
حسب جوامع الكلم – المجلد الاول
طبع في مطبعة الغدير – البصرة
في شهر ربيع الاخر سنة 1430 هجرية
أمّا بعد: فيقول العبد المسكين أحمد بن زين الدين الاحسائي؛ أنّه عرض لي جناب الفاضل الاكرم المهتدي الآخوند الملا محمد مهدي ابن ذي الشأن الرفيع الاكرم محمد شفيع الاسترابادي أخذه الله بيده ووفقه للصالحات في يومه لغذه بمسألة عزيزة المنال قد كثر فيها القيل والقال ولم تزل مع تلك الحال متصعبة على أفهام فحول الرجال وقد طلب منّي بيانها وإزالة ما فيها من الإشكال على وجه يحصل به اليقين من غير احتمال وقد صادف سؤاله أيّده الله تعالى منّي حالة ملال وتشويش بال وكثرة اشتغال بكثرة الاعراض وملازمة الامراض ولم يسعني الاعتذار منه لكونه أهلا لذلك فأتيت بما حضرني من المقدور إذ لا يسقط الميسور بالمعسور والى الله ترجع الامور
السؤال: وهي: قوله سلمه الله تعالى: نلتمس منكم شرح الحديث المشهور: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ من غير ايجاز مخل بل إما بطريق الاطناب ولو انجز الى كتاب أو المساواة ويكفيه رسالة والمرجو كشف المرام عن هذا الكلام من غير حوالة
الجواب: أقول: روي هذا المعنى عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال: أعْرَفُكُمْ بِنَفْسِهِ أعْرَفُكُمْ بِرَبِّهِ وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ وهذا المراد من الراويتين لا يكاد يختلف فيه اثنان من الحكماء المتقدمين والمتأخرين والعلماء أجمعين والكتاب والسُّنة والعقل شاهدة بهذا المعنى وإنّما اختلف العلماء والحكماء في المعنى المراد منه حتى أنّ
• منهم من توهّم أن المراد بالنفس: الرب عزّ وجلّ
• ومنهم من جعلها من لوازم الذات فمن عرفها عرف الحق تعالى
• ومنهم من جعلها محلًّا له تعالى
• ومنهم جعله محلَّا لها
• ومنهم من جعلها صورة للحق تعالى الى غير ذلك من الاقوال الباطلة
واعلم أن الأقوال الصحيحة أو القريبة من الصحة
• منها ظاهري واقناعي وأثاري
• ومنها حقيقي والحقيقي مختلف
ونشير الى بعض ذلك على جهة التنبيه
فقيل: أنّ قوله عليه السلام: مَن عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ من باب التعليق على المحال فإنّ معرفة النفس محال فكذا معرفة كنه ذات الحقّ عزّ وجلّ وَيُرَدُّ على هذا حال الأنبياء والرسل والأوصياء عليهم السلام فإنّهم يعرفون أنفسهم وقد دلّ مفهوم الآية على ذلك وهي قوله تعالى: ﴿ مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ﴾ فقد دَلَّ مفهوم الآية والصفة أنّ الله سبحانه أَشْهَدَ الهادين عليهم السلام خلق السموات والأرض وخلق أنفسهم واتّخذهم أعضادًا يعني لخلقه كما ذكره الحجّة عليه السلام في دعاء شهر رجب في قوله (ع): أَعْضَادٌ وَأَشْهَادٌ وَمُنَاةٌ وَاذْوَادٌ وَحَفَظَةٌ وَرُوَّادٌ فَبِهِم مَلَاْتَ سَمَاءَكَ وَأَرْضَكَ حَتَّى ظَهَرَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ - الدعاء
وكقوله تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾ الآية فإذا عرفوا أنفسهم عرفوا ربّهم فأين التعليق على المحال؟
وقيل: كما نُقِلَ عن النبي داود على محمد وآله وعليه السلام أنّه قال ما معناه: من عرف نفسه بالجَهل عرف ربّه بالعِلم ومن عرف نفسه بالعَجز فقد عرف ربّه بالقُدرة وهكذا وهذه المعرفة ظاهرها قريبٌ الى الأفهام وباطنها يطول فيه الكلام وحاصله يظهر مما يأتي إن شاء الله تعالى
وقيل: من عرف نفسه الحيوانية الحسية الفلكية بأنّها ليست في مكان من الجسد ولا يخلو منها مكان منه وليست فيه على جهة الحلول ولا باينة منه بل هي فيه لا كالماء في الكوز ولا كشيء داخل في شيء كالماء في العود الأخضر ولا هي خارجة عنه كشيء خارج ولا ممازجة ولا مصاحبة بل مدبرة للبدن بغير مباشرة ولا مشاركة له في شيء من أحوال الأجساد فمن عرف نفسه كذلك فقد عرف ربّه تعالى بأنّه مدبّر للعالم لا يخلو منه مكان ولا يحويه داخل لا كشيء داخل خارج لا كشيء الى آخر ما ذكر في صفة النفس وهذه معرفة أصحاب الأنظار من المتكلمين
وقيل: من عرف نفسه أنّه مصنوع فقد عرف أن له صانعًا ومن عرف أن نفسه أثر عرف أنّ له مؤثّرًا وهكذا هو وهذه معرفة أهل الآثار
وقيل: من عرف نفسه في قوله: روحي وجسدي ويدي ورجلي وعيني ورأسي ووجودي فهذا الذي أضفت اليه هذه الإشارة وما أشبهها هو غيرها لأنّ الشيء لا يضاف الى نفسه فمن عرف هذه المعبّر عنه بضمير المتكلم عرف ربّه في قوله تعالى: عبدي وأرضي وسمائي وعرشي وبيتي وما أشبه ذلك ويريد هذا القائل بالنفس: النفس الناطقة التي أصلها العقل منه بدأت وعنه وَعَتْ واليه دَلَّتْ وأشارت وهذه النفس أعني الناطقة في الانسان الصغير بمنزلة اللوح المحفوظ في الانسان الكبير وحيث ثبت أن في كل شيء له آية تدل على أنّه واحد كانت هذه النفس تدل على وحدانيّته عزّ وجلّ
واعلم أنّ هذه الأقوال تدل على المعرفة الظاهرة وأمّا المعرفة الحقيقية فهي معرفة النفس التي هي كُنْه الشيء من ربّه لأنّه تعالى خلق الانسان وأول كونه كانت له حقيقة من ربّه وحقيقة من نفسه فالتي من ربّه هي: النور المعبّر عنه تارّة بالماء الذي جعل منه كلّ شيء حي وتارّة بالوجود وتارة بالنور كما قال عليه السلام: اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِن فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ وقال الصادق عليه السلام: إنّ الله خلق المؤمنين من نوره وَصَبَغَهُم في رحمته فالمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه أبوه النور وأمّه الرحمة ثم استشهد بقول جدّه أمير المؤمنين عليه السلام: اتَّقُوا فِرَاسَةَ المُؤْمِن فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ ثم قال عليه السلام: يَعْنِي بِنُورِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ وتارة يعبّر عنه بالفؤاد كما قال الصادق عليه السلام ما معناه: وَإِذَا تَجَلَّى ضِيَاءُ المَعْرِفَةِ فِي الفُؤَادِ أَحَبَّ وَإِذَا أَحَبَّ لَمْ يُؤَثِّر مَا سِوَى الله عَلَيْهِ
وتارّة يعبّر عنه بالمادًة الأولى كما هو مبنى طريقتنا إذا قلنا الوجود: وأردنا منه الموصوفي لا الصفتي كالمصدر والرابطي والعام وما أشبهها فإنّا نعني بالوجود الذي هو الذات المادّة
فللإنسان كنهان: كُنْهُهُ من ربّه وهو النور الذي هو مادّته الأولى وكنهه من نفسه: وهي الظلمة وهو الصورة أعني انفعاله وقابليته للايجاد وهي المسماة: بالماهيّة والكُنه الاول هو: النفس التي من عرفها فقد عرف ربّه يعني: أنّ عين معرفتها عينُ معرفة الله لا أن هنا معرفتين: معرفة النفس ومعرفة الرّبّ لأنّه عليه السلام قال: فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ و قَدْ للتحقيق و قد دلّت أن المعرفة واحدة بجهة
وفي بيان هذا الحرف دفع الإشكال المشار اليه سابقا والبيان على حقيقة الأمر يتوقّف على بيان معرفة حقيقة النفس وعلى بيان كيفية الوصول الى ذلك
فالاول: اعلم أنّ النفس التي هي حقيقتك من ربّك هي التي إذا عرفتها فقد عرفته تعالى وهي: النور فإنّ النور هو صفة المنير فمن عرف الصفة عرف الموصوف لأنّ الموصوف إنما يعرف بصفته
ومعنى قولنا: أنّ حقيقتك من ربّك إذا عرفتها فقد عرفت ربك أنّه تعالى لما كان لا يعرفه أحد غيره لا بما وصف به نفسه وأراد بكرمه عليك ورحمته لك أن تعرفه وصف نفسه وألبسه صورة قبوله وأنزله في رتبته من أكوان الإمكان فظهر: إياك فأنت ذلك الوصف فذاتك وحقيقتك التي هي نفسك هي ذلك الوصف فإذا كانت نفسك هي وصف الله الذي وصف به نفسه لك ومن عرف الوصف عرف الموصوف لأنّ الموصوف لا يعرف إلا بوصفه كنت إذا عرفت نفسك عرفت ربّك ومثال حقيقتك التي وصف الله نفسه لك كصورة السراج في المرآة
فإنّ الصورة إذا عرفت نفسها التي من جهة السراج وهي: مادة الصورة وهي: هيئة شعلة السراج عرفت شعلة السراج لأنّ مادة الصورة هي صفة الشعلة المنفصلة – أعني: الهيئة التي أشرقت على المرآة لا الهيئة التي قامت بالشعلة قيام عروض لأنّها متّصلة بها لا تنفصل عنها وإنّما ينفصل شَبَحُها وهو الواقع على المرآة وهو حقيقة الصورة من الشعلة
فالصورة في المرآة إذا عرفت نفسها التي هي هيئة الشعلة عرفت الشعلة التي هي ربّها
وصورة الصورة من نفسها التي هي: هيئة المرآة من: كبر وبياض وصفاء واستقامة وأضدادها فالنار الغائبة في السراج هي: آية ذات الله عزّ وجلّ وحرارتها هي: آية المشية والدهن المستحيل بحرارة النار دخانًا هي: آية الحقيقة المحمدية صلّى الله عليه وآله والدخان المستنير بمس النار الذي حصل منه الشعلة - أي من مجموعهما هو: آية المقامات التي لا فرق بين الله سبحانه وبينها في المعرفة إلا أنّها: عبادُهُ وخلقُهُ وهي: العنوان وهي: المثال وهي النسبة الى الواجب الحق تعالى كالقائم بالنسبة الى زيد
والصورة التي في المرآة إنّما تحكي صورة الشعلة القائمة بها لأن الحاكية أصلها: الصورة القائمة بالشعلة وهي: الوجه وهي: مثال النار وعنوانها
والصورة في المرآة إنّما تعرف أصلها ولا تعرف النار التي هي: آية الله وهو قول أمير المؤمنين عليه السلام: انتهى المخلوق إلى مثله وألجأه الطّلب إلى شكله
وأما صورة الصورة التي هي من هيئة زجاجة المرآة فلا تعرف الصورة بها هيئة الشعلة لأنّها ليست صفةً لها فكذلك نفسك التي هي حقيقتك من ربّك تعرف بها ربّك لأنّها وصفه - أي الرّبّ الذي هو: المثال والعنوان والوجه لأن حقيقتك هذه هي: الفؤاد وهو نور الله الذي ينظر به المؤمن المتوسم أي: صاحب الفراسة وهي المسماة بوجودك في اصطلاحهم وأمّا حقيقتك من نفسك التي هي مثالك وهي: الظلمة والماهية فلا تعرف بها ربّك لأنّها هي: أنت والله سبحانه لا يعرف بك بخلاف حقيقتك من ربّك التي هي وصفُهُ الذي وصف به نفسه لك لتعرفه بهذا الوصف فإنّه وصف فهواني خاطبك عزّ وجلّ به مشافهة حين قال لك في عالم الذر: ألستُ بربّك ومحمد نبيّك وعليّ وليّك والأئمة من ولده أئمّتك؟ فقلت: بَلَى
وقولك: بلى هو: حقيقتك من نفسك وخطابه تعالى هو الوصف الفهواني – الشفاهي على جهة العيان والتصريح في البيان فتمّت كلمتُه وبلغت حُجَّتُهُ وما ربّك بظلّام للعبيد وفي المقام أسرار ودقايق لا تظهر ولا تعلم إلا بالمشافهة
وأما الثاني: وهو بيان كيفية الوصول الى معرفة ذلك الانموذج الفهواني والوصف الشفاهي الرباني فقد جمعه حديث كُميل حين سأل أمير المؤمنين عليه السلام عن الحقيقة وهي: معرفة هذه الحقيقة التي نحن بصدد بيانها فقال عليه السلام:
مَا لَكَ وَالحَقِيْقَةُ يَا كُمَيْل
فقال كُميل: أَوَلَسْتَ صَاحِب سِرِّكَ
قال عليه السلام: بَلَى وَلَكِنْ يَرْشَحُ عَلَيْكَ مَا يَطْفَحُ مِنِّي
قال: أومثلك يخيب سائلا
قال عليه السلام: الحَقِيْقَةُ كَشْفُ سُبُحَاتِ الجَلَالِ مِنْ غَيْرِ إِشَارَة
قال زدني بيانًا قال عليه السلام: مَحْوُ المَوْهُوم وَصَحْوُ المَعْلُوم
قال زدني بيانًا قال عليه السلام: هَتْكُ السِّتْرِ وَغَلْبَةُ السِّرِّ
قال زدني بينًا قال عليه السلام: جَذْبُ الأَحَدِيَّةِ بِصِفَةِ التَّوْحِيْدِ
قال زدني بيانًا قال عليه السلام: نُورٌ أَشْرَقَ مِنْ صُبْحِ الأَزَلِ فَيَلُوحُ عَلَى هَيَاكِلِ التَّوْحِيْدِ آثَارُهُ
قال زدني بيانًا قال عليه السلام: أَطْفِئِ السِّرَاجِ فَقَدْ طَلَعَ الصُّبْحُ
فقوله عليه السلام: كَشْفُ سُبُحَاتِ الجَلَالِ مِنْ غَيْرِ إِشَارَة قد بين جميع أنحاء التجريد والمراد بالسبحات: أشعة الجلال وهي: الشؤون والصفات والجلال يُراد منه هنا: ذات الشخص أعني: حقيقته من ربّه
وكيفية تجريد السّبحات أن تُلقي عن ذاتك في الاعتبار والوجدان جميع شؤون ذاتك فلا تنظر إلى حركتك أو سكونك أو نومك أو يقظتك أو ضحكك أو بكائك أو كونك: في أو على أو من أو فيك أو أنك أبو فلان أو ابن فلان أو حادث أو قديم أو موجود أو مفقود أو لك اتصال أو انفصال أو اجتماع أو افتراق أو أنك مطابق أو مباين أو واجد أو فاقد وتلقي عنك كل معنى أو صفة أو حال سواء كان اعتبارًا أو فرضًا واحتمالاً وتجويزًا ذهنًا أو خارجًا أو نفس الأمر
فكل ما يصدق عليه أنه شيء بكل اعتبار تلقيه عن النظر إلى نفسك وتسقطه من عين الاعتبار لأنّه مغاير لنفسك فإذا ضممت شيئا آخر إلى نفسك في معرفتها لم تعرفها وإنما عرفت شيئًا بعضه نفسك كما إذا عرفت نفسك بالحدوث فإنّك عرفت مركّبًا وبهذا لا يعرف الله لأنّه تعالى ليس بمركب فلا يعرف بمركب
فلابد من كشف سبحات الجلال كلها حتى الإشارة كما قال عليه السلام: مِنْ غَيْرِ إِشَارَة بمعنى أنك تُجَرِّد نفسك عن جميع السبحات أي: الشؤون والنسب والصفات والأفعال والتضايف والأوضاع حتى عن التجريد الى أن لا يبقى إلا محض الذات وهو أنموذج وصفي وخطاب فهواني لأنّه مِثْل (بكسر الميم وسكون الثاء) أي العنوان والمقامات التي لا تعطيل لها في كل مكان وهو مثل ليس كمثله شيء لأنّه آية الله الذي ليس كمثله شيء ولو كان هذا الباقي بعد التجريد له مثل لم يعرف به الرّبّ عزّ وجلّ لأنّه تعالى ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ﴾
ولو كانت نفسُك بعد التجريد التام حتى عن التجريد لها مِثْل (بكسر الميم وسكون الثاء) ولما كان معرفتها معرفة الرّبّ عزّ وجلّ لأنّه تعالى لا يعرف بالمثل وإنما يعرف بأنّه: لا مثل له فيجب أن تكون الآية الدالة عليه إنها أيضاً لا مثل لها
فإن قلت نفسي لها مثل وهو نفسك قلت لك: نعم ولكن نفسي في كونها مِثْلاً لنفسك ليست هي نفسك بل غيرها فإذا كانت غير نفسك وجب في تجريد نفسك نفي المغايرة والمماثل حتى لا يبقى إلا محض النفس
وليس المماثلة جزء ماهيتها فإذا جردها في الاعتبار والوجدان عن كل مماثل وكل مخالف بقى شيء لا يشبهه شيء لأن المشابهة ليست جزء لِكنهها فإذا وصلت في تجريدها إلى أن يبقى شيء ليس كمثله شيء فإذا عرفت شيء ليس كمثله شيء فقد عرفت ربّك لأنّه تعالى ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيْعُ البَصِيْرُ ﴾ لأن نفسك آية الله التي ذكرها في كتابه فقال ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ﴾
والآية التي أراكها في نفسك نفسك إذا كشفت عنها سبحات الجلال فإنّها آية الله الدالة عليه وصفته التي من عرفها عرفه وهي كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: صفة استدلال عليه لا صفة تكشف له
والجلال في الحديث بمعنى: الحجاب لأن نفسك أعظم الحجب وأغلظها وباقي الحجب بالنسبة إليك شؤونك التي هي: السبحات في الحديث لأنّه عزّ وجلّ احتجب عنك بك - أي احتجب عنك بنفسك مع شؤونها وسبحاتها فإذَا ألقيت السبحات رَقَّت نفسُك ولطفت فعرفته بها لأنه بها تجلّى لها بها كما قال سيّد الموحدين أمير المؤمنين عليه السلام: لَا تُحِيْطُ بِهِ الأَوْهَام بَل تَجَلَّى لَهَا بِهَا وَبِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا وَإِلَيْهَا حاكمها
وروي أَنَّ نَبِيًّا مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ عَلَيْهم السَّلَام نَاجَى رَبّه فَقَالَ: يَا ربّ كَيْفَ الوُصُول إِلَيْك فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ: أَلْقِ نَفْسَكَ وَتَعَالَ إِلَيَّ والمراد بالإلقاء هو: عدم التفاته إلى نفسه أصلاً بأن يطرحها من الوجدان والإلتفات عليها
وقوله عليه السلام في بيان الزيادة: محو الموهوم وصحو المعلوم معناه: أن كشف سبحات الجلال هو: محو الموهوم لأن الانيّة التي تلك السبحات والشؤون أركانها التي تتقوم بها موهومة بمعنى أنها ليست شيئاً بنفسها وإنما هي شيء بأمر الله الفعلي أعني المشيئة وبأمر الله المفعولي أعني الحقيقة المحمدية وهو تأويل قوله تعالى: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ ﴾ وقوله عليه السلام: هتك الستر وغلبة السر معناه أن كشف سبحات الجلال من غير إشارة هو هتك الستر الذي هو الحجاب الذي يستر العبد عن مشاهدة آيات الرب سبحانه لأن السبحات تغطي قلوب العارفين عن رؤية أنوار التوحيد فكشف السبحات هو هتك الأستار والحجب المانعة وعنده يغلب ظهور السر الذي هو معرفة نفسك بأنك أنموذج فهواني ووصف صمداني خاطبك الله به وبعبارة بك
وقوله عليه السلام: جذب الأحدية لصفة التوحيد معناه كالذي قبله يعنى: أن كشف سبحات الجلال من غير إشارة هو: أن يجذب الجلال الذي هو الأحدية هنا سبحاته التي هي صفة التوحيد بأن تمحوها من مراتب وجدانها بعد الإلتفات إليها
وقوله: نور أشرق من صبح الأزل فيلوح على هياكل التوحيد آثاره معناه: أن تلك الحقيقة التي من عرفها فقد عرف ربّه نور أشرق من صبح الأزل هو مشيئة الله وإرادته والله سبحانه هو: الأزل يعني: أن تلك الحقيقة التي هي نفسك من ربّك أعني: وجودك وفؤادك نور صدر من فعل الله فخرج على هيئة الهادين الموحدين آثاره - أي آثار ذلك النور المشرق وهو: أنت فإنك آثار حقيقتك أي على صورتها
وقوله عليه السلام: أطفئ السراج فقد طلع الصبح يعني به إذا أردت أن تعرف المعلوم فانْفِ عنك السبحات الموهومة التي تحس بها ظاهرًا أنّك موجود كالسراج الذي تستضيء به في الليل الأجسام به والطبيعة فقد طلع صبح الوجود فأطفئ عنك ما هو كالسراج إذا طلع الصبح فافهم
واعلم أن هناك وجهاً آخر غير ما ذكرته وهو سهل التناول على الإفهام وهو إنك إذا عرفت نفسك بأنك أثر عرفت المؤثر لأن معرفة الأثر تستلزم معرفة المؤثر
فإذا نظرت إلى نفسك وعرفت أنك مصنوع عرفت أن لك صانعًا
وإذا نظرت إلى أنك: أنت أنت لم تعرف بها أن لك صانعاً لأن إنيّتك ظلمة والظلمة لا يبصر بها الناظر ولأنها صفتُك: وصفة الشيء لا يعرف بها غيره بخلاف حقيقتك منه تعالى - أي من فعله فإنّها أثر والأثر يدلّ على المؤثِّر لأنّه صفة استدلال على المؤثِّر كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: صفة استدلال عليه لا صفة تكشف له
وفيما أشرنا إليه في بيان قوله عليه السلام: من عرف نفسه فقد عرف ربّه كفاية لأولي الألباب وصلى الله على محمد وآله الأطياب
وقع الفراغ من تسويد هذه الكلمات بقلم منشئها العبد المسكين أحمد بن زين الدين الاحسائي الهجري في الساعة الرابعة من اليوم الثاني من صفر سنة خمس وثلاثين ومأتين والألف من الهجرة على مهاجرها وآله أفضل الصلوة وأزكى السلام والحمد لله رب العالمين