
من مصنفات
السيد كاظم بن السيد قاسم الحسيني الرشتي
شركة الغدير للطباعة والنشر المحدودة
البصرة – العراق
شهر جمادي الاولى سنة 1432 هجرية
اما بعد فيقول العبد الفقير الحقير الجاني كاظم ابن قاسم الحسيني الرشتي انه قد سئلني بعض الديانين الخيرين ان اكتب كلمات واضحة الدلالة على ان الجنة والنار باقيتان لا يبليان ولا يفنيان بل الله سبحانه وتعالى يبقيهما ومن فيهما ابد الآبدين ودهر الداهرين من غير انقطاع ولا نهاية وان اهل النار مخلدون فيها ابدا لا يخفف عنهم العذاب الى ما لا نهاية له وذكر سلمه الله ان بعض الناس قد دخلتهم الشبهة فبقوا في هذا الوادي متحيرين زعما منهم بان الله اذا كان قبل كل شيء وبعد كل شيء والشيء على عمومه وكليته بحيث يشمل الجنة والنار فكيف يمكن القول بانهما باقيتان على الدوام فان البعدية ما تتحقق الا بان يعدم الشيء ويبقى الله والا فلم يكن بعدا كما هو المعلوم ثم لو فرضنا الدوام كيف يمكن القول بدوام العذاب للكفار واهل النار مع انهم ماعصوا الا مدة يسيرة وكيف يقابله الحكيم بالعذاب الدايم الغير المتناهي ونحن نجد في انفسنا انا اذا اطلنا تعذيب شخص معاند لنا اذا تسلطنا عليه وقهرناه وعلمنا بانه لا مدفع له بعد عنا فلا شك انا نرفع العذاب عنه ونكتفي بما فعلنا اولا فكيف الحكيم العليم الرؤف الرحيم الذي لا غاية لرحمته ولا نهاية لرأفته وان الرحمة التي فينا نتراحم بها بعضنا بعضا جزء من مائة جزء من رحمة الرحمن كما دلت عليه الاخبار بان الله جعل الرحمة مائة جزء فجعل جزء واحدا في كل الخلق وادخر الباقي فاذا كان يوم القيمة يضيف هذا الجزء الى الباقي فيرحم بها الخلق وهذا ينافي الخلود الدائم اذا كان الجزء الواحد الذي عندنا من الرحمة ما نرضى بالعذاب الابدي فكيف الله سبحانه مع ان رحمته سبقت غضبه وذكر لي ايده الله ان هذه الشبهة وامثالها دخلت على اذهانهم بحيث تحيروا وتوقفوا ولم يجدوا لهم مخلصا فامتثلت امره ابتغاء لوجه الله وطلبا لمرضاته وراجيا لمثوباته عسى الله ان ينفع به المؤمنين ويجعله لنا ذخرا ليوم الدين مع ما انا من اغتشاش البال واختلال الاحوال وتوارد الاشغال المانعة من استقامة الحال والله المستعان في المبدء والمآل
فاقول اعلم ان الناس على قسمين عوام وخواص ولا ثالث لهما فاما العوام فلا يخلو اما انهم دخلوا في الدين على بصيرة ويقين ام لا ومرادي بالبصيرة انهم عرفوا بالوجدان واعتقدوا على الايقان بان لهم ربا عالما قادرا سميعا بصيرا حيا عادلا وانه سبحانه لم يخلق الخلق عبثا ولم يتركهم سدى بل جعل لهم سنة وشريعة يعملون بها لينتظم بها معاشهم ومعادهم وجعل لهم حفظة وحملة وسفراء ووسايط يتلقون الاحكام والسنن والشرايع من ربهم ويؤدونها الى رعيتهم وغنمهم وهم الانبياء وان الانبياء لا بد ان يكونوا مخصوصين من الله سبحانه بآيات بينات يقطع العقل بانهم من عند الله سبحانه وتعالى ويكون ذلك مقرونا بالتحدي وان نبينا وسيدنا ومولينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم صلى الله عليه وآله نبي حق قد اتى بالآية البينة بل الآيات البينات المحكمات بحيث يقطع العاقل بانه ليس بساحر ولا كذاب وان الله سبحانه لطفا منه وكرما قد ايده بكتاب منزل فيه تبيان كل شيء وخبر من مضى ومن بقى الى يوم القيمة فاذا عرف هذا المقدار بصحيح الاعتبار لزمه ان يأخذ بقول نبيه ويصدق بما اخبر به عن ربه وكذا يصدق ويقر بكل ما هو في كتابه الذي اتى به عن ربه وان لم يعرف حقيقة ذلك وماهيته لان العامي ليس عنده من العلم شيء فلا يمكنه اذا صح له شيء عن نبيه صلى الله عليه وآله الذي جاء به من عند ربه ان يرده او يتوقف فيه او يسئل عن كمه وكيفه فان كل ذلك رد على الله ودعوى العلم والمعرفة مع انه قد فرضنا خلاف ذلك ولو سلمنا ان عنده علما لكنه اني يبلغ علمه عن علم الله سبحانه او علم نبي الله صلى الله عليه وآله فاذا اخبره النبي صلى الله عليه وآله عن حكم مسئلة من احوال الدنيا والآخرة يجب عليه التسليم والتصديق ولا يقول ان ذلك لا يطابق عقلي ولا يوافق فهمي فان فهمه قليل وعقله عليل فيتهم نفسه ويتهم فهمه ويجهل علمه ويقبل ذلك على رغم انفه من غير ان يجد في نفسه اضطرابا ولا في قلبه اغتشاشا والا كان رادا على الله سبحانه مدعيا تساوي علمه مع علم النبي عليه السلم وما اوتيتم من العلم الا قليلا وقد قال سبحانه تصريحا بما ذكرنا في قوله الحق فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما وهذا الذي قلنا اذا قطع وعلم علما قطعيا ثابتا على ان هذا قول نبيه صلى الله عليه وآله والا فلا وهذا القطع يحصل بامور كثيرة منها وهو اعظمها واعلاها ان يتفق امته (ص) على شيء بالاستناد اليه صلى الله عليه وآله بمعني ان كلهم متفقون ( متفقين خل ) على ان نبيهم هكذا قال لا انهم يجتمعون بمجرد الاجتماع فان ذلك باطل الا بشرايط واما اذا اتفق كلهم مع الآراء المختلفة والعقول المتباينة على ان هذا هو قول سيدهم ونبيهم فلا يسعهم العذر الا القبول والا كانوا ( لكانوا خل ) رادين عليه والراد عليه هو الراد على الله والراد على الله على حد الشرك بالله قال الله عز وجل ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا واذا لم يحصل هذا الاتفاق الكاشف فآية من كتاب الله اذا كانت ناصة ما يختلفون في المعنى المراد منها او لا يحتمل الخلاف لغة فذلك ايضا يقوم مقام الاجماع والاتفاق ومخالف الآية بعد ظهور الحجة كافر خارج عن ربقة الاسلام وليس عدم فهمه دليلا على الانكار لانه ما اوتي من العلم الا قليلا هذا حال العامي الذي دخل في الدين على بصيرة ويقين واما الذي لم يدخل هكذا فالواجب عليه ان يحصل لنفسه اولا دينا ثم يبتني مسائله واحكامه على تلك الطريقة وذلك الدين واما الخواص فهم ( وهم خل ) الذين عرفوا الاسرار وفهموا بواطن الاخبار والآثار فهؤلاء ايضا فرضهم ان لا يخرجوا عما استقر عليه المذهب وعما اتفقت عليه عقول اهل ملته بشرط خلوصهم عن شوب المعاندة فان عرفوا باطنا يوافق ظاهر ما عليه عامة المسلمين والمؤمنين في مراتبهم ودرجاتهم فهو حق والا فباطل لان صاحب الشريعة حين اقرهم على ذلك ما غشهم وما اغريهم على الباطل حاشا وكلا ولذا ( قد خل ) قال مولينا الصادق عليه السلم ان قوما آمنوا بالظاهر وكفروا بالباطن فلم ينفعهم ايمانهم شيئا وان قوما كفروا بالظاهر وآمنوا بالباطن فلم ينفعهم ايمانهم شيئا ولا ايمان ظاهرا الا بباطن فاذا عرفت هذه المقدمة فاعلم انه لا شك لاحد من المسلمين مع اختلافهم في المذاهب والفرق بل كل الفرق من غير المسلمين ايضا ان الله عز وجل خلق الخلق وكلفهم ولا شك ان التكليف لا بد له من غاية وثمرة ولا شك ان الثمرة ماظهرت في هذه الدنيا بل ربما قد عكست النتيجة حتى ورد في الاخبار ان الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وقال تعالى وما الحيوة الدنيا الا متاع الغرور وقال انما الحيوة الدنيا لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث اعجب الكفار نباته ثم يهيج فتريه مصفرا ثم يجعله حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة وقال ايضا ولولا ان يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون وهذا امر واضح بديهي اتفاقي لا يحتاج الى البيان فيجب ان يكون في الآخرة داران لتحصيل الثمرة فان الدنيا مزرعة الآخرة احديهما ( احدهما خل ) دار رضاه وثانيهما دار سخطه فالاول هو الجنة والثاني هو النار واتفقوا على وجودهما وانهما موجودان في القيمة الا ان كثيرا من المخالفين قالوا انهما يوجدان بعد ذلك تدريجا الى يوم القيمة لكن اجماع اهل البيت عليهم السلم والفرقة المحقة باجمعهم على ان الجنة والنار الآن موجودان من غير تغيير وتبديل قال الله عز وجل ويستعجلونك بالعذاب وان جهنم لمحيطة بالكافرين وقال ايضا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين وقال ايضا وما كانوا عنها بغائبين وهذا لا اشكال فيه ولا ريب يعتريه والفرقة المحقة مجمعة عليه والقرآن يشهد بتصديقهم فبعد اتفاق الفرقة وشهادة القرآن يجب التصديق والتسليم والا لزمهم الخروج عن الاسلام ثم ان هذه الفرقة المحقة بل كل المسلمين وغيرهم ايضا من ساير الملل والنحل مطبقون مجمعون على انهما لا نفاد لهما ولا انقطاع وان في القيمة يؤتى بالموت على صورة كبش املح ويذبح بين الجنة والنار فيفنى الموت ويبقى ( تبقى خل ) الحيوة ويفنى العدم ويبقى الوجود بحيث لا موت بعده ولا خراب دونه فيقال لاهل الجنة لكم الخلود الدائم ولاهل النار لكم الخلود الدائم فما من انقطاع ولا زوال كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ولهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد ولا شك ان الموت ما يشاءه احد في الجنة وبعد هذا الاجماع الكاشف الضروري عن قول النبي صلى الله عليه وآله ببقاء الجنة والنار دلت الآيات المحكمة والنصوص المتقنة على ذلك وهي لا تحصى في القرآن وفي الادعية والاخبار كقوله عز وجل اكلها دائم وظلها وقوله عز وجل تؤتي اكلها كل حين باذن ربها وقوله عز وجل ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين فيها لا يبغون عنها حولا ولا يتصور الخلود بفناء الدار والآيات في هذا المعنى كثيرة من قرء القرآن بالتدبر والنظر وجدها وكذلك النار ايضا لقوله عز وجل خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون وقوله عز وجل اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون وقوله عز وجل لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف من عذابها وامثالها من الآيات الكثيرة وهذا ايضا مما لا اشكال فيه لدلالة القرآن الكريم على ذلك واتفاق حملة القرآن عليه فكان محكما ثابتا يجب التصديق والتسليم والقول به لانه اخبار النبي صلى الله عليه وآله عن الله عز وجل وهو يصدق والرد عليه كفر بالله والتوقف بعد ظهور الدليل القاطع علامة الرد وحمل الخلود ايضا على المكث الطويل باطل لانه مجاز يحتاج الى دليل آخر ولم يقم مع ان القرآن قد نزل على لسان قومه والقوم كلهم متفقون على بقائهما ودوامهما وعدم بيودهما ودثورهما ولذا قال مولينا الكاظم عليه السلم امور الاديان امران امر لا اختلاف فيه وامر فيه اختلاف فما ثبت لمنتحليه من كتاب مجمع على تأويله او سنة عن النبي صلى الله عليه وآله لا اختلاف فيها او قياس تعرف العقول عدله ضاق لمن استوضح تلك الحجة الرد اليه والتسليم له الحديث فاذا كانت الامة سيما الفرقة الناجية منهم مجمعة على مضمون الكتاب وجب العمل عليه ولا يجوز رده وان كان مخالفا لادراكه وعقله وفهمه لان عقله ضعيف وادراكه قليل ومقام التسليم مقام عدم الادراك وان كان مخالفا لبعض الظواهر الاخر من الآيات والروايات لانها متشابهات يرد حكمها الى المحكم قال الله عز وجل في محكم كتابه هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن ام الكتاب واخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم والمحكم هو الذي يفهم تفسيره من نفسه او بواسطة اتفاق اهل اللسان عليه وتوفر القرائن الدالة على صحته وارادته فيجعل ما هذا شأنه اصلا فالمتشابهات التي تخالفه في الظاهر امتحانا للقرايح واستنطاقا للطبايع تحمل عليه وترد اليه فيجب ( فوجب خل ) ان يحمل خلود الجنة والنار وبقاؤهما ودوامهما اصلا ومحكما ويحمل عليه ما بظاهره ينافيه ان قدر على ذلك والا فيذره في سنبله ويرد علمه الى اهله اذ ما لا يعرف من الامور كثير وما لا يدرك من جل الشكوك والشبهات ومعرفة المقامات غير عزيز فليكن هذا من ذلك لا انه يجعل المنافي معارضا فيشك في المحكم ويتحير فيه الا ترى انه قد اتفقت الفرقة المحقة وطابقها العقل والنقل ومحكم القرآن كقوله تعالى ليس كمثله شيء وغيره ان الله سبحانه منزه عن الجوارح والاعضا والمكان والزمان والرؤية فاذا نظرنا الى قوله عز وجل يد الله فوق ايديهم والرحمن على العرش استوى ومن كان يرجو لقاء ربه ووجوه يومئذ ناضرة الى ربها ناظرة ما نشك ( ما نشكك خل ) في ذلك الاصل المحكم الذي عندنا من تنزيه الحق سبحانه عن هذه الاشياء ولا نتوقف ولا نتحير بل نقطع قطعا ثابتا بان هذه الآيات لها معاني لا تنافي الآيات المحكمة والتي ثبتت ( ثبت خل ) بالعقل والنقل تحقيقه وتصديقه وان لم نعرف تأويل ذلك ووجه عدم المنافات وهذا الذي ذكرنا اصل اصيل وقاعدة كلية للعامي بل للعالم ايضا في معرفة الاشياء وعدم التزلزل والثبات فمن اخذ به فاز النصيب من المعلي والرقيب
واما ما استشكلوا في ذلك وتحيروا لذلك من حديث القبلية والبعدية وان الله اذا كان قبل كل شيء وبعد كل شيء يجب ان ينقطع ما سوى الله فيلزم من ذلك انقطاع الجنة والنار فشبهة دخلت عليهم من جهة عدم معرفتهم لمعنى القبلية والبعدية ويتصورون ان المراد بالقبلية والبعدية الزمانيتان لتكون القبلية مغايرة للبعدية ويكون القبل بالاضافة الى مبدء ( المبدء خل ) شيء والبعد بالاضافة الى نهايته ونعوذ بالله من هذا الاعتقاد السخيف اذ لو كانت القبلية في الله سبحانه وتعالى غير بعديته لاختلفت حالتاه ومختلف الحالة حادث لانه متغير والمتغير لا يصلح لان يكون قديما لانه محتاج الى مغير اذ الشيء لا يغير نفسه والمحتاج لا يكون غنيا فتبطل اذن ازليته ولذا قال مولينا امير المؤمنين عليه السلم لم يسبق له حال حالا ليكون اولا قبل ان يكون آخرا ويكون ظاهرا قبل ان يكون باطنا فاذا بطل ان يكون لله سبحانه حالتان فتكون اوليته عين آخريته وقبليته عين بعديته هو سبحانه قبل الاشياء بعين كونه بعدها كما تقول انه عالم بعين كونه قادرا وسميعا بعين كونه بصيرا وبصيرا بعين كونه عليما وعلى هذا القياس والمراد بهذه القبلية والبعدية احاطته سبحانه فيما لا يتناهى احاطة ازلية بحيث تكون الاشياء كلها منقطعة عنده هالكة لديه كما قال عز وجل كل شيء هالك الا وجهه فاذا تحقق هلاك الاشياء في كل حال بدليل قوله هالك وعدم قوله سيهلك فصارت كالعدم عنده فهو قبلها حين كونه بعدها من غير لزوم تحقق نسبة في ذاته تعالى لم تكن قبلها تعالى ربي عن ذلك علوا كبيرا فانه صفة الامكان فلا يوصف الواجب سبحانه وتعالى به وهذه القبلية والبعدية لا تتنافيان ( لا تنافيان خل ) وجود الاشياء فان الاشياء كلها حاضرة في ملكه بعد ما خلقها ناطقة بثناء مجده فقيرة محتاجة اليه ومنقطعة لديه وهذا الانقطاع ليس انقطاع عدم بل انقطاع استمداد كالكلام بالنسبة الى المتكلم فانه في بقائه وتقومه دائما يحتاج الى احداث المتكلم اياه واصداره له فهو دائما هالك والمتكلم يقومه ويبقيه وهو بعد الكلام وقبله بمعنى انه محيط بكل احواله ووجوده وكينونته وساير عوارضه وشئونه وهذا هو المراد بالقبلية والبعدية وليس المراد منهما ما يفهمه العوام من التحديد فان ذلك كفر بالله العلي العظيم وانكار لازليته تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وانما كررت العبارة لاجل الوضوح والبيان فانها في الجملة بعيدة عن الافهام
فثبت ان ما اتفق عليه المسلمون من بقاء الجنة والنار ودوامهما واستمرارهما ثابت محقق لا يعارضه ولا ينافيه امر من الامور وبقي سالما عن جميع المعارضات وان اردت الدليل العقلي على هذا المعنى فاعلم ان فيض الله سبحانه لا ينقطع اذ انقطاع الفيض من غير موجب وسبب يكون عبثا والعبث لا يجوز على الله سبحانه وهو حكيم والحكيم لا يفعل عبثا ويلزم البخل ايضا ولذا لما سئل الحكيم عن ذلك وقيل له هل ربك حكيم ام لا قال بلى قال امن الحكمة ان يخلق الخلق ثم يعدمهم قال الحكيم انما كسرهم ليصيغهم صيغة لا تحتمل الكسر انتهى وهذا الموت كسر وهدم لهذه البنية حتى يخلقها سبحانه خلقا اقوى واشد لتقوى على البقاء الدائم فان هذه البنية كانت مشوبة بالاعراض والغرايب ما تحتمل الدوام الابدي فاذابها الله سبحانه وكسرها وجعلها في الارض كأن لم يكن حتى تذهب عنها الاعراض والغرايب حتى تخلص وتصفى وتحتمل البقاء والدوام وبالجملة ان الله سبحانه من على الخلق بالوجود بفضله وكرمه وحباهم هذه العطية قبل استحقاقهم برأفته ورحمته ( برحمته ورأفته خل ) ومقتضى ذلك ان يثبت هذا الوجود ابقاء لعطيته اذ لا يناسب مقام الربوبية ان يعطي تفضلا ومنا ثم يأخذ العطية من غير داع وسبب ان قلت ان الداعي اظهار القهارية والتسلط قلت ان ذلك قد حصل بالموت مع ان هذه القهارية تظهر في كل حال لاضمحلال الخلق واحتياجهم في جميع احوالهم واعمالهم سيما في القيمة اذ الاسباب الظاهرية المعروفة الآن كلها تنقطع هناك ويخلص الملك والامر في الظهور لله الواحد القهار والغلبة والقهر مع الوجود ادل واثبت من العدم اذ العدم لا يترتب عليه شيء حتى يري قهر الله وغلبته وهذا ان شاء الله ظاهر معلوم
ان قلت ان ما ذكرت يدل على وجود الجنة وبقائها ولا يدل على وجود النار وبقائها واستمرارها قلت ان الحكم واحد لان الله سبحانه لما افاض الوجود وبسط الكرم والجود انقسم هذا الوجود بالقابلية المختارة عند وجودها فالوجود على قسمين لان الوجود مادة صالحة لكل موجود فما تحدد منه بحدود الاقبال والطاعة وتصور بصورة العمل والاجابة كان جنة ونعيما وما تحدد بحدود الاعراض والانكار والمخالفة وتصور بصورة الكسالة والادبار كان عذابا اليما فالوجود الذي هو فيض الله سبحانه في المقامين واحد كالمطر كما قال الشاعر :
ارى الاحسان عند الحر دينا وعند النذل منقصة وذما
كقطر الماء في الاصداف درو في بطن الافاعي صار سما
فقوام الامرين بالوجود الذي هو فيض الله سبحانه ومنته فلو اخذ الوجود انعدم الامران كما انه لو قابلتك مرايا متعددة مختلفة في الاستقامة والاعوجاج والاحمرار والاصفرار وانت نظرت نظرا واحدا اليها تحكي هذه المرايا كلها مقدار ما عندها فبعضها تظهر ( ما تظهر خل ) الصورة فيها عوجاء وبعضها حمراء والاخرى صفراء والاخرى بيضاء مع ان وجهك واحد وظهورك ومقابلتك التي هي فيضك واحدة فان اعرضت عن المقابلة تبطل الصور كلها مستقيمة كانت ام معوجة صحيحة كانت ام مضطربة باطلة فابقاء الفيض يستلزم ابقاء الجنة والنار فافهم ضرب المثل اعانك الله على التقوى
واما سر تحقق القابلية ووجدان الحدين حد الايمان والكفر وحد الطاعة والمعصية وكيفية تحديد الوجود بهذه الحدود فبيانه يطول الكلام مع انه من اسرار القدر الذي قال امير المؤمنين عليه السلم بحر عميق فلا تلجه وسر الله فلا تهتكه وطريق مظلم فلا تسلكه وليس بيانه ايضا مقصودا في هذا المقام فان المراد في هذا المقام نفس وجود الحدين وتحقق الصورتين ولا شك انهما موجودتان ولا يشك فيه انسان والمادة التي هي الوجود فيهما واحدة فلو اخذ الوجود لعدم الامران كما انه اذا لم يكن الماء على وجه الارض لم ينبت شيء لا الحنظل ولا السكر فاذا وجد الماء واجتمعت وتمت الشرايط الحنظلية لا يجوز على الله في الحكمة ان يمنعها لانه يستلزم الجبر وخلاف الحكمة ومنع المستحق عطيته والله اجل عن ذلك فثبت بالعقل والكتاب والسنة والاجماع ان الجنة والنار الآن موجودتان وانهما باقيتان الى الابد الى ما لا نهاية له وان حديث الله قبل كل شيء وبعد كل شيء لا ينافي ذلك فتبصر رحمك الله
واما قولهم في امر الخلود والتعذيب فاعلم ان اجماع المسلمين قد انعقد على ان الكفار والاشرار والمنافقين مخلدون في النار ودلت عليه الآيات الكثيرة من القرآن واحاديث امناء الرحمن عليهم سلام الله الملك الديان كما تقدمت الاشارة الى بعض الآيات وهذا لا اشكال فيه ولا ريب يعتريه ولا احد يختلف في ذلك وانما خالف شاذ من الملاحدة في هذه الامة وقالوا بان العذاب يرتفع عن الكفار في النار بعد ما مضى احقابا واستدلوا في ذلك بمثل ما نقل في اول الرسالة من ان الله عز وجل رؤف رحيم ( رؤف بالعباد خل ) الى آخر ما نقلنا عنهم ومن قوله عليه السلم حكاية عن الله سبقت رحمتي غضبي وقوله تعالى خالدين فيها ما دامت السموات والارض الا ما شاء ربك وقوله صلى الله عليه وآله برواية ابن مسعود بطرق المخالفين سيأتي زمان على جهنم ينبت في قعرها الجرجير ويكون بردا وسلاما عليهم وامثال ذلك من الامور الواهية التي هي اوهن من بيت العنكبوت وانا اقول انه قد جاء في الخبر عن سيد البشر صلى الله عليه وآله على ما رواه المخالف والمؤالف انه صلى الله عليه وآله قال كلما كان في الامم الماضية والقرون السالفة يكون في هذه الامة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة حتى انهم لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه انتهى وقال تعالى لتركبن طبقا عن طبق واليهود في تلك الامة قد قالوا بانقطاع العذاب وانه يؤل امرهم الى النعيم كما اخبر الله سبحانه عنهم بقوله تعالى وقالوا لن تمسنا النار الا اياما معدودة ثم كذبهم سبحانه وقال قل اتخذتم عند الله عهدا ام تقولون على الله ما لا تعلمون وقال الذين لا يؤمنون في هذه الامة مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون حيث قال سبحانه في محكم آياته اخبارا عن اهل النار خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون وقال ايضا سبحانه وتعالى لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها وكذلك كانوا يؤفكون وقال ايضا سبحانه وتعالى كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب وكذا الآيات الاخر والروايات في هذا المقام لا تحصى واذا قال الله سبحانه واخبر وحكم بانهم مخلدون لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها وقالت الفرقة المحقة ونطقت آثار اهل بيت النبوة فكيف يمكن التوقف ورد كلام الله سبحانه هل جعل الله سبحانه دينا ناقصا استعان بآرائهم وعقولهم المغيرة المنكرة لاتمامها وهل يوجد حق والله سبحانه مصرح بخلافه ولم ينصب قرينة لنفيه او هل يرد المحكم ويؤخذ المتشابه اذ ليس في كلام الله سبحانه ما يشير الى ما يقولون الا قوله تعالى واما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والارض الا ما شاء ربك وهذا ليس صريحا في مدعاهم والاشارة اليه لان هذه النار التي فيها ما دامت السموات والارض هي نار الدنيا لا نار الآخرة كما اخبر الحق سبحانه عنها بقوله الحق النار يعرضون عليها غدوا وعشيا وحين تقوم الساعة ولا شك ان الآخرة لا في جنتها ولا في نارها غدو ولا عشي فصح ان ذلك هو نار الدنيا وهذه باقية ما دامت السموات والارض فاذا السماء انشقت والكواكب انتثرت والجبال سيرت والعشار عطلت والارض زلزلت والسموات تدكدكت وينفخ في الصور يموتون اي كل من كان في جنة الدنيا ونارها وهذا سر الاستثناء وهذا لا يدل على نار الآخرة والمقصود عدم انقطاعها لا نار الدنيا فانها منقطعة يقينا والدليل على ان المراد من النار في الآية الاولى هي نار الدنيا بعد ما ذكرنا قوله ما دامت السموات والارض اذ ليس في الآخرة هذه السموات والارض كما هو الظاهر من الآية وهذا هو العذاب الادنى في قوله عز وجل ولنذيقنهم من العذاب الادنى دون العذاب الاكبر فليس في هذه الآية الشريفة دلالة على مدعاهم ولئن سلمنا وقلنا ان المراد من النار في الآية الشريفة هي نار الآخرة والسموات هي سماءها وارضها قلنا ان الجواب حينئذ كما قال مولينا الصادق عليه السلم على ما رواه اصحابنا بان المراد من المستثنى جماعة من عصاة الشيعة قد افرطوا في دار الدنيا في العصيان والطغيان فان لم تكفر ذنوبهم في الدنيا بابتلاءهم بالمصايب والمحن او عند الموت بتشديده عليه او في القبر بالهول المطلع او في البرزخ بنار برهوت في وادي حضرموت او في القيمة بزيادة العرق ووقوع الاهوال العظيمة وبقي من ذنوبهم اكثر من ثمانين سنة يدخلون في ضحضاح من النار ويعذبون فيها لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والارض الا ما شاء ربك اذ بعد ما صفوا اخرجوا عنها وغسلوا في عين الحيوان ثم ادخلوا الجنة نقلت معنى الحديث ملخصا مرتبطا باخبار اخر مع انا نقول لهم ان هذه الآية ان اخذتم بظاهرها يلزمكم ان تقولوا بانقطاع النعيم ايضا مع انكم لاتقولون به اذ اول الآية هكذا واما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها الا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ واما الذين شقوا الى آخر الآية فيجب تأويلها فكانت من المتشابهات فردها الى المحكمات الدالة صريحا على عدم التخفيف لان تلك الآيات صريحة لا تحتمل الخلاف بخلاف هذه الآية اذ يجب تأويلها على اعتقادكم فثبت ان الآية الشريفة ما دلت على مطلوبهم بشيء واما الرواية المدعاة المروية عن ابنمسعود فهي ليست منا ولا من طرقنا ولا في اخبارنا ما تعاضدها وتوافقها بل هي مخالفة لصريح القرآن وكل خبر اذا خالف صريح القرآن يضرب على عرض الحايط مع انهم قد حذفوا اول الحديث لما فيه من الفضيحة الشنيعة واخذوا عجزها اذ اول الحديث هكذا معناه عن ابن مسعود ان الله عز وجل يضع قدمه في جهنم بعد ما ( ان خل ) مضى عليهم احقابا فيقول قط قط فينبت من تحت قدمه الجرجير فيكون بردا وسلاما عليهم وانت خبير بان اجماع الفرقة المحقة قد انعقد بان الله ليس له قدم بل ولا يجوز اطلاق القدم عليه سبحانه كاليد وبالجمة كل من له ادنى معرفة بطور محاورات اهل العصمة عليهم السلم يقطع بان هذا الحديث موضوع عليهم ليس هذا طريقتهم وكلامهم وهو ظاهر ان شاء الله واما الاستشهاد بحديث سبقت رحمته غضبه فباطل ايضا لانهم ما يعنون بهذا السبق ان كان مرادهم بهذا السبق ان الغضب في كل مقام يفرض فالرحمة سبقته في ذلك المقام فعلى هذا يلزم ان لا يخلق النار والعذاب اصلا ورأسا ولا يدخل احد في النار اذ لا شك ان النار غضب والرحمة قد سبقته فتدرك الرجل المستحق للنار الرحمة قبل الغضب فلا يدخل النار فعلى هذا يكون خلق النار قبيحا اذ ليس لها اهل وسكان وقال تعالى يوم نقول لجهنم هل امتلئت وتقول هل من مزيد وهذا انكار ضروري الدين ولا شك ان منكره كافر باجماع المسلمين وان كان مرادهم بهذا السبق السعة والانتشار بخلاف الغضب فتكون الرحمة اوسع من الغضب نقول هل للغضب حينئذ محل ام لا فان قلت لا عاد الكلام الاول فان قلت بلى قلت لماذا ادركه الغضب هل لسوء عمله وقبح سريرته ام لا فان قلت لا جاء الظلم وحاشا ربي عن ذلك ولا اقل من مخالفة الحكمة وان قلت بلى قلت لماذا تدركه الرحمة بعد ذلك ان قلت لتطهيره عن درن السيئات قلت هذا لا يتصور الا لمن له جهتان قلب ولسان طاهر بذاته نجس بظاهره يجري فيه التطهير واما نجس العين فلا يزداد التطهير الا قبحا الا ان ينقلب الى حقيقة اخرى كالكلب المنقلب الى الملح والعذرة المنقلبة الى الارض فاذا انقلب وصار حقيقة اخرى فلا شك انه ليس هو الاول فما ادركته الرحمة بل ادركته النقمة حيث اعدمته وهذا الاعدام مستحيل لان ذلك الخلق الجديد ان خلقه مضطرا تناقض فعل الله سبحانه لانه ابى ان يخلق المكلفين ذوات الشعور والارادة الا مختارين وحكم الله واحد ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت وان خلقه مختارا فلا يثاب ولا يعاقب الا بعد التكليف فاذا كلفهم وفرضنا انهم اختاروا الكفر ماذا يصنع بهم هل يقلبهم الى حقيقة اخرى فيجري الكلام الاول فيه حرفا بحرف وان لم يقلبهم فهو كافر نجس العين لم يقبل التذكية ولا التطهير ان قلت ان الرحمة تدركه وان كان نجسا كافرا قلت ان ذلك وان لم يتصور لو فرضنا ذلك قلت اذن لم ادخله النار في اول الامر مع ان الحكم في المقامين واحد فكان فعله الاولى عبثا لان الله سبحانه ما يعذب لتشفي غيظه وتبريد غليل صدره نعوذ بالله من ذلك فان قلت اذن فما معنى قوله تعالى ورحمتي وسعت كل شيء ولا شك ان الكافر في النار شيء فتسعه رحمة الله قلت اذن ما الذي يدعوه الى ادخالهم النار في اول الامر اما كانوا اشياء ثم تشيئوا فلم لم تدركهم الرحمة فيكون المراد من هذه الرحمة الواسعة هي رحمة الرحمان الذي استوى بها على العرش فبسطت يداه بالانفاق يد الفضل ويد العدل فيد الفضل ادركت اهل الجنة في الجنة والنعيم ويد العدل ادركت الكافر في الجحيم فما دخل الكافر في النار الا بالرحمة وهي العدل والحكمة قال تعالى ورحمتي وسعت كل شيء فساكتبها للذين يؤمنون ولو كان المكتوبة والواسعة واحدة لقبح القول فساكتبها مع الاتيان بالسين الاستقبالية فقد وسعت الرحمة الكافر في النار بانواع الاليم والعذاب والنكال والوبال وان كان المراد بسبق الرحمة ان الله خلق الرحمة اولا وبالذات وخلق مقتضاها كذلك وخلق الغضب ثانيا وبالعرض ومقتضاه كذلك كما هو الحق فهذا لا ينافي تأبيد العذاب وتخليد العقاب بل يحققه ويثبته فافهم
واما ما تعلقوا به من امر الرحمة والرأفة وان الله ( رءوف خل ) بعباده رحيم عليهم فتأبى رحمته ان يخلد عبده في العذاب ابد الآبدين وهو ما عصاه الا زمان قليل في الدنيا فجوابه اعلم ان الله سبحانه لما دعى الخلق الى طاعته وعبادته والاقرار بربوبيته ونبوة انبيائه ووصاية اوليائه وخلفائه انقسم الخلق الى قسمين احدهما اقروا واعترفوا قلبا باطنا بقلوبهم ونفوسهم وارواحهم ثم عملوا بمقتضى ذلك ظاهرا بظاهر اعمالهم واقوالهم فهؤلاء هم السابقون الطاهرون المطهرون قد طهرت بواطنهم بنور المعرفة والاعتقادات الحقة وظواهرهم بنور الاعمال الصالحة فهم على الهيئة الانسانية ظاهرا وباطنا سرا وعلانية وهؤلاء من اهل الجنة لانهم الطيبون الابرار فمكانهم وزمانهم يجيب ان يكونا كذلك قال الله تعالى الطيبات للطيبين ولا طيب في الآخرة الا الجنة وثانيهما انكروا باطنا عنادا وعتوا واستكبارا واقروا ظاهرا نفاقا وسخرية واستهزاء وهؤلاء هم الاخباث الاخسرون بواطنهم نجسة بنجاسة الانكار فصارت النجاسة القلبية جزء لماهية قلبه وذاتية له فصاروا نجس العين باطنا وكذلك ظاهرا بالاعمال الردية والاخلاق الذميمة لانهم المدبرون المعرضون عن الحق سبحانه وتعالى بظواهرهم وبواطنهم والاعراض يستلزم بل يجمع كل شر وقبح وسوء كما ان الاقبال يستلزم ويجمع كل نور وحق وهؤلاء الاخباث لا يمكن ان يكونوا في مكان ( بمكان خل ) نظيف طاهر لانه خلاف الحكمة فوجب ان يكونوا في جهنم مأويهم سقر ما تدري ما سقر لواحة للبشر عليها تسعةعشر ويستحيل ان يدخلوا الجنة ابدا فهم اصحاب النار قال تعالى بلى من كسب سيئة واحاطت به خطيئته اولئك اصحاب النار هم فيها خالدون اذ من المحال ان يجعل الحكيم الخبيث في مكان طيب مثل انك لو جعلت الكلب والخنزير في حجرة طاهرة نظيفة مزخرفة بالذهب التي يقعد فيها عيالك واطفالك يقبحونك العقلاء ولا يرضون بفعلك ابدا وانت لاتفعل ذلك ابدا وان كنت رءوفا رحيما رقيق القلب وهذا ظاهر ان شاء الله وقد تولد من ملاحظة القسمين اقسام اخر يطول بذكرها الكلام من احكام المزج الا ان احدها هو الذي اقر قلبا وباطنا الا انه عصى وجرى عليه حكم الانكار ظاهرا فهذا في باطنه وسريرته طاهر طيب وفي ظاهر اعماله نجس فهو صاف مشوب بالكدورات كالذهب المغشوش فان هذا يطهر ويذاب في النار لتذهب الاوساخ والكدورات ثم تجري عليه احكام الذهب الخالص الصافي لانه صفا وتخلص عن الاوساخ فهذا الشخص اذا ادخله الله النار بقبح ( بقبيح خل ) عمله لنجاسة ظاهره فيبقى في النار الى ان يتخلص و يصفى فاذا تخلص وتصفى ادركته الرحمة فتدخله الجنة واما الذي هو صرف النجاسة وعين الوسخ فهو لا يصفى ولا يتخلص ولا يقبل التطهير كلما تبالغ في تنظيفه يكثر وسخه وتغلظ نجاسته والمواد والاجسام في الآخرة حيوانات قال تعالى وان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون فلا يعتريها موت فالمادة النجسة باقية ابدا فاذا اصابتها النار تتبخر وتتصاعد دخانا اغبر مظلما منتنا ولا تفنى المادة ليذهب النتن وانما هي باقية لاتقان الصنع فلاتزيده النار الا كثافة وخبثا ونتنا وقبحا مثاله انك اذا اشعلت النار في العذرة او في الجيفة ( الجيف خل ) كيف تظهر الكثافة والنتن والعفونة الى ان يبقى لموادها اثر ولو فرضت بقاء موادها ابدا لما انفك عنها تلك الكثافة والنتن ابدا وهل يجوز للرحيم الرءوف ان يجعل تلك الجيف المنتنة والقاذورات في بيته وداره ومحل قربه ورضاه حاشا وكلا لا يفعله الحكيم بل ولا الجاهل فكيف الرب العظيم اذ الكفار بانكار قلوبهم صاروا نجس العين كثيفا منتنا في الغاية واشد من نتن جيف هذه الدنيا وعفونتها بسبعينالف مرة وهو معنى قول علي بن الحسين عليهما السلم لو ان رايحة المعصية تفوح لما جلس احدكم في جنب صاحبه فاذا كان كذلك فكيف يدخلهم الله الجنة المكان الطيب الطاهر محل قدسه ورضاه وموضع كرامته ولا فرق بين اول ما يدخلون في النار وبين ما يمكثون فيها احقابا لان علة الغضب في الصورتين موجودة ما تغيرت فلو جاز اخراجهم وتنعمهم بعد المدة والحقب جاز عدم ادخالهم النار ورفع العذاب عنهم في اول الامر بل ربما كان في اول الامر احسن مع ان هذا كلام لا يتصور لان الكافر مدبر مولي عن الحق ابدا والرحمة هي الاقبال وكيف يمكن ان يكون الادبار عين الاقبال او ان الرجل اذا ادبر يحكم عليه بالاقبال فان ذلك كذب لا يجوز على الحكيم فظهر لك ان اهل النار كلما طالت عليهم المدة يشتدون في العذاب لانهم نجس العين والنار تظهر نتن بواطنهم الى الابد لان الموت قد ذبح ولا يدركهم فصارت مواد اجسامهم وارواحهم باقية ابد الآبدين ولذا يتمنون الموت فيها كما اخبر الله سبحانه يا ليتها كانت القاضية هلك عني سلطانيه وانت لا تتوهم ان النار التي تصيبهم نار خارجية او ان الله سبحانه يعذبهم من جهة انهم ما اطاعوه ليتسلى به ويتشفى به غيظه تعالى ربي عن ذلك وانما النار هي اعمالهم كالطبيب اذا قال لشخص لا تأكل الشيء الفلاني فانه يضرك ويهيج الصفراء فيك وكل الآخر فانه يقويك ويدفع عنك المرض ولم يسمع قول الطبيب فاكل الذي يضره فيتمرض وليس على الطبيب بأس ثم انه قال له اذا اردت ان تطيب عن هذا المرض اجتنب عن اكل بعض الاشياء فلم يفعل فيزيد مرضه فلو فرضنا ان الرجل ما عالج هذا المرض وبقي الى آخر الابد لا شك يبقى في كل الاحوال على الدوام مغشوش الحال مختل الاحوال مريضا وهذا الموت الذي يعتريه لضعف البنية واما اذا كانت البنية قوية فلم تمت لكنها تتغير وتتكدر بحسب العوارض فهذا المرض وهذا الوجع والضيق الذي في المريض ليس الا بعمله وفعله وليس ان الطبيب جعله كذلك وكذلك صنع الله في خلقه جعل لهم اختيارا و بصيرة ونهاهم عن ما يضرهم ودلهم وارشدهم الى ما يصلحهم ثم جعل لهم الدواء والمخلص اذا اوقعوا انفسهم في المضار وهو التوبة والانابة الى الله سبحانه فاذ لم يفعلوا وعاندوا واعرضوا باختيارهم فيجزيهم بما كانوا يكسبون قال تعالى مما خطيئاتهم اغرقوا فادخلوا نارا وخلودهم لنجاسة قلوبهم فان تلك النجاسة لم تقبل التطهير وتلك الميتة لم تقبل التذكية ابدا ولو اردنا ان نشرح ونبين اسباب ما ذكرنا وعلله ومباديه واصل كيفية الايجاد يطول علينا الكلام مع ان ذلك لا ينفع العوام وما اشرنا اليه في هذه الوريقات كفاية لاهل الدراية اعاذنا الله واياكم من شر الشيطان بمحمد وآله سادة الانس والجان ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ولعنة الله على اعدائهم اجمعين الى يوم الدين والسلام على تابع الهدى
قد فرغ من تسويدها مؤلفها الليلة الرابعة من شهر صفر المظفر في سنة ١٢٣٥ حامدا مصليا مستغفرا