الثلثة المتقدمة فقويت اي في سيرك شيئا فشيئا الى ان نزلت هذه الدنيا الدنية فنسيت ما سبق عليك من الاحوال والاوضاع وما علمت وما تعلمت من تلك العوالم من العلوم والمعارف والاسرار والحقايق والانوار اما من جهة المخالطة والاعراض ( مخالطة الاعراض خ‌ل ) والغرايب المفسدة المصحوبة في سفرك في عالم الاجسام او من جهة زجر الملك في بطن الام او من جهة عدم التفاتك الى مراتبك او من جهة الحكمة في انسائك اياها لتتم به ( بها خ‌ل ) معيشتك في حال رضاعك وفطمك وصباك الى ان تصل حد المراهقة فعند ذلك في الاغلب تصل الى المنزل الثاني في وسط الطريق فاذا وصلت الى هذا المقام بعث الله انبياء ورسلا يدعونك الى العهد الاول الذي قد عهدت في العالم الاول ان لا تنظر الى الغير ولا تلتفت الى السوي فارجع الى كما ذهبت عني فاسر باهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم احد وامضوا حيث تؤمرون فان اجبته باجابته داعيه ( باجابة داعية خ‌ل ) قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وقطعت نظرك عن كل ما سواه و( اي خ‌ل ) اخلصت قلبك عن كل ما عداه ( سواه خ‌ل ) وسلكت سبيله ذللا يخرج من بطن قواك ( اقوالك خ‌ل ) ومشاعرك وادراكاتك شرابا مختلفا الوانه من العلوم الحقة ( الحقية خ‌ل ) الصورية في مقام الصدر والمعاني الحقيقة ( المعاني الحقية الحقيقية خ‌ل ) اليقينية في مقام القلب والمعرفة الكاملة والمحبة التامة في مقام الفؤاد فيه شفاء للناس من امراض جهلهم وداء باطنهم وهدى ورحمة ونور ( نورا خ‌ل ) لقوم يعلمون ( يؤمنون خ‌ل ) لانه سبحانه وتعالى يملكك الخزائن كلها ويعطي بيدك مفتاحها ( مفاتيحها خ‌ل ) ويخاطبك هذا عطاؤنا فامنن او امسك بغير حساب وهو معنى ما قال سيدالشهداء على جده وابيه وامه واخيه وعليه وبنيه آلاف التحية والثنا الهي امرتني بالرجوع الى الآثار فارجعني اليها بكسوة الانوار وهداية الاستبصار حتى ارجع اليك منها كما دخلت اليك منها مصون السر عن النظر اليها ومرفوع الهمة عن الاعتماد عليها انك على كل شيء قدير فاذا تكاسلت عن الاجابة ووفاء العهد المعهود المأخوذ بالالتفات الى نفسك والنظر الى الفاني الزائل فتبعد عن الله سبحانه فبقدر بعدك تحرم عن ( من خ‌ل ) العلم الحقيقي لان خزائنه بيده وبعدك يصير سببا لعدم استيهالك وقابليتك لان يسلم بيدك المفتاح فان اعرض الغافل عن حظه عن الحق سبحانه اعراضا كليا فهو بعيد لا يفتح لهم الابواب ابواب العلوم وقد يفتح في بعض المواضع اتماما للحجة على جهة الاستدراج وهو قوله تعالى سنستدرجهم من حيث لا يعلمون

ولما كان لكل حق ظل مقابل وباطل مماثل وكان بازاء العلوم الثلثة في الخزائن العلوية في الخزائن السفلية من الباطل والسوء ويشبه الحق وليس بحق وبازاء الملئكة الموكلين شياطين على تلك الخزينة فالخزينة السوءي السفلى في مقابلة الاعلى في تحت الثرى ( الثرى وخ‌ل ) فيها من احكام الانكار وتلبيس الباطل على الحق بقدر ما في الاولى الاعلى من المعرفة والمحبة واظهار الحق والخزينة السوءي السفلى في مقابلة الثانية في الثرى وفيها من احكام الشكوك والظنون والوساوس بقدر ما في مقابلها من اليقين ومفتاحها بيد الجهل والخزينة السوءي السفلى في مقابلة الثالثة الاعلى في الطمطام او جهنم وتمتد الى الارض الثانية ارض العادات ومفتاحها بيد الشياطين الثلاثة ولا منزلة بين الحق والباطل فماذا بعد الحق الا الضلال فاذا اعرض عن الحق لا بد ان يميل الى الباطل فاذا مال اليه واستقر ميله واستمر وعمل بمقتضاه وقلل الاكل والشرب وساير المقتضيات اتصل باولئك الشياطين على مقتضى عمله فمنهم من يتصل بشياطين الارض الثانية ومنهم من يتنزل ( ينزل خ‌ل ) عنهم الى الطمطام جهنم وبئس المصير ومنهم من يتنزل ( ينزل خ‌ل ) الى تحت الثرى وهؤلاء سيما الآخرين منهم لا خير فيهم ظلمة محضة تجري عليهم احكام الانكار والكفر لا يرغبون الى الخير ابدا ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا ابصرنا وسمعنا وهؤلاء مثل فرق اهل الضلال من الكفار ( الكفر خ‌ل ) والجمهور ( الجحود خ‌ل ) والصوفية منهم تريهم يتكلمون بالاسرار والحقايق ويفعلون خوارق العادات كل ذلك سراب يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم ‌يجده شيئا ووجد الله عنده فوفيه حسابه والله سريع الحساب وهم الذين ضل سعيهم في الحيوة الدنيا و ( وهم خ‌ل ) يحسبون انهم يحسنون صنعا واما اذا مال الى الباطل ميلا كليا واعرض عن الحق اعراضا حقيقيا لكنه لم‌ يعمل ما يقتضي اتصاله بالشياطين وهذا بقي حمارا لا يعرف شيئا الا ما اكتسبه ببعض الكسب من الامور الصناعية اجراء للمسببات ( المسببات خ‌ل ) على نهج الاسباب مثل حكام اهل الباطل وخلفاء الجور وقد يتوسط بين الامرين مع الميل الكلي الى الباطل وهو مثل علمائهم وقضاتهم وهؤلاء على اقسام مختلفة حسب قربهم الى مبدئهم من الجهل الكلي وبعدهم عنه وقد يكتسب البعيد من احكام الباطل المنطبع في اسفل السافلين بالكسب وهو لا يفتح له الا بعض الابواب الجزئية من تلك الخزينة السوءي كاكثر قضاتهم وعلمائهم اذ ليس لهم يد طولى وباع طويل في باطلهم بخلاف المتشبثين باذيال الشياطين والمتمردين فان لهم باعا طويلا في باطلهم ولتشابه الحق يرى الجاهل بالامر انهم على شيء الا انهم يمارون في الساعة وانهم لفي ضلال بعيد فمن اطلع على هذيانات ابن‌ عربي في الفتوحات يري صدق ما زبرنا وسطرنا وكذا اماتة العلوم للغزالي وامثالهما كالانسان الكامل الشيطان المضل لعبد الكريم الجيلاني

فاذا عرفت هذه المقامات دركات الهالكين ومقامات الضالين المضلين فاعلم ان في طرق الحق مثل ذلك حرفا بحرف من غير زيادة ونقيصة لانه بعد ما اتاه التكاليف ( التكليف خ‌ل ) بعد البلوغ ان قبل او لم ‌يقبل والثاني ما ذكرنا والاول اما ان رجع ( يرجع خ‌ل ) الى ربه ويمضي الى سبيله ولا يلتفت الى غيره ابدا او يتخذ ( لم‌يتخذ خ‌ل ) الهوى الها في الاعمال البدنية دون الاعتقادات القلبية والاول هو المقتصد بل السابق الى الخيرات الذي يحوم حول ربه لايعرف غيره والثاني فان دام ( داوم خ‌ل ) نظره الى الهوى فهو الظالم لنفسه الذي يحوم حول نفسه فهذا ايضا تنسد اليه ابواب العلم لتدافع النظران اذ له بالعمل حين العمل نظر الى نفسه المجتثة الى اسفل السافلين وبالاعتقاد نظر الى ربه فيتدافعان وان كان النظر الاول اقوى فبقيت الابواب منسدة عليه والعلوم مفتقدة لديه لانه رجع في سيره قهقري فلا تنفتح له الابواب ولا يملك الخزائن والمفاتيح الا بالاقبال الى الله سبحانه والاعراض عما سواه والقيام في خدمة مولاه وقطع النظر عن كل ما عداه وذلك لايكون الا بفعل ما يوصل الى الله سبحانه من الاعمال الراجحة ولا يقتصر على الواجبات ( بالواجبات خ‌ل ) الصرفة فانه لا يوصله الى مقامات العلم والمعرفة ودرجات المحبة الا ان يكون بشرط الانقطاع الكلي فان المستحبات مما يحبها الله سبحانه ويحب صاحبها فلا يترك المحب المنقطع عن نفسه ما يحبه المحبوب فاذا فعل ما يحبه المحبوب

عجبا للمحب كيف ينام كل نوم على المحب حرام

قال الله تعالى في الحديث القدسي يا موسى كذب من زعم انه يحبني واذا جاء الليل نام عني اترى المحب ينام عن محبوبه فالمحب لا يترك ما يحبه المحبوب فاذا فعل ما يحبه المحبوب احبه المحبوب فاذا احبه المحبوب آثره على اعز ما عنده مما يصلح للمحب ولا شيء اعز عند الله سبحانه من العلم لقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله ليس العلم بكثرة التعلم بل هو نور من عند الله يقذفه في قلب من يحب فينفسح فيشاهد الغيب وينشرح فيحتمل البلاء قيل وهل لذلك من علامة يا رسول الله (ص) قال صلى الله عليه وآله التجافي عن دار الغرور والانابة الى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله ه‍ وقال الله تعالى في الحديث القدسي ما زال العبد يتقرب الي بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ان دعاني اجبته وان سألني اعطيته وان سكت عني ابتداته الحديث تأمل في هذا الحديث الشريف تجد ما لا عين رأت ولا اذن سمعت وقال الله تعالى في الحديث القدسي يا ابن آدم اطعني اجعلك مثلي اقول للشيء كن فيكون تقول للشيء كن فيكون انا حي لا اموت وتكون حيا لا تموت الحديث الحيوة ( الحي خ‌ل ) هو الذي لا موت له لقوله تعالى افمن كان ميتا فاحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس وهو العلم والمراد باعطاء العلم هو تمليكك المفتاح على حسب جهدك في العمل ويدل على ذلك ما روي عن اميرالمؤمنين عليه السلام ليس العلم في السماء فينزل اليكم ولا في الارض فيصعد اليكم بل هو مكنون فيكم مخزون في قلوبكم تخلقوا باخلاق الروحانيين ( الروحانيين يظهر لكم والتخلق باخلاق الروحانيين خ‌ل ) هو الذي اشار اليه روحي فداه خلق الانسان ذا نفس ناطقة ان زكيها بالعلم والعمل فقد شابهت اوايل جواهر عللها فاذا فارقت الاضداد فقد شاركت به السبع الشداد ه‍ والاضداد هي التي لحقتك من الاعراض والغرايب حين تنزلك ( تنزلت خ‌ل ) الى هذه الدنيا دار التكليف ومشقة على خلاف مقتضى الهوى ( الهوى وحين خ‌ل ) المعاصي والالتفات الى السوي فان الاغيار يستلزم ( تستلزم خ‌ل ) الاكدار وكيفية مفارقتها ان تذيب نفسك وتحللها بنار الاعمال ثم تعفنها بالتفكر والحضور ثم تقطرها بالعمل مع الاخلاص فهناك يتم لك الاكسير

وشرح ذلك بالعبارة الظاهرة هي انك تقطع بل تشاهد عيانا بانك لا شيء لا تذوت لك في حال من احوالك من حركاتك وسكناتك وخطراتك وبدواتك ولحظاتك وعلومك واعتقاداتك وكلما لك وبك ومنك واليك وفيك ومعك وعنك وعندك ولديك كلها الا بالله ولا حول ولا قوة الا بالله وهذه الدنيا ليست بدار قرار ومحل استقرار ليصح الركون اليها بل هي في كل آن في الزوال والاضمحلال والموت يأتيك في غفلة وهو اقرب اليك من كل شيء وانه يقبضك على ما انت عليه من حال الطاعة والمعصية فيلزمك احكامهما من الحور والقصور او الحية والعقرب وان مآل الاكل والشرب الى اخس ما يكون في الدنيا مما يحصل منهما ويخرج من البطن وكل ما كان الاكل في الظاهر الذي يكون نتنه وخبثه اكثر واشد فاذا تأملت في هذه الامور يحصل لك الاخلاص وان لا تقصد بعملك الا الله سبحانه اذ كل ما سواه باطل فاذا حصل لك الاخلاص فاعمل ولا ترى له شيئا فان عملك نعمة من الله سبحانه لا تستوجب به شيئا من الخير ( الله خ‌ل ) ابدا وانما هو تفضل ( بفضل خ‌ل ) من الله سبحانه عليك ان اعطاك وان منعك فبعدله ( فانك عبد له خ‌ل ) لانك مقصر ولا تستحق ( لا تستحق به خ‌ل ) شيئا فاذا ايست من عملك ورجوت الله سبحانه وعملت لانك عبد والعبد يقتضي ذلك فاقصد في مشيك في سلوكك عند نفسك وعند الناس اما الاول فلا تأكل حتى تجوع فاذا اكلت فلا تشبع ولا تشرب حتى تعطش فاذا شربت فلا ترو ولا تتصور الصور ( بالصور خ‌ل ) الباطلة والخيالات الفاسدة او الامور الماضية او المستقبلة او الآتية التي لا يعنيك ولا يوصلك الى الحق فليكن تصورك في عظمة الله سبحانه وما خلق في بدايع صنعه ولا تهتم ولا تحزن لشيء فاتك فان الامور كلها بيد الله سبحانه انت وذاك ( ذلك خ‌ل ) الذي فات عنك ملك لله ( الله تعالى خ‌ل ) وهو يتصرف في ملكه ما يشاء كما يشاء ولا تفرح بالذي اتاك اذ قد يكون من جهة الاستدراج ولا تحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خيرا لانفسهم انما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب اليم وكذلك العلوم والمعارف ولا تركن الى شيء منها وكن بما عند الله اوثق مما عندك وعند الناس ولا تتكلم الا اذا سئلت او ( وخ‌ل ) ما هو يعينك في امر آخرتك فان المؤمن كلامه ذكر وصمته فكر ونظره اعتبار واقرء القرآن كثيرا بالتدبر والنظرة وانزجر لمواعظه واجعل همك في معرفة القرآن متعلما لا معلما وانظر كتب اخبار اهل البيت عليهم السلام واتبع آثارهم فان من شذ عنهم شذ الى النار لان الحق لهم ومعهم وفيهم ومنهم واليهم وبهم وعندهم واخلص في ولايتهم بان لا تذهب الى عقوقهم وتميل الى كتب الضلال من كتب الحكماء والمتكلمين والصوفية وامثالهم من المغضوب عليهم والضالين قال مولينا امير المؤمنين عليه السلام ذهب من ذهب الينا الى عيون صافية تجري بنور ( بامر خ‌ل ) الله وذهب من ذهب الى غيرنا الى عيون كدرة يفرغ بعضها في بعض وقد قال مولينا الباقر عليه السلام من احبنا وزاد في حبنا واخلص في معرفتنا وسئل مسئلة الا ونفثنا في روعه جوابا لتلك المسئلة ه‍ وهم الصادقون اذا قالوا والموفون بعهدهم اذا عاهدوا سلام الله عليهم ومن الاخلاص في حبهم الطاعة لله سبحانه بالاخلاص واجعل لنفسك في اليوم والليلة ساعة تنظر فيها الى العالم خالي القلب فانه مفتاح العلوم ومنبع الخيرات ولا تمل اذا فكرت ونظرت مرة ومرتين فلم ‌تجد فانك تعاود في النظر مرة بعد اولى وكرة بعد اخرى فانك تجد فضل الله عليك وعلى المؤمنين وتذكر ما سبق منك في العوالم الثلثة المتقدمة وفي مقابلاتها والحاصل اوصيك ان ( انك خ‌ل ) لا تترك النظر والتفكر فانه روح الاعمال والعلوم كلها وكرر النظر وعاود فان من قرع بابا ولج ولج ومن طلب شيئا وجد وجد والله سبحانه ارحم الراحمين واكرم الاكرمين لا يخيب راجيه ولا يحرم آمليه سيما من اراد ان يتعلم لديه

والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وكيفية هذه المجاهدة زايدا على ما ذكرنا ان تجعل همك اولا ان تطلب المعرفة لله ولاخلاص ( الاخلاص في خ‌ل ) العمل له و ( والسلوك الى سبيله ثم لاتلتفت الى الاغراض النفسانية والشهوات الطبعية وخ‌ل ) لا تطلب المراء والجدال وتكثير القيل والقال فان العلم نقطة كثرها الجهال ولا تركن الى قاعدة كلية او ضابطة مقررة مأخوذة عن القوم من غير المعصومين سلام الله عليهم اجمعين من غير ان تزن بميزانهم ولا تأنس الى جماعة وطايفة لتحب نفسك ان يكون الحق معه بل انظر بفطرتك وسجيتك الى الكتاب والسنة وتجعلهما امامك وتأييد الله فوقك والاعتصام بالله عن يمينك والاستعاذة من الشيطان عن يسارك ولتسند ظهرك على حول الله وقوته ثم تنظر اليها نظر المتعلم لا العالم المستقل بان تذري الروايات كذرو الريح الهشيم بان تأخذ وتقبل كل ما يطابق عقلك ويوافق فهمك وتأول كلما يخالف قاعدتك اليها او تطرح كلما تعجز عن التأويل فان ذلك يحجبك عن مرادك ومقصودك لا تنال الى شيء ( ولا تنال شيئا خ‌ل ) ولا تصل الى علم لم ‌يزدد الا في جهلك العياذ بالله بخلاف ما اذا اردت العلم من الله بالنظر الى كلامه وكلام اوليائه متعلما جاهلا ومعتقدا بان الحق انما هو في الكتاب والسنة وكل شيء فيهما وان من شيء الا وفيه كتاب او سنة فحينئذ انت المجاهد في الله سبحانه فيعلمك من اسرار ملكه وملكوته ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر اذ الفياض منزه عن البخل فكلما طلبت منه يعطيك وطريق الطلب كما ذكرنا ان تتوجه اليه وترغب اليه وتطلب ما عنده منه وتعرض عمن سواه واما اذا قلت ذلك بلسانك وقلبك يدور يمينا وشمالا فاذن ماطلبت منه بل هو العياذ بالله نوع استهزاء فسوف يأتيهم انباء ما كانوا به يستهزؤن واما اذا صرت المجاهد في الله والمهاجر اليه فيهديه ( اردت المجاهدة في الله والمهاجرة اليه فيهديك خ‌ل ) البتة سبله اي سبيل سلوكك مع نفسك ومع الناس ومع الله وسبيل التجافي عن دار الغرور وسبيل العلوم الحقة والمعارف الدينية الالهية وسبيل التقوى والزهد والورع والاجتهاد وسبيل السبيل الموصل الى السلسبيل لتكون من اصحاب الرجعة ( الرحيق خ‌ل ) قال الباقر عليه السلام ما معناه ما من مؤمن يؤمن بهذه الآية الا وله ميتة وقتلة وهو قوله تعالى ولئن قتلتم في سبيل الله او متم لالى الله تحشرون بان يعلم ان سبيل الله هو علي عليه السلام والقتل في سبيل الله هو القتل في سبيل علي عليه السلام وسبيل ( سبيل معرفة خ‌ل ) الاحاديث الصعبة المستصعبة على ابوابها ومعانيها وتوحيدها وهذه السبل كلها ترجع الى سبيل واحد فالجمع للفرق والفصل ليعرفه من سبقت له من الله العناية واما الكثيرة فهي سبيل ( كثيرة خ‌ل ) الضلالة فانها لا تنضبط في حد ولا تحصر في عد لان الهوى في كل آن يتجدد ميله قال تعالى وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فافهم واشرب عذبا صافيا هذا مجمل كيفية الصعود الى اعلى مقامات العرفان عن مطمورة الزمان والمكان

واما قولك انه يحصل بهذه العلوم المتداولة بين الناس فهيهات هيهات لا تزيد هذه العلوم الا بعدا ولا تكثر الا قساوة القلب فان شئت ان اشرح لك ذلك فعلت ولكن الحوالة الى الوجدان بلى بعد ملاحظة ما ذكرنا ينفع هذه العلوم فيدرك صافيها ويعرض عن كدرها ولولا العجالة وكثرة الاشغال وتواتر الدواعي لكنت اذكر في ذلك امورا عجيبة غريبة لكنه لا حاجة الى ذلك فان ما ذكرنا كفاية لمن اراد الحق والصواب والحمد لله في المبدء والمآب

قد فرغ من تسويد هذه العجالة مؤلفها يوم الجمعة من العشر الآخر من شهر رجب المرجب في سنة ١٢٣٣

المصادر
المحتوى